تلخيص رواية:
تركوا بابا يعود: توني ماغواير.
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.
لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ..قناة راجوشو ..الرابط التالي :
"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"
أصبحتُ الآن يافعة، والماضي هو الماضي. هذا ما رحت أقوله لنفسي وأنا أقف أمام المكتب الذي تستخدمه أمي لضبط الحسابات المنزلية. عندئذ سخر مني صوت
في داخلي: لم تنتهِ من هذا الماضي قط يا توني. إنه ماضينا الذي يجعل منا ما نحن عليه.
أنطوانيت. كان هذا الإسم كافياً لأن يملأني حزناً. طردتُ كل الأفكار من رأسي وفتحت طاولة المكتب، وهي قطعة الأثاث الوحيدة المتبقية من المنزل المشترك الذي تَقَاسمه والديّ. عثرتُ على عقود المنزل، ورسائل مُصفَرّة وثلاث صور قديمة لا بد أنها كانت موجودة هناك قبل وفاة أمي.
أثارت الرسائل فضولي. كانت مُوجهة إلى أمي بخطٍّ من الطراز القديم. لفتت إحداها انتباهي. إنها رسالة حبٍّ كتبها شاب فصلته الحرب عن عائلته، وهو الآن بشوق إلى زوجته وطفلته الرضيعة. كان في الرسالة: حبيبتي، ما أشد اشتياقي إليكِ.... حتماً كبرتْ أنطوانيت كثيراً. أخبريها أن أباها يحبها وأنه متلهفٌ للقائها. قبّليها بحرارة نيابة عني. =راحت الذكريات تتوالى عليّ وتعيدني إلى الزمن الذي كانت فيه الكوابيس تتوالى عليّ: رأيت أنطوانيت، الرضيعة التي تبتسم لإمها بكل براءة الطفولة المُبكرة. ورأيتُها بعد بضع سنوات وما آلت إليه كطفلة مذعورة بعد أن انتزع والدها منها جوهر طفولتها. تساءلتُ بعد ثلاثين عاماً: لماذا؟ رأيت أنطوانيت الضحية. أنطوانيت تلك، كانت أنا.
تذكرتْ أنطوانيت لمّا روت لرجال الشرطة كل ما حدث. منذ اليوم الذي بدأ فيه كل شيء، حين اعتدى عليها والدها عندما كانت في سن السادسة. واستمر الحال على مدى سنوات، وصمتتْ خائفة من بطشه وتهديداته. وحملت في سنّ الرابعة عشر. ثم أضعفها الإجهاض لطفل والدها. كانت تعرف أنها بعد المحاكمة ستعود إلى بيتها عند أمٍ لم تعُد تحبها، وفي مدينة تُحمّلها مسؤولية كل ما عانته. بيد أن السنين علّمتها كيف تتجرد من هذه العواطف وصارت تُظهر هدوءاً خارجياً.
لم تكن أنطوانيت حاضرة عندما نطق القاضي بالحكم على والدها. صدر حكم على جو ماغواير بعقوبة السجن لمدة أربع سنوات على الجريمة التي ارتكبها طيلة سبع سنوات. وسيطلق سراحه بعد ثلاثين شهراً: ثلث الزمن الذي استمرت خلاله معاناة أنطوانيت.
انتقلتْ أنطوانيت بعدها إلى مكتب القاضي الذي قال لها: ستكتشفين يا أنطوانيت أن الحياة ظالمة. سيتهمك الناس. ولكن اصغ لي جيداً. لقد قرأتُ تقارير الشرطة، ورأيتُ ملفك الطبي. أعرف تماماً ما كابدتهِ، وأؤكد لكِ بأنه لا ذنب لكِ في كل هذا. وليس عليك أبداً أن تشعري بالعار.
1961.. تجاوزتْ أنطوانيت سن السادسة عشرة. مضى عامان منذ أن حُكم على والدها بالسجن بسبب ما أسمته الصحف "جريمة خطيرة على قاصر". قررت "روث"، والدة أنطوانيت، أن تهرب من عار الجريمة ومن عار عقوبة سجن زوجها. باعت بيت العائلة، وغادرتْ هي وأنطوانيت إلى بلفاست. وعاد تقارب أنطوانيت مع أمها، ونبتتْ ثقتها بها من جديد. ثم وجدت روث عملاً لأنطوانيت كنادلة في المقهى الذي تديره.
كانت حياتهما هادئة، بل إنها حملت الراحة والشفاء، بينما راحت الهوة الواسعة التي فرّقت بين أنطوانيت وأمها تُردم بالتدريج. وبقي الموضوع الوحيد الذي لم تتطرّقا إليه قط هو عمّا سيحدث في يومٍ بعيد حين سيُطلق سراح والدها.
رجعتْ أنطوانيت في أحد الأيام إلى البيت، حاملة بعض الهدايا لأمها، صعقتها المفاجأة وذُهلت في مواجهة آخر شخص في العالم تريد رؤيته. لقد كان والدها جالساً على الأريكة في الصالون، بينما أمها جالسة عند قدميه ووجهها يشع سعادة. فهربت بسرعة إلى حجرتها.
أنطوانيت. كان هذا الإسم كافياً لأن يملأني حزناً. طردتُ كل الأفكار من رأسي وفتحت طاولة المكتب، وهي قطعة الأثاث الوحيدة المتبقية من المنزل المشترك الذي تَقَاسمه والديّ. عثرتُ على عقود المنزل، ورسائل مُصفَرّة وثلاث صور قديمة لا بد أنها كانت موجودة هناك قبل وفاة أمي.
أثارت الرسائل فضولي. كانت مُوجهة إلى أمي بخطٍّ من الطراز القديم. لفتت إحداها انتباهي. إنها رسالة حبٍّ كتبها شاب فصلته الحرب عن عائلته، وهو الآن بشوق إلى زوجته وطفلته الرضيعة. كان في الرسالة: حبيبتي، ما أشد اشتياقي إليكِ.... حتماً كبرتْ أنطوانيت كثيراً. أخبريها أن أباها يحبها وأنه متلهفٌ للقائها. قبّليها بحرارة نيابة عني. =راحت الذكريات تتوالى عليّ وتعيدني إلى الزمن الذي كانت فيه الكوابيس تتوالى عليّ: رأيت أنطوانيت، الرضيعة التي تبتسم لإمها بكل براءة الطفولة المُبكرة. ورأيتُها بعد بضع سنوات وما آلت إليه كطفلة مذعورة بعد أن انتزع والدها منها جوهر طفولتها. تساءلتُ بعد ثلاثين عاماً: لماذا؟ رأيت أنطوانيت الضحية. أنطوانيت تلك، كانت أنا.
تذكرتْ أنطوانيت لمّا روت لرجال الشرطة كل ما حدث. منذ اليوم الذي بدأ فيه كل شيء، حين اعتدى عليها والدها عندما كانت في سن السادسة. واستمر الحال على مدى سنوات، وصمتتْ خائفة من بطشه وتهديداته. وحملت في سنّ الرابعة عشر. ثم أضعفها الإجهاض لطفل والدها. كانت تعرف أنها بعد المحاكمة ستعود إلى بيتها عند أمٍ لم تعُد تحبها، وفي مدينة تُحمّلها مسؤولية كل ما عانته. بيد أن السنين علّمتها كيف تتجرد من هذه العواطف وصارت تُظهر هدوءاً خارجياً.
لم تكن أنطوانيت حاضرة عندما نطق القاضي بالحكم على والدها. صدر حكم على جو ماغواير بعقوبة السجن لمدة أربع سنوات على الجريمة التي ارتكبها طيلة سبع سنوات. وسيطلق سراحه بعد ثلاثين شهراً: ثلث الزمن الذي استمرت خلاله معاناة أنطوانيت.
انتقلتْ أنطوانيت بعدها إلى مكتب القاضي الذي قال لها: ستكتشفين يا أنطوانيت أن الحياة ظالمة. سيتهمك الناس. ولكن اصغ لي جيداً. لقد قرأتُ تقارير الشرطة، ورأيتُ ملفك الطبي. أعرف تماماً ما كابدتهِ، وأؤكد لكِ بأنه لا ذنب لكِ في كل هذا. وليس عليك أبداً أن تشعري بالعار.
1961.. تجاوزتْ أنطوانيت سن السادسة عشرة. مضى عامان منذ أن حُكم على والدها بالسجن بسبب ما أسمته الصحف "جريمة خطيرة على قاصر". قررت "روث"، والدة أنطوانيت، أن تهرب من عار الجريمة ومن عار عقوبة سجن زوجها. باعت بيت العائلة، وغادرتْ هي وأنطوانيت إلى بلفاست. وعاد تقارب أنطوانيت مع أمها، ونبتتْ ثقتها بها من جديد. ثم وجدت روث عملاً لأنطوانيت كنادلة في المقهى الذي تديره.
كانت حياتهما هادئة، بل إنها حملت الراحة والشفاء، بينما راحت الهوة الواسعة التي فرّقت بين أنطوانيت وأمها تُردم بالتدريج. وبقي الموضوع الوحيد الذي لم تتطرّقا إليه قط هو عمّا سيحدث في يومٍ بعيد حين سيُطلق سراح والدها.
رجعتْ أنطوانيت في أحد الأيام إلى البيت، حاملة بعض الهدايا لأمها، صعقتها المفاجأة وذُهلت في مواجهة آخر شخص في العالم تريد رؤيته. لقد كان والدها جالساً على الأريكة في الصالون، بينما أمها جالسة عند قدميه ووجهها يشع سعادة. فهربت بسرعة إلى حجرتها.
صار يترتب عليها الآن أن تتقبل أن اليومين الممنوحين لوالدها كإجازة بعد أن قضى عامين من سنواته الأربع في السجن أعاداه فوراً إلى زوجته المنشرحة جداً بلقائه. راودها إحساس أنها تغوص في رمال متحركة، وأنها تصارع بلا جدوى، وتغوص بسرعة في الماضي. حاولتْ أن تطرد ذكريات الماضي، ولكن إحساساً آخر طفا على السطح، بسبب الخدر الناجم عن الصدمة وعدم التصديق. واستبد بها الغضب بسبب إدراكها لخيانة أمها. كيف لا يزال يَسَع أمي أن تهتم برجل ارتكب جريمة بهذه البشاعة؟ فهي تعرف ما فعله بي. كيف يسعها أن تظل تحبه؟
بدأت ستينات القرن المعجونة بالرقي والتحول، وحملت معها رخاءً جديداً. تمتع المراهقون بطمأنينة لم يعرفها آباؤهم قط، وخلال أوقات فراغهم، كانوا يذهبون إلى المقاهي والمراقص. هؤلاء هم الناس الذين تريد أنطوانيت أن تخالطهم. لبست ملابس ضيقة، ووضعت مساحيق التجميل على وجهها، وخرجتْ أنطوانيت إلى النادي الليلي للإحتفال بسهرة يوم السبت مع زميلاتها في المقهى. تقدم منها شاب وسألها: هل تودين أن ترقصي؟ رفعت عينيها ورأت فتىً مبتسماً لها. أمسكت بيده الممدودة مثلما رأت صديقاتها يفعلن، وتبعته إلى الرقص، وراحت ترقص معه. ولما انتهت الليلة ودّعتْ أنطوانيت الفتيات وهي سعيدة ومتعبة، وعادت إلى بيتها. وفي اليوم التالي عندما نزلتْ وجدت أمها جالسة تنتظرها، قالت لها أمها: لا أدري ما سيقول والدك بشأن كل هذا عندما سيعود!! أصيبت أنطوانيت بذهول شديد. تبددت متعة الليلة السابقة، وحلّ مكانها إحساس بالذعر. لم تحسب قط أن تسمع أمها يوماً تخبرها بأمر كذا وارتعبتْ من ذلك! =كانت أنطوانيت تعرف أن أمها بدأت تعتبرها مشكلة، وقد أفصحت أمها بوضوح أنها ستسقبل زوجها في بيتها وكأن شيئاً لم يحدث. ففي عالم روث، كانت أنطوانيت الإبنة المشاكسة المسؤولة عن كل المشاكل. وحتى حين كانت أنطوانيت تناضل ضد هذه الفكرة، لا تلبث أن تفكر في أن أمها قد تكون محقة. وفي الأمسية التي سبقتْ خروج والدها من السجن، طلبتْ روث من ابنتها أنطوانيت أن تُحضِر والدها وتعود به إلى البيت، فأذعنت أنطوانيت لذلك.
وصلت حافلة والدها إلى المقهى، الذي رتبت فيه روث لقاء أنطوانيت بأبيها، الساعة الثالثة. حين نظرتْ أنطوانيت إلى أبيها، رأت شخصاً لم تتعرف إليه. راحت تتصرف بشكل طبيعي. أجبرتْ نفسها على إخفاء خوفها وعلى النظر إليه. لم تفصح عيناه عن أي قلق حين نظر إليها. قال لها: أنا آسف! =انحسر الماضي وألفيتُ نفسي من جديد في بيت أبي. شعرتْ أنطوانيت أنها غير محبوبة وهذا وحده كان يُولد لديها انطباعاً أنها لا تساوي شيئاً؛ فالأشخاص الحساسون تنقصهم الثقة بالنفس، ويرون أنفسهم من خلال نظرة الآخرين.
خرجتْ أنطوانيت لأول مرة في حياتها مع فتى وشعرت نفسها أنها مراهقة بلا هموم. كان "ديريك" يريد اصطحابها للغداء في مطعمٍ صينيٍّ افتتح حديثاً في المدينة بلفاست. كان ديريك هو الشاب الذي رقصت معه لأول مرة في حياتها في المرقص. كانت أول مرة يدعوها فيها أحد للخروج معه. كانت هذه أول تجربة لها في مطعم صيني بالإضافة إلى أنه أول موعد غرامي لها.
وبعد ثلاثة أشهر على موعدها الأول، قال ديريك لأنطوانيت أنه يرغب أن يعرّفها على أصدقائه المقربين. ورغم الرعب الذي أصاب أنطوانيت، إلا أنها وافقت على الفكرة والتقت بأصدقائه في الحانة. كانوا طلاب جامعة. غمرتها موجة من الكآبة. فهؤلاء الناس يعيشون الحياة التي تحلم بها. كان بودها أن تذهب إلى الجامعة، ولكن تم طردها من المدرسة بسبب حمْلِها. وفجأة اعتراها إحساس مزعج بأن أحداً ما في الحانة يُحدّق فيها. شعرت أن نظرته تخترقها فالتفتتْ رُغماً عنها. إنه والدها! كان بصحبة مجموعة رجال لم ترهم من قبل. تقدم نحوها وقال: تعالي معي لأكلمك! ابتعدت عن ديريك ورفاقه وتبعتْ والدها المهتاج. قرأت في عينيه السبب الحقيقي لهياجه. الغيرة. لقد عاقبه القانون على جريمته، لكن الرغبة بارتكابها ثانية ظلت تراوده. قال لها والدها: تعودين مباشرة إلى البيت، هل فهمتِ؟ حينها جاء ديريك، فقالت أنطوانيت: ديريك، هذا أبي، جوزيف ماغواير. فقال جو بنبرة غضب: أعدِها حالاً إلى البيت. فقال ديريك: حسناً، هيا يا انطوانيت.
وفي يوم السبت التالي، وفيما كانت تستعد للخروج لملاقاة ديريك، وتستمع إلى الأغاني. وصل والدها جو إلى البيت ورائحة الكحول تفوح منه. غضب غضباً شديداً على أنطوانيت لأنها رفضت إغلاق الأغاني. أمسكها من كتفها وضربها على صدرها باليد الأخرى، ومسحتْ عينا والدها امتداد جسدها. قالت له: إن لمسْتني سأتصل بالشرطة. رفع يد ليضربها مرة أخرى، ولكن دخلت أمها إلى الحجرة. فطلبتْ أمي من أبي أن يهدأ، فهدأ. ثم قال أبي: لا أريدكِ هنا! وضّبي حقائبك وانصرفي! حينها قالت لها أمها روث: سيكون من الأفضل أن تتركي البيت، وسيكون بوسعك المجيء لزيارتنا، بالتأكيد. وأود فعلاً أن تحصلي على مكان يخصك وحدك.
ارتمت أنطوانيت بين ذراعي ديريك وهي تبكي. أخذها إلى شقته الخاصة لأول مرة منذ تعارفهما. وهناك أخبرته بكل قصتها كاملة مع أبيها. شعرتْ بالهلع لأنها لم تقرأ في عيني ديريك أي تعاطف، أوأي تفهّم أو شفقة. وإنما قرأت فيهما شيئاً من الإشمئزاز. فقال لها ديريك: يجب أن ترحلي من بيتك. ولكني يا أنطوانيت لن أستمر في مواعدتك، فأنا أريد أن أتزوج وأنجب أطفالاً ولن يسعني أبداً الزواج بك، ولكن عندما تلتقين بشخصٍ آخر، لا تخبريه شيئاً عن والدك. لا تخبري أحداً بذلك.
قررتْ أنطوانيت أن تذهب للعمل في في مخيم العُطَلٍ العائلي، يدعى مخيم بيتلنز، وذلك لكي تجمع الأموال اللازمة لمتابعة دروسها في السكرتاريا. انتقلت إلى مخيم بيتلنز في منطقة ليفربول، وتقاسمت الشالية التي ستقيم فيها، خلال الثلاثة أشهر القادمة، مع ثلاث فتيات أخريات. أخبرنها الفتيات أنهن جئن من شمال إنجلترا وأن هذا موسمهن الرابع. فقالت أنطوانيت للفتيات: إسمي توني، وهذا أول موسم لي هنا، وأنا متوترة للغاية. فقالت إحدى الفتيات: لا تقلقي، سنعلمك أسرار العمل.
قررت أنطوانيت أن تتبع نصيحة صديقاتها الجدد وأن تعمل في النهار في مطعم المصطافين، وتعمل في المساء في الحانة. ومرت الأيام والليالي بأنطوانيت، وتبين لها أنه أصبح لديها ما يكفي من المال للإستئجار والنفقات، ولشراء ملابس مناسبة لمدرسة السكرتاريا. وعند انتهاء الموسم في المخيم، فوجئت أنطوانيت بالتأثر لفكرة ترك هذا المكان، وأدركت أنها كانت سعيدة فيه، واتخذت صديقات مخلصات.
استُقبلت أنطوانيت استقبالاً بارداً لدى عودتها من عند بيتلنز. ولم تكن والدتها تحدّثها إلا لتحثها على البحث عن مكان تعيش فيه. تمّ قبول أنطوانيت في مدرسة بلفاست للسكرتاريا، وكانت فَرِحَة جداً بذلك. كانت تريد من دراستها أن تحصل على شهادة تثبت أنها تركت المدرسة وهي في سن الثامنة عشر وليس في الرابعة عشر. وجدتْ مكاناً مناسباً للسكن فيه بالقرب من المدرسة. فهجرت بيت والدها وحيدة ومن دون وداع.
وأخيراً شعرت أنطوانيت أنها تلك الطالبة التي أرادت أن تصيرها منذ وقت طويل للغاية. وجاءت نهاية الفصل ومعها الإمتحانات الأولى، فقدَّمت الإمتحانات وتركت المدرسة عن طيب خاطر. تزودت بشهادات مؤهلاتها وبرسالة شخصية من المديرة، وانطلقت على الفور لتبحث عن وظيفة مناسبة، ووجدت عملاً كمضيفة استقبال في صالون حلاقة صغير.
وفي إحدى الأيام ذهبتْ لزيارة أمها. بحثت أنطوانيت حينها عن الإهتمام الذي أظهرته لها أمها من قبل، آملة أن ترى تعبيراً رقيقاً يدل على أنها مستعدة للتجاوب معها. ولكن روث ظلت المرأة التي لا تريد أن تتحمل أية مسؤولية. لم يحتاج والدي وقتاً طويلاً ليمحو زوجته من حياته. كان يعرف أنها تحتضر، لكنه رفض المجيء إلى المشفى ليودعها الوداع الأخير. فضّل أن يذهب إلى النادي ليشرب الكحول. ودَدْتُ أن أتذكرها كالأم التي كانتها حتى أعوامي الستة: تلك الأم التي تلاعبني. أما الأم الأخرى، تلك التي ضحّت بابنتها لتعيش وهْم الزواج السعيد، فسأنساها في الوقت الحاضر.
نظرتُ إلى البيت الخالي بعد وفاة أمي. اتجهتُ نحو باب المدخل، وطرقتُ بأقصى قوتي. سمعت احتكاك قدميه على الأرض، ثم مفتاحاً يدور في القفل. وعندما فُتح الباب، وقف أبي في المدخل يسد عليّ الممر، رافضاً أن يتركني أدخل. قال: ماذا تريدين؟ قلت: أتيت لأرى إن كنتَ بخير وتحتاج إلى مساعدة في فرز أغراض أمي؟ قلت في سري: "سيرغب في مناقشة إجراءات الدفن". ولكنه جاء بعدة أكياس من البلاستيك مليئة بالأمتعة، ورماها أمامي، وقال: هذه هي أغراض أمك. يمكنك أن تهبيها للعمل الخيري. وصفق الباب.
وأنا أجلس اليوم في منزله، بدأ حضوره أخيراً يتلاشى كلما راح الهواء المنعش يُنقّي الحجرات.
مرضتْ أنطوانيت بعد فترة من عملها، وتم تشخيص مرضها بالإكتئاب، وتم إدخالها إلى مصحة العلاج النفسي. لم تكن أنطوانيت قادرة على التحكم في نفسها، ولم تستجب للصدمات الكهربائية، وبالتالي تم نقلها إلى القسم الرئيسي من المصحة، وهو المكان الذي يوضع فيه مرضى الإقامات الطويلة والمرضى الذين لا أمل في تماثلهم للشفاء. كان قسماً تُسجن فيه النساء ويطويهن النسيان. لاذتْ أنطوانيت بالصمت. لم تجدْ أي شيء آخر تفعله، وكانت تأمل أن يحميها ذلك.
حاولتُ أن أطرد هذه الذكريات، ولكنها كانت مترسخة في ذهني. لم يزل بمقدوري أن أشم رائحة المشافي الكريهة الممزوجة برائحة الصابون الرديء، ورائحة الأطعمة البائتة، وروائح العفونة التي رشحت على مدى عقود حتى من مسامات الجدران. تساءلتُ كيف أستطعتُ أن أجد في نفسي القوة لأغفر لأبويّ على ما حدث لي. ولكني، تساءلتُ، لماذا كان يجب أن يحدث ذلك؟ تساءلتُ ما الذي دفع أبي ليصبح هكذا؟
في سن الرشد، نجحتُ في أن أفهم أبي بالفعل: إنه رجل يتصنع المشاعر. لم يبكِ على أمي حين ماتت، لأنه لم يكن بمقدوره أن يستوعب ما فقده في حياته. لم يكن قادراً على ذلك. لم يكن يعرف إلا شيئاً واحداً، أنها أصبحت كائناً من الماضي، وهو لا يعيش إلا في الحاضر وفي منظور المستقبل. وبهذا المعنى، أشفقتُ عليه لأنه لا يستطيع أن يحس بالمشاعر.
حاولتْ جدتي أن تبرر ثورات غضب أبي الخرافية بحادثٍ وقع له في طفولته، وغالباً ما حكت لي أمي القصة عينها، كأنه كان يجب عليّ أن أرثى لحاله وأبرر له كل أفعاله الوحشية. فلقد كان جو الإبن البكر في الأسرة، وكان طفلاً جميلاً. كانت دفاتر علاماته جيدة وكانت أمه التي لديها طفلان آخران في ذلك الوقت فخورة ببكرها. ولكن المصيبة وقعت حين بلغ سن الثامنة من عمره.
كانت جدتي طريحة الفراش، وفي مرحلة متقدمة من رابع حمل لها، حين سمعت زعيقاً تبعه ضجة صماء. هرعت إلى حجرة أطفالها ولم تجد سوى جسدين وليس ثلاثة. كان جو قد زحف حتى بلغ صحن الدرج، تعثر وسقط رأسه على الدرج، كان ممدداً كتلة هامدة. للحظة ظنتْ جدتي أنه مات.
استعاد جو صحته بعد فترة من العلاج في المشفى، ولكنه لم يقو على الكلام لأشهر عديدة. وحين عاد إلى مدرسته بعد عام، كان متاخراً في تحصيله العلمي ويعتريه عيبٌ ملموس في النطق. وضعوه في الصف الذي تركه. كان أطول من الأطفال الآخرين، فبدأ الأطفال بالسخرية منه. رد عليهم بعدوانية، واختفى بعدها الصبي الصغير والمرح، وصار تعيساً.
فكرتُ في المرة الأخيرة التي رأيت فيها أبي حياً. سافرتُ على وجه السرعة إلى بلفاست بعد أن اتصلتْ بي الخدمات الإجتماعية لتخبرني أنهم أدخلوه إلى المشفى بسبب كسر خفيف تبعه التهاب رئوي. ومن دون أن أفهم تصرفاتي، حجزت لي مكاناً في طائرة الصباح، وذهبت إلى أبي.
اختفت كل علامات تلك القوة التي كانت تسكن جسده. كان أبي، طاغيةَ طفولتي، الرجل الذي اعتدى عليّ جنسياً في عمر السادسة وجعلني حاملاً في سن الرابعة عشر، يوشك أن يموت.
حين رأيته هناك، عاجزاً عن الإهتمام بنفسه، شعرت أن غضبي ضده الذي سكنني منذ سنوات طويلة، الغضب الذي طالما تشبثتُ به، قد تيبّس ومات في داخلي. وفي النهاية مات أبي وحيداً.
نزلتْ أنطوانيت من سيارة الإسعاف وهي صامتة. اجتازت أبواب المبنى الرئيسي الخشبية والضخمة تحيط به الممرضتان المساعدتان. استلمتها الراهبة الليلية المسؤولة وقادتها إلى مهجعها. لم تدركْ أنطوانيت المكان الذي انتهت إليه إلا حين ارتقت سريرها. وفي الصباح قابلتها الراهبة المسؤولة، والتي كانت لطيفة معها. قالت لها الراهبة: لقد قرأتُ ملفك، وحالتك مأساوية. أعتقد أنك حين ستستوعبين أنه يوجد أناس عانوا أكثر منك، ستبدأين بالتحسن. شعرتْ أنطوانيت بالإرتياح مع هذه المرأة.
رأت مرضى كثراً يعيشون في المشفى ولم يؤذوا أحداً، لكن هذه أول مرة تقترب فيها من أناس دمرهم عدم وجود علاج والتخلي عنهم. قررتْ ألا تتلاشى في هذا القسم.
تدبرتْ الممرضة الأمرَ لتحصل أنطوانيت على كتب. وجدتْ أنطوانيت أن تركيزها بدأ يعود وكانت سعيدة لأنها استعادت القدرة على القراءة من جديد. وراحت تجلس نهارات بطولها في القاعة العامة، وتنسى نفسها في كتابها. واستقرت حياتها تدريجياً في المبنى الرئيسي بوتيرة مريحة، وبدأت غيوم اكتئابها بالتبدد، وأفسحت المجال لسكينة حملت لها شيئاً من الرضى.
أخبرها الطبيب النفسي بأن حالتها قد تحسنت، وأنه يريد أن يجد وسيلة لمساعدتها لمغادرة هذا المكان. قال لها: فكّري بالأمر وسنتحدث بعد بضعة أيام.
تضافرت أحداث خارجية أرغمت أنطوانيت على الإختيار بين حياةٍ وراء جدران المشفى أو مواجهةٍ جديدة مع العالم الخارجي. فقد أخبرها الطبيب النفسي أن والداها سيأتيان إلى المشفى بعد أربعة أيام وسيطلبان حجزها في المشفى. وإذا ما تم حجزها، فستكون عرضة للصدمات الكهربائية ولتناول أدوية مثل البارالديهيد. وبالتالي لن تستطيع مغادرة المشفى وستبقى فيه طيلة حياتها.
ابتسم لها الطبيب وقال لها: لا تعانين من شيء. أنتِ إنسانة طبيعية تماماً تأثرتْ بوضع غير عادي. أنت تستحقين الإحترام على ذهابك للمدرسة. لم تبلغي الثامنة عشر بعد. أمامك الحياة بطولها فلا تُضيعيها ببقائك هنا يا أنطوانيت. أنت موجودةٌ هنا بإرادتك، وهذا يعني أنه يحق لكِ التوقيع على خروجك. خذي وقتك بالتفكير، وآمل أن تخبري الراهبة غداً بموافقتك على المغادرة. أنطوانيت، لقد صمدتِ في طفولتك، وصمدتِ في حياتك هنا، فلا تستخفّي بنفسك. أعرف أنك ستتخذين القرار الصحيح.
أخذت أنطوانيت تفكر في ما قاله لها الطبيب النفساني. كانت تدركُ أن القرار الذي ستتخذه في الساعات القادمة سيحدد مسار حياتها. كانت تعرف أنها إذا بقيت بين جدران هذا المشفى، فستَحرِمُ نفسها من أي مستقبل. تذكرتْ كلام ابنة عمها، عندما سقطت من على الحصان. قالت لها: عليكِ أن تعاودي امتطاء الحصان، وإلا لن تمتطيه أبداً، ستشعرين بالخوف دوماً. أخبرتْ أنطوانيت الراهبة ببساطة: سأوقّع على خروجي.
وفي اليوم التالي، وقعتْ أنطوانيت على ورقة خروجها من المشفى بإسم توني ماغواير. وتوني هي ما غادرت المشفى. أما أنطوانيت المراهقة المذعورة، فلم تعد موجودة.
قبل أن أغادرَ المشفى مساءً، قررتُ أن الألاعيب التي كانت تلعبها أمي قد انتهت. لن أشاركها ثانية في مناوراتها النفسية. بعد مغادرتي للمشفى ذهبتُ لزيارتها. كانا قد انتقلا إلى بيتٍ جديد. لم أسألها إن كان بوسعي البقاء معها، بل حملت حقيبتي ببساطة إلى الغرفة، فلم تعترض. بقيتُ هناك ثلاثة أيام قبل أن أغادر إلى إنجلترا. وخلال تلك المدة استطعتُ أن أتجنب أبي تماماً.
وخلال الثلاثين سنة التالية، كنتُ نشيطة. أشدتُ أعمالي الخاصة، وأصبحت امرأة أخرى. لكنني لم أملك الشجاعة قط لأقطع كل اتصالٍ بوالديّ. أصبحتُ توني، الفتاة التي نجحتْ، الفتاة التي تأتي إلى إيرلندا في العطل الصيفية مُحمّلة بالهدايا.
خلال أيام أمي الأخيرة في المأوى، أمسكتُ بيدها حتى النهاية. أمضيتُ أياماً ولياليَ مديدة إلى جانبها وهي تنزلق ببطء نحو الموت.
وعلى مر السنين، طرح عليّ الناس السؤال نفسه مراراً وتكراراً: هل غفرتِ لوالديك؟ لم أغفر لهما ولكنني لم أدِنْهُما أيضاً. هل تكرهين والديك؟ لقد أخذتُ عِبراً شتى من إقامتي في المشفى ومن الفوضى التي أحدثتها أمي في حياتها، وإحدى هذه العبر هي أن الحقد ينال من الشخص الذي يحمله. لكن من يُوَجَّه إليه هذا الحقد لا يشعر أبداً بتأثيراته.
لم أدعْ شر أبي أو ضعف أمي يفوزا بسماحي لهذا الشعور بالحقد أن يتغلغل في حياتي. والسؤال الأخير: هل وجدتِ السعادة؟ أجل، وجدتُ السعادة.
النهاية.