"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب
تلخيص رواية:
ملائكة بين اللهب: فيكتور هوجو.
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.
ملائكة بين اللهب: فيكتور هوجو.
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.
في غابة سودراي.
في عام 1793 كان الصراع حامي الوطيس وعلى أشده بين جيوش الجمهورية والملكية في فرنسا، وكان سيل المتطوعين من أنصار الجمهورية يتدفقون تباعاً من باريس إلى مقاطعتي (بريتاني) و(فنديه) حيث كانت ترابط القوات الملكية. وصدرت أوامر (مجلس الأمة) في باريس إلى المتطوعين أن يقتلوا أعدائهم وأن يبيدوهم عن آخرهم بلا شفقة أورحمة. ولكن لم يكد ينتهي شهر مايو من هذا العام حتى خسر الجمهوريون من متطوعي باريس وحدها ثمانية آلاف مقاتل..
في أواخرشهر مايو المذكور طوّحت الحرب بفرقةٍ من الجند إلى غابة سودراي في مقاطعة (بريتانى). كانت غابة سودراي ذات أشجار كثيفة فارعة وأغصان عالية متشابكة لا تكاد تنفذ منها أشعة الشمس. وقد اشتهرت بمعاركها الطاحنة التي نشبت في أرجائها بين أبناء الوطن الواحد.
تقدم جنود الإستطلاع بقيادة قائدهم جاويش ومشوا في المقدمة يستكشفون الطريق. ورافقتهم امرأة معروفة بإسم (الزميلة).. فقد استَحدثتْ باريس في ذلك العهد تقليداً مبتكراً أباح للنساء بمرافقة جيوش المتطوعين في ساحات القتال كي تحث الرجال وتمدهم بما يحتاجون إليه من المشروبات. وفيما كان هؤلاء الجنود يتقدمون، توقفوا فجأة ، فقد سمعوا صوتاً خافتاً يصدر من بين الأشجار. وما هي إلا أقل من دقيقة حتى أحاطوا بتلك البقعة، وصوبوا بنادقهم إليها.
وقبل ان يصدر من الجميع اي حركة تقدمت (الزميلة) و دسِّت رأسها من بين فتحة بين الأغصان، وقبل أن يصدر الجاويش أمره صاحت المرأة: قفوا. ثم التفتت إلى الجنود قائلة: لا تطلقوا النار أيها الرفاق. تغلغلت المرأة أكثر بين الأغصان يتبعها الجنود. فوصلت إلى بقعة بين الأشجار تشبه الكهف، ووعندها شاهد الجميع امرأة تجلس على الأرض المكسوة بالعشب وتُرضّع طفلاً، وقد رقد فوق ركبتيها طفلان آخران. هتفت (الزميلة): ماذا تفعلين هنا بحق الله ؟هل جننتِ لتأتي إلى هنا؟ لو مضت لحظة أخرى لكنت الآن ممزقة الجسد! راحت المرأة تنظر في جزع واضطراب إلى السُّحن الوحشية والحراب المُشهرة التي تحيط بها من كل جانب. هتف الجاويش حينما رآها تعجز عن النطق لفرط خوفها : لا تخافي. نحن جنود الفرقة الحمراء. من أنتِ؟ كانت المرأة تبدو صغيرة السن، ونحيلة الجسم، شاحبة اللون، تلبس رداء من الصوف ينتهي بغطاء فضفاض على رأسها. وكانت حافية القدمين، ينزف الدم منهما. قالت (الزميلة) في شيء من الرقة: ما اسمك؟ غمغمت المرأة وأجابت متلعثمة : ميشيل فليشار. ربتت (الزميلة) بيديها على رأس الطفل الرضيع وقالت: كم عمر هذا الطفل؟ أجابت: سنة ونصف. قالت (الزميلة): هو كبير.. يجب ألا يرضع بعد الآن. يجب فطامه. سوف نعطيه حساءاً..
دب في نفس المرأة شئ من الإ‘طمئنان .. وذهب الخوف عن الطفلين وأخذا ينظران إلى الجنود بفضول.. فقالت الأم: إنهما جائعان!... لم يعد بعد عندى لبن. فهتف الجاويش: سوف نعطيكم طعاماً.. لكن ليس هذا كل شيء.. ماهو رأيك السياسي؟ نظرت إليه المرأة ثم أجابت المرأة في تلعثم: لقد أدخلت الدير في صغري. لكني متزوجة ولست راهبة.. وقد علمتني الراهبات كيف أتكلم بالفرنسية.. ثم أشتعِلت النار في القرية.. فهربنا بكل ما اوتينا من سرعة حتى أني لم أجد وقتاً للبس حذائي. أخذت (الزميلة) تربت بيدها على رؤوس الأطفال الثلاثة وقالت: ما اسم الرضيع؟ هي بنت. فأجابت الأم: إسمها جورجيت. والولد الأكبر رينيه جان. والأصغر آلين. فقالت الزميلة: أنهم ظرفاء.
جلست الزميلة إلى بجانب المرأة وأجلست الطفل الأكبر إلى حجرها فاستسلم لها، وقالت: إسمعي أيتها المرأة الطيبة.. إن أطفالك لطفاء.. من الواجب أن تنضمي إلى الفرقة.. مثلي.. إن اسمي أوزارد.. ووظيفتي هنا تقديم الشراب للجنود أثناء القتال.. إن قدميك مقاس قدمي.. سأعطيك زوجاً من أحذيتي.. تعالي معنا.. إن الجنود أناس طيبون.. ستكونين (زميلة) الفرقة الثانية.
لم تجب المرأة.. فسألها الجاويش: وأين زوجك يا مدام.. ماذا يعمل؟.. قالت المرأة: لقد قتلوه.. في الغابة.. منذ ثلاثة أيام. قال الجاويش: ومن قتله؟ قالت المرأة: لا أعرف. قتلته رصاصة. قال الجاويش: وماذا كنت تفعلين بعد قتل زوجك؟ قالت: كنت أهرب مع أطفالي من مكان لاخر .. ننام على الأرض، ونأكل من الأرض.. لا يوجد أمامي شئ غير ذلك. ثم أخذت تنظر إلى الأرض في صمتٍ واستسلام، وقد نمت عيناها عن أبلغ آيات الشقاء والتعاسة.
اقترب الجاويش من المرأة وانحنى فوق الطفلة الرضيعة وأخذ يتفرس فيها. وبكل وداعة حوّلت الطفلة رأسها إلى الوجه الضخم المطل عليها بشعره الكثيف الشائك، وتطلعت إليه بعينيها الصافيتين الزرقاوين ، ثم انفرجت شفتاها الصغيرتان عن ابتسامة ملائكية. اعتدل الجاويش. فرأى الجميع دمعة كبيرة تتحدر من فوق وجنته وتستقر على شاربه. حينها رفع الجاويش صوته قائلاً: أيها الرفاق. سوف تكون الفرقة أباً لهذه العائلة . هل أنتم موافقون؟ سوف نتبنى هؤلاء الأطفال الثلاثة. فصاح الجنود: تحيا الجمهورية! فقال الجاويش للأم: هيا تعالي معنا أيتها المواطنة.
في عصر اليوم الأول من شهر يونيو 1793، قبيل الغروب بساعة، أقلعت سفينة من جزيرة جرسي في بحر المانش واختفت في الضباب الكثيف . كانت سفينة (كليمور) ذات مظهر خادع. فهي في الظاهر سفينة تجارية ، لكنها في الواقع حربية . حملت السفينة قبل إقلاعها رجلاً طويل القامة، متقدم السن، تلوح على وجهه سمات القسوة والصرامة، وتنم هيئته عن البأس الشديد والعزم الراسخ . ولما صعد إلى سطح السفينة هذا الرجل رافقه اللورد بالكاراس حاكم الجزيرة والأمير دوفرن، وجيلامبر مندوب الأمراء الفرنسين. وقال اللورد وهو يصافحه بحماس : أتمنى لك التوفيق أيها القائد.. وقال له الأمير: إلى اللقاء يا ابن العم.. وحيّاه جيلامبر باحترام.
غربت الشمس وساد الظلام دامس . وراحت السفينة (كليمور) تشق طريقها بين الأمواج العاتية وتحت سماءٍ تملئها السحب الكثيفة ، قاصدة إلى شاطيء سان مالو. كان (الكهل) يسير ذهاباً وإياباً فوق سطح السفينة بخطوات ثابتة متزنة. لا يتكلم لأحد، غير أنه كان يُلقي إلى القبطان من حينٍ لآخر بضع كلمات سريعة ، فيصغي إليه القبطان بكل احترام وكأنما هو قائد السفينة الفعلي.
أخذ القبطان بتروليه وضابط السفينة فيوفيل يتبادلان الحديث. فقال بتروليه في صوتٍ خافت: سنرى إن كان ضيفنا قائداً حقاً. فأجاب فيوفيل: هو يعد في الوقت الحالي في مصاف الأمراء.. فهو أمير في مقاطعة (بريتاني). قال القبطان: هل تعتقد إنه سوف يحقق الآمال المنشودة ؟ فأجاب فيوفيل: عليه أن يكون قوي الشكيمة. فقال برتوليه: يعني (شرس). تفرس القبطان والضابط أحدهما في وجه الآخر، ثم قال الأخير: أصبت يا سيدي القبطان... نحن نريد رجلاً شرساً. هذه حرب لارحمة فيها وقاسية ، النصر فيها لمن يريق الدماء بلا حساب. إن الجمهورين قطعوا رأس الملك لويس السادس عشر. فعلينا أن نقطع أوصالهم ونمزق أجسامهم شر ممزق.
وقبل أن يجيب بتروليه وفجأة تعالت صرخة داوية، هرع القبطان والضابط إلى سطح السفينة السفلي حيث توجدهناك بطارية المدافع، لكنهما عجزا عن النزول. فقد كان جنود المدفعية يندفعون كالمجانين صاعدين إلى السطح العلوي ، فقد انفلت فجأة مدفع ضخم من مدافع البطارية في سطح السفينة السفلي، وانطلق يحطم ويدوس كالوحش الهائج كل شئ أمامه . فدهم المدفع بعض جنود المدفعية وسحق أربعة منهم بضربة واحدة، ثم تراجع إلى الخلف فشطر رجلٍ خامس الى نصفين . وقف القبطان بتروليه والضابط فيوفيل على رأس السلم ينظران بذهول إلى السطح السفلي مشدوهين حائرين، أحسا برجل يزيحهما من الطريق بكتفه ويهبط السلم. كان هذا الرجل هو ضيف السفينة.. (الكهل) الذي كان محط حديثهما منذ قليل، ولما وصل إلى نهاية السلم وقف جامداً في مكانه.
في هذا الاثناء كان المدفع المخيف قد أتلف خمسةً من مدافع البطارية بضرباته القوية، وأحدث ثغرتين في جدار السفينة. تمالك القبطان روعه وأصدر الأوامر لرجاله على الفور ، فأخذوا يقذفون فوق سطح السفينة السفلي كل ما كانو يجدوه من المراتب والأكياس والوسائد والحبال بقصد إيقاف حركة المدفع وشلّ اندفاعه الجنوني، ولكن سرعان ما فرقها المدفع الجبار ونثرها في كل مكان.
في عام 1793 كان الصراع حامي الوطيس وعلى أشده بين جيوش الجمهورية والملكية في فرنسا، وكان سيل المتطوعين من أنصار الجمهورية يتدفقون تباعاً من باريس إلى مقاطعتي (بريتاني) و(فنديه) حيث كانت ترابط القوات الملكية. وصدرت أوامر (مجلس الأمة) في باريس إلى المتطوعين أن يقتلوا أعدائهم وأن يبيدوهم عن آخرهم بلا شفقة أورحمة. ولكن لم يكد ينتهي شهر مايو من هذا العام حتى خسر الجمهوريون من متطوعي باريس وحدها ثمانية آلاف مقاتل..
في أواخرشهر مايو المذكور طوّحت الحرب بفرقةٍ من الجند إلى غابة سودراي في مقاطعة (بريتانى). كانت غابة سودراي ذات أشجار كثيفة فارعة وأغصان عالية متشابكة لا تكاد تنفذ منها أشعة الشمس. وقد اشتهرت بمعاركها الطاحنة التي نشبت في أرجائها بين أبناء الوطن الواحد.
تقدم جنود الإستطلاع بقيادة قائدهم جاويش ومشوا في المقدمة يستكشفون الطريق. ورافقتهم امرأة معروفة بإسم (الزميلة).. فقد استَحدثتْ باريس في ذلك العهد تقليداً مبتكراً أباح للنساء بمرافقة جيوش المتطوعين في ساحات القتال كي تحث الرجال وتمدهم بما يحتاجون إليه من المشروبات. وفيما كان هؤلاء الجنود يتقدمون، توقفوا فجأة ، فقد سمعوا صوتاً خافتاً يصدر من بين الأشجار. وما هي إلا أقل من دقيقة حتى أحاطوا بتلك البقعة، وصوبوا بنادقهم إليها.
وقبل ان يصدر من الجميع اي حركة تقدمت (الزميلة) و دسِّت رأسها من بين فتحة بين الأغصان، وقبل أن يصدر الجاويش أمره صاحت المرأة: قفوا. ثم التفتت إلى الجنود قائلة: لا تطلقوا النار أيها الرفاق. تغلغلت المرأة أكثر بين الأغصان يتبعها الجنود. فوصلت إلى بقعة بين الأشجار تشبه الكهف، ووعندها شاهد الجميع امرأة تجلس على الأرض المكسوة بالعشب وتُرضّع طفلاً، وقد رقد فوق ركبتيها طفلان آخران. هتفت (الزميلة): ماذا تفعلين هنا بحق الله ؟هل جننتِ لتأتي إلى هنا؟ لو مضت لحظة أخرى لكنت الآن ممزقة الجسد! راحت المرأة تنظر في جزع واضطراب إلى السُّحن الوحشية والحراب المُشهرة التي تحيط بها من كل جانب. هتف الجاويش حينما رآها تعجز عن النطق لفرط خوفها : لا تخافي. نحن جنود الفرقة الحمراء. من أنتِ؟ كانت المرأة تبدو صغيرة السن، ونحيلة الجسم، شاحبة اللون، تلبس رداء من الصوف ينتهي بغطاء فضفاض على رأسها. وكانت حافية القدمين، ينزف الدم منهما. قالت (الزميلة) في شيء من الرقة: ما اسمك؟ غمغمت المرأة وأجابت متلعثمة : ميشيل فليشار. ربتت (الزميلة) بيديها على رأس الطفل الرضيع وقالت: كم عمر هذا الطفل؟ أجابت: سنة ونصف. قالت (الزميلة): هو كبير.. يجب ألا يرضع بعد الآن. يجب فطامه. سوف نعطيه حساءاً..
دب في نفس المرأة شئ من الإ‘طمئنان .. وذهب الخوف عن الطفلين وأخذا ينظران إلى الجنود بفضول.. فقالت الأم: إنهما جائعان!... لم يعد بعد عندى لبن. فهتف الجاويش: سوف نعطيكم طعاماً.. لكن ليس هذا كل شيء.. ماهو رأيك السياسي؟ نظرت إليه المرأة ثم أجابت المرأة في تلعثم: لقد أدخلت الدير في صغري. لكني متزوجة ولست راهبة.. وقد علمتني الراهبات كيف أتكلم بالفرنسية.. ثم أشتعِلت النار في القرية.. فهربنا بكل ما اوتينا من سرعة حتى أني لم أجد وقتاً للبس حذائي. أخذت (الزميلة) تربت بيدها على رؤوس الأطفال الثلاثة وقالت: ما اسم الرضيع؟ هي بنت. فأجابت الأم: إسمها جورجيت. والولد الأكبر رينيه جان. والأصغر آلين. فقالت الزميلة: أنهم ظرفاء.
جلست الزميلة إلى بجانب المرأة وأجلست الطفل الأكبر إلى حجرها فاستسلم لها، وقالت: إسمعي أيتها المرأة الطيبة.. إن أطفالك لطفاء.. من الواجب أن تنضمي إلى الفرقة.. مثلي.. إن اسمي أوزارد.. ووظيفتي هنا تقديم الشراب للجنود أثناء القتال.. إن قدميك مقاس قدمي.. سأعطيك زوجاً من أحذيتي.. تعالي معنا.. إن الجنود أناس طيبون.. ستكونين (زميلة) الفرقة الثانية.
لم تجب المرأة.. فسألها الجاويش: وأين زوجك يا مدام.. ماذا يعمل؟.. قالت المرأة: لقد قتلوه.. في الغابة.. منذ ثلاثة أيام. قال الجاويش: ومن قتله؟ قالت المرأة: لا أعرف. قتلته رصاصة. قال الجاويش: وماذا كنت تفعلين بعد قتل زوجك؟ قالت: كنت أهرب مع أطفالي من مكان لاخر .. ننام على الأرض، ونأكل من الأرض.. لا يوجد أمامي شئ غير ذلك. ثم أخذت تنظر إلى الأرض في صمتٍ واستسلام، وقد نمت عيناها عن أبلغ آيات الشقاء والتعاسة.
اقترب الجاويش من المرأة وانحنى فوق الطفلة الرضيعة وأخذ يتفرس فيها. وبكل وداعة حوّلت الطفلة رأسها إلى الوجه الضخم المطل عليها بشعره الكثيف الشائك، وتطلعت إليه بعينيها الصافيتين الزرقاوين ، ثم انفرجت شفتاها الصغيرتان عن ابتسامة ملائكية. اعتدل الجاويش. فرأى الجميع دمعة كبيرة تتحدر من فوق وجنته وتستقر على شاربه. حينها رفع الجاويش صوته قائلاً: أيها الرفاق. سوف تكون الفرقة أباً لهذه العائلة . هل أنتم موافقون؟ سوف نتبنى هؤلاء الأطفال الثلاثة. فصاح الجنود: تحيا الجمهورية! فقال الجاويش للأم: هيا تعالي معنا أيتها المواطنة.
في عصر اليوم الأول من شهر يونيو 1793، قبيل الغروب بساعة، أقلعت سفينة من جزيرة جرسي في بحر المانش واختفت في الضباب الكثيف . كانت سفينة (كليمور) ذات مظهر خادع. فهي في الظاهر سفينة تجارية ، لكنها في الواقع حربية . حملت السفينة قبل إقلاعها رجلاً طويل القامة، متقدم السن، تلوح على وجهه سمات القسوة والصرامة، وتنم هيئته عن البأس الشديد والعزم الراسخ . ولما صعد إلى سطح السفينة هذا الرجل رافقه اللورد بالكاراس حاكم الجزيرة والأمير دوفرن، وجيلامبر مندوب الأمراء الفرنسين. وقال اللورد وهو يصافحه بحماس : أتمنى لك التوفيق أيها القائد.. وقال له الأمير: إلى اللقاء يا ابن العم.. وحيّاه جيلامبر باحترام.
غربت الشمس وساد الظلام دامس . وراحت السفينة (كليمور) تشق طريقها بين الأمواج العاتية وتحت سماءٍ تملئها السحب الكثيفة ، قاصدة إلى شاطيء سان مالو. كان (الكهل) يسير ذهاباً وإياباً فوق سطح السفينة بخطوات ثابتة متزنة. لا يتكلم لأحد، غير أنه كان يُلقي إلى القبطان من حينٍ لآخر بضع كلمات سريعة ، فيصغي إليه القبطان بكل احترام وكأنما هو قائد السفينة الفعلي.
أخذ القبطان بتروليه وضابط السفينة فيوفيل يتبادلان الحديث. فقال بتروليه في صوتٍ خافت: سنرى إن كان ضيفنا قائداً حقاً. فأجاب فيوفيل: هو يعد في الوقت الحالي في مصاف الأمراء.. فهو أمير في مقاطعة (بريتاني). قال القبطان: هل تعتقد إنه سوف يحقق الآمال المنشودة ؟ فأجاب فيوفيل: عليه أن يكون قوي الشكيمة. فقال برتوليه: يعني (شرس). تفرس القبطان والضابط أحدهما في وجه الآخر، ثم قال الأخير: أصبت يا سيدي القبطان... نحن نريد رجلاً شرساً. هذه حرب لارحمة فيها وقاسية ، النصر فيها لمن يريق الدماء بلا حساب. إن الجمهورين قطعوا رأس الملك لويس السادس عشر. فعلينا أن نقطع أوصالهم ونمزق أجسامهم شر ممزق.
وقبل أن يجيب بتروليه وفجأة تعالت صرخة داوية، هرع القبطان والضابط إلى سطح السفينة السفلي حيث توجدهناك بطارية المدافع، لكنهما عجزا عن النزول. فقد كان جنود المدفعية يندفعون كالمجانين صاعدين إلى السطح العلوي ، فقد انفلت فجأة مدفع ضخم من مدافع البطارية في سطح السفينة السفلي، وانطلق يحطم ويدوس كالوحش الهائج كل شئ أمامه . فدهم المدفع بعض جنود المدفعية وسحق أربعة منهم بضربة واحدة، ثم تراجع إلى الخلف فشطر رجلٍ خامس الى نصفين . وقف القبطان بتروليه والضابط فيوفيل على رأس السلم ينظران بذهول إلى السطح السفلي مشدوهين حائرين، أحسا برجل يزيحهما من الطريق بكتفه ويهبط السلم. كان هذا الرجل هو ضيف السفينة.. (الكهل) الذي كان محط حديثهما منذ قليل، ولما وصل إلى نهاية السلم وقف جامداً في مكانه.
في هذا الاثناء كان المدفع المخيف قد أتلف خمسةً من مدافع البطارية بضرباته القوية، وأحدث ثغرتين في جدار السفينة. تمالك القبطان روعه وأصدر الأوامر لرجاله على الفور ، فأخذوا يقذفون فوق سطح السفينة السفلي كل ما كانو يجدوه من المراتب والأكياس والوسائد والحبال بقصد إيقاف حركة المدفع وشلّ اندفاعه الجنوني، ولكن سرعان ما فرقها المدفع الجبار ونثرها في كل مكان.
في هذه اللحظة وثب رجل يحمل في إحدى يديه قضيباً ضخماً من الحديد، وفي اليد الأخرى حبلاً ينتهي بأنشوطة.. كان هذا الرجل هو مُسبب الكارثة. أي أنه ضابط المدفعية الذي ترتب على نتيجة إهماله انفلات المدفع من مكانه. وقف الضابط ماداً يديه بالحبل و بالقضيب ، منتظراً دنو المدفع من مكانه.. ولكن بحركة سريعة انقض المدفع وأطبق على الضابط كالقضاء العاجل، فانحصر الضابط في فراغٍ صغيرمحدود. فتقدم الكهل ووثب وثبة عجيبة، وتناول أحد أكياس، ودسّه بين عجلات المدفع. فكانت حركة بارعة موفقة.. فقد تعثر المدفع في دورانه وأبطئ . وسرعان ما انتهز الضابط هذه الفرصة، ودسّ قضيب الحديد بين قضبان إحدى العجلات الخلفية للمدفع. فتوقف المدفع.. وترنح.. وما هي إلا لحظاتٍ حتى انقلب المدفع في دوي شديد.. فألقى الضابط نفسه فوقه وطوق فوهته بالأنشوطة. وسرعان ما هبط البحارة جميعهم إلى السطح السفلي ومعهم السلاسل والحبال وشدوا وثاق المدفع الجبار. حيّا ضابط المدفعية الرجل الكهل، وقال له: سيدي.. لقد أنقذت حياتي. وأسرع البحارة يعملون لنزح المياه التي أخذت تتسرب إلى داخل السفينة، وإعادة المدافع السليمة إلى أماكنها وإزالة آثار هذه المعركة المروعة.
وفي الوقت الذي كان على أشده الصراع للتغلب على المدفع، اكفهر وجه السماء وتلاطمت الأمواج واشتدت الرياح وتكاثف الضباب، وحملت الريح السفينة بعيداً عن طريقها المرسوم، وراحت تتخبط السفينة في الظلام. تقدم القبطان إلى الكهل، يتبعه ضابط المدفعية شاحب الوجه ممزق الملابس، وحياه التحية العسكرية قائلاً: أيها القائد. جئت إليك بهذا الرجل. ألا ترى أنه نظراً لما فعله هذا الرجل، يجدر برؤسائه أن يفعلوا شيئاً من ناحيتهم؟ فنظر الكهل إلى ضابط المدفعية وقال: فليُعْدم هذا الرجل رمياً بالرصاص . بسببه وقع إهمالٌ تعرضت السفينة له لخطر هالك . وربما كانت هالكة لا محالة في هذا الوقت. إن ركوب البحر كمواجهة العدو. والموت هو العقوبة الحتمية التي تُجازى بها كل غلطة تُرتكب عند مواجهة العدو. ثم التفت إلى الجنود واستطرد قائلاً: قوموا بواجبكم. فتم إعدام ضابط المدفعية وإلقاء جثته في البحر.
تقدم الضابط فيوفيل إلى قائد الدفة وقال له: أين نحن الآن؟ فأجاب قائد الدفة: نحن بين يدي الله. وسرعان ما أجابت الطبيعة على سؤاله فقد انقشعت سحب الضباب الكثيفة .. وتبددت الغيوم التي كانت تحجب وجه الأفق.. ولاح بياض الفجرشئ فشئ .وظهرت من ثنايا أول خيوط الفجر الأولى ثماني سفن كانت تقف في انتظامٍ مروع على مسافات متباعدة. وأما عن من جهة الشمال فقد بانت في ضوء القمر ثلات قمم صخرية شاهقة. أما عن السفن فهي الأسطول الفرنسي.. وأما القمم فهي صخور (مانكيير).. وهكذا وقعت السفينة بين نارين، وعليها أن تختار أمر الامرين بين مواجهة العدو.. وبين التحطم على الصخور. كان الموقف عسيراً.
وقف الكهل فوق سطح السفينة يراقب الموقف. فتقدم منه القبطان قائلاً: سيدي. نحن على أبواب الموت . سنقع إما في قبضة العدو، أو نتحطم على الصخور. وليس هناك أمامنا وسيلة ثالثة. والمنفذ الوحيد، هو الموت. خير لنا أن نقاتل، من أن نفنى على الصخور. إني أفضل الموت بالرصاص على الموت غرقاً. لكن إذا كان مصيرنا هو الموت ، فليس هو لك. إنه توجد لك مهمة سامية وعظيمة منوطة بك. هي إدارة دفة الحرب في ميادين (فندية). وفي هلاكك القضاء على الملكية. ولذلك لا بد أن تحيا . فواجبك يحتم عليك الذهاب. ولا بد عليك أن تغادر السفينة يا سيدي القائد. سوف أمدك برجل وبقارب. والبحر مظلم. والامواج عالية .والإفلات ميسور. إن الفرار هو النصر والغلبة في بعض الأحوال. أحنى الكهل رأسه موافقاً.
وفي بضع دقائق أنزِل من سفينة (كليمور) قاربٌ صغير متين البنيان يحمل الكهل والبحار المتطوع، هالمالو. وأخذ البحار يجدف بقوة وسرعة مبتعداً عن السفينة متجهاً إلى ناحية صخور (مانكيير) وفقاً لأوامر القبطان. وما إن قطع القارب مسافة لابأس بها ، وابتعد عن السفينة، حتى بدأت المعركة البحرية بين السفينة (كليمور) والأسطول الجمهوري. وحينها توهج بالأفق نيران مضطرمة وكأنما انفجر في وسط البحر بركانٌ ثائر يرسل الحمم والقذائف. جلسا الرجلان في القارب صامتين.. ودنا القارب من صخور (مانكيير)، وراح يشق طريقه فيه بمهارة وحذرٍ . وبعد وقت قليل حجبت الصخور شبح الصراع الرهيب الدائر بين الأسطول والسفينة (كليمور). وصل إلى الجانب الآخر من الصخور القارب ، بعيداً عن ميدان القتال. وأخذ ضوء نهاربالإنتشار. ونجا القارب من قبضة العدو. مضت ما يقارب ست وثلاثون ساعة قبل وصول القارب إلى شاطيءٍ مهجور. راح هالمالو يشرح للكهل طبيعة المكان وموقعه الجغرافي. قال الكهل: لا بد أن نفترق الآن يا هالمالو. ثم أخرج الكهل من أحد جيوبه رقعة خضراء حريرية تتوسطها زنبقة موشاة بالذهب، واستطرد: إصغ لي يا هالمالو. عليك أن تسير إلى جهة اليمين. وأنا إلى الشمال.. سأذهب في اتجاه (فوجير)، وستذهب في اتجاه (بوزوج). هل تعرف غابة (لاتورج)؟ قال هالمالو: وكيف لا أعرفها يا مولاي؟ لقد نشأت فيها. وبها حصن (لاتورج) الضخم الذي تملكه أسرة سيد أرضنا. وبهذا الحصن باب كبير من الحديد يفصل شطر الحصن الجديد عن الشطر القديم . وكما يوجد هناك الممر السري تحت الأرض. بل ربما كنت أنا الوحيد الذي يعلم بوجود هذا الممر. قال الكهل: أي ممر أرضي؟ لا أفهم قصدك. فقال هالمالو:لقد أنشيء هذا الممر في العصور القديمة، حتى يتمَكّن الموجودين في داخل الحصن من الهروب من خلال الممر الأرضي الذي يؤدي إلى الغابة. صمت الكهل قليلاً، ثم قال: أنت مَخدوع، لو كان يوجد مثل هذا الممر، لكنت عرفته. إننا نضيع الوقت. دعنا نتكلم فيما يعنينا. ثم راح الكهل يسرد لهالمالو أسماء الغابات والمواقع التي يذهب إليها، والأفراد الذين يقابلهم ليبلّغهم رسالته ، ثم أخرج من جيبه كيساً ناوله له واستطرد: ستحتاج أيضاً إلى المال. في هذا الكيس يوجد به مئة جنيه ذهباً هي كل ما عندي. أنا لا أحتاج إلى مال. ومن الخير ألا يوجد معي مال بتاتاً. إذهب الآن. وإذا نجحت؟ سأمنحك وسام القديس لويس.
انتظر الكهل حتى رأى هالمالو اختفى عن نظره، ثم سار في جهة مضادة إالى أن وصل إلى تلٍ ارتقاه وجلس عند قمته. استقر نظره عند مجموعة جدران وسقوف كانت في منتصف المسافة بين السهل والغابة.. فعرف على الفور المزرعة التي ينشدها. استرعى انتباهه جسمٌ يتحرك بشكل منتظم فوق سقف البيت الرئيسي في المزرعة. فعلم الكهل أن البقاء في التل غير آمن، فقرر النزول إلى طريق المزرعة. قابل في طريقه متسولاً. فعرفه المتسول فوراً وقال له: أنت مولاي الماركيز دي لانتناك. وأنصحك بألا تذهب إلى المزرعة لأن الزُرق نزلوا فيها. فأخذه المتسول تلمارش إلى كهفه. استيقظ الماركيز منتعشاً. فرأى المتسول يقف خارج الكهف يستند إلى عصاه وقد سطعت أشعة الشمس على وجهه. فقال تلمارش: مولاي، كل شيء هاديء الآن حول المزرعة. إما أن الزرق نيام، أو أنهم رحلوا. خيرٌ لنا أن نفترق. سوف أذهب في هذا الإتجاه. وأشار إلى الجهة المقابلة وأردف: وانت إذهب في ذلك الإتجاه. حيّا المتسول الماركيز، وما هي إلا لحظات حتى اختفى بين الأشجار. نهض الماركيز ومشي في الإتجاه الذي أشار إليه تلمارش.
عاد الماركيز إلى التلة.. وفيما هو كذلك رنّ في أذنيه صوت دويٌّ هائل مروع.. كان مزيجاً من الصراخ ودق الطبول وطلقات البنادق..كان صادراً من الحقول والغابات المجاورة. ثم لمح الماركيز سحباً من الدخان وألسنة تتصاعد من النيران من ناحية المزرعة. ثم فجأة برزت من بين أشجار الغابة مئات البنادق والسيوف والحراب. وظهرت سحنٌ وحشية تردد باسمه، وكانت هي تراه بجلاء من موقعه فوق قمة المرتفع، وكان صراخها عالي يصم الأذن. فرفع الماركيز قبعته، وصاح بأعلى صوته: أنا الرجل الذي تبحثون عنه!.. أنا الماركيز دي لانتناك، أمير الغابات، قائد عام جيوش الملك! ألقى نظرة إلى الأسفل، فوجد نفسه محاطاً برجال راكعين على أقدامهم.. وارتفع صوت يدوي بهذا الهتاف: يحيا لانتناك! يحيا القائد!
كان الجيش الذي أحاط به هو أحد جيوش (فنديه) وقد ركع أفراده على الأرض إجلالاً وتحية له. اخترق صفوف الراكعين شابٌ نبيل الملامح، وما أن وصل إلى الماركيز حتى ركع فوق إحدى ركبيته على الأرض وقدّم السيف والحزام إلى الماركيز قائلاً: نحن حقاً نبحث عنك وقد وجدناك، تقبّل سيف القيادة، هم هؤلاء رجالك، تقبّل يامولاي خضوعنا ، أيها القائد، نحن في انتظار أوامرك. مولاي، إسمى جافار. فقال الماركيز: أحسنتم. ثم لوح بالسيف فوق رأسه، وهتف بأعلى صوته: إنهضوا!.. يحيا الملك! نهض الجميع .. ودوّى في الغابة صوتٌ كقصف الرعد: يحيا الملك! يحيا الماركيز! يحيا لانتناك. التفت الماركيز إلى جافار وسأله: كم يبلغ عددكم؟ فقال جافار: سبعة آلاف. قال الماركيز: وهاجمتم الزرق في مزرعة (زهرة الشاطيء)؟ فقال جافار: نعم.مولاي في صباح هذا اليوم أحطنا بالمزرعة.. وكان الزرق نياماً.. فقضينا عليهم. قال الماركيز: ألم تخبرني أن أصحاب المزرعة أحسنوا استقبال الزرق؟ فقال جافار: نعم يا سيدي القائد. قال الماركيز: أحرقوها بأكملها وأجهزوا على الجرحى والأسرى. قال جافار: بينهم امرأتان وثلاثة أطفال. قال الماركيز: أعدموا المرأتين وإحملوا الأطفال. سنقرر فيما بعد ماذا نصنع بهم. وهز الماركيز جواده، الذي قدمه له جافار، وابتعد به.
في المساء عاد المتسول إلى كهفه. ولما اقترب منه، لفت نظره عن بعدٍ عمود من الدخان صادر من ناحية مزرعة زهرة الشاطيء. فأسرع تلمارش خطاه في سيره متجهاً إلى مصدر الدخان. ولما وصل إليه وجد كوماً من الخرائب تحترق. هو ما بقي من زهرة الشاطيء. تقدم تلمارش إلى الموتى وراح يتفحصهم . عرف فيهم فرقة الجمهورين الذين نزلوا في المزرعة في الليلة الماضية وعسكروا فيها. شاهد أربع أقدام بارزة من أحد أركان جدار منخفض. كانت الأقدام صغيرة تحمل أحذية.. فاقترب تلمارش منها، فرأى امرأتين راقدتين جنباً إلى جنب خلف الجدار.. وقد أعدمتا بالرصاص مثل الجنود. انحنى تلماريش فوق المرأتين.. فوجد إحداهما قد فارقت الحياة.. وعرف أنها (الزميلة) في الفرقة. أما المرأة الأخرى فقد كان قلبها ما يزال يخفق. لم تكن ميتة.صرخ : ألا يوجد أحد هنا؟ أجابه صوت شديد الخفوت: هل أنت تلمارش؟ّ.. وبرز وجه من بين الخرائب، وتلاه رأس آخر من إحدى الفتحات.. وإذا هما كانا فلاحان مختبئين. وقد سلما وحدهما من الكارثة. تقدما إلى المتسول الكهل وهما ينتفضان بشدة. فأشار بيده إلى المرأة الممددة تحت قدميه وقد عجز عن النطق. قال أحدهم: إن بيتي أحترق.. وقد قتلوا كل إنسان.. كان لهذه المرأة ثلاثة أطفال صغار. وقد ذهب القتلة بعد أن أتموا مجزرتهم .. ذهبوا مسرورين راضين .. حملوا معهم الأطفال بعد أن أطلقوا الرصاص على أمهم. هل بالإمكان إنقاذها؟ هل تحب أن نساعدك في حملها إلى كهفك؟ أومأ تلمارش برأسه إيجاباً. فصنعوا لها نقّالة من أغصان الأشجار ووضعوا المرأة فوقها.. وحمل النقالة الفلاحان وساروا إلى كهف المتسول.
على الرغم من أن عام 1793، العام الرابع من تاريخ الثورة،فقد امتاز بظاهرةٍ أخرى، غير ظاهرة التعطش للدماء من قبل الجماهير. ففيه أعلنت أوروبا الحرب على فرنسا، وقد كان لهذا العام خطورته في تاريخ الثورة.. وأدرك الباريسيون هذه الحقيقة فأخذوا يستميتون للدفاع عن كيان ثورتهم التي حقّقوها. كانت جيوش المتطوعين من أهالي باريس تتدفق إلى ميادين القتال. وكان لخطباء الجماهير في ذلك الوقت نفوذهم الكبير وتأثيرهم السحري القوي في استنهاض النفوس وإضرام نار الحماسة في الصدور، وكان منهم سيموردان. وقد ظفر من الجماهير بالحب والتقدير والإحترام.
نشأ سيموردان شمّاساً في إحدى القرى، واتخدته إحدى الأسر النبيلة مربياً لولدها، فصاغ منه رجلاً بث في روحه المتفتحة عقائده وأفكاره في الحياة ومثله العليا. كان سيموردان يحب هذا الطفل حباً كبيراً وكان له بمثابة الأب، ثم جاء دور الفراق بعد أن اكتمل نمُو الأبن عقلا وجسداً وبات شاباً يافعاً.. ثم انتقل الشاب النبيل إلى صفوف الجندية التي كان فيها ضابطاً بالوراثة. ولم يعد يرى سيموردان تلميذه. ومن ثم تمّ تعيين سيموردان مفوضاً مندوباً من قبل (لجنة الأمن العام)، وتم تزويده بسلطة مطلقة.
قال له روبسبير، وهويعد أحد جبابرة الثورة الفرنسية: سوف تكون مُفوضاً بالسلطة اللازمة لدى شاب في نصف عمرك . فعليك أن ترشده ولكن في روية وحزمٍ. هو يبدو ذا مواهب عسكرية ممتازة. وقد أجمعت كافة التقارير على ذلك. ففي ظرف خمسة عشر يوماً تمكن من أن يصد الماركيز دى لانتناك المحنك وأن يمنع تقدمه. فقال سيموردان: يبدو أن هذا الشاب يتميز بمواهب عظيمة. فقال مارا، وهو أيضاً يعد أحد جبابرة الثورة الفرنسية، مقاطعاً: لكن يوجد له نقطة ضعف بارزة. فقال سيموردان: وما هي؟ فأجاب مارا: الطيبة والرحمة. هو صارمٌ في ميدان القتال. ضعيف بعد المعركة. هو يرحم ويعفو ويحمي الراهبات. وينقذ زوجات النبلاء وبناتهم. ويفرج القسس وعن الأسرى. فغمغم سيموردان: هذا ضعف خطير. قال روبسبير وهو ينظر في أوراقه: هذا هو اسم القائد الذي ستُفوّض عنده بسلطة كاملة، إسمه جوفان. امتقع وجه سيموردان وهتف باندهاش : الفيكونت جوفان! فقال روبسبير: نعم.
قال مارا وهو يتفرّس في وجه القس: حسناً؟ أيها المواطن سيموردان. هل تقبل مهمة المندوب المفوض لدى القائد جوفان بالشروط التي قررتها. فأجاب سيموردان وقد ازداد امتقاع لون وجه : نعم أقبلها. تم تحرير رقعة بهذا الأمر وأعطيت إلى سيموردان.
كان أهل غابة (فوجير) من أشد الناس الثائرين على الجمهورية الفرنسية والمناضلين ضدها، وهم الذين أبلوا البلاء الأكبر ا في حروب (فنديه). وكان أهل هذه المقاطعة جميعهم يشتركون في صفةٍ واحدة، هي العيشة الفطرية التي تقدس وتمجد الأرض والمالك، وكان تفكيرهم لا يتجاوز مطالب الحياة الدنيا. وكانت جيوش (فندية) تضم ما يقارب نصف مليون مقاتل، وإذا كانت ثورتها ونهضتها على الجمهورية في وقت ما قد صمدت زمناً ، وكانت شوكة في الجمهورية،إلا انها قد فشلت آخر الأمر وانهزمت لأنها كانت قائمة على التعصب للإقليم، ضد الوطن. ولذلك أخفقت.
في أصيل إحدى أيام يوليو ترجّل مسافر عن ظهر جواده ووقف عند مدخل الخان الموجود في نهاية الطريق الممتد من بلدة (أفرانش) في مقاطعة (بريتاني). كان القادم يلتف بعباءة ويلبس قبعة رحبة تعلوها شارة مثلثة الألوان، وهي تمثل شعاراً خطراً في هذه المناطق المجاورة للغابات. عند سماع صوت حوافر الجواد فتح باب الخان ، وخرج صاحبه لاستقبال القادم، حاملاً بيده قنديلاً، ولما رأى الشارة المثلثة قال: هل تنزل هنا أيها المواطن؟ فقال المسافر: لا. سوف أذهب إلى بلدة (دول). قال صاحب الخان: في هذه الحالة أنصحك بالعودة إلى (أفرانش) لأن القتال دائر في (دول).في الواقع إني أرى عليك مظاهر التعب.. إسمع نصيحتي واسترح لبعض الوقت.. كما إن جوادك شديد الإعياء. ثم حمل صاحب الخان دلواً من الماء وقدّمه إلى الجواد. قال المسافر: تقول إن القتال دائر على أشده في بلدة (دول)؟ من المتقاتلون؟ قال صاحب الخان: نبيل سابق جمهوري ضد نبيل سابق ملكي. والغريب في هذا القتال أن الإثنين من أسرة واحدة. أحدهما شاب والثاني كهل. العم ملكي، وابن الأخ جمهوري. ثق تماماً أنهما لن يعرفا معنى للرحمة في هذه الحرب. هي حرب هائلة دائرة حتى الموت.. سأل المسافر: ومن منهما متفوق على الآخر؟ قال صاحب الخان: النبيل الجمهوري حتى الآن. لكنه مضطر للنضال الشاق، فإن القائد الكهل الماركيز لانتناك قوي الشكيمة، شديد البأس. وكلاهما من أسرة جوفان، أشراف هذه المقاطعة. فما كاد يمضي يوم واحد على نزول هذا الماركيز لانتناك إلى الشاطيء حتى انضم إليه آلاف من المقاتلين، ولو أنه تمكن أن يصل بجيوشه إلى الساحل لنزل الإنجليز إلى البر. لكن جوفان سرعان ما صد عمه وأوقف زحف جيشه.
وكذلك شاء حسن الحظ حينما وصل لانتناك وأمر بذبح وإعدام طائفة كبيرة من الأسرى أن كان بينهم امرأتان فأمر بإعدامهما رمياً بالرصاص أيضاً، وكان لإحداهما ثلاثة أطفال تبنتهم فرقة من باريس معروفة بإسم الفرقة الحمراء، فثارت ثائرة جنود الفرقة الاخرى المذكورة، وأبلوا في القتال الدائر أحسن البلاء، مع أن عددهم يسير.. ولا يمكن أن يقف في طريقهم أي حائل، وهم مثابرون ومصممون على الثأر للمرأتين واستعادة الأطفال.. ، فأخذ جوفان يتعقب لانتناك وينتزع منه مواقعه واحداً بعد الآخر حتى إستطاع أن يحول بينه وبين الوصول إلى جرانفيل على الساحل، وكان حتى الأمس كل شئ يسير سيراً مرضياً.. وفجأة قام القائد الكهل بمناورة بارعة. فقد تواترت الأنباء بأنه يسير قاصدا إلى بلدة (دول).. واذا إستطاع أن يستولى على هذه البلدة وينصب مدفعه على جبل (دول) لتهيأت له منطقة ينزل منها الإنجليز إلى البر، ولخسر جوفان كل شيء. لكن جوفان جندي مقدام باسل ، فسرعان ما جمع بعض جنوده وتقدم إلى الأمام دون أن ينتظر أمراً ليهاجم لانتناك في بلدة (دول). أعطى المسافر صاحب الخان المبلغ الذي طلبه ثم امتطى جواده وشكر صاحب الخان وانطلق متجها ً في طريقه إلى (دول).
بلدة (دول) بلدة قديمة في مقاطعة (بريتاني) ذات مبانٍ منشأة على النظام القوطي، يشرف عليها جبل (دول). في الصباح اجتاحها البيض. وما كاد يأتي المساء حتى انقض الزرق على البيض واستطاعوا إجلاءهم عن البلدة وانتزاعها من قبضتهم.
وفيما كان جنود جوفان يقومون بمطاردة الهاربين، حاول فلاحٌ من البيض إطلاق النار على جوفان، ولكن كان هناك شخصاً آخر أسرع منه.. فعلى الفور اندفع هذا الشخص بجواده بين الفلاح وبين جوفان.. ولولا هذه الحركة لقُضي على جوفان وأصبح في عداد الأموات. فأصابت ضربة سيف الفلاح الراكبَ في وجهه .. فسقط على الأرض لا حراك به.. أسرع طبيب الجيش وتولى فحص الراكب الجريح ثم قال: هذا جرح ليس بالخطير .. يمكن ان يلتئم بسهولة.. وسيشفى في ظرف ثمانية أيام. ولما تفحص جوفان حافظة أوراق الراكب، تبين له بأنه سيموردان. هتف جوفان: سيموردان! هو أنت! إنك أنقدت حياتي للمرة الثانية! نظر إليه سيموردان بعينين يلمع فيهما بريق الفرح. لم يتقابلا كلاهما منذ أعواماً طويلة.. لكنهما كانا على اتصال روحي، وتذكر كلاهما صاحبه كأنه فارقه بالامس . حُمل سيموردان إلى المستشفى، ووُضع في غرفة خاصة.
إن مثل جرح سيموردان يبرأ بالعادة بسرعة.. لكن هناك مخلوق كان جرحه أخطر وأدعى للقلق، هو تلك المرأة التي أطلِق عليها الرصاص وانتشلها المتسول تلمارش من بين أشلاء القتلى في مزرعة (زهرة الشاطيء). كانت في الواقع حالة ميشيل فليشار أخطر مما ظن تلمارش، لكن تلمارش كان بارعاً في التمريض والتطبيب ، فعكف على مداواتها والعناية بها ، وبفضله عاشت المرأة وتعدت مرحلة الخطر. قال لها تلمارش: ها نحن نقف من جديد على أقدامنا.. لم تعد بنا جروح بعد. فهتفت المرأة: إلا في القلب. ثم أردفت بعد قليل: إذن لا تعرف أين (هم)؟ سألها تلمارش: من (هم)؟ قالت: أولادي. تحير تلمارش ولم يعلم بماذا يجيب. فكل ما يعرفه أنه حمل هذه المرأة وهي بين الحياة والموت بعد أن علم أن لانتناك أمر بإطلاق الرصاص عليها وانتزع منها أطفالها وحملهم إلى حيث لا يعلم، وعكف على العناية بها وتمريضها حتى تم لها الشفاء. أما ما فعل لانتناك بالأطفال فهو يجهله تلمارش جهلاً تاماً.
قالت في خشونة: متى يمكنني أن أرحل من هنا؟ قال تلمارش: ترحلين؟ قالت: نعم أريد أن أمشي! يمكنك أن تقدّر أنه يستحيل أن أستريح وأنا في هذه الحال. أليس لك أولاد؟ فأجاب تلمارش: لا. فقالت: أما أنا فلم يكن لي في الدنيا سواهم. ما أنا بدون أولادي؟ أود أن أجد إنساناً يفسر لي السبب في حرماني من أولادي. ففهم تلمارش اتجاه أفكارها. إن أفكارها تتمحورجميعها حول نقطة واحدة،لقد كانت أماً، ولم تعد كذلك. كانت تحنو على أطفالها، ففقدت هذه الصفة. وهي لا تستطيع أن تستسلم للحقيقة الراهنة وتذعن للامر الواقع . فهي تفكر في رضيعتها الصغيرة التي كانت تمتص حياتها وكانت مع ذلك قريرة العين وسعيدة بها ، لأنها من حياتها تمدها بحياة جديدة.
وفي أحد الأيام رآها تلمارش تملأ كيساً من الكستناء، ثم إستعدت للرحيل وهي تحدق بنظرها إلى أعماق الغابة. فقال لها: إلى أين تذهبين؟ فأجابت بهذه الكلمات: إني ذاهبة للبحث عن أولادي. ولم يحاول تلمارش أن يمنعها.
مضت عدة أسابيع دارت في أثنائها رحى الحرب الأهلية بين الزرق والبيض في استماتة وعنف لا حد لهما. ولم يكن للناس شغل في منطقة (فوجير) إلا الحديث عن ذلك الصراع الهائل الدائر بين القائدين النبيلين ... استمرت تلك الحروب الوحشية التي كان محيطها في ميادين (فندية) لكن البيض أخذوا ينهزمون ويفقدون مواقعهم واحداً تلو الآخر، وذلك بفضل الضربة البارعة التي وجهها إليهم القائد الشاب جوفان في بلدة (دول). ثم أعقب هذا الإنتصار عدة انتصارات جديدة..
سأله سيموردان: لماذا لم تأمر بإعدام الفلاحين الأسرى الثلاثمائة الذين أخذتهم بعد انتصارك في موقعه (لانديان)؟ فقال جوفان: لأن القائد الملكي (بوشام) قد قام بالعفو عن أسرى الجمهوريين. فأردت أن يقال إن الجمهورية تعفو عن أسرى الملكيين. قال سيموردان: إن أخطر ما يردي الجمهورية هو هذه الشفقة التي تحرص عليها. فقال جوفان: إن الحرية والأخاء والموساواة هي المباديء الخالدة التي تقوم عليها الطمأنينة ويستتب بها السلام. فلماذا نطبعها بطابع البطش والعنف ؟ ولا يفسد مباديء السلام والتسامح غيرالتنكيل و القسوة. وإذا لم أتوسم بالعفو فالنصر عندى لا يساوي ثمنه. لنكن في القتال أعداء أعدائنا، أما بعد النصر فلنكن إخواناً.
في هذه الوقت كانت الأم لا تكل ولا تأنى في البحث عن أطفالها . كانت تقف عند أبواب الفلاحين فمنهم من يكرمها، ومنهم من يطردها. كان الناس يسمعون إليها، ثم يهزون رؤوسهم ويسيرون صامتين. على أنها في أحد الأيام صادفت فلاحاً طيب القلب أصغى إليها، وعندما سمع قصتها فكر قليلاً ثم قال لها: لقد سمعت حديثاُ يدور عن سيدٍ حمل معه ثلاثة أطفال وأبقاهم عنده. هتفت الأم: أين هذا الرجل؟ أين هم؟ فأجاب الفلاح: ذهب إلى (لاتورج) في اتجاه غابة (فوجير). فعلى الفور أسرعت الأم ركضاً باتجاه غابة (فوجير).
على صخرةٍ كبيرة ًضخمة قرب نهاية غابة (فوجير) شيد حصن (لاتورج) مقر أسرة جوفان التارخي. كان حصن (لاتورج) بناءاً شاهقاً يتألف من ست طبقات، له مدخل واحد فقط هو الباب الحديدي الموضوع في وسط الجدار الذي يبلغ سمكه أربعة أمتار، وهو يؤدي إلى برجٍ من ثلات طبقات تعزله قنطرة متحركة.
جاء شهر أغسطس عام 93، وأصيبت ثورة (فندية) بضربات متلاحقة من قبل الجمهوريين. في هذا الشهر وقع حصن (لاتورج) تحت حصار شديد من قبل جيش الجمهوريين. وفي ذات ليلة وقف رجل في أعلى الحصن وقال في صوت عالى مرتفع: أيها الرجال!..أنا أدعى إيمانوس وإني أخاطبكم بإسم مولاي الماركيز دي لانتناك.. فاسمعوا الآن ما يريد. نحن رجال مسالمون ونقيم في أرضنا.. وقد هاجمتنا الجمهورية في عقر دارنا.. فأحرقت بيوتنا.. وشتت نساءنا وأطفالنا. أيها الرجال!... لقد حاصرتمونا في هذا الحصن.. وفرقتم وقتلتم من كان معنا.. وأنتم الآن أربعة آلاف وخمسمائة...أما نحن فلا يزيد عددنا عن تسعة عشر رجلاً. إن معكم الذخيرة والزاد.. وقد نجحتم في إحداث فتحة في جدار الحصن تمكنكم من الدخول منها، وأنتم تستعدون الآن لمهاجمتنا. إن بين أيدينا ثلاثة أطفال أسرى. وهؤلاء الأطفال الذين قد تبنتهم إحدى فرق جيشكم، وهم ينتمون إليكم، ونحن الآن نعرض عليكم تسليمكم الأطفال الثلاثة، بشرطٍ واحد، هو أن تدعونا نرحل بسلام من هنا. فإن رفضتم، فسوف نضع الأطفال في الطابق الثاني من البرج، وسوف نشعل النيران في البرج وفي ذلك الهلاك المحقق للأطفال. والآن، لكم أن تقبلوا أو ترفضوا. فإذا قبلتم خرجنا. وإذا رفضتم هلكوا الأطفال. هذا كل ما عندي. انقطع صوت المتكلم من أعلى الحصن، فارتفع صوتٌ خشن صارم من الأسفل صائحاً: إننا نرفض! ثم تلاه صوت آخر قائلا: إننا نمهلكم أربعاً وعشرين ساعة للتسليم! فإذا لم تسلموا غداً في مثل هذه الساعة بدأنا الهجوم!
كان للبرج سلم يتدلى فوق الجدار من الطابق الثاني إلى قاع الأخدود وهو شئ احتياطٌي رأى أصحاب الحصن اتخاذه لإمكان الإفلات من البرج في حالة نشوب النار فيه. وقد أمر الماركيز برفع هذا السلم، ووضعه إيمانوس في غرفة المكتبة، كما تم وضع الأطفال الثلاثة رينيه جان، وآلين، وجورجيت، في غرفة المكتبة أمام السلم المرتكز إلى الجدار.
استيقظ الأطفال الثلاثة في الصباح، ورأوا أواني الطعام بجوارهم فبدأوا يأكلون الطعام. وفي المساء، تمدد رينيه جان فوق سريره الصغير، وأسند آلين رأسه إلى رينيه جان وتمدد بجواره، ووضعت جورجيت رأسها فوق آلين، واستسلم ثلاثتهم للنوم. كانوا صورة مجسمة للطهارة و للنقاء.
راحت الأم تهيم في الغابة في غير وجهة معينة. وقفت الأم المكلومة في مكانها وهي تحس بأن ساقيها بدأتا تقعان من تحتها.. وما لبثت فجأة أن صاحت بأعلى صوتها كأنما استولت عليها نوبة جنون: ألا يوجد أحد هنا؟ وفعلاً جاء الجواب المنتظر.. فقد سمعت صوتاً من الأفق. فشعرت بقواها تتجدد.. فاستجمعت قواها المكدودة، وأخذت تصعد الهضبة متجهة إلى ناحية الصوت. وفجأة لمحت عند نهاية الافق لمحت حصناً شاهقاً يبرز. ولم تملك ميشيل فليشار إلا أن تمشي إلى ناحية الحصن الذي خيل إليها أن الصوت الذي سمعته و فيه الجواب على سؤالها قد صدر منه.
كانت معركة عنيفة وحامية تلك التي جرت بين المهاجمين للحصن والمدافعين عنه أنصار الملكية. وقف إيمانوس فوق قمة الحصن يراقب زحف المحاصرين، وأمر لانتناك رجاله ألا يطلقوا النارعليهم إلا عندما يهجمون، وقال لهم في هذا الصدد: هم يبلغون أربعة آلاف وخمسمائة. ومن العبث والجنون أن نحاول قتلهم في الخارج. أما إذا شرعوا في الدخول، فنحن وإياهم متساوون في القسوة. وكذلك نظم القائد جوفان من ناحيته والوسائل الممكنة للهجوم. واستبقى لنفسه فرقة الهجوم التي اعتزم أن يقتحم الحصن على رأسها.
تقدم سيموردان إلى ناحية الحصن حاملاً بيده منديلاً أبيضاً.. وصرخ في صوت مرتفع: يا من في الحصن! إصغوا إليّ. إني جئتكم أحمل راية السلام. وإني أعرض عليكم عرضاً أخيراً.. إن بينكم كثيرين لهم زوجات وأبناء. سوف تراق دماء وتذبح رقاب. إن كثيرين منا سيُلقون حتفهم.. وأنتم.. أنتم هالكون.. لمَ تقضون على كل هذا العدد الكبير ما دام يكفي أن تقضوا فقط على إثنين. فقال إيمانوس: من هما؟ فقال سيموردان: لانتناك وأنا. لانتناك لنا وأنا لكم. هذا هو اقتراحي الذي أعرضه عليكم. وبه تُنقذون حياتكم جميعاً. انفجر صائحاً إيمانوس: أنت مجنون! هل تريد ان نعطيك مولانا وسيدنا ؟ إننا عرضنا عليكم شروطنا فاقبلوها. وإلا فالويل لنا جميعاً. سنسلمكم الأطفال الثلاثة وتمنحوننا جميعاً الحياة والحرية. فأجاب سيموردان: لكم جميعاً ما عدا لانتناك. فقال إيمانوس: أبداً!
ساد السكون. أشهر سيفه الماركيز لانتناك واستعد . وركع المحصورون التسعة عشر فوق أرض الطابق السفلي خلف الإستحكامات. ووصل إلى صوت المهاجمين الى سمعهم وهم يتقدمون إلى الحصن في سكونٍ رهيب من خلال الفتحة التي أحدثوها في جدار الحصن. وبدأت المعركة.
دار القتال رهيباً مروعاً. وتطاير الرصاص وتقارعت االسيوف . وسقط الرجال صرعى يميناً ويساراً. وصمد المدافعون خلف الإستحكامات المحكمة . وفقد المهاجمون عدداً من رجالهم. ومع أن الإستحكامات لم تقع بعد في أيدِ المهاجمين إلا أن الغلبة دائماً في جانب الكثرة. وقف المدافعون التسعة عشر جميعهم خلف الإستحكامات. وسقط بينهم قتلى وجرحى، وبقى خمسة عشر قادرين على القتال والدفاع.
استطاع الجاويش رادوب أن يزحف إلى خلف القاعة، وبالتالي أصبح خلف المدافعين. وبدأ يطلق النار على المدافعين من الخلف. أذهل هذا الهجوم الخلفي المفاجيء المدافعين، فابتعدوا عن بسرعة عن الإستحكامات واندفعوا بشكل جنوني إلى السلم.. وأسرعوا جميعاً إلى الطابق الثاني.. ورأى المدافعون أنه من العبث أن يغلقوا الباب.. فوضعوا في مدخله صندوقاً ضخماً ثقيلاً من خشب البلوط وتمترسوا خلفه. لم يعد يبقى منهم إلا تسعة في جملتهم الماركيز وإيمانوس. وعندما أحصوا الرصاصات الباقية لديهم فكان نصيب كل واحدٍ أربع رصاصات. لم يعد أمامهم أمل.. وقفوا على باب الهاوية.. وكان هلاكهم محققاً. أطرق الجميع وراحوا يصلون. وفجأة رن صوت قوى وسريع صدر من خلفهم، قال صاحبه: ألم أقل لك يا مولاي؟ التفت جميعهم مشدوهين. فإذا هم يرون مخرجاً يُفتح في الجدار.رأوا حجراً في الجدار يدور على محور، وتخلفت عنه فتحة مزدوجة عن جانبيه. وشاهدوا خلف هذا الباب الغريب درجات سلم حلزوني. كان وجهٌ يطل من هذه الفتحة. عرف فيه الماركيز وجه هالمالو. قال الماركيز: هذا أنت يا هالمالو؟ فقال هالمالو: نعم يا مولاي. ها قد تحققتَ أنه توجد أحجارٌ تدور حقاً. وهي شيء واقعي. سوف تكونون في قلب الغابة في خلال عشر دقائق. حاول هالمالو أن يرجع الحجر المتحرك قليلاً الى موقعه لكنه لم يتحرك، ولم يعد بالإمكان إغلاق المنفذ ثانية. فقال هيا يامولاي لابد أن نسرع. سوف يرى الأعداء المنفذ مفتوحاً، وسوف يتبعونا في الحال . فقال إيمانوس: سوف أقوم بتأخيرهم. أسرعوا الآن .. اخرجوا. خرج الجميع من المنفذ واحداً تلو الآخر، وراحوا يهبطون السلم.. وبقى إيمانوس وحده. استطاع المهاجمون أن يحدثوا فتحتين كبيرتين في الصندوق.. وتم طعن إيمانوس في بطنه، بعد أن تمكن إيمانوس من قتل عدد منهم. تراجع للخلف إيمانوس وقام بإضرام النار في شريط الموت ( الشريط الممتد إلى البرج).
اشتعلت النيران في الشريط على الفور.. ووصلت الى البرج. وفي هذه اللحظة دخل رادوب شاهراً سيفاً بيده .. وتقدم إلى الأمام.. ثم هتف: لا يوجد هنا أحد حيٌّ! ثم وقع نظره على الحجر والمنفذ والسلم.. فصرخ قائلاً: أيها الزملاء! أسرعوا! لقد هربوا! تبخروا! ذابو! يوجد بهذا الحصن منفذ سري! وهذه هي الفتحة التي هربوا منها! وصل جوفان وسيموردان بعد قليل مع باقي الجنود فرأوا المنفذ. وأيقنوا بأن المحصورين قد أفلتوا من أيديهم.
تبع الماركيز لانتناك هالمالو. وأفضى السلم بهما الذي هبطا منه إلى سردابٍ يؤدي إلى وسط الغابة. وكانت الأشجار الكثيفة تحجب نهاية السرداب حتى يتعذر على أي أحد أن يلاحظه. قال الماركيز: أسلم للإنسان أن يهرب وحده، ولو بقينا معاً للفتنا إلينا الأنظار ، دعني وأذهب أنت في طريق آخر الآن. أطاع هالمالو.. وابتعد في الظلام. ووقف جامداً الماركيز في مكانه.. ثم اتجه نحو الغابة بدوره.
كانت ميشيل فليشار تبعد عن الحصن بنحو ثلاثة أميال حينما وقع نظرها على الحصن. كانت الأضواء اليسيرة والاصوات المكتومه المنبعثة من الحصن تصدربشكل متقطع. كانت تعلو ثم تخفت فجأة فتُحيِّرْ قلب الأم المنكودة وتملؤه ضنى وعذاباً . وصلت ميشيل فليشار إلى نهاية الهضبة. ورأتْ طبقات البرج أمام نظرها. رأت أمامها ألسنة من النيران تتلظى. كان الطابق الأسفل من البرج بأكمله يحترق. أما الطابقان الباقيان، فلم تصل اليهما النار بعد. وفجأة ..سرعان ما امتدت النار في طرفة عين إلى الطابق الثاني. وسطع وهج لهب النيران فكشف عن الأطفال الثلاثة راقدين فوق الأرض. على الفور عرفت الأم أطفالها. صرخت بصرخة مخيفة.. صرخة ملئ بالألم القاتل لا تصدر إلا عن الأم وحدها. وما كاد لانتناك يسمعها حتى وقف في مكانه جامداً. شاهد من مكانه من خلال الأغصان مبنى البرج شعلة من نيران. وشاهد امرأة منحنية فوق حافة الهاوية، وأدرك أن الصرخة التي سمعها صدرت من تلك المرأة.
أصغى الماركيز إلى الكلمات المبعثرة المختلطة المؤثرة التي كانت تصدر منها وتصل إلى سمعه بكل جلية: آه يا ربي! أولادي! هؤلاء أولادي! النجدة! النار! النار! النار! النجدة أرجوكم ...أيها اللصوص القتلة! أولادي يحترقون! من وضع هناك أولادي ؟ هم نائمون؟ آه! إني جننت! لا يمكن! النجدة..! في هذه اللحظة تعالت وكثرت الحركات وساد الهرج في الحصن وفوق الهضبة.. وركض جنود المعسكر جميعاً إلى النيران التي امتد لهبها، على أنهم لم يستطعيوا أن يفعلوا شيئاً، ولم يتيسر لهم أن يحملوا من قاع الأخدود سوى بضع دلاء قليلة من الماء..
لم تكن النار قد وصلت بعد إلى قاعة المكتبة لسمك الجدران وارتفاع سقفها، كان الأطفال الثلاثة مستغرقين في نوم هنيء.. كانوا ملائكة راقدين في جهنم. كانت الأم تصرخ وتنوح كالمجنونة: النار! النار! النجدة! ثلاثة ملائكة! ثلاثة ملائكة يحترقون! ماذا فعلوا وهم أبرياء!؟.. أنقذوا أولادي!
كان هناك باب من الحديد في الطابق الثاني. حاول الرجال تحطيمه ولكن بدون فائدة. وضع الماركيز يده في جيبه وتلمس مفتاح الباب الحديدي.. وأخيراً.. أحنى قامته ودخل إلى السرداب الذي نجا منه منذ قليل.. وعاد أدراجه.
وقف الرجال مغلوبين على أمرهم. حيارى. لا يدرون ماذا يفعلون. وفجأة رأوا أمامهم الماركيز دي لانتناك. تقدم الماركيز رأساً إلى الباب الحديدي ودس المفتاح في قفله وفتح الباب. واصل سيره متقدماً إلى الأمام في ثباتٍ عجيب ثم اختفى في لفائف الدخان ولم يعد يراه أحد. فتح الاطفال أعينهم أخيراً. لم تكن قد دخلت النار بعد إلى المكتبة. دنا االصغار الثلاثة من حافة النافذة. كانت الأم جامدة في مكانها مهدلة الشعر، ممزقة الملابس. في حالة يرثى لها وكان صوت الأطفال يصل إلى آذان الجميع جلياً وهم يرددون نداءهم: ماما! ماما..! جمدوا مرتعبون في أماكنهم . وفجأة.. ظهر الماركيز دي لانتناك. ووقف في فتحة النافذة وامسك بيده سلماً كبيراً.. أمسكه الماركيز من إحدى نهايتيه وأنزله من النافذة إلى الأخدود. استقر السلم على الأرض. أسرع عشرون جندياً يتقدمهم رادوب وارتقوا درجاته حتى تكوّن منهم سلم بشري. اختفى الماركيز ثم رجع حاملاً طفلاً بين ذراعيه. ناول الماركيز الطفل إلى رادوب. فأسلمه رادوب إلى الجندي الواقف تحته وهكذا كان يتسلمه الجندى الذى بعده .. وراح آلين ينتقل من يد إلى أخرى وقد أشتد خوفه وأخذ يبكي. وفي هذه الأثناء غاب الماركيز ثم رجع يحمل رينيه جان وسلمه إلى رادوب ثم حُمل إلى الأرض كأخيه. عاد الماركيز إلى داخل الحجرة التي انتشرت فيها النار وحمل جورجيت بين ساعديه.. وقدمها إلى رادوب. وقفت الأم عند نهاية السلم محبوسة الأنفاس، مذهولة ،زائغة الحواس، مندهشة من هذا التحول الذي ألقى بها من الجحيم إلى الجنة. بسطت ذراعيها.. وغمرت أولادها بقبلات جنونية.. وضحكت ضحكة وهمية، ثم هوت مُغمىً عليها. ثم خطا لانتناك فوق حافة النافذة بتؤدة وبكل كبرياء، وأخذ يهبط درجات السلم في شموخ وعظمة كأنه طيف. ما كاد الماركيز يستقر على الأرض، حتى وُضعت يدٌ على كتفه. فالتفتَ حوله.. فقال له سيموردان: إني أقبض عليك.
أخِذ لانتناك أسيراً.. ووُضع في غرفة القبو العليا المجاورة للطابق الأرضي، وأغلق الباب عليه. أخبر سيموردان جوفان بأنه سوف يعقد محكمة عسكرية برئاسته وعضوية الكابتن جيشام، والجاويش رادوب. وستقتصر مهمة المحكمة على إثبات شخصية الماركيز السابق دى لانتناك. وستُعقد المحكمة العسكرية فى الغد.. وبعد غد تُنصب المقصلة ويُقضى على ثورة (فاندية) إلى الأبد. لم يجب جوفان بكلمة واحدة.
كان جوفان منهمكاً في التفكير. ذهب إلى خيمته وتناول عباءته الخاصة وتدثر بها. ولم يكن بها من الزخارف سوى شارة القائد العام. أخذ جوفان يسير بتؤدة ذهاباً وإياباً في الظلام غير بعيد عن فتحة الحصن، حيث يوجد هناك لانتناك في القبو سجيناً. شهد جوفان معجزة بعينيه. شهد قدرة الإنسانية على الإنسان. رأى ثلاثة أطفال، يتامى ، بؤساء، منبوذين، معدومي النصير، ينتصرون على طغيان الحروب وكوامن الأحقاد. وقد انهزمت كل هذه القوى الطاحنة أمام ابتسامتهم الطاهرة البريئة. وكان لهذه المعركة الرهيبة مسرح واحد هو ضمير لانتناك. لكن المعركة الآن قد بدأت من جديد. بدأت أشد اضطراماً وعنفاً ، وكان مسرحها هذه المرة ضمير جوفان. لقد كان الماركيز محاصراً في الحصن. فإذ هو في غمضة عين ينجو بمعجزة وينال حريته. لكنه لم يلبث أن يتخلى عن حريته ويعود إلى الموت بمحض إرادته. فعل الماركيز هذا لكي ينقذ ثلاثة أطفال. فإذا هم وينصبون له المقصلة ويكافئونه بالموت ! كان للماركيز أن يختار بين حياته وحياة غيره. فاختار الموت في نبله وسموه. وسوف يقتلونه. فيا له من جزاءٍ للبطولة!! وفي الوقت الذي يتطور فيه لانتناك هذا التطور يبقى جوفان جامداً كما كان! فهل يقبل بهذا ؟ وهل يقف مكتوف اليدين أمام بطولة لانتاك النادرة التي أبداها ؟ لا بد أن ينقذ لانتناك جزاء بطولته وشهامته.
ولكن.. أليس جوفان يبدو مبالغاً في تقديره لهذه البطولة التي أبداها لانتناك؟ أنقذ لانتناك ثلاثة أطفال كانوا لامحال هالكين. لكن من ذا الذي قذف بهم إلى الهلاك ؟ أليس هو لانتناك؟ إن المسؤولية في هذا الفعل تقع على عاتق القائد. وإذن فالجاني هو لانتناك. ولكن هل لا يزال حقاً لانتناك ذلك النمر المفترس الذي يتصوره ؟ هل لا يزال كذلك بعد أن ضرب أروع الأمثال وقدم حياته ونزل عنهامختاراً طائعاً ؟ هل يجب أن يُعامل بعد هذا كله معاملة الوحوش؟ لا.لا. إن لانتناك قد كفّر عن كل ظلمه ومساوئه الماضية بهذه التضحية التي أقدم عليها. إن تسليم نفسه لأعدائه قد طهّر روحه، فاستحق الصفح والعفو. فعلى جوفان أن يقتدي به. فماذا يفعل؟
تقدم جوفان إلى فتحة الحصن كأنما تدفعه قوة قاهرة لا يقوى على مغالبتها. دخل جوفان إلى قاعة الطابق الأرضي التي تحولت إلى غرفة للحرس. حيّاه الحارس، فأمره جوفان بفتح باب القبو. رفع لانتناك رأسه عند سماعه صوت الباب يفتح ، ثم ضحك الماركيز أخيراً ضحكة قوية وهتف: عمت مساءً يا سيدي.. إن هذه الزيارة فضل كبير منك. شكراً لك. إن أصدقاءك يضيّعون وقتاً طويلاً في إجراءات المحكمة العسكرية التي يتشبثون بها. ويمكن أن تُختصر كل هذه الإجراءات وأن أنتهي بسرعة. تكلم جوفان فقال: أنت حر. ثم خلع جوفان عباءة القيادة، وواقترب من الماركيز وطرحها فوق كتفيه، ثم وضع الغطاء فوق رأسه وأسدله حتى عينيه.. وكان كلاهما متشابه القوام. رفع جوفان بصوته ونادى: إفتح الباب أيها الملازم! فُتح الباب. وقال جوفان: هيا أغلق الباب بإحكام خلفي. ودفع جوفان بالماركيز بيده إلى باب الغرفة، وقد أخذ الذهول من نفسه كل مأخذ. اجتاز الماركيز غرفة الحرس.. ثم الفتحة، ووصل الماركيز إلى الخارج. وتردد في التقدم وبمواصلة السير. ثم بعد تفكير عميق غمغم: "الواجب". ثم واصل السير. أمّا باب القبو فقد أغلِق على جوفان.
أختار سيموردان مكان المحكمة في قاعة الطابق الأرضي في الحصن. انعقدت المحكمة بأمر سيموردان عند الظهر. قال سيموردان بصوت مرتفع: إفتحوا باب السجن. رفع الحارسان المزلاج، وفتحا الباب، ودخلا إلى السجن. ظهر جوفان عند الباب فقال سيموردان: إني طلبت السجين! فقال جوفان: هو أنا. قال سيموردان: ولانتناك؟ قال جوفان: هو حر.. لقد ساعدته على الهرب. دخلت إلى القبو، وخلعت عباءتي ووضعتها فوق كتفيه وحجبت رأسه بالغطاء. فذهب مكاني وبقيت مكانه. وهأنذا. لقد حسبه الجنود أنا حينما رأوا عباءة القائد. وتركوه يمربسلام .. فقد كان الوقت ليلا. ساد الصمت وقال سيموردان في تلعثم: إذن فقد استحققت... فقاطعه جوفان: الموت. امتقع وجه سيموردان حتى غدا كوجوه الموتى. ثم قال: أيها الجنود.. أجلِسوا المتهم. جلس جوفان فوق المقعد. قال سيموردان: هل تعرف بقانون (مجلس الأمة)؟ هل عندك ما تقوله بصدد هذا القانون؟ فقال جوفان: إني عزّزته بتوقيعي.. وأمرت بتنفيذ منطوقه. هناك شيء واحد حجب عن عيني كل ما عداه.. هناك عمل نبيل واحد حجب عن نظري مئات الأعمال الآثمة. في أحد الجانبين رجل كهل.. وفي الجانب الثاني ثلاثة أطفال. وكلاهما وقف بيني وبين واجبي. أنا مذنب.. ويخيل إليكم وأنا أقرر هذا أني أتكلم ضد مصلحتي. لكن خطأ.. أنا أتكلم في مصلحتي. إذا أقر المذنب بجريرته.. فهو ينقذ شيئاً واحداً جديراً بالإنقاذ. ينقذ شرفه.
نهض الضابط ممثل الإتهام، وتلا أولاً إهدار حقوق الماركيز دي لانتناك السابق وثانياً قانون (مجلس الأمة) الذي ينص على إنزال العقاب الصارم بكل من يعمل على تسهيل الافلات لأحدٍ من الأسرى الثائرين. ثم عاد وجلس ممثل الإتهام على أثر ذلك. فشبك سيموردان ذراعيه وقال: سمعتم نص القانون. سوف تُؤخذ الأصوات. وسوف يصدر الحكم بأغلبية الآراء. وسوف يَعلن كل قاضٍ قراره بصوت جهورى مسموع في حضور المتهم، فليس للعدالة ما تخفيه. سيعَطي القاضي الأول صوته. كابتن جيشام. تكلم. فقال جيشام: القانون ثابتٌ لا يتغير. إن القائد جوفان ساعد الثائر على الهرب.. فهو مذنب.. وأرى له الموت. فقال سيموردان: دور القاضي الثاني.. تكلم أيها الجاويش رادوب. نهض رادوب، ونظر إلى جوفان، وأدى له التحية العسكرية، ثم قال: إذا كان هذا ما تريدون ، فاعدموني إذن، لأني أقرر لكم أمام الله، وأقسم بشرفي، أني ما كنت أتردد في أن أفعل أولاً ما فعله الكهل وأن أفعل ثانياً ما فعله قائدي. أيها الناس! لو كان لأجل هذه النهاية ما كسبناه من المواقع المشهودة، فعلى الدنيا السلام! أيها القائد.. إن الكهل قام بعمل نبيل بإنقاذ الأطفال. وأنتَ أتيتَ عملاً نبيلاً بإنقاذ الكهل. وإذا كنا نُعدِم الناس جزاء الأعمال النبيلة التي يفعلونها، فلتذهبوا إذن إلى جهنم! ثم عاد رادوب إلى الجلوس.
فقال سيموردان: براءة. سجّلْ أيها الكاتب. جاء دور سيموردان. فقام من مكانه، وخلع قبعته ووضعها فوق الطاولة. وقال سيموردان في صوت ثابت ورصين: أيها المتهم، تم سماع القضية. بإسم الجمهورية، حكمتْ المحكمة العسكرية بأغلبية صوتين ضد صوت واحد. حكمتْ عليك بالإعدام. ستُعدم غداً عند شروق الشمس.
بزغ الفجر. وعند بزوغه ظهر شئ إنه جسم غريب جامد غامض فوق هضبة (لاتورج)، كانت المقصلة. الدليل الناطق بوحشية الإنسان. أشرقت الطبيعة هذا اليوم في عنفوان بهائها وروعتها. وكان كل شيء في هذا المحيط ينطق بالبراءة والطهر. وهي نصيحة الطبيعة الخالدة إلى الإنسان. انتظم الجنود على جوانب المقصلة بصفوف عسكرية متراصة. وارتفع حصن (لاتورج) فوق هذا المشهد. ولم يكن يفصل قمته المسطحة عن المقصلة سوى فراغ الأخدود. ووضعت فوق قمة الحصن طاولة المحكمة العسكرية، وكان سيموردان هناك. جلس صامتاً. ووقف الجنود جميعهم خافضي الأنظار، شاهري حرابهم لا ينبسون بكلمة واحدة كأن على رؤوسهم الطير. كانوا يرون الجلاد يهبط ويرتقي منصة المقصلة. وفجأة قطع هذا السكون دقات طبولٍ خافتة. وجيء بالمحكوم عليه.. جوفان. تقدّمَ إلى الأمام بخطوات ثابتة. ولم تكن حول يديه أو قدميه أية قيود. وسارت خلفه كتيبة أخرى من الجنود. كانت تضيء وجهه ابتسامة مشرقة. تقدم جوفان إلى المقصلة وأخذ يرتقي بثبات منصتها. ولما استوى فوقها تبعه الضابط الذي يقود الجنود. ووقف جوفان فوق المنصة سامياً شامخاً حتى في مكان العقاب. وأحاطت الشمس وجهه بهالة من نور. تقدم الجلاد بحبل كي يقييد يديه. في هذه اللحظة..حينما شاهد الجنود قائدهم الشاب قرب سكين المقصلة لم يقووا على كبح عواطفهم. وذابت قلوب هؤلاء المحاربين الصارمين. وتعالى صوتٌ مرتفع. هو بكاء الجيش. دوت صيحة عالية مجلجلة: "الرحمة!"، "الرحمة!". تردد الجلاد.. ولم يدر ماذا يفعل. ثم صدر من فوق الحصن صوتٌ سريع خافت لكنه صارم، نفذَ إلى أسماع الجميع .. قال: ليُنفذ القانون! عرف الجميع هذا الصوت الصارم، قال سيموردان بالكلمة الفاصلة، وسرت في صفوف الجيش رعدة. طرح الجلاد تردده جانباً .. واقترب من جوفان ممسكاً الحبل وقيّده. مدده الجلاد فوق المنصة.. ووضع رأسه تحت السكين، ثم ضغط على اللوب، فهوت السكين بسرعة، وسُمعت ضربة مروعة مخيفة. وفي نفس الوقت جاوب ضربة السكين صوت عيار ناري.. فقد تناول سيموردان إحدى الطبنجات، وفيما كان رأس جوفان ينحدر إلى السلة الموضوعة أسفل المقصلة، أطلق سيموردان رصاصة على قلبه، فتفجّر الدم من فمه، وهوى جثة هامدة. ورفرفت هاتان الروحان الشقيقان متعانقتين.. إحداهما مشرقة ساطعة، والثانية مظلمة قاتمة.
النهاية