القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: مدام بوفاري: جوستاف فلوبير. إعداد وإشراف: رجاء حمدان




لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجوشو ..الرابط التالي :

"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """


تلخيص رواية:
 مدام بوفاري: جوستاف فلوبير. 
إعداد وإشراف: رجاء حمدان





 


دخل المديرالى غرفة الصف التى نجلس فيها، وهو يصطحب معه تلميذ جديد. إقترب المدير من المدرّس وقال له في صوت خفيض: مسيو روجيه، هذا تلميذ جديد أوصيك جيداً به. لقد تم إلحاقه بصف السنة الخامسة. ومن خلف زاواية الباب، لاح لنا التلميذ الجديد. كان يبدو كعملاق ريفي في نحو الخامسة عشرة من عمره، أطول قامة منا جميعاً. قال له الأستاذ: ما اسمك ؟ فقال الطالب: شارل بوفاري. كان والده مساعد جرّاح سابق في الجيش، ولكنه ترك الخدمة. وعمل بالزراعة والزراعة ، إلا أنه فشل في أعماله تلك . أما زوجته، فقد تحملت أشد الآلام والمعاناة ، دون أن تشتكى من ركض زوجها فى كل يوم وراء عاهرات القرية،. وعندما أنجبت طفلها ، اضطرت أن تعهد به إلى مرضعة. وعندما كبر ، وضعت في مخيلة الطفل كل ما كان يراود نفسها من طموح وآمال. كانت تحلم له بأن ينال أرفع المناصب وأعلاها . تولت تعليمه القراءة، ولقّنته الأشعاروالأغاني. أما بالنسبة لابيه مسيو بوفاري، فلم يكن يحفل بالثقافة والعلم كثيراً، ولم يكن يرى في جهود زوجته مدام بوفاري شيئاً نافعاً ذا قيمة.. وعندما بلغ الصبي الثانية عشرة من عمره، أصرت أمه في أن يبدأ دراسته، فذهبت به الى ف قس القرية فتعهده ومن ثم تم إرساله لاحقاً إلى مدرسة "روان". 

لا يتذكر أحداً شيئاً عن شارل بوفاري في مدرسة ران . فشأنه شأن أي تلميذ آخر. وكان ولي أمره في المدرسة ، تاجراً من تجار الحديد والخردة. لم يطول وجوده في المدرسة حيث ما لبث والديه أن سحباه من المدرسة، ليجبراه على دراسة الطب فقط. وإستطاعت أمه أن تجد له حجرة في الطابق الرابع عند رجل من معارفها. كاد شارل أن يصعق من برنامج الدراسة الضخم . كانت هناك دروس في التشريح، ودروس في الصيدلة ،ودروس في علم الوظائف ... أسماء كان يجهل اشتقاقها وفهمها ، وبدت له الدروس في غاية الصعوبة . ولم يعد يفهم منها شيئاً،. فبدأ حماسه ومواظبته للدرس يفتر. ورويداً رويدا استساغ الكسل، وبدأ في السهر وارتياد المقاهي. وتفتحت نفسه عن أشياء وامور كثيرة كانت لديه مكبوتة، فتعلم كيف يمزج أنواع الكحول، ويحفظ الأغانى عن ظهر قلب ...وأخيراً، عرف الحب! وبالتالي كان فشله ورسوبه في الإمتحانات أمرمحتم وشنيع، بينما كان والداه يرتقبانه في بيتهما كي يحتفلا بنجاحه! 

عاد شارل إلى القرية بخيبته ، فالتمست أمه له الأعذار. أما مسيو بوفاري لم يعلم بالحقيقة إلا بعد خمس سنوات، فتقبّلها في إستسلام . عاد شارل الى وعيه وإلى الجدِّ مرة أخرى، وأبهج أمه وأسعدها بيوم نجاحه.ثم بدأ عمله كخليفة لطبيب طاعن في السن في مدينة "توست". ولكن الأمر لم ينتهِ بتعليم الإبن الطب فقط، فكان لا بد له من وجود امرأة تدعمه وتقف لجانبه ! فوجدت له أمه تلك الزوجة المنشودة، أرملة تبلغ من العمر خمس وأربعون عاماً ، ولديها من الدخل ألف ومئتا فرنك! ومع أن مدام "دوبيك" كانت دميمه غير جميله ، إلا أن الأم بوفاري عملت أقصى جهدها كي تفوز بها، حيث كان هناك ساعين كثر يحاولون الفوز بيدها. كان في إعتقاد شارل أن الزواج سيمكنه من التصرف بشؤونه المالية والشخصية ، إلا أن زوجته وبدون مقدمات باتت صاحبة الأمر والنهي في البيت. 

في إحدى الليالي عند الساعة الحادية عشرة ، أفاق شارل وزوجته وخادمهما على وقع حوافر جواد مسرع، ووقف أمام بيتهم. كان هناك رسالة إلى السيد بوفاري كي يبادرالذهاب فوراً إلى مزرعة "برتو" ليجبِّر هناك ساقاً مكسورة. وفي الساعة الرابعة صباحاً، غادر شارل في رحلته إلى برتو. على عتبة باب المزرعة إستقبلته سيدة شابة ترتدي ثوباً من الصوف. صعد شارل إلى الطابق الأول من البيت ليعاين المريض. كان رجلاً قصيراً ،بديناً، في الخمسين من عمره. كان الكسر بسيطاً، ولم تصحبه أية مضاعفات تذكر . وبعد أنهى شارل عملية التجبير، جلس إلى المائده يتحدث مع الآنسة إيما، إبنة الرجل "روو"، وكان الحديث عن أبيها المريض، ووعن حال الطقس، والذئاب والضباع التي تعدو خلال الحقول. كانت الآنسة "روو" جميلة ذات رقبة طويلة، وشعرأسود ناعم ، أما وجنتاها فكانتا متوردتين. وبعد ان أنهيا الحديث، صعد شارل مرةً اخرى ليطمئن على الأب "روو"، ثم غادر بعدها المزرعة. وفي اليوم التالي، عاد شارل إلى المزرعة ليطمئن على السيد "روو". وهكذا أصبح يتردد على الضيعة مرتين في الأسبوع. لم يكن شارل يفكر او أن يسئل نفسه عن سر المتعة التي يستشعرها في تردده على ضيعة برتو. كان يحس بالنشوة والبهجة إذا ما بلغ فناء منزل الأب "روو". أحب الأب "روو" الذي كان يربت على يده ويدعوه بمنقذه! وأحب وقع حذائي إيما على أرضية المطبخ . وكان يرتاح عندما كانت الفتاة ترافقه دائماً عند انصرافه حتى بداية السلم الخارجي، مع انهما كانا يبقيان صامتين. 

لم تكن زوجة شارل لتغفل عن تردد شارل على برتو،كما وانها استقصت الأخبار و وعلمت أن لمسيو "روو" إبنة تربّت تربية راقية. فأخذت الزوجة تردد في نفسها: هذا إذن سبب كل هذا الإشراق الذي يتجلى على وجه زوجها كلما ذهب لزيارتها ! ..... 

في مستهل الربيع، حدث أمر رهيب للأرملة دوبيك ، فقد هرب أحد وكلاء الأعمال، حاملاً معه جل ما يمكن حمله من ثروة الأرملة دوبيك. فغرقت بالديون ووضع المنزل تحت الرهن. وقد أحدثت الصدمة أثرها في نفس الأرملة دوبيك. وبعد ثمانية أيام أصابتها نوبة سعال جعلتها تبصق دماً، ثم أرسلت زفرة وشهقة عالية غابت بعدها عن الوعي تماماً، وماتت مدام دوبيك !

ذات صباح أقبل الأب "روو" إلى شارل كي يدفع له أجر علاج ساقه. وكان قد علم بمصابه فراح يواسيه، فقال له: إنني أدرك مدى مصابك وحزنك ، فقد مررت بنفس الحال عندما توفت زوجتي ، أنفُض عن نفسك الهم والحزن يا مسيو بوفاري، وتعال لزيارتنا. لم يطل الوقت بشارل حتى أخذ بالنصيحة وذهب إلى برتو. وشيئاً فشيئاً أخذ يتضاءل تفكيره بزوجته ويعتاد على الحياة بمفرده. بل أن اللذة في الحرية التي عادت إليه، جعلته أكثرهدوءاً واحتمالاً لحياة الوحدة. 




في ذات يوم وصل إلى برتو في حوالي الساعة الثالثة، وشاهد إيما وهى تجلس بجانب المدفأة منهمكة بالحياكة، واستمر الحديث وطال بينهما حتى المساء. وفي تلك الليلة، لم يجد النوم سبيلاً الى جفني شارل ، وخطرت له فكرة التقدم لطلب يد إيما من السيد "روو". في اليوم التالي طلب شارل من السيد "روو" الزواج من إبنته إيما . فقال له السيد روو: ، ولا بد من سؤالها لنعرف رايها . وافقت إيما على الزواج من شارل . ولم تحن الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، حتى وصل المزرعة! وتضرج بالحمرة وجه إيما حين دخل الدار. وتم تحديد وقت الزواج بعد أن ينتهي حداد شارل، أي في ربيع العام التالي. 

انقضى الشتاء في ترقب، وشُغلت الآنسة "روو" بجهازها، وحاكت لنفسها أقمصة وقلنسوات للنوم. وأخيراً أقيمت وليمة العرس ، أخذ المدعوون يتوافدون للحفل مبكرين، وبقوا يأكلون حتى المساء. ثم رحل بعدها الجميع . أما السيدة بوفاري الأم، فقد بقيت طوال اليوم صامتة، إذ لم يهتم أحد باستشارتها في شيء. وما لبثت أن أوت إلى فراشها في وقت مبكر.. اما مستر بوفاري الأب لم يكن ليتبع زوجته ، بل ظل حتى الصباح يحتسي الكحول ويدخن. 

  رحل العروسان بعد يومين من الزفاف. فلم يكن شارل يستطيع أن يغيب عن مرضاه وقتاً طويلاً. ووصلا في نحو الساعة السادسة مساءاً إلى "توست"، فإذا بالجيران ينظرون من النوافذ يرتقبون الزوجة الجديدة لطبيبهم. 

قضت إيما الأيام الأولى في التعديلات التي رغبت أن تجريها في البيت. وصار شارل هانيء البال، مرتاح لا يحمل هماً. كانت تعتقد إيما قبل الزواج أنها قد وقعت في الحب. ولكنها بالواقع لم تشعر انها قد حصلت على ما تخاله من هذا الحب من سعادة وهناء ، بل انها أحست أنها توهمت ذلك وأنها كانت على خطأ .

 كانت تعتقد أن الأيام المقبلة هي الأجمل في حياتها ،لكنها وجدتتها عكس ما توقعت وأخذت تتسائل في نفسها عما تعنيه عبارات الهيام والنشوة والعاطفة التي كانت تقرأها في الكتب فتبهرها!. كان حديث شارل لها سطحياً، لا يشعر بحب الإستطلاع، ولم يكن يعرف السباحة، ولا استخدام السلاح. كان لا يعرف شيئاً عن العواطف ومتع الحياة، ولم يكن يطمح إلى شيء. كان يعتقد أنها سعيدة، بينما هي في واقع الحال كانت تنقم عليه كل هذا السكوت الخامل، والملل: وبدأ ذلك العنكبوت في صمت يغزل نسيجه في الظلال في كل ركن من أركان قلبها! 

 في اواخر سيتمبر اعترض حياة إيما حادث غير عادي، فقد دعيت هي وشارل لزيارة المركيز "أندرفيلية" الذي تولى الوزارة سابقاً. كان قد تعرف على شارل فى الصيف عندما أصيب بدمل في فمه، وإستطاع شارل أن يعالجه ويخلصه منه. وعندما جاء المركيز ليدفع أتعاب الطبيب، ويشكره ، وقع بصره على إيما، فلاحظ جمال قوامها وانوثتها الطاغية ، واسترعى إنتباهه رقيها وثقافتها العالية وأنها لا تنحني بالتحية كالفلاحات. 

وفي يوم الأربعاء الساعة الثالثة ، غادرالسيد والسيدة بوفاري إلى قصر المركيز. 

كان القصرفخماً وكبيراً. استقبلهم المركيز إستقبالاً حافلاً، وأخذ المركيز بيد إيما وقادها إلى الصالون. واستقبلتهم هناك المركيزة. وبعد العشاء، صعد شارل و إيما وشارل إلى حجرتهما استعداداً للحفل الراقص. ومن الحجرة سمعت إيما أنغاماً من قيثارة، فهبطت السلم وهي تمسك نفسها بعناء عن الجري. تقدمت لتتخير لها مكاناً فى القاعة . وبعد منتصف الليل، بدأ رقص "الكوتيون". ولم تكن لإيما أية دراية برقص الفالس، فراحت البقيات يحاولن أن يرقصنها. ثم تقدم شاباً إليها ، يدعوه القوم بلقب "الفيكونت"، ودعاها لتراقصه، وأكدا أنه سيرشدها للرقصة . وشرعا يرقصان في بطئ، ثم ازدادت السرعة. فالتف ذيل ثوبها حول بنطاله، فتداخلت أرجلهما، فتوقفا عن الرقص للحظة، ثم عادا واستأنفاه حتى أوشكت إيما أن تقع لاهثة الأنفاس. وانتهى الرقص. فصعد شارل السلم إلى غرفته، بعد أن بقي أربع ساعات واقفاً يشاهد لعب الورق دون أن يفهم منه شيئاً! أما إيما، فتحت نافذة غرفتهما، وأخذت نفساً طويلاً وتتأمل في الحياة المترفة التي ستتركها عما قليل. وعند الفجر، اندست إلى جوار شارل الذي كان قد مستغرقاً في النوم! 

كثيراً ما كانت إيما تذهب إلى الصوان (الخزانة)، بعدما يغادر شارل المنزل، وتُخرج منها حافظة السجائر ، التي وجدها زوجها في الطريق حين عودتهم من قصر المركيز ، و تتأملها، وتقول في نفسها: ترى من هو صاحب هذه الحافظة ؟ أتراها للفيكونت ؟! ...وتبدأ تحلم بباريس، وبحياة المجتمع الباريسي، وتصبوا إلى حياة المجتمعات الراقية.  

مر الصيف التالي ، ولم تُدعَ إلى قصر المركيز، فأحست إيما بفراغ في حياتها . وبدأ روتين الأيام المتشابهة الرهيبة، التي لا تتغير، ولا تأتي بجديد! تهبط عليها بثقل وملل وأصبحت تنظر للمستقبل وهو يمتد أمامها كسرداب مظلم ينتهي بباب محكم الإغلاق! فصارت تُهمل أمور بيتها ، كما أنها لم تعد تهتم بزينتها ولا بملابسها. وأضحت تُبدي إستيائها من إرشادات حماتها! وأصبحت عصبية حادة المزاج، غريبة الأطوار ،كثيرة النزوات. وصار لونها يميل إلى الشحوب، وإضطربت دقات قلبها، فقام شارل بإعطائها دواءاً يهديء أعصابها، ولكن فشلت محاولاته ولم تزدها إلا هياجاً. وإزدادت شكواها من "توست" ، فظن شارل أن مرضها ممكن أن يكون ناشيء عن سبب محلي، فأخذ يفكر في الإنتقال بلد آخر يقيمان فيه. وبعد التحرى ، علم شارل أن هناك بلدة تسمى "أيونفيل" قد غادرها طبيبها منذ عشرة أيام ، وقرر الإنتقال إليها في الربيع التالي، إن لم تتحسن صحة إيما. وعندما غادرا الزوجان "توست" في شهر مارس، كانت مدام بوفاري حاملاً ! 

وصل بوفاري وزوجته إلى أيونفيل،واقاما في فندق تملكه الأرملة "لوفرانسوا"، ، التي كانت كثيرة المشاغل فكل متطلبات الفندق تقع على عاتقها فهي تروح وتغدو بآنية المطبخ! وفي اليوم التالي تقوم بالتسوق، وتقطع اللحم، وتنظف الدجاج، وتعد الحساء، وتعد للنزلاء غداءهم..ووقف بجوار المدفأة الصيدلي "هوميه"، وقد ارتدى خفين أخضرين، وقلنسوة من المخمل. دخلت مدام بوفاري إلى مطبخ الفندق، واقتربت من الموقد، وأمسكت بثوبها من عند الركبتين بأطراف أناملها ورفعته ، ثم مدت قدميها نحو اللهب، فغذا اللهب يضيء كل جسمها . وكان هناك ثمة شاب أشقرمن الجانب الآخر للمدفأة يرقبها في صمت. إنه السيد ليون الشاب الأشقر، أحد نزلاء الفندق الدائمين.

  قال الصيدلي هوميه: لا ريب أن السيدة متعبة.

  فقالت إيما: أجل هذا صحيح. 
 قال ليون: إن أبشع ما قد يسقم النفس ويحبطها هو أن يظل المرء مرتبطاً بمكان واحد. فقال شارل: وماذا كنت ستفعل لو كنت مضطراً لامتطاء الجواد طوال وقتك وبشكل دائما 
. فقال الصيدلي: ولكن ممارسة مهنة الطب ليست بالغة المشقة والتعب . وبدأ الصيدلي يتحدث عن البلدة وعن الأمراض التي تفتك بها. أما إيما فقد انشغلت في الكلام مع الشاب ليون عن مسارح باريس، وانواع الرقص وعناوين القصص، ،. وانقضت على احاديثهم وهم حول المائدة ساعتان ونصف الساعة. وبعدها توجه شارل وإيما إلى منزلهما الجديد، والذي لا يبعد عن الفندق بأكثر من ستين خطوة. 

 بعد عدة أيام ، شعر شارل بالإكتئاب لأن العملاء لم يقبلوا عليه. وكان يجلس بمكتبه لساعات طويلة من دون أن ينبس ببنت شفة، ، أويظل يتأمل زوجته وهي مستغرقة في الحياكة. ثم أقبلت عليه المهمة السارة وهي حمل زوجته. فكان كلما رآها تمشي متثاقلة، وقوامها يلتف، ينهض ويُقبِّلها، وكان يناديها بالأم الصغيرة. وفي البداية كانت إيما في غاية الدهشة للتطورات التى تطرأ عليها ، ثم صارت تتوق إلى أن تضع مولودها لتعرف كيف تكون هي الأمومة! وتمنت أن تنجب ولد، أسمر،قوي، تسميه جورج.

 في نحو الساعة السادسة من صباح يوم من أيام الآحاد جاءها المخاض ، وعندما أشرقت الشمس ، قال شارل: إنها فتاة ! فأشاحت برأسها، وراحت في إغماء! وبعد أن أفاقت سمّت ابنتها "بيرت". 

عندما بدأت أيام الشتاءـ نقلت إيما مخدعها إلى غرفة الجلوس الواسعة .. كانت تجلس على مقعدها الوثير بجوار النافذة، فترى أهل القرية وهم يمرون . وكان ليون يذهب الى عمله ويعود الى الفندق مرتين في اليوم، فكانت إيما كلما سمعته يمر انحنت لتسمع صوته، بينما كان الشاب يمر دون أن يلتفت، فكانت تسري في جسدها رجفة كلما ظهر ومر من أمام البيت! ثم لا تلبث أن تنهض، وتأمر بإعداد المائدة. وفي المساء، كان الطبيب والصيدلي يلعبان الدومينو، فتجلس إيما في مقعدها ، وتتصفح إحدى مجلاتها النسوية، ويجلس ليون يتأمل الصوربجوارها . وكثيراً ما كانت تطلب منه وترجوه أن ينشدها شعراً، فكان ليون ينشد بصوت متراخ وكان يعني بخفضه عند العبارات الغرامية، لتطغى عليه صوت جلبة الدومينو! وهكذا نشات بينهما رابطة من نوع خاص... بينما السيد بوفاري لم يكن ليشغل باله بهذا، فقد كان قليل الإنسياق للغيرة. 

كان ليون يبحث عن وسيلة وفرصة مناسبة ليعلن حبه لإيما، فقد كان متردد بين الخجل والخوف ، وكانت تمر عليه اوقات يبكي من الرغبة وعدم الجرأة. أما إيما، فلم تكن لتسائل نفسها عما إذا كانت تحبه، فقد كان في إعتقادها أن الحب عندما يفد فهو يأتي فجأة مصحوباً برعد وبرق، كما لو أنه عاصفة، فتقلب الكيان. وهكذا بقيت مطمئنة، إلى أن فجأة إكتشفت صدعاً في الجدار، جدار قلبها!!!! أحست بذلك في أحد أيام من شهر فبراير، عندما خرج السيد بوفاري وزوجته، وهوميه، والسيد ليون قد ا في رحلة لمشاهدة مصنع غزل الكتان. وعندما عادوا، وخلت مدام بوفاري إلى نفسها، أحست بإحساس مباشر يداعب مشاعرها ، وبدا لها ليون فاتناً، فقفز قلبها من مكانه ، ثم نامت ونفسها مفعمة بلون من الغبطة والسرور جديد عليها. 

كانت تزيد كبتاً لحبها لليون كلما ازداد إدراكها لمشاعرها تجاهه، وحتى لا يتجلى ذلك الحب ويبدو واضحاً عليها فينفضح أمرها . ثم أخذت شهوات الجسد، وجشع المال، وأشجان العاطفة، تختلط جميعها في نوع واحد من العذاب. كانت تزداد اإستسلاماً إليه ـ بدلاً من أن تنتزع نفسها منه ـ مستحثة نفسها على الشعور بالألم والعذاب . وأشد ما أغاظها أن شارل لم يبدِ أي انتباه إلى آلمها وعذابها، بل أنها شعرت أنه السبب في عدم سعادتها. كانت أمامه تتظاهر بالسعادة! إلا انها كانت تتملّكها رغبة في الفرار إلى مكان ما، مع ليون، لتبدأ معه حياة جديدة، ولكنها ما تلبث أن تتراجع عن ذلك بعد ان يتملكها شعوربالرهبة والخوف 

أما ليون فقد ضاق ذرعاً بالحب الذي لا غاية ولانهاية له ، ثم بدأ يشعر بذلك الضيق والملل الذي يسببه مضي الحياة على وتيرة واحدة وروتين متكررة. وأخذت باريس تناديه بضجيجها ، وحفلاتها الراقصة الصاخبة، وضحكات عاملاتها اللعوبات. وإذا كان لا بد من أن يتم دراسته فليكن الآن وفي باريس ، فلماذا لا يرحل إليها الآن وفوراً؟  

وعندما حانت ساعة الوداع، بكت مدام هوميه بتأثر، وأخفى هوميه تأثره. ذهب ليون إلى بيت السيد بوفاري كي يودعه، فلم يجده. استقبلته مدام بوفاري، وأخذ كل منهما يرمق الآخربالنظرات . فقال لها: وداعاً، سوف أذهب. ثم تلاقت أعينهما مرة أخرى، ثم اختفى! 

كان اليوم التالي شديد الحزن بالنسبة لإيما، وأخذ الالم والأسى يغوص في أعماق نفسها في عواء واهن. ومنذ ذلك االوقت أصبحت ذكرى ليون محوراً لبؤسها وسأمها. وكانت تنتابها نوبات كانت من الممكن ان تؤدى بها إلى ارتكاب أية حماقة. واشتد بها الضعف والشحوب حتى غدت كالثوب الأبيض، ، وغدت عيناها ترنوان بنظرات مبهمة، وراحت تكثر الحديث عن وشيخوختها وعجزها ، بعد أن اكتشفت ثلاث شعرات بيضاء في رأسها . 

وفي أحد الأيام، وبينما إيما تتكيء على حافة النافذة كعادتها ، رأت رجلاً عند المدخل يقول للخادم: هل بالإمكان أن أقابل الطبيب، قل له إن السيد رودولف بولانجيه هنا. وحين أقبل شارل على الغرفة، قال رودولف إن صاحبه ، الذي معه، يحس بتنميل في كل جسمه . فعمل له شارل حجامة ، فأغمي علي الرجل ، فنادى شارل على إيما كي تساعده، فحضرت وقامت بمساعدته. وبعد أن غادر رودولف وصديقه، قال رودولف لنفسه: إنها لطيفة. لطيفة جداً وجميلة زوجة الطبيب هذه! كان رودولف في الرابعة والثلاثين من عمره، أعزب، ذا مزاج متقلب عنيف، وذكاء متقد نافذ، وقد خالط نساءاً كثر حتى غدا خبيراً بهن، وعندما لاحت له إيما، هذه المرأة اللطيفة الجميلة، راح يفكر فيها وفي زوجها وراح يقول لنفسه: أعتقد إنه رجل مغفل، ولابد أنها قد ملته وسئمته ، فلحيته لم تحلق منذ ثلاثة أيام.واظافره قذره يا لتلك المرأة المسكينة. إنها تتعطش للحب، وإن ثلاثة أو أربع كلمات من الغزل كافية لتجعلها تعبد المرء. ولكن كيف هوالسبيل إلى التخلص منها بعد ذلك؟ ولكن كيف سأنالها قبل ذلك ! 




 انطلق جميع أهل القرية لحضور احتفال يوم المعرض الزراعي . اقترب رودولف من إيما وأخذ يتحدث عن جمال الجووسحره وعن لذة السير على العشب، ثم قال لها: إنني وحيد على الدوام! آه، لو كان لي هدف ومبتغى في الحياة! آه ! لو أنني صادفت شيئاً من الحب، أو أنني التقيت بشخص يعطف ويحنوعلي! فقالت: لايبدو لي أنك في حال تدعو للرثاء! ..إصطحب رودولف إيما إلى قاعة الإجتماعات في مبنى البلدية الذي كان فارغاً. وأخبرها بأنه بإمكانهما مشاهدة الحفل من هناك وهما مستريحان. اقتربا من النافذة وأخذا ينظران الى الإحتفال. قال لها: في يوم ما لا يلبث المرء أن يلقى السعادة فجأة ، بعد أن يكون قد يئس وانقطع الأمل منها، فإذا ذاك، ينفرج الأفق... ثم إزادد إقتراباً منها رودولف. حينها تغلغل وتفجر في نفس إيما ذلك الإحساس العذب برغباتها القديمة من خلال نفحات عطر رودولف. أمسك بيدها، فلم تمانع وتسحبها منه، وفي تلك اللحظة قال لها: لم ألتق بمثل هذه الفتنة الكاملة والشاملة في صحبة أي شخص آخر. وسوف أحمل ذكراكِ معي ... و ، سأتلاشى كالطيف! وانت سوف تنسيني ..أم عساى سأبقى في فكرك، وحياتك؟ لم تجبه. وانتهي الحفل، وأخذ الجمهور يتفرق، وعاد كل شخص إلى مكانه. وأخذت مدام بوفاري بذراع رودولف الذي رافقها حتى بيتها ، ثم افترقا لدى الباب. 

 انقضت خمسة أسابيع دون أن يظهر أو يأتي رودولف مرة ثانية ، ثم ظهر أخيراً في إحدى الأمسيات. وحينما رأى إيما لاحظ كمية الشحوب الظاهره على وجهها! كانت تجلس وحيدة، فاقترب منها وقال: إنني أفكر فيكِ ليل نهار وباستمرار، ذكراكِ تدفعني للقنوط! آه، معذرة سيدتي ، لسوف أتركك الآن، وداعاً !! سوف أبتعد. فقالت: إنك رجل طيب ! فقال: لا، بل أنا أحبك. كم ستكونين كريمة معي إذا حققت نزوة لديّ. فى ذالك الحين دخل الطبيب شارل ، فارتبك وإضطرب رودولف وقال: عمت مساءاً يا طبيب. لقد كنت أسأل السيدة عن حال صحتها. فقال شارل: لقد إليها عاد مرة اخرى ضيق التنفس. فسأله رودولف عما إذا كانت النزهة على الجواد قد تفيدها ، فوافق شارل. وفي اليوم التالي ظهراً، حضر رودولف ومعه حصانين ، وانطلقت إيما مع رودولف. كانت إيما مستغرقة في الصمت، وفجأة توقف رودولف وربط االحصانين، وسارا على العشب. فقال لها: ألم يعد مصيرنا الآن مشتركين ؟ فقالت: آه، لا، لايمكن ،مستحيل! هيا نعود. قال: ربما أسأت فهمي. تأبطـت ذراعه، وهناك حول جدول ماء صغير، وفي إرتباك واضطراب ودموع، ورعشة طويلة، حجبتْ وجهها، وأسلمتْ نفسها! 

 عندما هبط المساء، عادا من نفس الطريق التي جاءا فيها. وعندما حان وقت العشاء، وجدها زوجها وقد بدت أكثر إبتهاجاً وأفضل حالاً . وما إن انتهت من تناول العشاء، حتى صعدت إلى غرفتها وأخذت تردد في نفسها: لقد أصبح لي عشيق! عشيق! وبعثت فيها هذه الفكرة المجنونة نشوة، فكأنها أضحت تحظى مرة أخرى بفترة المراهقة والأحلام! وأخيراً فقد قدر لها أن تعرف مباهج الحب هذه. وانقضى يومها التالي في عذوبة جديدة، إذ تبادلت العهودوالحديث مع رودولف، وحدثته عن أحزانها وآلامها ، ومضى يقطع عليها الحديث بقبلاته. وكانا وقتها في كوخ بالغابة، جالسين متقابلين مفترشين أوراق الشجر الجافة. أسكرها الحب في البداية، فلم تعد تفكر في شيء عداه. وبعد أيام عدة ، كان العاشقان دائبين في محاولات تدبير أمر خلواتهما. ومع الأيام، بدأ الحب بينهما يخفت ويضمحل . لم تشأ إيما أن تصدق ذلك، فضاعفت من وقتها وحنانها لرودولف، بينما هو كان يبدي عدم الإكتراث والأهتمام . لم تعد تدري أهي نادمة لأنها استسلمت له، أم أنها لم تعد عندها الرغبة في إمتاعه، وراحت تسائل وتلوم نفسها: كيف سمحت لنفسها وهي التى تتمتع بالذكاء والفطنة بأن تُخدع هكذا ، بل أي جنون جارف تملكها وجعلها تدمر حياتها إلى هذا الحد. وفي اليوم التالي وعندما حضر رودولف للقاءها ، وجدها في انتظاره، فاحتضن كل منهما الآخر، وانصهرت كل ضغينة في قلبها ـ كأنها الجليد ـ تحت حرارة القبلة. وعادا من جديد يتواعدان ويتحابان. قالت له: دعنا نذهب ونعش بعيداً من هنا في مكان ما. فقال ضاحكاً: إنك حقاً لمجنونة! ثم غيّر مجرى الحديث. 

 في الواقع كان هوى إيما ينمو ويزداد يوماً بعد يوم، وبنفس الوقت كان ينمو ويزداد نفورها من زوجها. على كل حال لم يكن شارل في البشاعة، ولا بمثل البَلادة والمسلك السوقي، كما كان يتراءى ويبدو لها بعد لقائها لرودولف.على أن رودولف،بتمكنه و بما أوتي من خبرة نافذة لا تتاح لغيره، لمح في هذا الغرام والعشق مباهج جديدة راق له أن يتعرفها ويستغلها ، فاستهان بكل حياء اعترضه، وراح يتعامل مع إيما وفق مزاجه وهواه، حتى صنع منها شيئاً مفسوداً! أما هي، فكان تعلقها به نزقاً ،وأعمى ،ومفعماً بالإعجاب به. كانت السعادة والبهجة قد أبهرتها وخدرت عقلها، فغرقت روحها في خمر لذتها، وانكمشت، ثم غاصت في نبيذه الحلو، وبغرامها هذا تغيرت اخلاقها ، وأصبحت أكثر جرأة في نظراتها وحديثها الذيكان يزداد تحرراً. 




 لم تكن حماتها ـ مدام بوفاري الأم ـ التي لجأت بعد شجارها مع زوجها الى بيت ابنها ، أقل إندهاشاً واستنكاراً لمسلك زوجة ابنها! وكانت ثمة أشياء عدة لم تكن لتروق لها، مما أدت هذه التغيرات إلى خلافات شديدة بين الإثنتين. وهذا الخلاف لم يزد إيما إلا عناداً وتشبثاً برودولف ، وعادت تخبره مرة أخرى بأنها تريد أن تذهب بعيداً عن هذا المكان. فقال لها: وابنتك ؟ فقالت: سوف نأخذها.

 وبينما كان الزوج بوفاري ينام، كانت إيما تتصنع النوم. وتصحو على أحلام أخرى. كانت تحلم بعربة تجرها أربعة جياد تنقلها إلى بلاد جديدة، لا عودة منها! وهناك تمضي حياتها مع رودولف. كان الشهر التالي هو موعدهما للفرار، وحددا يوم الإثنين الرابع من شهر سبتمبر موعداً لهربهما،. 

يوم السبت السابق على ذلك الإثنين الموعود . تقابل رودولف وإيما، فسألته إيما: هل كل شيء معد وبالتمام ؟ فقال لها: أجل. ولكن لا يزال هناك وقت، ففكري في الأمر ، ربما ندمت بعدها ! فاقتربت منه وقالت: لن يكون هذا أبداً. سوف تكون حياتنا كعناق يشتد في كل يوم، ويزداد إقتراباً وانطباقاً! سنكون لأنفسنا مدى الحياة . وعندما دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل. ذهبت. ووقف هناك رودولف مستنداً إلى شجرة كي لا يهوي ساقطاً إلى الأرض يتحدث الى نفسه في حنق: يا لي من غبي! ما كنت ل لأتمكن من العيش منفياً، بالإضافة الى أن أحمل همّ طفلة! وهناك ـ إلى جانب الهم هذا كله ـ النفقات. آه، لا، لا، ألف مرة لا! كان الأمر سيغدو غباءاً بالغاً لامثيل له ،لا ،لا !!! 

فور وصول رودولف بيته ، جلس إلى مكتبه وأمسك بالقلم يكتب: هل تدبرتِ قراركِ بتاني وعناية، أتعرفين إلى أية مصيبة وهوة كنت أجرّك أيها الملاك المسكين؟ ما أتعسنا من عاشقين أخرقين! لن أنساكِ قط، أرجوكي سامحيني ! إن الدنيا قاسية يا إيما. سوف أرحل بعيداً من هنا. إلى أين ؟ لا أعلم ! لقد فقدت عقلي! وداعا ! سأكون بعيداً جداً عندما تقرئين هذه السطور الحزينة. لقد أردت أن أفر بأسرع ما أستطيع، تخلصاً من ضعفي أو الإغراء الذي قد يدفعني لأن أراك مرة أخرى. في رعاية الله... صديقك. 

تسلمت إيما الرسالة التي احضرها خادم رودلف ، وقرأت الرسالة بتهكم ثم صرخت : إنني أختنق !! وأغمي عليها. هرع شارل لمعالجتها، وحضر الصيدلي ، قال: إن إيما تبدو ليفي غاية الارهاق والضعف . وأنا أرى أنه لا داعي للأدوية، فقط يكفي تنظيم التغذية وبعض المسكنات. عندما أفاقت إيما صاحت : الخطاب! الخطاب ! وخيل للجميع أنها ما زالت تهذي. وخصوصاً بعد أن ثبت أنها أصيبت بحمى مخية. وظل شارل بجانبها لا يفارقها خمسة وأربعين يوماً، و أهمل كل مرضاه. وفي منتصف أكتوبر بدأت إيما بإستعادة صحتها، وأسقطت بذكرى رودولف إلى قاع قلبها، وظلت أكثر جلالاً وجموداً. وصارت تكرس نفسها من أجل عمل الخير على نطاق واسع. فكانت تحيك الثياب للفقراء، وترسل النقود للنسوة اللاتي في المخاض. وأمرت بإستعادة ابنتها من عند المربية ، بعدما أرسلها شارل إلى المربية إبان مرضها، إذ رغبت في أن تعلّمها بنفسها. 

كان السيد ليون خلال دراسته للقانون من ألطف الطلبة مسلكاً، وكثيراً ما كان يمكث في حجرته للدراسة والقراءة. وكثيراً ما كانت تعاوده ذكرى إيما! على أن هذا الإحساس ما يلبث أن يتضاءل ، وأخذت تعدو عليه شهوات أخرى. ولكن حين عودته الى االقرية بعد غياب ثلاث سنوات ورآها ، خطر له إحساس أن يعمل على أن ينالها. فذهب لزيارتها ، بينما إيما لم تنزعج لمقدمه. وراح ييحدثها عن الأفكار الفلسفية، وراحت إيما تتحدث وتسهب بالكلام عن بؤس العواطف الدنيوية. فقال لها فجأة: أحبك! حينها أشرق وجهها وقالت: كنت أحس دوماً بهذا. ولكن كيف يحدث أن إنساناً يحبني هكذا ولا يبوح لي حتى اليوم بمثل هذه المشاعر؟ فقال: إن النفوس ذات الفطرة المثالية تستعصي على الإدراك. ثم أمسك بطرف حزامها وقال: ما الذي يمنع من أن نبدأ من جديد. فقالت: لا يا صديقي، انا الآن أصبحت كبيرة السن، وأنت ما زلت في باكورة الشباب، ولسوف تحبك نساء أخريات وسوف تحبهن. فصاح: لن أحبهن كما أحبك. فقالت: يا لك من طفل برئ! وبيّنت له وشرحت استحالة غرامها. إلا أنهما تقابلا وقضيا معاً وقتاً ممتعاً. 

جاء خبر وفاة السيد بوفاري الأب بغتة جراء سكتة قلبية. ، لم يخبرشارل إيما بالخبر فوراً ، حرصاً على مشاعرها. وعندما أخبرها بالأمر، تأثرت كثيراً واحتضنته. وعند العشاء، تصنعت ببعض الهدوء للتظاهر بالأسى. وبينما هي تنظر إليه، أخذ جمود منظره يطرد من قلبها كل إشفاق ورثاء. فقد لاح لها زوجها سخيفاً تافهاً ، ضعيفاً، وعديم الشخصية. فكيف تتخلص منه! 

 في اليوم التالي وصلت مدام بوفاري الأم ، وبكت وإنتحبت مع ابنها كثيراً. أما إيما فكانت يسرح فكرها فى عالمها الخاص وتقول فى نفسها ، أنه لم يومين منذ كانت مع ليون بعيدين عن الدنيا، في نشوة من البهجة والغبطة، والآن وجود حماتها مع زوجها بات يزعجها. فاقترحت على زوجها أن تذهب ل"روان" لمقابلة ليون، كي تستشيره في بعض الأمور المالية والتوكيل الرسمي. حيث أن لوريه ـ تاجر الأقمشة، والذي كان شارل مديناً له بمبلغ كبير من المال ـ كان قد طلب من إيما أن تحصل من زوجها شارل على توكيل رسمي للتصرف بأموره المالية كي تتابع عملية سداد الاموال له . فوافق شارل على ذهابها. 

اتصلت إيما بليون، وهناك قضت ثلاثة أيام معه ممتعة وبهيجة ، ورائعة. كان شهر عسل حقيقي! عاشا كطائرين في هذه البقعة الصغيرة التي خالاها في نشوتهما وبهجتهما أنها أفخم بقاع الأرض. وفي اليوم التالي افترقا، وكان الوداع موجعاً أليماً. واتفقا على التراسل وأن يرسل إليها خطاباته بعنوان الأم "روليه" ليبقيا على اتصال. 

أخذ الشوق يزداد إلى رؤية إيما . فقرر ليون أن يزورها. نزل في "أيونفيل". وما إن شاهدته مالكة الفندق الأم لوفرانسوا حتى صاحت في إندهاش ، إذ خيل إليها أنه كبر وعوده قد نحل . وبعد تناول العشاء، ذهب ليون إلى بيت الطبيب شارل. رحب به شارل بشدة ، أما إيما فبقيت في غرفتها . وفي ساعة متأخرة من ذاك المساء عند الدرب الممتد وراء الحديقة تقابل العاشقان . فراحا يتناجيان، وتمرغت باكية في أحضانه ، ووعدته بأنها سوف تجد طريقة ما تدبر بها الذهاب إلى "روان" لمقابلته، ولو مرة في الأسبوع. وبعد أيام عدة ، استطاعت أن تأخذ إيما الإذن من زوجها شارل لتذهب إلى "روان" ـ البلدة التي يمكث بها ليون ـ مرة في كل أسبوع، بحجة انها ستتعلم الموسيقى والعزف، حيث ستلتقي هناك بعشيقها. عند عودتها كانت إيما تجد شارل في انتظارها في البيت فتُقبِّل طفلتها في ازورار. وكثيراً ما كان شارل يلاحظ هزالها وشحوبها ، ويسألها إن كانت تشعر بوعكة أو ألم ما ، ولكنها ترد عليه أنها بخير.كان اليوم الذى يأتي بعد عودتهامن لقاءها مع ليون يكون عليها ثقيلاً وفظيعاً، وكذلك حال الأيام التي تعقبه فهى أشد منه وطأة وتعاسة ،. سألها ذات مرة شارل عن مُدرِّسة الموسيقى التي تُلقِّنها الدروس، فأجابت أنها تدعى مدموزيل لامبرير. ومنذ تلك اللحظة أصبح مكان وجود إيما مجموعة متصلة من الأكاذيب، التي كانت تلف بها على هواها. 

في إحدى ليالي الأحد ، لم تعد إيما في وقتها المعتاد ، فجن جنونه شارل من فرط قلقه عليها ، وورفضت بيرت الصغيرة أن تأوي إلى فراشها لتنام من دون أن ترى أمها، ولم يعد شارل يقوى على الإحتمال، فعند الساعة الحادية عشرة، شد جواده إلى عربته الصغيرة، وقفز إليها وغادر إلى "روان". ذهب الى فندق الصليب الأحمر التي كانت إيما تنزل فيه فلم يجدها هناك .فخطر فى فكره أنه ربما يكون ليون قد رآها، فهرع إليه. وقبل ان يصل الى آخر الشارع ظهرت إيما، فألقى عليها بنفسه في تهالك، وصرخ : ما الذي أخرك الى الآن ؟ فقالت: كنت مريضة. وعادا سوية إلى القرية. 

حاول أن يكف ليون عن لقاءها وحبها، ولكنه كان ما يلبث ـ إذا سمع صوت طرقات حذائيها ـ أن يتحول إلى ضعيف جبان ، حمل بعض أصدقاءه رسالة إلى أمه ينذروها بأن ابنها يدمر حياته ومستقبله مع امرأة متزوجة! فتحدثت أمه مع رئيسه في العمل الذي تكلم بدوره مع ليون بطريقة لطيفة ومقنعه . حينها أقسم ليون يمياً بأن لا يعود إلى لقاء إيما. وكانت إيما أيضاً قد بدأت تسئمه بقدر ما هو ملها، فقد أصبحت تجد في الفسق كل ما في الزواج من استرسال رتيب وملل ! وألقت على ليون ذنب آمالها الخائبة، وراحت تتمنى باي كارثة تحصل لتعجل بفراقهما. ومن ثم أنبأته بقرارها بالإنفصال، ولم يردَّ عليها. 




عندما عادت إيما إلى القرية،كان قد وصلها إنذار بالحجز على جميع وممتلكاتها وأثاثها ، بسبب الديون الكثيرة التي تراكمت عليها للتاجر روليه. وفي اليوم التالي صباحاً، جاء المحضر وتم الحجز على جميع أثاث البيت. ذهبت إلى ليون تطلب منه قرضاً، فاعتذر بحجة عدم إمتلاكه للمال. ثم ذهبت إلى رودولف تستجدي منه أن يعطيها بعض المال، ولكنه أيضاً اعتذر وتأسف لعدم وجود المال لديه.حينها ذهبت إلى الصيدلية، وبغفلة من الصيدلي هوميه تناولت العقار السام الزرنيخ. وعادت إلى البيت. كتبت رسالة. ثم استلقت على فراشها، وانتابتها غفوة افاقت منها على طعم مرير في فمها، ورأت شارل فأغمضت عينيها مرة أخرى. سألها شارل: ما بكِ؟أجابت : لا شيء. ثم أخذت بالأنين، وإنتابتها رجفة قوية شديدة كانت كتفاها تهتزان لها، وزداد شحوبها . وضعف نبضها، وأخذت أسنانها تصطك بعضها ببعض . ثم تحول لون وجهها إلى الأزرق، وأخذت تتقيأ دماً. فقال لها شارل: ماذا أكلتِ بحق السماء، إنك مسمومة !! وحين حضر الصيدلي قال: إنها مسمومه !!لا بد أن نعطيها جرعة مضادة للسم. فتهالك شارل ونظر إليها بهلع وقال: ما الذي دفعك إلى تسميم نفسك ؟ فقالت: كان شئٌ لا بد منه يا عزيزي. كانت إيما قد فكرت في نفسها: إذن فقد قضت على كل الخسة والخيانة ، والشهوات التي لا حصر لها، والتي كانت تعذبها. أخذت إيما بثقلٍ وبطء تجول ببصرها من حولها ، ثم إرتعش جسمها واختلج. اقتر الجميع منها، ولكنها كانت قد فارقت الحياة! 

أصاب شارل الذهول. ولم يكد يتبين له أن إيما لم تعد تتحرك، حتى ألقى بنفسه عليها صائحاً: وداعاً! استودعك الله! وأخذ يبكي. ..وفي اليوم التالي وعند مطلع النهار ، وصلت مدام بوفاري الأم، وما إن احتضنها شارل حتى انفجربالبكاء مرة أخرى . وحين وصل الأب "روو" ـ والد إيما ـ أغمي عليه في الميدان عندما رأى إشارة الحداد السوداء. وحين أفاق وعاد إليه وعيه، وقع بين ذراعي شارل باكياً. 

غادر الأب "روو" عائداً إلى بيته بعد إنتهاء مراسم الدفن . وبقي شارل وأمه ساهرين طويلاً يتحدثان بالرغم من تعبهما. فلقد رتبت مدام بوفاري على أن تأتي وتقيم هنا، وتعنى ببيته،. وقد أغتبطتت وابتهجت لاسترداد ذلك الحب من ابنها. وحتى منتصف الليل، ظل شارل مستيقظاً لا يكف عن التفكير في إيما. 

في الأيام التالية، اضطر شارل أن يبيع التحف الفضية قطعة بعد أخرى لسداد ديونه. وعلى الرغم من الإقتصاد في مصروفه الذي اتبعه بوفاري، إلا انه عجز عن سداد ديونه القديمة، وأصبح الحجز على بيته أمر متوقعاً. وذات مساء ، جلس شارل أمام المكتب الذي كانت تستخدمه إيما، فاكتشف رسائل ليون لإيما، ووجد صور لرودولف وسط رسائل عاطفية، فأخذ يجهش بالبكاء وينتحب . إنعزل شارل وإنطوى على نفسه، ولم يعد يقابل أحداً، ورفض أن يعود مرضاه، وكان يبكيدوماً. ثم باع جواده ، وهو آخر مورد له. 

وفي اليوم التالي، جلس شارل شارد الذهن على المقعد الطويل في الحديقة. وفي الساعة السابعة، أقبلت طفلته الصغيرة بيرت تبحث عنه، فإذا برأسه مسند للحائط خلفه، وعيناناه مغمضتان، وفمه مفتوح. دفعته في رفق، فهوى إلى الأرض. لقد كان ميتاً! سافرت الصغيرة بيرت إلى جدتها، ولكن الجدة أيضاً ماتت في نفس السنة، فكفلت الفتاة عمةٌ لإمها، كانت امرأة فقيرة، فأرسلتها لتكسب عيشها في مصنع لنسيج القطن.

                                      النهاية. 
تفاعل :

تعليقات