القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: حليب أسود: أليف شافاق. (مذكرات الكاتبة) إعداد وإشراف: رجاء حمدان.




لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجوشو ..الرابط التالي :

"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب



تلخيص رواية:
 حليب أسود: أليف شافاق. 
(مذكرات الكاتبة) 
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.









ها نحن ذا، كالعادة أنا وأمي، نهيم في متاهة من المشاعروالاحاسيس الرقيقة والمشوبة بمرارة، مشاعر لا يعلم بها سوى الأمهات وبناتهن. فبالرغم من أني قمت بمباغتتها بأخبار مفاجأة كعادتي، إلا أنها إستوعبتني وتجاوبت معي بطريقة لطيفة وحنونة جعلت قلبي ممتناً يمتليء نحوها بالشكر والعرفان. وقد شكرتها وقدرتها لوقوفها إلى جانبي وتشجيعي. قالت لي أمي يومها: إن الأم لتحلم دوماً وتأمل بيوم زفاف ابنتها، ولكني بصراحة، أضحيت لاأتوقع زواجك يوماً أبداً! بدا لي أنك آخر شخص على هذا الكوكب يمكنه أن يرتبط بأحد ويستقر فى بيت الزوجية. 

 تزوجت في برلين قبل وقت قصير. أيوب رجل مهذب صاحب روح كريمة، وهو رجل متزن وعاقل على الدوام. قررنا أنا وهو عدم إقامة حفلة زفاف لنا، فلم يكن أحدنا مولع ويهتمم بالطقوس والمراسم. كما أنني لا أريد لبس ثوب زفاف الأبيض لأنني لا أحب ارتداء ثياباً بيضاء على الإطلاق. فكنت أفكر على الدوام و مراراً فى داخل نفسي ولأوقاتٍ طويلة كيف يستطيع أن يتحمل الناس ارتداء ثياباً بيضاء. 

على كل حال، في ذاك اليوم المشهود من حياتى من شهر أيار، ارتديتُ ثياباً سوداء، بينما لبس أيوب بنطالاً أسود وقميصاً أبيض. أحببت زوجي كثيراً، وكان يتملكني إحساسٌ جميل بالحب والسكينة والسرور حين أكون إلى جانبه. غير أن جانباً مني لم يستطع أن يتأقلم مع تلك السكينة، ولم يستطع أن يقدر ان يتنعم في تلك السعادة والراحة. ربما أرجع هذا الأمر إلى أنني لم أكن أستقر في مكان معين لفترة طويلة من الزمن. عشقت الوحدة. وكان تألقي وازدهار مهنتي كروائية مرهون بالعزلة. كنت أسافر كثيراً، فقد كنت أذهب لاجتماعات وألقي محاضرات عدة في أريزونا في الفترة التي أعقبت زواجي. وبقيت على هذا الحال فترة من الزمن الى ان عرفت في أحد الأيام أنني حامل ! =صعقت لهول المفاجأة . فأنا لم أشعر يوماً قط أنني أريد أن أصبح أماً. إلا أنني في نهاية الأمر رغبت وأردت هذا الطفل ولم أعد أرغب فى فقدانه. فتلك الروح الساكنة في داخلي قد فجرت مشاعر وأحاسيس لم أكن أتوقعها في نفسى . وضعت طفلي في سبتمبر 2006 ، كانت أجمل شهور السنة في اسطنبول. كنت وقتها مغتبطة وفي قمة إبتهاجي ، ولكن كان هناك ما يقلقني ويوترني وينغص عليّ. استأجرنا بيتً صغيراً في إحدى الجزر المحيطة باسطنبول، حيث يمكنني الكتابة وإرضاع طفلي. ولكن تبين لي بأني لست على دراية ومستعدة لهذه الحياة الجديدة، فكنت أصاب بنوبات ذعر وتوتر ولا أتوقف عن البكاء، وخفت من الإخفاق والفشل في حياتي، فلم يكن بيدي ومقدوري أن أكتب وأمارس الأمومة في نفس الوقت. 

لم يكن حايبي أبيضاً كالثلج، ولكنه كان حسناً ولا بأس به. ولو أنى بدأت الكتابة عن تجربتي هذه لربما إستطعت أن أجعل من حليبي حبراً أسود. فإنّ الكتابة لها تأثير سحري علي يشفي روحي ويسعدها ، ومن خلالها سيكون في إستطاعتي أن أشق طريقي خارجة من هذا الإكتئاب والتوتر. 

من ينكر أن الأمومة أعظم هبات الحياة. إنها قالب يعاد به تشكيل طبيعة القلب. إلا أن المرأة لا يكون بمقدورها أن تصبح أماً بمجرد الإنجاب فقط. بل يتوجب عليها أن تعي وتتعلم الأمومة حرفاً حرفاً حتى تتقن الكتابة بشكل سليم وماهر، وهذا طبعاً ليس بالأمر السهل. فالأمومة هي معرفة قد يأخذ استيعابها عند البعض وقتاً أطول من الآخرين. 

الحياة قبل الزواج ...

كان وقت الظهيرة في اسطنبول. كنت أستقل باخرة تسمى الغجرية ،سميت بذلك لأنها لا تبحر فقط، بل إنها ترقص أيضاً على المياه الزرقاء، تحمل الركاب بين المدينة وما يجاورها من جزر. وأنا جالسة على مقعدي في الباخرة، أدركتُ أني نسيت دفتر مذكراتي. فأصابني شعور بالهم و بالغم. لم أكن أفكر وقتها في شيء سوى الكتابة. أخذت أنظر ملتفتة إلى يميني وإلى شمالي. أبصرت رجلاً بين يديه حقيبة جلدية، وقلت فى نفسي لا بد أن هناك، في مكان ما بداخلها، ورقة! فسألته أن يعطيني ورقة، فأعطاني بكل لطف أكثر من ورقة، شكرته، وشرعت بالكتابة بنهم.





بعد عدة أسابيع مضت من حادثة الباخرة، كنت أحتسي كوب شاي مع إحدى الروائيات. كانت تلك الروائية قد بلغت من عمرها الحادية والثمانين ولكنها لا زالت على شغفها بالكتابة كما كانت أيام صباها. كانت الروائية السيدة عدالة آؤلو من أشهر وأميز الأصوات الأدبية التركية آنذاك في جيلها. جلسنا نتحدث سوية في بيتها في غرفة الجلوس. قالت لي: أخيراً التقينا! في العادة، الكاتبات لا يُظهرن إعجابهن ببعضهن، فهن لايحسن القيام بذلك أبداً. ولكني رغبت في مقابلتك أنتِ بالذات شخصياً. سألتني السيدة آؤلو إن كنت أرغب في رؤية مكتبها الذي كتبت عليه معظم كتب رواياتها. فقلت لها : بالطبع، أود وارغب فى ذلك. أخذتني إلى مكتبها. كان هناك طاولة مكتب رائعة جداً كأنها قطعة فنية . كان يوجد عليها مسودات ورقيه مرتبة بتناسق وكتب، مزينة بدقة ببعض التذكارات، وعلى طرف المكتب الأخر وضع مصباح كلاسيكي أنيق يشيع منه ضوءأً خافت أصفر اللون. قالت لي: هل يوجد لديك مكان للكتابة كهذا ؟ هل تشعرين بقداسية نحوه؟ فقلت: لا. ليس كهذا تماماً، فأنا بمعظم حالاتى أعتمد على حاسوبي المحمول. 

رجعنا إلى غرفة الجلوس. جلست أنا والسيدة آؤلو حوالي النصف الساعة نتحدث عن أحوال وأخبار وحياة الكاتبات في الماضي. كنت أنصت إليها مستمتعة بالنقاش، إذ أنه لايوجد لديّ مواعيد لألحقها ولا مهام علي قضائها . بدأتْ السيدة آؤلو تقول: إني أعتقد أن على الكاتبات، في وقت ما من حياتهن، أن يقمن بإتخاذ قراراً مهماً وواضحاً. على الأقل هذا ما حدث لي، حين قررت وصممت ألا أنجب، وأن أكرّس نفسي فقط للكتابة. لقد كنت بالفعل محظوظة، إذ أن زوجي دعمني ووقف بجانبي في هذا القرار الصعب. ثم نظرتْ إليّ وقالت: ماذا عنك أنت أيضاً، هل الشعور بالأمومة أمر يراودك ؟ لم أجرؤ وقتها على الرد على سؤالها، ففي داخلي يوجد مجموعة صغيرة من الحريم. بل هي عصابة نساء يتشاجرن دوماً على أتفه الأمور وأقلها ويتخاصمن باستمرار. فسألتها: هل من الممكن القيام بالكتابة وتربية الأطفال معاً؟ فقالت السيدة آؤلو: لا أعتقد أنه يوجد هناك تعارض بين الكتابة والأمومة. أو ليس هكذا بالضبط. إنما هما صديقتان لا تفي كل منهما للأخرى على الدوام. هل تعتقدين بأنه بإمكانك التوفيق ما بين الإثنين؟ 

في الخارج، خلف الستائر النصف المسدلة، تجري الرياح بسرعة كبيرة في الشوارع والطرقات، يصدر من أوراق الشجر حفيفٌ مسموع يعبر أنوار المساء المائلة للعتمة. وبموازاة الرياح العاتية المسرعة، يسرع الوقت أيضاً كسرعتها. إنه الآن يجري سريع الخطى. ترى كم بلغت من العمرالآن ؟ إنني في الخامسة والثلاثين. لقد بدأت الأرقام تتصاعد وترتفع كعداد سريع: ستة وثلاثون... تسعة وثلاثون... كم سنة أخرى سأستطيع تأجيل قرار الإنجاب؟ بدت روحي وكأنها تدور في متاهات وأزقة ضيقة ، وبدت ممراتها السرية كأنها مكاناً مثالياً لرواية مرعبة أو فيلم مصاصي الدماء. قالت المرأة العملية في داخلي: لا تضخمي الامر وتعملي من الحبة قبة ، إن بوسع المرأة أن تصبح كاتبة وأماً أيضاً، ولمَ لا ؟ وقالت الإمرأة الدرويشة في داخلي: لا أعلم لمَاذا مذعورة انت ؟ إن الله يضعنا في إمتحانات وإختبارات جميلة، والإجابات على هذه الإختبارات تكون بشكل نسبيي بين الأشخاص، فما يناسب شخصاً ما قد لا يناسب الآخر. إذن فليس من الاهمية إن كنت قد أنجبت أطفالاً أم كنت كتبت كتباً، أو بعت المعجنات في الشارع، أوأنك قمت بتوقيع عقد عمل بمليون دولار، إن ما يهم بالفعل هو أن تكونى مرتاحة و سعيدة ومتصالحة مع نفسك من الداخل. فلتتوقفي عن التحليلات ، ولتبدئي بممارسة وعيش التجربة. وحينها سوف تتعلمين كيف توازنين بين أن تكوني أماً، أو أن تكوني كاتبة. وقالت الإمرأة التشيخوفية التي تقبع في داخلي، والطموحة والمهووسة بالعمل: أنا جملة وتفصيلاً ضد قرار الإنجاب ، لأنه إن رغبنا القيام بكل ما نريد، وأن نحقق أحلامنا، فنحن بالتالي لا نملك وقتاً كافياً على الإطلاق للأطفال. لذا عليكِ أن تتركي مشاعر الأمومة وأحاسيسها للنساء اللواتي ولدن كي يصبحن أمهات. كلانا يعلم أنك لن تصلحي كي تكوني أماً، فالأمومة ستجني على كل الخطط المستقبلية. وأخيراً قالت المرأة المثقفة المستهترة والساخرة في داخلي: لا يهم أية امرأة ستكونين، لأنك في كافة الأحوال سوف تتمنين دوماً لو أنك تكوني الأخرى. أي أنه لا يهم إذا كنتِ ستنجبين دزينة من الأطفال، أم أنك لن تنجبي أبداً، فالأمران سيان. وسينتهي الأمر بك إلى أن تحسدي الأخرى على الإختيار المخالف، وسوف تشعرين بعدم الرضا في نهاية الأمر . =عدت الى وعيي من حال النساء الأربع اللائي يتصارعن بداخلي، وتنبهت إلى السيدة آؤلو. قلت لها: أشكرك على كرم ضيافتك، ولكن يجب عليّ المغادرة الآن. 

رياح التغيير .. 

مضى شهران. إنها الساعة السادسة صباحاً في يوم من أيام الأحد، أتمشي على شاطئ البحر. كنت دوماً من الناس المبكرين في النهوض من النوم، وما زلت . فالإستيقاظ بعد شروق الشمس شيء يجعلني مكتئبة بعض الشيء، وفوق كل هذا، أشعر حينها ان العالم كله راح يعمل منذ مدة، وأني لم أستطع اللحاق به، وكأنني قد وصلت الحفلة في آخرها. =سرت إلى الحديقة التي تقع وسط الحي المجاور. الملعب هناك كان يزدحم بالأمهات والأطفال والرضّع خلال النهار، ولكنه الآن أصبح مقفراً. جلست لأستريح على أحد المقاعد، أراقب بعض الحمامات وهي تتهادى هنا وهناك. داخلتني فجأة المرأة التشيخوفية الطموحة. خطرت ببالي وأخذتْ تقول: إن رغبت أن تنجبي طفلاً، فلتحملي. سوف يزداد وزنك ويترهل جسمك وتصبحين أقبح، وإنك عندما تضعينه وتعتنين به وترسليه إلى المدرسة ومن بعدها إلى الجامعة، فلن يكون بإستطاعتك أن تجدي وقتاً لنفسك، وسوف تكونين قد نسيت كل ما يختص بالكتابة والأدب. حينها أجابت المرأة العملية: إن المرأة الجادة تستطيع أن تكون أماً جيدة وصاحبة مهنة ناجحة بنفس الوقت ، وأن تكون أيضا سعيدة، فالأمرفي غاية البساطة ومفتاحه هو إدارة الوقت لصالحها. فقالت الآنسة التشيخوفية الطموح:يوجد بالطبع هناك نساء كثير كذلك، ولكنني أدعوهن وأسميهن ببهلونيات السيرك. فإلى أي مدى بإستطاعة وبإمكان هذه المرأة الوصول إلى النجاح والشهرة في مهنتها ؟ حينها صحت في داخلي وقلت: اذهبن أيتها النساء من رأسي الآن. 

انقلاب منتصف الليل... 

ليلة واحدة تفصلنا عن نهاية الصيف. أسمع في منامي أصواتاً كثيرة . وأبصر باباً يُفتح ويغلق في مكان ما من المنزل، وهمسات خافتة في الظلام، ووأسمع خطى سريعة على الدرج. وفجأة سمعت صوتاً يقول لي: أنتِ، هيا استيقظي !! فاستيقظت بقلق لأرى الآنسة التشيخوفيّة تقف أمامي مباشرة وتقول لي: يوجد هناك أمر على أشد من الأهمية، عليك بالنهوض فوراً. الليلة، وبينما أنتِ نائمة، قمنا نحن النساء الأربع بعقد اجتماعاً طارئاً، وقد توصلنا في نهاية المر إلى نتيجة تقول أن الوقت قد حان إلى تغيير جذرى في نظام حياتنا الآن، وكان أول قرار قمنا باتخاذه هو أن ترحلي إلى أمريكا في الحال . فقلت: لن أذهب إلى أي مكان. فقالت الآنسة التشيخوفيّة : إن الأمر لا يخص أمريكا بالذات ، بل يخصك أنتِ. يمكنك أن ترحلي وتغادري إلى أي مكان آخر، المهم أن تغادري اسطنبول. منذ فترة ونحن نراقب بك جيداً، وأستطيع أن أرى أنك تفكرين وترغبين جدياً في الإنجاب. إنك تتساءلين بشكل مستمر : هل بإمكاني أن أصبح أماً ؟ وما هي شكل الأم التي سأكون عليها ؟ إنني أكبر وأتقدم في العمر. إن كل هذه الأفكار والتساؤلات تتردد في رأسك، ولا أعلم إلى أين ستقود بك بالضبط. قالت الآنسة المثقفة: لقد قررت أن تصبحي كاتبة بائسة فقط على أن تكوني كاتبة وربة منزل وزوجة وأماً بائسة. قالت الآنسة العملية: هيا أسرعي لايوجد وقت ، لقد أحضرنا تذكرة الطيران. سوف تغادرين غداً. قالت الآنسة المثقفة: لقد فزت أخيراً بمنحة تُعطى لعدد محدود ومعين من الفنانات والأكاديميات والكاتبات للدراسة في أمريكا.

في تلك اللحظة علمت بروحى وعقلي أن الصيف قد بلغ نهايته ، بخلال لحظة و بقفزة واحدة مفاجئة.و كل ما أعرفه الآن هو أن فصلاً جديداً قادما في طريقه إليّ. 



حضرتْ إليّ المرأة الدرويشة وقالت: أنظري إلى نفسك، ما الذي ترينه ؟ إنني أرانى امرأة مجزأة، متعددة الإنقسامات من الداخل، يوجد بها نصف شرقي، ونصف غربي. امرأة تهيم و تعشق الخيال وتعيش به أكثر من الواقع. امرأة حطمتْ قلوباً كثيرة وانكسر قلبها مراراً وتكراراً، تلك هي المرأة التي غالباً ما تهتم لما يقوله الآخرون، وترتعب من فكرة أن الله ليس معها ومهتماً بها حقاً. امرأة حقا ً ما زالت قيد الإنشاء. قالت السيدة الدرويشة: إسمعي إن النساء الثلاث لن يدعنك في حالك بتاتأ حتى تغادري اسطنبول. أعتقد أن عليكِ، في وقت ما، أن توقّعي معنا جميعاً معاهدة سلام. فنحن النسوة الأربعة نتخاصم على الدوام لأنك تخاصمين بيننا. تعتقدين أن بعضنا أهم من الآخر، إلا أننا في حقيقة الأمر لسنا سوى انعكاساتٍ لشخصك . فنحن كلنا في داخلك شخص واحد هو أنت. فقلت: يا إلهي وماذا يترتب عليَّ أن أفعل ؟ فقالت المرأة الدرويشة: يجب عليكِ أن تتعاملي وتتجاوبي مع المنحة الجامعية المقدمة لك وكأنها فرصتك . المهم هي الرحلة إلى داخل أعماقك. فكري جيدأ في هذا الأمر.

الراكبة الهاربة...

 في اليوم اللأول من سبتمبر 2002, أقلعت رحلة الطيران التركي من مدينة اسطنبول إلى نيويورك، وكنت واحدة من ضمن ركابها. الطائرة كانت إلى آخرها ممتلئة بطلاب كليات ودراسات عليا، ورجال أعمال وسيدات ، وأزواج حديثين في شهر عسلهم. كانت هذه هي الرحلة الأولى لي للولايات المتحدة. ابتسمتْ لي فتاة صغيرة كانت تجلس أمامي في خيالي، ولكني توقفت عن الإبتسام حيث رأيت أن هناك رجلاً يافعاً، فارع الجسم ونحيلاً يجلس على بعد صفين من أمامي وأخذ يبتسم لي .فقد كان يظن أنني أبتسم له. وكان لامجال هناك أو سبيل كي أشرح له بأنني كنت اتبسم لأحد آخر موجود في خيالي. انزلقتُ قليلاً على مقعدي وأخفيتُ وجهي بين دفتي الكتاب. وبعد أن تناولت الطعام في الطائرة، ذهبتُ إلى الحمام. وهناك قدمت إلي المرأة الأخرى الجديدة التي في خيالي. قالت لي إنها امرأة جديدة وأن اسمها هو ماما الرز بالحليب! فضحكتُ وقهقهت لإسمها . قالت: هذا هو اسمي لأنني إمرأة أموميّة وحنونة. وعرضتْ عليّ رأيها فقالت: إنني أرغب بالزواج مثل كل الفتيات الشابات. أريد أن أرتدي فستاناً أبيضاً وخاتماً ألماسي ذو جوهرة لامعة، وأن يكون لي عدة أطفال وأن أدفع بعربات التسوق في متاجر الأغذية. هل تعلمين ما هي مشكلتك الحقيقية ؟ القراءة. إنك تقرئين كثيراً وتبالغين بالقراءة ، هذه هي علتك ومشكلتك . لقد أقنعتِ نفسكِ وبجدارة وبتصميم بأنه لا يمكن أن تكوني امرأة عادية، ولكنك بإعتناقك لهذا الإعتقاد تقللين شأن جمال ذلك الشيء العادي في البحث عن المتع البسيطة والجميلة. فقلت لها: أين كنت تقبعين أنتِ ؟ لماذا لم تكوني تظهرين إلى جانب الآنسة العملية وحضرة جناب السيدة التشيخوفية الطموح وكذلك الآنسة المثقفة الساخرة والسيدة الدرويشة ؟ فقالت: أنا لم أكن بعيدة عنك ولم أكن أختبيء منك، ولكنكِ كنت لا تريدين أن تعترفي بوجودي. وليس هذا فقط، بل إن هناك فتاة أخرى ولكنك لا تريدين أن تعترفي بوجودها أيضاً، وتوجهين جل انتباهك وإهتمامك إلى تلك النسوة الأربع طوال سنوات عمرك . ثم افترقنا. وهكذا أدركت لحظتها أنني لا أعرف نفسي جيداً. لقد فضلت وميزت أصواتاً بداخلي على أصوات أخرى. عدت إلى مقعدي. وبقيت على هذا الحال إلى أن نزلت وحطت الطائرة في مطار نيويورك.





بحثاً عن آلهة الأمومة... 

في اليوم الثاني من سبتمبر، ترجلتُ من حافلة تحمل على كلا جانبيها حروفاً كبيرة مرسومة ببهرجة. شعرت نفسي وكأنني طفل لا يريد أن يكبر. لذت بالصمت في الحرم الجامعي منذ اللحظات الأولى التي وضعت فيها قدمي على رصيف الحرم الجامعي. وفي اليوم الثاني، اكتشفتُ المبنى الذي سيصبح مكاني المفضل طوال فترة إقامتي هنا؛ المكتبة الكبيرة الهائلة ذات التصميم الغوطي. لقد كان حباً وشغفاً من أول وهلة !!!!. بعدها مشيت وتجولت في أنحاء الحرم الجامعي. إن التخلص من النسوة، اللاتي يقبعن داخلي، لبعض الوقت ولو كان قصيراً، يجعل قلبي يضئ ويريح عقلي ومزاجي. كنت أمشي متشربة ومحتفظة بكل تفصيل دقيق أراه في عقلي ، مثل اسفنجة بقدمين.. وفى الليل، عدت إلى غرفتي واستلقيت على السرير. يبدو أن العزلة التي كنت أستمتع بها بدأت تُظلل مزاجي. فإن هذا الشيء الذي أقوم بفعله هنا بعيداً عن اسطنبول ؟ وعن أمي وأحبتي ولغتي .وعن المكان الذى تولد فيه رواياتي ؟ ؟ . يشبه فى شانه بإلقاء نفسي في الماء لاختبار قدرتي على العوم. وقعت في نوم عميق وأنا أفكر في ماما الرز بالحليب. وتمنيت فى داخلى لو أنني كنت أعرفها من قبل.

 سويّة من الخارج...

 نشأت وتربيت وأنا أنظروأتابع نموذجين مختلفين من النساء. فهناك النموذج الأول فى حياتي وهي أمي ، امرأة متعلمة، وحداثية، وغربية التمدن. إنها امرأة عقلانية ، تركية علمانية، ومستقيمة الحديث. وفي الجهة المقابلة ، النموذج الآخر،هناك أمها ، جدتي التي اعتنت بي وربتني هي أيضاً، لكنها لم تكن إمراة متعلمة، بل كانت أكثر روحانية ، وبالتالي أقل عقلانية بالتأكيد. لقد كانت امرأة تحب أن تقرأ بقايا فناجين القهوة لترى المستقبل. 

خلال مرور قرون طويلة مرت على المعمورة، كان من الواجب والمتوقع من الفتيات والنساء أن يلتزمن بقائمة طويلة وصفات ثابتة، بينما يقاس الفتيان والرجال بقائمة أخرى مختلفة. وبشكل غريب، تعودت النساء على التفكير في أنفسهن وفقاً لتلك الصفات الثابتة وتلك القائمة . إن مجمل العلاقات التي تنشأ بين بعضنا البعض، وأحاديث النفس التي نجريها في دواخلنا وأعماقنا ، والطريقة أو الأسلوب الذي نربي وفقه بناتنا، مثقلة بظلال تلك الإنشطارات التى بين الصور المُثلى للجنسين. 





شجرة العقل... 

 يقع مركز الدراسات النسائية في كلية تلة هوليوك في بيت واسع ذي ثلاثة طوابق، بيت بُني على الطراز التقليدي. والغرفة التي أشغلها تقع في نفس البناء. هناك باب متداع يصل غرفتي بالمركز، وفي المرة الأولى التي طبخت فيها القرنبيط، امتلأ كامل القسم برائحة الطبخ وبقي المكان برائحة نتنه لأيام عدة. لذا هجرت وأبتعدت عن المطبخ كلياً، ورحت ألتهم الفواكه ورقاقات الشابورة والماء فحسب. وفي المساء عندما يغادر الجميع المبنى أبقى وحيدة. 

اتخذت قراري أخيراً، فمن الآن وصاعداً، لا أريد أن أكون سوى ما يمليه عليّ عقلي. لن يكون للجسد أية سلطة علي بعد الآن . فأنا ليست لدي رغبة في الأمومة، ولا أعمال المنزل، ولا واجبات الزواج. لا أريد كذلك أن أشعر بغريزة الأمومة، ولا أن أنجب أطفالاً أربيهم. أريد أن أصبح كاتبة فقط ، هذا هو كل ما أسعى إليه. 

لم يكد يمر إسبوعان على إتخاذي هذا القرار حتى بدأ جسدي بإظهار علامات التغير. فبدأت بشرة وجهي بالجفاف وتبعه شعري. كما أنني أيضاً بدأت أفقد وزني. وفي أحد الأيام لاحظت أن الدورة الشهرية توفقت بالمرورعليّ، وأنني لم أعد أعاني من أعراضها. وفي الحقيقة إرتحت لتخلصي من إحدى غرائز الأمومة. 
إياك أن تقول ( أبداً ) أبداً ! ...

مسؤولة التنظيف هنا مكسيكية، تدعى روزاريو، امرأة قصيرة ومدورة القامة . إنها أم لأربعة أطفال. لذا هي تعمل بكدح. تريدهم أن يحظوا بحياة أفضل من التي عاشتها هي. قالت لي روزاريو: إن الأطفال رحمة في الحياة . 

فى الصيف زرت إسطنبول لمدة قصيرة. جئت إليها كي ألتقط بعض الأغراض والحاجيات من شقتي القديمة، ولأرى أصدقائي وأمي، ولأحضر بعض الأمسيات وأوقع كتبي في المدينة. ثم أعود بعدها فوراً إلى الولايات المتحدة. دعاني أصدقائي، في أول ليلة أقضيها في اسطنبول، إلى الشرب، فقبلت الدعوة.

 عندما دخلت المكان، سرت نحو طاولة أصدقائي، كنت أعرف الجميع ما عدا شاباً بشعر أسود داكن ومتموج. كانت ابتسامتة لطيفة خافتة وكان يجلس على الكرسي الواقع آخر الطاولة. قدّم نفسه لي بإسم أيوب. أعرته اهتماماً طوال السهرة، كنت أنظر إليه بحذر، ولكن كلما زاد إستماعى وإنصاتي لحديثه، كلما ازداد إدراكي بأنه الشخصية التي تمثل تجسيداً لكل ما أقصيته في حياتي: الصبر الصافي الذي يتمثل به ، التوازن المحض، العقلانية المتزنة والثبات ، الهدوء الشفاف، والتناغم الأنيق. لم يعجبني فحسب، بل وجدت نفسي أسقط رأساً على عقب في حبه. 

في أول ليلة لي مع أيوب، حلمت بأن فؤوساً قد انهالت على شجرة العقل العملاقة ، فحولتها إلى شجيرة صغيرة. وحالما أعتقتني وتركتني شجرة العقل، بدأت بالتعامل مع جسدي بأفضل ما يمكن ان أستطيعه . وأضحيت أشتري الكريمات ومراهم الجسد العطرية. تعرّفت على امرأة أخرى داخلي ، إنها مدام بلو بيلي بوفاري. قالت لي: لقد تم إسكاتي ومحاصرتي ، والحجر عليّ! من قبل النسوة الأخريات. صمَتتْ قليلاً مدام بوفاري ثم أكملت وقالت: هل حاولتِ في مرة ما أن تكوني أنثى ومثيرة يا عزيزتي ؟ لم لا تضعين أحمر شفاه ناري، وترتدين فستاناً جميلاً متورد اللون، وتظهرين بعضاً من جسدك؟ في تلك الليلة، سألت أيوب أن يلقاني على في مطعم أسماك رائق على نهر البسفور عشاءاً. وصل أيوب تماماً في الساعة السابعة مساءاً، وجلس ينتظرني. بينما في الحقيقة، كنت أنا أيضاً موجودة في المطعم، إلا أنني كنت اختبأت في الحمام محاولة استجماع الجرأة كي أخرج له. 

كنت اليوم قد ذهبت إلى مصففة الشعر ، وصبغت شعري، وحففت حاجبيي وشذبت أظفاري. أنجزت المهمة، وها أنا أمامه بوجهي الملمع تحت طبقات من الماكياج، وحاشرة نفسي في فستان سهرة طويل وضيق، وبالطبع لونه أسود، ووضعت حول عنقي وشاحاً من الريش. عندما رآني أيوب، خرجتْ عيناه من محجريهما، وفكه تهدّل قليلاً. قلت له: أحذرك! إن ثقتي بنفسي الآن في أضعف حالاتها، لذا لا تسخر مني أرجوك . إنها محاولات مني أفعلها لأحل عقداً في داخلي، وأن أوقع اتفاقية حاسمة لوقف نار مع جسدي. فقال أيوب: لا تقلقي! تبدين على ما يرام. فقط خذي نفساً عميقاً وحسب. 

بعد مرور عام كامل بالتمام، كنا جالسين، أنا وأيوب، داخل إحدى المقاهى التى تقع في السوق الكبير. فبعد انتهائي من كلية تلة هوليك، أصبحت محاضرة زائرة في جامعة ميتشيغن في آن هاربر. درّست مناهج عن الدراسات النسوية، ورحت أكتب ببطء روايتي الجديدة "لقيطة اسطنبول". إنه الصيف هنا. فرجعت إلى اسطنبول. نجلس هنا، حبي وأنا. وفجأة، أمسك أيوب بيدي وقال: حبيبتي، إنني أتساءل، أما زلتِ ضد الزواج ؟ فقلت: طبعاً لا أزال. نظرياً على الأقل! قال: وما الذي تعنينه بنظرياً ؟ فقلت: تعني بشكل شامل وعام. كفكرة محضة. كنموذج فلسفي. لذا فأنا لست ضد أن نتزوج أنا وأنت. لذا فأنا أسألك أن تتزوجني. فقال أيوب وهو يبتسم : وأنا أقبل عرضك بكل سرور.. قبلت ! قلت له : إنك تعرف أنني لا يمكنني البقاء في مكان واحد فترة طويلة. ألا يشكل هذا لك معضلة ؟ قال: أستطيع رؤية ذلك وتفهمه . وبما أنك المترحلة العالمية، أعلميني ، في أي بقعة من العالم ستوافقين على الزواج بي ؟ فقلت: أرغب في مكاناً لا يتوقعون فيه من العروس أن ترتدي فستاناً أبيضاً، ما رأيك ببرلين ؟ سوف أكون هناك لبعض الوقت، فلقد عُرضتْ عليَّ زمالة للذهاب إلى معهد التعليم المتطور في برلين. فقال أيوب : إمم.. يبدو ذلك جيداً..معقولاً. 

بعد عامين مرت على قولي: "أقبل بك زوجاً" في برلين، تنقّلتُ كالمجنونة بين توسون واسطنبول، والآن أنا هنا، أجلس وظهري مُسند إلى حوض الإستحمام، وآخذ أنفاساً عميقة لأبطيء دقات قلبي. في يدى شيء صغير، ويبدو مريباً. كُتِب خلف علبته: إذا ظهر على الشاشة خطان، فهذه علامة الحمل. وإذا ظهر خط أزرق واحد، فهو علامة عدم الحمل. لكنني في هذه اللحظة أخاف النظر إلى شاشة الجهاز ، ولكن عقلي أدركَ ما قد قبله قلبي بالفعل: أنا حامل. أريد ..أحتاج وأرغب إلى التحدث مع أحدهم. في هذه اللحظة أكتشفت أني أريد فوراً ماما الرز بالحليب. قلت لها: أنا حامل . حينها انطلقتْ صرخة فرح ثقبت الهواء، وراحت تتقافز هنا وهناك بهجة في المكان، وقالت: تهانينا. فقلت: إن عقلي مشوش الان وأنا حائرة لا أعلم ماذا أفعل. أظن أنني غير مستعدة لهذا، أنت تدرين.




الخضوع الجميل ... 


الأسبوع 5 من الحمل..

قالت لي ماما الرز بالحليب: الأمومة شئ مُعظم ومُقدس، وتجب معاملتها على هذاه الأسس، دون أية سؤال، دون أي مساس لها ، ودون تغيير فيها . منذ الآن، أي انتقاد كان صغيراً أو كبيراً لمؤسسة الزواج أو الأمومة، سوف أعاقب عليه. ستتحملين كل ما تحملته أمهاتنا وجداتنا، وأمهات جداتنا. 

الأسبوع 18 من الحمل..

 لم أعد أبكي بتواتر كما كنت أفعل سابقاً، غيرأن كل شيء الآن تنبعث منه روائح غريبة . ومن بين كل الروائح، هناك رائحة واحدة لااطيقها تقلب معدتي تماماً وتجعلني أفقد إتزاني واتجاه سيري وأسير في الإتجاه المعاكس تماماً: جوز الهند. 

الأسبوع 20 من الحمل..

اليوم علمنا جنس الطفل، إنها فتاة ! أنا سعيدة وأيوب سعيد. وماما الرز بالحليب متحمسة جداً وسعيدة ايضاً. قالت لي: تلْبيس الفتيات أسهل بكثير، وأكثر متعة! ترتدي الطفلات الوردي الباهت، والفوشي والوردي الداكن،. أما الأطفال الذكور، فيلبسون اللون الأزرق الداكن. تجلبي للبنات بلعبة باربي ومجموعة من أكواب الشاي مع أغراض صفها وتقديمها. أما الأطفال الذكور، فتجلبي لهم بأسلحة كلاشنكوف والشاحنات. 

الأسبوع 28 من الحمل.. صممت ماما الرز بالحليب على أن أذهب إلى حصة لرياضة اليوغا المخصصة للأمهات. تقول إنه عليّ أن أتعلم تقنيات التنفس، فهي تريد أن تكون الولادة طبيعية كما كانت ولادة جداتنا في الماضي.

الأسبوع 34 من الحمل.. 

تعلمت أن في هذا الإسبوع كم يكون مهم موضوع ذكاء الطفل للمرأة الحامل. فأخذت حبات أوميغا 3 وبشكل يومي ، وكذلك كبسولات زيت السمك، وأقراص أخرى عيدة تبعث روائح شنيعة كثيرة. إنني لا أفهم هذا الهوس حول موضوع معدل الذكاء. =الأسبوع 38 من الحمل..

 تعلمت أن جسد الحامل ليس ملكها فحسب ، بل أنه يخص جميع النساء. ففي أحد الأيام وبينما كنت أتبضع في البقالة ، جاءت امرأة كبيرة في السن وبدأت تتفحص حاجياتي في عربة التسوق! قالت: أوه! أنت تشترين الباذنجان ! إن الباذنجان يحتوي على كمية من النيكوتين. ثم أشارت إلى الصبي الذي يعمل في البقالة، وقالت له: أعطها بروكلي بدل الباذنجان، وأعطها بعض الفيلفة ، ولا تنسِ االسبانخ .

الأسبوع 39.5 من الحمل..

 أصابتني موجة من الهدوء. نسائم الهواء تحرّك بخفة غيوم الأفق، وأزهار التوليبس تتفتح الآن في اسطنبول. فجأة أصبح العالم مكاناً فائق الجمال والحياة فيه جنة. قالت لي ماما الرز بالحليب: إنه هرمون السعادة، يقوم الجسد بإفرازه عندما تقترب الحامل من أيام الولادة. 

الأسبوع 41 من الحمل..

 مذعورة ومتوترة ! حان الوقت وأنا خائفة. ارتفع بطني إلى ذقني . قالت لي السيدة الدرويشة: استسلمي للأمر، والباقي يأتي على مهله  

بعد يومين، في الصباح الباكر، أيقظت أيوب من نومه، ، وذهبنا بهدوء إلى المشفى. كل تمارين اليوغا و التنفس ، وما تناولته من عقاقير ومن الكافيار الأسود وسلطات البروكلي، وحتى رواية "نساء صغيرات"، فقدتْ معانيها عندما استسلمت. 

طفلتي الآن تنام في سريرها. أما أنا، فلم أعد أعرف النوم على الإطلاق. مضت سبعة أسابيع منذ أن أنجبت . أريد وأرغب بشدة أن أكون أماً متألقة وكاملة، ولكنني انتهيتُ للقيام بكل الأمورالمطلوبة مني بالطريقة الخاطئة. أصبحت ثقتي بنفسي مثل قطعة آيسكريم ت ذوب بسرعة تحت قهر الأمومة. لكان أمراً مساعداً لي لو كان أيوب إلى جانبي في هذا الوقت ، ولكنه للاسف ذهب ليخدم فترته في التجنيد الإجباري. لستة أشهر قادمة، سيتدرب تدريباً عسكرياً في بقعة ما، شماليّ قبرص، وسأبقى أنا لوحدي مع نفسي. 

مِرجل يغلي في رأسي. ماذا لو أني فشلت في أن أصبح أماً جيدة وزوجة رائعة ؟ لا أريد أن أخدع نفسي أو أن أدّعي أنني شخص آخر غيري. ما يفزعني حقاً هو احتمال أن يحدث تفاعل كيميائي بين تأليف الكتب ومهامّي المنزلية الاخرى .






 عذوبة غامضة ... 

في أحد أيام نوفمبر، صباحاً ، نهضتُ من النوم، أحسست بأن هناك وجوداً لكائناً غريباً في الغرفة. تبلغ طفلتي الآن من العمر شهرين، وقد أصبحت تنام بشكل أفضل من قبل . في تلك الزاوية هناك يوجد مخلوق ليس بشرياً، ولا حيوانياً، ولا يشبه أي شئ رأيته في حياتي من قبل. إنه رمادي اللون قاتم مثل سحب العواصف. لا بد أنه يكون أحد الجن الذين كانت أمي تحذرنى منهم في طفولتي. قلت: من أنتَ؟ قال: ألا تميزينني من أكون ؟ ألست تعلمين شيئاً عن الجني الذي يلاحق الأمهات الجديدات ويصطادهن؟ فقلت: بلى، أخبرتني جدتي يوماً عن جني يسمى القارصة، معروف بالتحرش بالأمهات حديثات الولادة. ولكن بالله عليك أخبرني من أنتَ ؟ فقال: أنا خادمك المطيع، أنا جني اكتئاب ما بعد الولادة، والمعروف بإسم لورد بوتون . 

يجب أن يُشرّع قانون يمنع الأشخاص الذين يمرون بالإكتئاب من النظر إلى المرآة. يجب إيقافهم، لمصلحتهم هم. المرايا هي أخطر الموجودات من حولك عندما تكون ثقتك بنفسك إنعدمت وغرقت حتى القاع، وعندما تكون روحك مثقلة بغيوم سوداء. وها أنا بلغت ذلك حتى الآن، وحيدة في الغرفة، أحدق في المرآة وأشاهد على صفحتها وقد انعكستْ صورة لامرأة شابة تحدق فيّ بالمثل. شعرها مشعث غير مغسول، وجسمها يشبه تلك العرائس المصنوعة من حشو الأقمشة، وعيناها ذابلتان حزينتان بعمق. لا يمسي المكتئبون موجودون في عالم آخر وحسب، بل حتى أن علاقتهم بالوقت تصبح مشوهة.. فاتصالهم بالحاضر ضعيف، فهم يعيشون بشكل متصل في ذكرياتهم. 

استشرتُ طبيباً بشأن حالتي التي انا بها فقال لي: أهلاً بك في اكتئاب ما بعد الولادة. سوف تبدئين بأخذ قرصين يومياً من السيبرلكس ، ولنرى ما سيحدث. تناولت الأدوية من الطبيب وقررت أن أعطيها إلى الزهرة الوردية التي أضعها في المطبخ! لأن كل هذه الأقراص سوف تؤثر على الحليب في ثديي، وأنا أحب أن أرضع ابنتي رضاعة طبيعية. 

 لذا لم يمض على الامر شهران حتى صارت الوردة مرحة ومزدهرة! تلقي بالنكات، وتضحك من الفجر حتى الغروب. أما عن مزاجي ، لم يتغير ، وبقي على حاله. 

مضت شهورعلي وأنا أخوض الاكتئاب، أخذت أقرأ بشكل مكثف حول الأمر، وتمنيت لو أني أموت لأعرف السبب وراء حالتي هذه، لوأن هناك يوجد سبب لما أعانيه . ولماذا حدث ذلك لي؟ ولكن الحقيقة التي توصلت لها هي.. نحن النساء كوننا من لحم وعظم، وكوننا حفيدات حواء، فنحن جميعنا نشعر بذلك التخبط في المشاعر والأحاسيس من حين لآخر، وتحديداً يكون ذلك في الأوقات التي يشتد فيها الضغط النفسي مثل وصول طفل جديد.

 نهاية ديسمبر، لبست اسطنبول حلية أعياد الكريسماس، إنها مشعة وملونة، وقد جرّبتُ وقتها عدة عقاقير ولكن دون فائدة. أثناء ذلك الوقت، كنت أزور مختصة نفسية، امرأة ذكية تعودت على قضم أظفارها عندما تحتارفي أمر ما . لم أكن مؤمنة ومتيقنة بطريقة علاجها، وأينما يكون ضعف الإيمان ينتج الخسران . 

قد تبدو للبعض عدم الكتابة لفترة ثمانية أشهرلا شيء. ولكن بالنسبة إليّ، أحسست أنها الأبدية. وأثناء ذلك، أضحى اكتئاب ما بعد الولادة جزءاً لا يتجزأ من حياتي ومعيشتي . أينما ذهبت ومهما فعلت، تبعني لورد بوتون وكأنه قناص نهم. إن وجوده متعب جداً، ولكنه على الاقل لم يستطع أن يمحو محيطي عني بعد. 

. لابد ان بعض العلاجات التي تلقيتها قد نفع بعضها نوعا ما . ولكن النهاية لاكتئاب ما بعد الولادة جاءت على رسلها وتبعاً لفترتها الخاصة في الإنقضاء. عاشت دورتها ووقتها بالكامل داخلي. وعندما حان الوقت الصحيح والمناسب للخروج ،خرجتُ من ظلمة جحر الأرنب. قلت للورد بوتون: أنا لست ساخطة عليك . أعتقد بأنه كان عليّ أن أعيش هذه الفترة من الإكتئاب لكي أجمع شظايا نفسي من جديد. عندما أنظر إليك من هذا الجانب و هذه الناحية، فأعتقد أنني أدين لك بالعرفان والشكر. فقال لورد بوتون بصوت خافت مرتجف: لم يتحدث إليّ أحد من قبل هكذا.بالعادة تكرهني النساء، ويكرهني الأطباء، ويكرهني الجميع أيضاً. وفجأة أبصرت لورد بوتون يتبخر من أمامي، مثل الضباب في ضوء الشمس.

بزوغ الفجر ...

يوم مشمس من شهر أغسطس، الخوخ في الحديقة إكتمل نضوجه حتى صار باللون العنابي المكتمل، وعاد أيوب من الجيش، بادياً عليه النحول ومكتسياً بالسمرة. همهم أيوب لي: آسف لأنني لم أكن موجوداً إلى جانبك. لكن منذ الآن وصاعداً، سوف نقوم بكل الأمور معاً. فقلت: هل سترعى الطفلة عندما أنشغل بالكتابة ؟ فتوقف لبرهة مشدوهاً، وعلامات الذعروالفزع تشع في وجهه، ثم قال: لنقم بالإتصال بمربية. 

 خلال عشرة أيام، وجدنا مربية من أذربيجان. وفي نفس الشهر، كان هناك احتفال في إحدى الصحف الليبرالية احتفاءاً بمرور سنة على إصدار ملحقها الثقافي. التقيتها هناك تحديداً، التقيتُ بالسيدة عدالة آؤلو. وقالت لي: هل تتذكرين الحديث الذي دار بيننا سابقاً ؟ فقلت: وكيف لي أن أنسى ؟ حينها قالت: أعتقد أنكِ قمتِ بالعمل الصواب حين أصبحتِ أماً في النهاية. فقلت لها: وأنا أيضاً أحترم قرارك بألا تكوني أماً، وأن تتفرّغي للكتابة تماماً ، وتنذري حياتك لها. لاحقاً، وكنت انظر إلى السيدة آؤلو وهي تغادر الحفل، وإلى المساء الذي ما ينفك يبطيء ويهدأ، عرفت أن عجلة الحياة قد أكملت دورة كاملة الان . لأول مرة في حياتي أبصر مجموعة النسوة اللاتي في داخلي، وكأنهم باتوا قطعة واحدة لا تنفصل! فعندما ترتجف واحدة منهن من البرد في الخارج، يرتجفن جميعاً. عندما تُجرح إحداهن، تنزف الجميع. وعندما تمسي واحدة منهن مغتبطة وسعيدة ، سيغترف الجميع من سعادتها. أنا هي جميعهن بكل ما بهن من مناقبهن، وإيجابياتهن وسلبياتهن. 

 بعد عام ، انتهيتُ من كتابة روايتي: "قواعد العشق الأربعون"، وقد تصدرتْ قوائم الكتب الأفضل مبيعاً في تركيا. عدت لقبول طلبات المقابلات، وكتابة الأعمدة الصحفية، وحضور الفعاليات الأدبية كما كنت سابقاً. وبدأنا حياة جديدة في لندن، نقضي نصف العام هناك، والنصف الآخر في اسطنبول. 

اسمُ ابنتي هو شهرزاد زيلدا. الأسم الأول هو إسم أعظم راوية في تاريخ الشرق، والإسم الثاني من زيلدا فتزجيرالد. وبعد ثمانية عشر شهراً من ذلك، أنجبتُ ابننا أمير زاهر. الأسم الأول مأخوذ من تقاليد الشرق القديمة، والإسم الثاني من عنوان كتاب لباولو كويلو. في كل شيء كتبته وقمت به، كنت ولا أزال ملهمة بزيلدا وزاهر، وبجماليات الأمومة وصعوباتها. 

حملي الثاني كان سهلاً للغاية، ولم أقابل لورد بوتون ولا أي أحد من أقاربه. سمعت أنه تقدم في العمر وأصيب بالتهاب المفاصل. ربما سيتوقف قريباً عن التحرش بالأمهات الجديدات، مُفضلاً قضاء وقته في تلميع مصباحه.

                                         النهاية.
تفاعل :

تعليقات