القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: قواعد جارتين: عمرو عبدالحميد. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.




تلخيص رواية:
 قواعد جارتين  الجزء الاول : عمرو عبدالحميد. 
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.

لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجوشو ..الرابط  التالي https://www.youtube.com/channel/UChQ8cuMtdK57I-YRZ_qtHPg?view_as=subscriber

"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"





 : (كل رجل ينهار عند نقطة معينة).


 


 كانت هذه هي جملتي الأخيرة التي كتبتها بأوراقي قبل أن يُطلِق القطار صافرته ويعلو صخب حركته معلناً رحيلي عن بلدتي. إسمي فاضل أمين زيدان، طبيب بشري، تخرجت قبل ثلاث سنوات من الجامعة الجنوبية، شاب ريفي. أخبرني صديقي أن بلادنا تريد إرسال أطباء إلى إقليمٍ غربي بعيدٍ لم أسمع عنه من قبل يسمى بنو عيسى، ومع الضائقة المادية التي حلت بي، كانت تلك الوظيفة طوقي للنجاة وإن كان مؤقتاً. 
قدّمتُ أوراقي، وبالفعل تم قبولي، فلم يكن هناك متقدمون للوظيفة غيري. تزامن موعد وصولي إلى ذلك المكان الغريب مع منتصف الليل.. حاولت أن أتحدث إلى الجندي هناك فأشار إليّ كي أصمت. كان هناك صدى صوت بعيد لطبول تدق ومزامير يأتي من خلف الجبال على جانبي السكة الحديدية. 
غادرت القطار ولم أجد نفسي إلا وحيداً. أسندت ظهري إلى حقيبتي منتظراً طلوع النهار.. إلى أن قفزتُ من موضعي حين سمعت فجأة صوت محرك سيارة كانت تقترب مني بنورها الخافت وكأن صاحبها يعلم بوجودي. كان عجوزاً نحيفاً يلف رأسه بشال. أشار إليّ بيده كي أصعد إلى صندوق سيارته دون أن ينطق، لينطلق بي بعيداً عن سكة القطار. 
كان الطريق إلى بني عيسى أطول مما تخيلت. توقفت السيارة بالقرب من رقعة زراعية مع بزوغ النهار. أشار لي العجوز بالنزول، فنزلت مع حقيبتي، ثم انطلق سريعاً بسيارته مبتعداً عني. من النظرة الأولى أدركت صغر مساحة هذه البلدة. كان السكون يملأ أرجاءها. مشيت بين الشوارع فرأيت لافتة خشبية مكتوب عليها: مركز الرعاية الطبية. طرقت الباب عدة مرات. فُتح الباب.. وكانت هذه المرة الأولى التي ألتقي فيها صالح.. خادم عيادتي الطبية، صاح صالح مُرحِّباً بي بعد ما عرف من أكون. 

مرت أيامي الأولى هناك ولم يطرق بابنا أحد. ظننت في البداية أن السبب هو عدم علم أهل البلدة بقدومي، فأكثرت من تجوالي بشوارعها مع صالح الذي بات صديقي الأوحد في ذلك المكان. كانت تلك البلدة وادياً من وديان بني عيسى السبعة... الأقليم الأكبر. 

لم يدق بابنا مريض واحد بعد مرور ثمانية عشر يوماً حتى ظننت أن أهل تلك الوديان لا يمرضون، واجتاحني الشعور بالملل. فقررت الذهاب إلى حاكم البلدة. كان رجلاً سميناً ذا لحية.. فأخبرني قبل أن أتكلم أنه لم يعلم شيئاً عن قدومي، لذا لن يتحمل عني قرشاً واحداً، وإذا أردت مقابلاً لعملي فعليّ أن أجنيه من مرضاي. وقتها أدركت أنه لم يعد هناك وقت للإنتظار. عدت حانقاً وأخبرت صالح بأنني سأغادر. وقفت عند مدخل البلدة في انتظار من يقلني إلى محطة القطارات، ولكن لم أجد من يقلني إلى سكة القطار. وقتها أدركت أنني علقت في ذلك المكان إلى الأبد. قررت أن أعود إلى صالح.. ثم رأيته يركض نحوي..ولما وصل إليّ قال: هناك مريضة تبحث عنك. 

 كانت المريضة شابة جميلة فقالت لي: أعتذر أنني تأخرت كل هذا الوقت. ثم أكملت وهي تخرج كيساً قماشياً يحتوي عملات معدنية: أنا من طلبت مجيئك إلى بني عيسى. أيكفي هذا الذهب مقابلاً لك؟ إسمي ديما... أو ديما الغجرية...جئت إليك من وادي الغجر حيث أعيش، ثم أشارت ديما إلى بطنها وقالت: أنا حبلى وأريدك أن تفحصه. استلقتْ ديما على السرير وفحصتها، ولكن كما توقعت، كان قلب الجنين متوقفاً تماماً فقلت لها: إنه جنين ميت. فقالت: إنه ليس ميتاً، ولكن لم تدب الحياة فيه بعد، ولذا أريد مساعدتك. أريدك أن تأتي معي إلى جارتين. 




غفران... كان صياح الأطفال لبعضهم البعض في الزقاق صاخباً للغاية ذلك الصباح. ما كان يدهشني حقاً، هي الطريقة التي يتسلل بها أخي زين ذو السبع سنوات من فراشه ليلحق بالأطفال كل صباح، ثم يصيح عليّ لأكافئه بالحلوى إن أحرز هدفاً. كانت أمي تفعل الشيء ذاته قبل رحيلها منذ عام. كان صياح الأطفال اليوم أكثر حماساً، لا بد وأن زين أخبرهم أن اليوم يحمل حدثين خاصين لي... الأول أنني بلغت عامي الرابع والعشرين... والثاني أن السيدة سامرية ستأتي إلى منزلنا لتأخذ مقاسات فستان زفافي... سيُعلن زواجي في باحة جويدا أمام أهل جارتين نهاية هذا الشهر. جويدا هي مدينتنا التي نسكن بها، أرقى مدن جارتين الأربعة عشر. أخبرتني أمي وهي تمسد شعري ذات مرة، أن تاريخنا ينقسم إلى ما قبل جدار جارتين وما بعده... وأننا ندين لذلك الجدار بحياتنا حيث يحجز من ماء البحر الثائر خلفه ما يكفي لهلاك جارتين كلها في ساعات قليلة، ثم أرتني وقتها لوحة مرسومة في أحد الكتب عنه... كانت لوحة للنقوش التي دونت على قواعده (قواعد الجدار الحاجز)... نقوش قوانين بلادنا، أو ما يُعرف بإسم "قواعد جارتين". لم أكن أدرك وقتها أن أمي ستخضَعُ للقاعدة الأولى من قواعد جارتين التي تقول: إن جارتين لم تنسَ أبداً ما فعله العجزة بحضارتها... لذا لا يعيش على أرضها من يعبر عامه الخمسين. حيث أنه عندما تولى العجزة مقاليد الحكم بجارتين لثلاثة قرون انهارت الحضارة بأكملها. 

قالت لي مريضتي ديما الغجرية بخجل: إن جنيني ليس شرعياً. وكما أخبرتك، أنا أعيش بوادي الغجر، لكني لا أنتمي إليهم... كان حبيبي أحدهم فحسب، ولكنه مات قبل أن نتم زواجنا وترك بأحشائي هذا الجنين... أنا أنتمي إلى جارتين. فقلت: إذاً أنتِ جارتينية؟ قالت: لا... إنني من نسالى جارتين. والنسالى هم حاملو العار في جارتين. والقاعدة الثانية من قواعد جارتين هي: يُلحقُ العار بالروح المذنبة للأبد... فلا يولد جنين حي خارج جارتين... فأجنة نساء جارتين بلا روح... فإذا كان الحمل غير شرعي، وأرادت حاملته له النجاة، فلا بد أن تتجه حاملته إلى باحة جويدا يوم الغفران... يُقام يوم الغفران نهاية كل شهر... حيث يعدم هناك من أقر القضاة إعدامهم... ليس لأجنة الزنا فرصة للنجاة إلا أرواح أولئك المذنبين... وهكذا ينجو الجنين، وتحمل روح المعدوم العار بجسد نتج عن الخطيئة. وأن لم يكن هناك إعدام خلال أربعة أشهر، يولد الجنين ميتاً. أريدك أن ترافقني لأني مريضة بالصرع وأفقد وعيي كثيراً، فأريدك أن ترعاني أنا وطفلي، سأضاعف لك أجرك من الذهب... سأجعلك تعود إلى بلدك ثرياً إن وافقت... سأعود إليك بعد يومين أيها الطبيب، وأتمنى أن أجد موافقتك. 

غفران... كنت أرتدي ثيابي الداخلية حين بدأت السيدة سامرية في أخذ مقاسات جسدي وتدوينها في أوراقها. تذكرت يوم الغفران، كانت أمي تقول إنها أسمتني غفران تيمناً بذلك اليوم، حيث تدب الحياة في أجنة النسالى، والنسالى هم من ألحقوا العار بجارتين. على مر القرون صارت أعداد النسالى بالآلاف... فإذا أعدم أحد الشرفاء، فقد تصبح روحه من النسالى، إن حصدتها أم أحدهم، أما أن يصير أحد النسالى من الشرفاء فذلك لم يحدث قط، رغم أن هناك قاعدة من قواعد جارتين تقول: إن تزوج نسليّ من شريفة جارتينية يصير أولادهم شرفاء... ولكن من تلك التي ترضى بالزواج من نسلي وخاصة أن هناك قاعدة أخرى توصي بتحول أولادها لنسالى إن ارتكب أبوهم جريمة أخرى قبل وفاته في عامه الخمسين. لم تُخلق امرأة في جارتين تستطيع أن تثق برجل لا يخطيء على مر خمسين عام... خاصة أنه مؤهل لذلك... أيُّ امرأة شريفة تجعل أولادها عُرضة للعار في أي وقت من الأوقات ؟! 

كنت أحب المدرسة وأتحمس للذهاب إليها للقاء صديقي الأسمر نديم... حيث كان يقف أمام باب المدرسة... فكان قلبي يرقص فرحاً كلما مرت دقيقة واقتربنا من موعد الإنصراف. وقتها بدأتْ قصة حبي لنديم. سألت أمي مرة: هل سترحلان أنت وأبي وتتركاني وحيدة ؟ فقالت أمي: من قال ذلك؟ قلت: سيبلغ أبي الخمسين من عمره بعد ثمانية أعوام، وستلحقين به بعدها بعام. فانتبهت أمي إلى مقصدي، وقالت: لا عليك أن تفكري بهذا الأمر... إنها القواعد يا غفران... ولكن سأحرص أنا ووالدك على إنجاب ما يكفي من أطفال قبل موعد رحيلنا. إن أرواحنا جارتينية، وبالتالي عليها الإكتفاء بخمسين عام فقط. سألتها: كيف ستموتون؟ قالت: إن لم يهزمنا المرض قبل الخمسين سنتوجه إلى وادي حوران، وهناك سيجد رجال الدين طريقة غير مؤلمة لحصاد أرواحنا. قلت: وماذا لو لم تذهبوا إلى هناك؟ قالت: سنعدم على منصة إعدام جويدا. قلت : وماذا لو رحلنا عن جارتين؟ قالت: وقتها ستنقطع الروح عن نسل عائلتنا للأبد... وسيصيب العار العائلة بأكملها. 

 على نحو أربعة أشهر لم يمر يوم دراسي دون أن نكتب أنا ونديم إلى بعضنا البعض... وصرت أكره أيام الإجازات. أربعة أشهر لم نتحدث فيها وجهاً لوجه مرة واحدة، بل نكتب فقط. وعندما اقتربت الإجازة الموسمية للمدرسة كتبت لنديم كي نلتقي في يوم الغفران، فوافق على ذلك. 

 كان الزحام شديداً في يوم الغفران كعادته... ألوف من السكان، فتيات وفتيان يسيرون محتشدين... لا أحد يفوّت أيام عيدنا. وقفت أنتظر نديم، ثم سمعت صوته للمرة الأولى يناديني: غفران. التفتُّ نحو الصوت واتجهت نحوه. وقفنا صامتين لهنيهة. كانت المرة الأولى في حياتي التي ألتقي فيها شاباً وأحدثه وجهاً لوجه. أمسك نديم بيدي، وبدأنا نشق الحشود سوية إلى وسط الباحة... كان المكان الأنسب لنا... بعيداً عن مقدمة الباحة المكان الذي يفضله أبي. وقفنا ننظر إلى الساحة. بدأ كبير القضاة بالصعود إلى المنصة، فقلت: أريد أن ألتحق بالمدرسة العليا لدار القضاء وأصبح قاضية ذات يوم. فابتسم وقال: ستصبحين أشهر امرأة في جارتين إذاً. فقلت له: وما حلمك؟ فقال: لا أعلم... لم أمتلك حلماً بعد. مهلاً، مهلاً، لدي حلم... ولكن سأخبرك به لاحقاً. وفي نهاية الحفل، قبلني على خدي وقال: سنلتقي يوم الغفران القادم مثلما التقينا اليوم. إجازة مدرسية سعيدة!! 

وبعد شهر، التقينا في يوم الغفران التالي. غادرنا الحفل وسرنا عبر المرج الشرقي الذي يفصل الباحة عن النهر الجاف... وهناك هب نسيم منعش مُحمل برائحة زهوره البرية. سألته: ماذا يعمل والدك؟ فقال: لقد مات منذ أعوام .. قلت: بسبب القاعدة الأولى ؟ فقال: نعم!. ومع بدء الدراسة، عدنا إلى لقاء الأعين ومحادثاتنا المكتوبة مجدداً... لم يعد حديثنا المكتوب مقتصراً على مغازلاته لي فحسب، بل توسع لنتحدث عن مدن جارتين الأخرى، وأيام الغفران التي صارت بمثابة المكافأة الشهرية التي تنتظر كلينا نهاية كل شهر. وأثناء يوم الغفران الحادي عشر لذلك العام، وفي الطريق إلى الباحة كان لساني ينطق بيني وبين نفسي: "أحبك". ذهبنا إلى مكاننا المعتاد على ضفة النهر الجاف. وهناك قال لي: سأرحل في نهاية الأسبوع القادم. فقلت وأنا بالكاد أتمالك نفسي: لماذا ؟ فقال: سأرحل فحسب... لن يفيدك معرفة السبب في شيء. فقلت: لم يعد قرار الرحيل قرارك وحدك. فسكت برهة، ثم وقال: سأتم عامي السادس عشر نهاية الأسبوع القادم... ولقد وجبت علي القواعد. فقلت: أي قواعد؟ حينها سكت لحظة، ثم قال: قواعد جارتين. ثم فك أزرار قميصه ليكشف صدره... كان ثمة وشم أزرق على جانبه الأيسر فوق القلب مباشرة... لم يكن إلا وشم النسالى. 

فاضل... كانت السماء صافية على غير العادة في هذا الوقت من فصل الشتاء عندما شرعتُ في حزم أمتعتي لمرافقة ديما - المريضة الوحيدة التي زارتني قبل أسبوع – في رحلتها إلى بلدها جارتين التي ستستغرق شهراً كاملاً. كان في انتظاري سائق العربة، رجل ثلاثيني غليظ الوجه. ركبت معه وكانت ديما تنتظرنا على مشارف وادي الغجر فركبتْ معنا وبدأنا طريقنا إلى جارتين. واصلنا رحلتنا مع طلوع النهار، وفي أيامنا التالية بدأ حديثنا يكثر... فتحدثتُ إلى ديما عن حياتي في بلادي، بلاد النهر القديم... تعجبتْ عندما أخبرتها أنني لم أجد فرصة للعمل كطبيب في بلادي، وأخبرتني أنها من أرسلت أحد أتباع حبيبها بكيس من الذهب إلى من اختارني لآتي إلى بني عيسى، وبالطبع لم تكن تقصدني أنا بالذات... ولكن القدر اختارني، كانت تريد طبيباً من بلادنا فحسب. مرت الأيام التالية متشابهة نتحرك نهاراً... نتحدث عن أي شيء، ونتوقف ليلاً لننال قسطاً من النوم حتى طلوع فجر اليوم الجديد. 

غفران... كانت اللحظة التي كشف بها نديم عن وشمه هي المعنى الحرفي لتوقف الزمن... سكنت الحشائش من حولي عن حركتها فجأة، واختفى طنين الحشرات المحلقة فوقها... واختنق صدري وكأن الهواء قد انقطع عن محيطنا. ولم أدر بنفسي إلا وأنا أستدير وأركض مبتعدة في فزع. كان قلبي يدق بسرعة، بينما تعصف بعقلي كلمة واحدة: نسلي !! 

 مرت ساعات أربع قبل أن أنهض عن فراشي، وأتجه إلى غرفة أمي. قلت لها: إنني أحب نسلياً !! فوثبت من موضعها، وقالت: كيف؟ كيف حدث ذلك؟ فانسابت الدموع من عيني، وارتميتُ في حضنها وأنا أنشج بقوة... فربتت على ظهري. أخبرتها بقصتي مع نديم. قالت: النسالى خائنون... كاذبون... أنانيون... كان يعلم أنكِ شريفة، ومع ذلك واصل غوايته لكِ كي يعلق قلبك به، إنه شيطان. فهززت رأسي بابتسامة حزينة، ثم نمت بجانبها. كانت أحلامي تضج بجملة واحدة: النسالى خائنون! 
لم أذهب إلى المدرسة في الأيام التالية... وحاولتْ أمي أن تشغل وقتي بكل شيء متاح. كانت نفسي تحدثني دوماً أن هناك شيئاً بنديم يختلف عن النسالى... يكفي أنه متعلم ولم أر منه أي سوء... لكن عادت نفسي تقول: روحه آثمة!! ولكني لم أستطع أن أبعده عن خيالي لحظة واحدة، حتى أحلامي صارت كلها عنه. كانت الإجازة أصعب أيام حياتي. لم تستطع أيٌّ من العروض الترفيهية أن تزيح عن عقلي ذلك الفراغ الذي كنت أشعر به. كنت أفتقده، أفتقد أيام الغفران معه، وأفتقد كتاباته. واشتعل الأمر بداخلي أكثر عندما صادفتُ القاعدة التي تجيز زواج النسالى من شريفات جارتين. ابتسمتُ وانفرجت أساريري... وتوجهت إلى غرفتي يدق قلبي بفرحة كنت أظن أنها لن تأتي مرة أخرى. إنني أحبه... وإن كان الحب فعلاً لا قولاً، كان عليّ أن أطالبه بالبقاء، وأكون سبيله للتخلص من عاره الذي لاحقه لسنوات عمره. وفجأة دقت أمي علي باب الغرفة وقالت: لقد ظهرت نتائج الإمتحانات. لقد تم اختيارك للإلتحاق بالمدرسة العليا لضباط الأمن. 

ذهبت في نهاية الشهر إلى يوم الغفران. استأذنت من والديّ للمغادرة فسمحا لي. ذهبت إلى المرج واتجهت نحو النهر الجاف. شعرت بأقدام تدوس العشب من خلفي، ولولا أن تماسكت لكنت سقطت من على حافة المنحدر بعدما وجدته يقف خلفي. كان عاري الصدر، يكشف عن وشمه كما تنص القواعد بأن يكشف النسلي عن وشمه بعد عبوره السادسة عشر طالما تواجد بالمدينة. يكشف الذكر صدره وتكشف الأنثى كتفها الأيسر. وكأن كل الكلمات تطايرت من لساني، وقفتُ صامتة أمامه لا أنبس ببنت شفة. كان ذلك الشعور الذي طالما أحببته قد بدأ يسري في جسدي بعد زوال ارتباك المفاجأة... فرحة وبهجة. قال: هل تقبلين بالزواج مني إن وصلت عامي الخامس والعشرين دون جريمة ؟ حيث تسمح لي القواعد بالزواج؟ فقلت: هل تعدني أن تظل نقياً حتى بلوغك ذلك العمر؟... ثم بقائك معي نقياً حتى يحين موعد رحليك؟ فقال: نعم... سأفعلها من أجلك! أعدك. 

 لم أخبر أمي شيئاً عن نديم. منذ تلك اللحظة صار هذا الوعد شيئاً يخصنا نحن الإثنين. لن يخرج عن داخلي حتى يوم الغفران بعد تسع سنوات... وقتها سأعلن أمام هؤلاء البشر... أن ذلك الفتى الذي أحببته وأحبني صار شريفاً مثلهم يتمتع بحقوق أهل جارتين كاملة عما فعله من أجلي طوال تلك السنوات. 

ما زلت أتذكر اليوم الأول لي في مدرسة الضباط. ودّعني أبي ووعدني أنه سيأتي ليصحبني في إجازتي بعد ستة أشهر، فودّعته وسِرْت بفستاني تجاه البوابة. كان قلبي يدق بقوة وكأنني قد عبرت إلى منطقة أخرى من حياتي.. كانت الأيام طويلة للغاية. كان الأمر أشبه بالكابوس الذي ولجت إليه وعلقت به. كانت التدريبات اليومية عناءاً حقيقياً لا بد منه. يوم بعد يوم... أيام تمر، أسابيع، أشهر. إلى أن حلّت أجازتنا الأولى بعد ستة أشهر. أسبوعان من الحياة القديمة مجدداً، كنت أظن أنني لن أدركها أبداً. 

كنت أظن أن الكون بالخارج قد تغير، لكنني وجدته كما هو... البيوت نفسها، الناس نفسهم، كأنني تركتهم يوماً واحداً فقط، لم يتغير إلا أنا. كان يوم أجازتي هو يوم الغفران. ذهبت أنا وأمي لمشاهدة مراسم الإحتفال بيوم الغفران. لم أتمكن من الإبتعاد عنها. وفجأة صاحت إحدى النساء بأن كيس نقودها قد ضاع. حدثت حالة من الهرج والمرج أدى إلى انفصالي عن أمي. وجدت يداً صغيرة تجذب سترتي، كان طفلاً صغيراً مترب الوجه، أشار بيده تجاه الشرق... فأدركت أن نديم ينتظر هناك، فانسللت من بين الجمهور ناحية الشرق حيث كان نديم ينتظرني. قلت له: ظللت أبحث عنك... حتى حدثت حالة الهرج والمرج بعد سرقة إحداهن. فقال باسماً: لم يُسرق أحد... إن ريان وأخته الكبرى من دبروا كل شيء. فقلت: من ريان؟ فقال الطفل الذي جاء بك إلى هنا، إنه أحد تلاميذي، وأخته ديما هي من صرخت لإحداث تلك الجلبة. حينها ابتسمت، ثم جلسنا في مكاننا المعهود، وبدأت أحدثه عن أشهري الماضية، وبدوره أخبرني أنه لديه ستة عشر تلميذاً يقوم بتعليمهم، بينهم ريان. ثم ودعته. 

 في الأشهر التالية بمدرسة الضباط صار الأمر ممتعاً إلى حد ما بعدما بدأنا تدريبات الأسلحة النارية والفروسية واللتين وجدتُ نفسي بهما. وحصلت على لقب أفضل رامية في المدرسة.

 ريان... إسمي ريان... نسليّ يعيش بالوادي ذاته الذي كان يعيش به السيد نديم... التحقت بالتعليم على يده في عمر الثامنة، ومن بعدي صار العدد يزداد شيئاً فشيئاً. كنت أقرب الطلاب إليه، واستأمنني على سر علاقته بالسيدة غفران. نحن النسالى، الطبقة المنبوذة في المجتمع، وسنظل نسالى. وبرغم صغر سني، إلا أن داخلي شيء كان يرفض العيش دون كرامة. وبدأتْ كراهيتي لأهل جارتين تزداد في قلبي. 




غفران... أصابت الفرحة العارمة زميلات صفي عندما نلت لقب "رامي المنصة"، وغمرنني بوابل من المباركات والتهاني. في اليوم التالي كان موعد أجازتنا الموسمية... أربعة عشر يوماً، حضرتُ بها يوم الغفران، وتمكنت من ملاقاة نديم بسهولة. لا أتذكر أنني تحدثت إليه كثيراً، كنت شاردة للغاية. وبعد الأجازة، بدأ عامي الثاني في المدرسة، ومعه تغير شيئان... الأول أن أمي صارت حبلى بأخي زين، والثاني أنني أصبحت الأكثر شهرة بين طلاب المدرسة. 
بعد أربع سنوات أنهيت دراستي. أربع سنوات لم يُخلْ فيها نديم بوعده الذي قطعه لي، وظل على قيد الحياة يعلّم أبناء النسالى. صرت أقف على المنصة في يوم الغفران. ويوم غفران وراء آخر، بدأت يدي تعتاد على إطلاق النار على النسالى فوق المنصة... إعدام وراء آخر. كانوا مجرمين يستحقون القتل، وجاء دوري لأحقق عدالة جارتين. وجاء اليوم الذي صرت فيه الفتاة التي يخشاها أهل جويدا... وهذا ما أسعد داخلي للغاية. 

مات والدي قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، وكثر الخطّاب ولكني رفضتهم جميعاً مما أدى إلى المشاحنات بيني وبين أمي، فأخبرتها بأني لن أتزوج سوى النسلي نديم، فقالت: لن يحدث. وصرت أقابل نديم علناً أمام الناس... ويوماً بعد يوم انتشر خبر مقابلاتي مع نديم بين أهل جويدا، ولُقّب نديم بالنسلي الذي يواعد السيدة غفران... رامي المنصة... وسمعت الكثير من القصص التي تناقلت بشأننا. ولكن لا توجد أي قاعدة تمنع أن يقابل نسلي شريفة... فألقيت بهرائهم وراء ظهري، لأكمل وعدي الذي وعدت نديم به قبل سنوات بأنني سأواصل معه طريقه نحو عامه الخامس والعشرين، لأزيل وقتها وشمه بخنجري على منصة باحتنا المفضلة. 

-ريان... عام وراء عام صار السيد نديم هو حلم النسالى. ومع الوقت صار حلمي أنا الآخر أن أصير شريفاً يوماً ما لا مجرماً يموت أمام أهل جارتين. ها هي السنوات تواصل مرورها، وعبَر سيدي عامه الرابع والعشرين، وبات حلمنا جميعاً على وشك التحقق. ومع اليوم الأول في عامه الرابع والعشرين كانت روحه النسلية تهتاج. كان عمري آنذاك ستة عشر عاماً، ووجدت سيدي يأتي إلى كوخي، ويطلب مني أن أقيده، ففعلت. حينها رأيت سيدي يزأر ويصرخ وانتفخت عروق جسده بصورة مرعبة، لكنه انهار بعد فترة من الوقت. قال لي: هناك شيء ما يتحرك بداخلي. كنت أشفق عليه فقلت: ستعبر هذا العام!! 

غفران... ما كنت أخشاه قد حدث. حين بلغتُ عامي الثالث والعشرين وبلغ نديم عامه الرابع والعشرين، كانت أمي قد وصلت عامها الخمسين. أيقظتنا ذلك الصباح طرقات على بابنا. حضر ضابطان إلى بيتنا ليأخذوا أمي، لم يعترض أي منا إلا بدموعنا التي سالت على وجوهنا، فلا استثناءات في هذه القاعدة. غادرت أمي مع الضابطين وبقيت أنا وزين في بيتنا. بعد موت أمي، انتقلت مع أخي إلى بيت جديد لبدء حياة جديدة. تركته يعيش كطفل ولم أعلمه القواعد كما تعلمتها في صغري. اليوم كانت سعادة الأطفال بي مضاعفة فلقد بلغت عامي الرابع والعشرين، والسيدة سامرية ستأتي لتأخذ مقاسات جسدي بعدما اتفقت مع نديم بأن يقام زواجنا في باحة جويدا بيوم الغفران نهاية هذا الشهر. قالت السيدة سامرية وهي تنظر إلى جسدي: من يرى هذه الأنوثة لا يصدق أبداً أنكِ الفتاة ذاتها التي نراها في باحة جويدا. فقلت: لست شريرة... إنه عملي.
 كنت في انتظار يوم الغفران بفارغ الصبر. لا أعلم لماذا صارت الأيام بطيئة إلى هذا الحد. لقد انتظرت يوم الغفران هذا منذ تسع سنوات.. ولكن فجأة جاء لي الطفل ريان. كان مضطرباً وقال: لقد اعتقل سيدي للتو! فقلت: ماذا ؟ فقال: كان سيدي يعاني منذ سنوات. كانت روحه النسلية تثور كل ليلة، وكان ينهك جسده من أجل إخمادها. ومنذ عبوره عمر الرابعة والعشرين صار الأمر أصعب... ولم يكن أمامنا إلا تقييده بحبال لتهدأ روحه. كان لديه من الأمل ما يجعله يسعى للعبور إلى يوم الزواج، ولكنه لم يستطع. قالت لي فتاة إنه كاد يقتل امرأة شريفة، يقترب عمرها من الخمسين ولكن الضباط أمسكوا به قبل أن يقتلها...
 وضعت رأسي بين ذراعي، لقد ضاع كل شيء في ثوان... صرت كالبناء الشاهق الذي انهار في ثانية واحدة. بكيت هذه المرة أكثر من أي مرة بكيت بها في حياتي. صارت الأيام الثقيلة تركض فجأة، ولم أغادر غرفتي إلا لتحضير الطعام لأخي زين. ينقبض قلبي كلما اقترب يوم الغفران. ومع سرعة الأيام الرهيبة التي فاقت إدراكي، حل صباح يوم الغفران... كنت أعلم أن خبر زواجي قد انتشر، ولكن لا أحد يعلم أن كل شيء قد انتهى. جلست أنظر إلى الأرض، ثم رفعت عيني إلى فستان الزفاف والخنجر أمامي، واتخذت قراري الذي اطمأن إليه داخلي. 
كانت الباحة ممتلئة عن آخرها ذلك النهار. كنت أريد مزيداً من الوقت كي أتمالك نفسي. حينها جر الضباط المذنب الأول إلى الباحة فظهر رأس نديم، فوقفت في مكاني أخشى أن ألتفت إليه... ثم صدر أمر القاضي إليّ بإطلاق الرصاص. كانت عينا نديم تقول: أنقذيني. فسقط السلاح من يدي. اقتربت منه، فقال ودموعه تتساقط: حاولت كثيراً، أقسم أنني حاولت كثيراً من أجلك... أعطيني فرصة واحدة أخرى فحسب. فقلت: من يخون مرة... يخون كل مرة. ثم أخرجت خنجري وبضربة واحدة حاسمة شققت عنقه لتتناثر دماؤه عليّ وعلى أرض المنصة. نظرت إلى القاضي، ثم ألقيت بالخنجر وبسترتي العسكرية بجانب سلاحي، قبل أن أهبط من المنصة. سرت هائمة بين المحتشدين، وابتعدت عن المنصة. ثم أفقت من شرودي لأدرك أنه لم تطلق أي زغرودة بعد مقتل نديم، فتساقطتْ دموعي على وجهي، ثم أكملت طريقي لأغادر الباحة إلى الأبد. 





فاضل... لم يختلف الحال كثيراً في أيامنا ببحر "أكما" عن أيامنا العشر التي قضيناها بطريقنا في صحراء بني عيسى. تحركتْ بنا السفينة نحو الجنوب. وفي اليوم التاسع عشر ظهر أمام عيني جدار جارتين العظيم، كان جداراً رهيباً ظللنا نسير بمحاذاته يوماً كاملاً وبضعة ساعات... حتى وصلنا مع غروب شمس اليوم العشرين إلى قرية صغيرة، فقامت ديما بتمزيق كم فستانها الأيسر ليظهر وشمٌ أزرق منقوش على كتفها، أدركتُ أنه وشم النسالى. 

وصلنا في يوم الغفران إلى جارتين، ووقفنا في باحة جويدا بين الحشود. سمعت امرأة بجانبي تقول: إنها هي... السيدة غفران! تمنيت داخل نفسي لو أمتلك الثقة التي بدت على وجه تلك السيدة. ثم جر جنديان رجلاً مكبلاً مغطى الرأس، فسمعت رجلاً يصيح: إنه هو... عريسها النسلي!! فبلغت الهمهمات أقصاها، وفجأة تفاجأ الناس بالسيدة غفران تلقي بسلاحها، ثم أخرجت خنجراً أو سكيناً وتشق رقبته... ثم استدرات بهدوء، وألقت بثوبها العسكري وخنجرها بجانب السلاح، وهبطت من المنصة لتختفي عن أعيننا. التفت حولي فلم أجد ديما إلى جانبي، فبدأت أمشي بين الناس أنادي عليها، فاصطدمت بالسيدة غفران، فمددت يدي لها، وساعدتها على النهوض. نهضتْ وأكملتْ طريقها مبتعدة. وأخيراً وجدت ديما التي همست لي بصوت متعب للغاية: لقد شعرت به في بطني، لقد تحرك جنيني. 
أخرجتُ سماعتي الطبية على الفور، وسمعت نبضات قلبية، كانت هذه النبضات للجنين فعلاً. غادرنا بعد ذلك الباحة، فقالت ديما: سنغادر جارتين مع أول سفينة متجهة إلى الشمال، أي تقريباً بعد أسبوع. ثم تابعتْ: لا أريدك أن تخبر أحداً أن جنيني قد نال روح ذلك المعدوم... فذلك المعدوم يحبه الكثيرون... وإن علموا أن طفلي يمتلك روحه لن يتركونني أرحل لأبيعه... دعهم يظنون أن روحه ارتاحت للأبد. 
قالت ديما: سنقضي الأسبوع في وادي النسالى إلى أن يحين موعد رحيلنا. دلفنا إلى بيت ديما فرأينا أخيها ريان الذي قال: لقد أعدموا سيدي اليوم. لم يعش كالنسالى، ومات مثلهم. لقد قتلته عروسه. إني متيقن أنهم استفزوه كي يخطيء. أخبرْتُه كي يبقى بالوادي ولا يرحل قبل يوم الزواج. لم يكن ليسمحوا له أن يتزوج شريفة بهذه السهولة، كان إثمه أنه نشأ حالماً... ليس للحالمين مأوى غير السجن أو الجنون. 

غادرت الكوخ كي أتمشى قليلاً، تذكرت ريان عندما قال إنهم قد دفنوا جثمان سيده بجانب أشجار الوادي، فاتجهتُ إلى منطقة أشجار الوادي، ولما اقتربت رأيت سيدة تجلس من بعيد، ظننتها السيدة التي قَتلت نديم، ولكنها كانت سيدة أخرى تقترب من الخمسين عاماً. كانت عيناها دامعتين، وحين اقتربتُ منها غادرتْ مهرولة إلى عربة صغيرة كانت تتوارى خلف شجرتين، وأسرعتْ بحصانها مبتعدة عني وعن مقابر النسالى. 

غفران... كما كان متوقعاً، صدر قرار بتوقيفي عن العمل كرامٍ للمنصة بعد مخالفتي قواعد الإعدام واستخدامي الخنجر بدلا من السلاح الناري. لم أغادر بيتنا بعد ذلك اليوم، ولازمتني الكوابيس كل دقيقة أنامها. صرت أنام من التعب في أي وقت، صار النهار كالليل وصار الليل كالنهار، فتاةٌ تحتضر بين أربعة جدران، وتنتظر أن تغادرها روحها في لحظة قريبة. 
ثلاثة أشهر ولا جديد عن تلك الحالة، لم يكن لديّ أي طاقة للمقاومة... تركت نفسي للسقوط والإنهيار. ثلاثة أشهر لم يُدقُّ بابنا، ولما أتت الدقات رأيتها أمامي... السيدة بيان... معلمتي بالمدرسة المتوسطة، لم أكن قد رأيتها منذ عشر سنوات. رحّبت بها، فقالت لي: جئت إليك لأخبرك بأمر ما. سأعبر عامي الخمسين بعد بضعة أيام، ولقد أخطأت في حقك... وأريد أن أذهب إلى وادي حوران بروح نقية. فسألتها: حقي أنا ؟ فقالت: لستِ الوحيدة التي أحبتْ نسلياً، لقد أحببتُ نسلياً أنا الأخرى قبل سنوات طويلة. لمحتك في المدرسة الثانوية تكتبين لنديم على سطح التختة الخشبية كما كنت أفعل... فعادت إليّ الروح مجدداً... ظللت خمسة عشر عاماً أنتظر أن تأتي الفرصة لأعرف النسلي الذي حصد روح من أحبه... بعدها اتجهت إلى مدرسة الفتيان لأعرف من هو... وكل الدلائل قالت لي إنه هو نديم... فكان يكتب لك بالطريقة ذاتها التي كتب لي النسلي الذي أحببته... ووفق بياناته في المدرسة فلقد ولد نديم في العام الذي أعدم فيه حبيبي. استوقفتُ نديم يوماً وحدثته بأمر عارض... ولكنه لم يعرف من أنا... حدثته صراحة عما حدث بيننا من قبل، فتركني ومضى بعيداً... قال إنه يحب فتاة إسمها غفران فحسب... ولكنني لم أنسَ حبه يوماً... وظل أملي بالعودة إليه قائماً... ولم يهز هذا الأمل سوى معرفتي بأمر زواجكما. فجاءتني فكرة أنانية، فأنت تعلمين أن الشريف منا إذا انتحر قبل بلوغه الخمسين تنتقل روحه إلى أطفال النسالى عقوبة له، فجال بخاطري أني لو أنهيت حياتي متعمدة في الوقت الذي يعدم فيه نديم لعل أرواحنا تجد أجساداً تتلاقى مستقبلاً... لا أعرف أين كان عقلي. أرسلت أحدهم إلى وادي النسالى ليخبر نديم بأنكِ في انتظاره... قابلته وحدثته مرة أخرى عن حياتي مع صاحب روحه... سألني أن أبتعد عنه، صرخت به...أهنته... كان يريد الرحيل فقط، ثم فوجئت به ينتفض... وأخذ في تحطيم ما حوله، ثم فقد وعيه... هنالك كانت الفرصة للإدّعاء أنه جاء لسرقتي والشروع في قتلي... جريمة كاملة الأركان. حينها قلت: نديم لم يرتكب أي جريمة ؟ فقالت بصوت هاديء: نعم. فقلت: ولماذا لم تنهِ حياتك في اليوم ذاته؟ فقالت: لقد أصابني الإضطراب وقتها، واجتاحني الخوف...خوف التحول إلى نسلية فهرولت بعيداً عن الباحة، أود أن أنهي حياتي كامرأة شريفة. قلت: شريفة؟ أي شرف فيما فعلته... أتدركين ماذا فعلت بمئات من النسالى كانوا يطمحون ليصيروا مثله؟ صرخت بها لتغادر فوراً. حينها قلت: كان بريئاً!! ففتحت باب البيت، وركضت بأقصى سرعة لي دون وعي، لتأخذني قدمي إلى هناك للمرة الأولى في حياتي... إلى وادي النسالى. وقفتُ على مشارف وادي النسالى، ثم تقدمت ببطء إلى داخل الوادي. خرجت بعض النساء وأطفالهم من جحورهم وعلى وجوههم ارتسمت ملامح الخوف والدهشة. وفجأة ارتطم برأسي حجر صغير قذفه أحدهم ليصيب حاجبي الأيسر، فسالت الدماء على وجهي، تقدمت مني امرأة وألقت عليّ قدراً من روث الماشية فأغرقتني بها، ثم أصابني حجر آخر، ففقدت وعيي. أفقت من إغمائتي لأجدني على سرير قشي داخل جدران كوخ. ما إن نهضت من السرير حتى فُتح باب الكوخ فدلف إليّ الفتى ريان، فقال: إنه كوخ سيدي نديم... جئت بك إلى هنا كي تستعيدي وعيك... ولكن عليك أن ترحلي الآن... لا نريد أن يُقدّم أحد إلى المنصة بسببك مجدداً. فقلت: لا أريد أن أعود إلى بيتي. فقال في نبرة حادة: ومكانك ليس هنا يا سيدتي... أتعلمين، قبل أن أراك اليوم تمنيت كل لحظة لو جاءتني الفرصة لأقتلك بما فعلته بسيدي... ولكن الآن ارحلي فحسب، دعينا وشأننا ويكفينا ما حدث. فقلت: هل لك أن تدعني هنا؟ فقال: لن يتركك أهل الوادي. ثم تركني وغادر الكوخ. 
استيقظت مع طلوع الشمس، كان نور النهار قد تسلل إلى داخل الكوخ. خرجت إلى كوخ ريان، قلت له: أعلم عن حلم النسالى كي يصبحوا مثل سيدهم نديم، أريدك أن تساعدني يا ريان لأكفّر عما فعلته بأن أحل محل نديم وأكمل تعليمهم... أريد أن أبقى بينكم وأكمل ما بدأه نديم، فقد يأتي الوقت الذي يتزوج به نسلي آخر من امرأة شريفة غيري. فقال: حسناً، إذهبي أنتِ إلى أكواخ النسالى وطالبي النساء بعودة أطفالهم إلى كوخ نديم، لن أتدخل بالأمر. فقلت: سأفعل ذلك، ولكني أريدك أن تجعل إحدى الفتيات اللاتي يذهبن إلى جويدا أن تحمل رسالة إلى إحدى جيراني هناك لتخبر إحدى قريبات أمي بأن تعتني بأخي زين في غيابي. فهز رأسه موافقاً. 





جلت في وادي النسالى وتحدثت مع امرأة نسلية قابلتني عن نيتي لاستكمال ما بدأه نديم، فتركتني ومضت... تحدثت مع أخرى ففعلت ما فعلته الأولى، وتحدثت مع كثيرات وكلهن فعلن الشيء ذاته، لم أجنِ إلا التجاهل أو الإهانة. لم أستطع إقناع امرأة واحدة، فعدت مع غروب الشمس إلى كوخ نديم الذي صار كوخي. وفي اليوم الثاني فعلت ما فعلته باليوم السابق، ولكن دون نتيجة. لم أكلّ في الذهاب إلى بيوت النسالى، ولم تكلّ النساء النسالى في صدي يوماً بعد يوم. وفي مساء يوم الغفران، سمعت الزغاريد تدوي بدون توقف مع سكون الليل. خرجت في اتجاه الزغاريد التي أخذت تختلط بالموسيقى. فوجئت بأن المشاعل والمصابيح قد اشتعلت وعلقت بالطرقات. فدخلت إلى المكان المضيء الذي تنبعث منه الموسيقى، فبدا أنه حانة كبيرة تتراص بها المقاعد الخشبية. نظر إليّ الجميع في تجهم. لمحت ريان بينهم. أدركت من الكلام أن الإحتفال للنساء النسالى اللواتي حصدن أرواح لأطفالهن صباح عيد الغفران. ظل الإحتفال ممتداً لساعات إلى أن دوت جلبة مفاجئة خارج الحانة، فاندفع الناس إلى الخارج، واندفعت معهم، وهناك وقفتْ فتاة نسلية يمسك بها رجل أمن أعرفه ومعه رجل شريف في الثلاثينيات. كانت الفتاة تصرخ بأنها لا تريد فعل ذلك. فسمعتُ امرأة إلى جانبي تقول: هذا ما جنته من تعليم نديم... إنها لا تريد أن تعيش عيشتنا... عليها أن ترضى بالواقع... سيمارس الرجل معها الرذيلة شاءت أم أبت. حينها وقفتُ أمام الرجل ولكمته على وجهه لكمة قوية. حدّق ضابط الأمن في وجهي وقال: السيدة غفران!! فقلت له: أغرب عن وجهي. فركبا عربتهما ثم غادرا. واصل الحاضرون تحديقهم بي دون أن ينطق أحدهم بكلمة. 
وفي الصباح، طُرق باب كوخي، ولما فتحته كاد قلبي يطير من الفرحة بعدما وجدت الفتاة التي أنقذتها بالأمس تقف أمامي وتمسك بكتاب قديم، ابتسمتْ لي وقالت: أرسلتني أمي لأكمل تعليمي على يديك سيدتي. 

ريان... كنت في طريقي إلى السيدة غفران أحمل طعامها اليومي الذي اعتدت أن أوفره لها، حتى توقفت أمام باب كوخها بعدما رأيتها تمسك بأحد أقلام سيدي، وتجلس أمامها الفتاة التي أنقذتها بالأمس. وبدا أمامي أنها تقوم بتعليمها كما كان السيد نديم يفعل معنا، فظللت أراقبها للحظات قبل أن أغادر. بعد أيام قليلة انضمت فتاة أخرى للتعليم. وبعد أسابيع صار عندها أحد عشر طالباً. لم تتوقف السيدة غفران يوماً عن إعطاء دروسها، ولم أتوقف عن الذهاب إليها. وبعد فترة أخبرتها أنني أريد الإنضمام إليها. صارت الشهور أعواماً، وصارت مدرسة السيدة غفران وجهة أطفال النسالى، ولقبت السيدة غفران بين الوديان بالسيدة. يوماً ما أخبرتني أنها تريد أن تزور أخيها. ذهبتُ معها وجلستْ قليلاً مع أخيها الذي كان قد بلغ عامه الثاني عشر، وعندما دلفتُ معها إلى مكتبتها قالت لي: سننقل كل هذه الكتب إلى الوادي. في اليوم التالي حملنا الكتب إلى الوادي ووزعتْها علينا. كانت الكتب تختص بتعلم حرف يدوية صغيرة. مع شهرنا الثاني، كانت قد صُنعت أول سجادة في وادي النسالى. وفي مساء ذلك اليوم جلسنا نحتفل بذلك الأمر. أخبرتنا السيدة غفران أن جارتين ستظل فخورة بنا. قال أحد الشبان: إن لم تمارس الفتيات الرذيلة، لن تحمل فتياتنا، وإن لم يحملن لن يذهبن إلى باحة جويدا، وهكذا لن يكون هناك مزيد من أطفال النسالى، هكذا سينتهي نسل النسالى. قالت غفران: نعم، سينتهي نسل النسالى... سينتهي النسل الناتج عن الرذيلة، ولكن سيبقى نسل شريف ناتج عن الزواج. 

بدأت الفتيات بالأعمال اليدوية وعرض ما يتمكنّ من صنعه للبيع في السوق الكبير في جويدا. ولكن لم تستطع الفتيات بيع أي شيء، بعدما رفض الإشراف التعامل معهن. ظللنا في خيبة أمل قبل أن ينطق شاب ويقول: نستطيع حمل بضائعنا إلى البلدان الأخرى. حينها خطرت ببالي أختي ديما فقلت لنفسي: لو كانت هنا لاستفسرت منها عن أشياء كثيرة بشأن البلدان الأخرى، غير أنها لم تعد منذ غادرت بحملها أيام موت سيدي قبل سنوات. 
يوماً بعد يوم دلف مدرستنا المزيد من النسالى من الوديان الأخرى. وصار معظم طلابنا قادرين على صنع أشياء كثيرة. وبدأ الأهتمام بالزراعة، فأصبح الإنتاج الزراعي يفيض عن حاجة وادينا. وبعد مرور أشهر قليلة، قلّت الإحتفالات بأيام الغفران، وكأننا بدأنا ندرك أنه لم يعد أمراً يُحتفل به، وأن حياةٌ لطفل ناتج عن الرذيلة لا تستحق منا كل تلك الفرحة، بل ما يستحق الحزن هي تلك الروح التي فُقدت بإعدام أحدنا، حتى صارت الإحتفالات بكل الأيام ما عدا يوم الغفران. 

حملت السفينة الأولى بضائعنا بعد عام ونصف على صنع السجادة الأولى في وادينا. ووزعت السيدة غفران المال على الفتيات والفتيان دون أن تترك قطعة معدنية لنفسها. وفي الأيام القليلة التالية قمنا ببناء بناءين؛ أحدهما مجاور لكوخ السيدة وشيدنا حوله سياجاً كبيراً، والآخر خلفه. الأمر الذي صار ملحوظاً أكثر أن إعدامات الباحة قد قلّت بصورة كبيرة. 
في يوم الغفران التالي، تجمعنا وكان عددنا يقدر بالعشرات فتياناً وفتيات وأطفالاً ونساء... تحركنا جميعاً إلى باحة جويدا حيث سيقام أول زواج نسلي بين الشاب حيدر وزوجته سبيل. تم الزواج، فأطلقت إحدى الفتيات زغرودة طويلة اندهش معها المحيطين، وارتسمت البهجة على وجوهنا ونحن ننظر إلى العروسين، وغمرنا العروسين بالتبريكات، ثم دوت الموسيقا فلم نجد أنفسنا إلا ونحن نتراقص ونضرب الأرض بأقدامنا. 
غفران... كان كل شيء يدور كما خططنا له حول زواج حيدر وسبيل. وبينما كنت أتلفت حولي جمدت حواسي حين لمحت طفلاً عمره لا يتجاوز الثمانية أعوام يتشبث بالمنصة بنفس الطريقة التي كان يتشبث بها نديم المنصة، حينها تسارعتْ أنفاسي. كانت المرة الأولى التي يشعر فيها جسدي بالبرودة إلى هذا الحد، فاندفعتُ تجاهه فهرب الطفل. رأيت ريان يتقدم نحوي فسألته: هل كنت بالباحة يوم إعدام نديم ؟ قال: نعم. فقلت: هل أطلقت أي نسلية زغرودة بعدها ؟ فقال: لا. كانت روح سيدي نقية، لم تذهب لأي طفل. فسألت: هل تعرف أين دفُن نديم؟ فقال: نعم، إنني قمت بدفنه. ثم قام بوصف موقع القبر. 

ذهبت إلى مقابر النسالى... كان قبر نديم الرابع بالصف الأول. جلست أمامه وقلت: أعلم أنني تأخرت كثيراً بالمجيء إلى هنا... أعلم أن روحك لم ينلها أحد، لكني تمنيت لو كان ذلك قد حدث، تمنيت لو جاءتني الفرصة لأكفّر بها عما حدث مني. إنني أموت كل يوم كلما تذكرت ما فعلته. حينها سمعت أصوات صرخات قادمة من ناحية الوادي... فهرعت باتجاه الوادي، فرأيت كوخي وبناء المدرسة ومخزن البضائع وبعضاً من الأكواخ الأخرى تلتهمهم النيران، فأدركتُ ساعتها أن جارتين لم تكن لتمرر زواج النسالى بتلك السهولة التي ظنناها أبداً. كان هناك العديد من الجرحى، فقلت: لن يرضى أي طبيب من الأشراف بالمجيء إلى هنا. فقال رجل غريب: أنا طبيب. حينها صرخ ريان: إنني أتذكرك... إنك الطبيب الذي رافق أختي في المرة الأخيرة التي جاءت بها إلى الوادي. 

فاضل... كان خطئاً جسيماً مني حين انصعتُ إلى كلام ديما، ووافقت على مغادرتنا جارتين وهي بالحالة السيئة من مرضها. ركبنا السفينة بعد أسبوع من يوم الغفران، وبمجرد أن تحركنا اشتد بها المرض، وصار معدل نوبات تشنجها في تزايد. وصلنا إلى عيادتي في بني عيسى، واستقبلني صالح بدهشة كبيرة، أخبرته أن ديما ستبقى بالعيادة إلى أن يحين موعد ولادتها بعد ثلاثة أشهر. 

ساءت حالة ديما مع الوقت. وفي صباح أحد الأيام وجدت صدرها قد توقف عن الهبوط والإرتفاع. حاولت سماع دقات قلبها، ولكن لم يكن هناك شيء سوى السكون، نزلت إلى بطنها، سمعت دقات قلب الجنين وكانت لا تزال تدق. كان الجنين لا يزال حياً ولكن ديما كانت قد ماتت. حينها شققت بطنها وأخرجت الجنين برفق، وانطلقتْ أولى صرخات الطفل الباكية ليلتقط معها الطفل أول أنفاسه بهذه الحياة. حينها قلت لصالح لن نخبر أحداً عن هذا الجنين، سنقول إن الفتاة ماتت قبل وضعها للجنين، فلا أريد أن يُباع هذا الطفل للغجر!! 

غفران... ساعدنا الطبيب الذي ظهر لنا فجأة في تضميد جروح بعض الحالات. تحدث إليه ريان وقال: لماذا عدت إلى هنا؟ هل حدث مكروه لديما ؟ فقال الطبيب في حزن: لقد ماتت ديما منذ سنوات طويلة... في العام الذي رحلنا به. كانت ترفض أن تجهض جنينها... وفارقت الحياة قبل أيام من موعد ولادتها. فقال ريان: لماذا لم ترِد التضحية بجنين ميت؟ فقال الطبيب: لم يكن ميتاً... لقد أخفت عنك ديما أنها في اليوم الذي أتت به إلى هنا قد حصدت روحاً لجنينها. لحظتها رفعتُ رأسي في ذهول، وحدّق به ريان كذلك، قبل أن يحرك عينه وينظر إليّ، وكأن عقولنا كانت تعصف بالشيء ذاته. لقد حصدت ديما روح السيد نديم لجنينها. وجاء إلينا هذا الطبيب ليخبرنا بأمر ذلك الطفل، إلا أنه فقده عند النزول إلى الشاطيء، وكان يأمل أن يجد الطفل طريقه إلينا. 

 دبر ريان للطبيب كوخاً للمبيت به، وكذلك فعل لي، لم نتحدث كثيراً، وآثرت أن نخلد إلى الراحة ليلتها. فأويت إلى فراشي وأنا أفكر بالطفل المفقود. قلت للطبيب في اليوم التالي: ظللنا لسنوات طويلة نعتقد أن روح نديم قد ارتاحت للأبد. فقال الطبيب: لو لم أكن هناك يوم الغفران لما صدقت أن الروح تنتقل من الأساس، لكني رأيت ذلك بعيني. فقلت: أنا الآن خائفة على الطفل، إن أمسك به أحد الجنود سيسجن رغم صغر سنه، وإن لم يثبت انتماؤه لعائلة شريفة خلال شهر سينال وشماً على صدره. حينها نظرت إلى ريان وقلت: تفحص الشوارع جيداً، ربما تجد ذلك الطفل نائماً بحد جوانبها. هزّ رأسه موافقاً. 




ذهبت إلى كوخي المؤقت، ولم أكد أغمض عيني حتى انتفضت من سريري حين سمعت صوت البارود المتتالي. نهضتُ من سريري، واتجهت مسرعة إلى الخارج. حينها وجدت ضباط وجنود جارتين ينتشرون بأسلحتهم أمام أكواخ النسالى. ثم قال الضابط: لا يكف النسالى عن ارتكاب الجرائم، احترقت مدرستكم والآن تسرقون مدرسة جويدا ؟ّ! ثم انهال الضابط بالضرب على جسد شاب، ثم أحضر الجندي شاباً نسلياً فقال الفتى وهو ينظر إليّ: إن هذه السيدة من أمرتنا بسرقة المدرسة! ثم وصل توتري إلى مداه حين رأيت أخي زين يظهر من وراء الجنود، قال الضابط: شهد ثلاثة من النسالى بأنك من دبرت أمر سرقة المدرسة، وبذلك ثبتت جريمتك. فقال الضابط : لقد تم سحب صفة الشرف منكِ، مع إبقائها لأخيك بعدما تبرأ من قرابتك رسمياً أمام دار القضاء. من الآن لن يسمح لك مغادرة الوادي إلى جويدا إلا للعمل في بيوت الرذيلة، أو إلى الباحة أيام الغفران لحصد روح لأطفالك الناتجين عن الرذيلة... غير ذلك ستطبق عليك قواعد جارتين الخاصة بالنسالى. 

فاضل... لم تصدق آذاننا ما تفوه به الضابط. بعد أن خرج الضباط من الوادي ركضت إلى غفران التي كانت تقف أمامنا لا حول لها ولا قوة. جاء ريان، فاحتضنته وأخذت تبكي، قال ريان: لقد كان فخاً مدبراً لنا منذ البداية، من حريق المدرسة إلى شهادة الشبان ضدك. 

في الأيام التالية توجهت إلى جويدا وشريت الكثير من الكتب الجديدة بدلاً من تلك التي احترقت. كما بنى ريان المدرسة وكوخاً لي وكوخاً للسيدة غفران. وفي ليلة يوم الغفران الجديد قالت لي غفران: يوم أخبرتني عن آدم كنت أنوي الذهاب إلى الباحة كل يوم غفران، ولكني أريدك ن تذهب أنت إلى هناك... اعتاد نديم قديماً على تسلق أحد قوائم الباحة... لقد رأيت طفلاً يفعل كما يفعل نديم، أعتقد أنه آدم... إذهب إلى هناك لعلك تجده وتأتي به. فأومأت برأسي إيجاباً. ذهبت إلى جويدا ولكني لم أجده. أخبرت غفران بذلك، وقلت لها: سأذهب كل شهر للباحة وسأعود إليك به يوماً ما. فقالت لي: لماذا بقيت في الوادي ولم تغادر؟ قلت: أرى ما تفعلونه عظيماً، أردتُ أن أكون جزءاً منه، كما أن الناس هنا في حاجة إليّ. 

استمرت الحياة في وادي النسالى كما كانت قبل قدومي إلى حد كبير. استعادت الفتيات طاقتهن بالعمل، وانتظمت صناعاتهن، وكذلك انتظم الكثيرون بمدرسة غفران. وفي المساء كانت هناك جلسات التسامر بيني وبين غفران وريان نتحدث بشأن كل جديد يحدث. وبعد شهرين، كان وشم النسالى ظاهراً على كتف غفران. قالت غفران: إنني أفخر بوجود هذا الوشم على كتفي، ولا أخجل منه، وسأواصل ما بدأته حتى آخر لحظة في عمري، وعاماً بعد عام سيجد النسالى مخرجهم بأنفسهم بي أو بدوني . 
في مكان بعيد... كانت دورية من فرسان ضباط الأمن تتحرك على الطريق عندما وقفت امرأة شابة بجوار عربة خشبية متوقفة جانب الطريق... وما إن مرت الدورية وابتعدت حتى ركبت المرأة عربتها، وصاحت إلى حصانها كي يواصل حركته، ثم نظرت إلى صندوق عربتها، وحركت يدها على غطاء من الخيش يغطي جسداً ضئيلاً أسفله، وقالت: إنهض أيها الفتى... لقد ابتعدوا. رفع الطفل رأسه لينظر إلى الضباط وهم يبتعدون، ثم حرك عينيه إلى جدار جارتين العظيم، وواصل تحديقه حين قالت المرأة: ما زال أمامنا الطريق طويلاً. 

نهاية الجزء الأول .. 
تفاعل :