لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ..قناة راجوشو ...الرابط التالي :
"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"
تلخيص رواية:
نداء الملاك: غيوم
ميسو.
إعداد وإشراف:
رجاء حمدان.
مطار جون إف كينيدي .. كانت مادلین، وھي تلصق الھاتف على أذنھا،
تتجوّل أمام الكوّات المزجّجة العالیة التي تطلّ على مدرج المطار. وعلى بعد خمسة آلاف میل منھا، كانت صدیقتھا
المقرّبة، في شقتھا الصغیرة الواقعة في شمال لندن تستمع بكامل اللھفة إلى تفاصیل
مغامرتھا الرومانسیة. تقول مادلين : وبعد ذلك، قدم لي رافائیل قرطاً من الألماس
ھدیّة من متاجر تیفاني وطلب إليّ أن أكون زوجته.
فقالت جوليان صديقتها: وماذا كان جوابك ؟ ألم تعذبيه ؟ فقالت مادلين : أعذبه؟
جولي، لقد قاربت الرابعة والثلاثین من عمري! وبعد الحديث، أغلقت مادلين الهاتف .
قطّب
جوناثان حاجبيه والهاتف المحمول ملتصق بأذنه , تحت السلالم كانت امرأة شابة سمراء
على هيئة السيدة العذراء تتحدث بالهاتف وهي تمسك بيدِ طفلٍ. لوّح جوناثان نحو
الطفل فاقترب الطفل منه . كان جوناثان ينزعج كلما رأى زوجته السابقة فرانسيسكا،
فقد كانت قد خانته من قبل. مطرقاً في التفكير، ألقى جوناثان نظرة على مدرج المطار
وقال لزوجته السابقة : سوف أعيد إليك شارلي عشية بدء الدوام المدرسي .
كانت
أصابع مادلین تمرّ منزلقة بأقصى سرعة على لوحة أزرار الھاتف المحمول. كانت تتجول،
والھاتف بین یدیھا، أمام الواجھات الزجاجیة لمتاجر السوق الحرّة وھي تكتب دون
تركیز الرسالة النصیة القصیرة لترد بھا على رافائیل. في رسالتها الهاتفية، اقترحت
عليه مادلين أن ينضم إليها في الكافتيريا. عبر جوناثان، وھو یضع یده على كتف ابنه،
المتاھة الزجاجیة والفولاذیة التي تؤدي إلى بوابات الصعود. كان یكره المطارات،
خاصّة في ھذه الفترة من السنة، فترة أعیاد المیلاد. اصطدم جوناثان ومادلین وجھاً
لوجه في الكافتيريا. یا للحمقاء! استشاط جوناثان غضباً وھو ینھض بصعوبة. صرخ: ألا
یمكنك أن تري أين تدسّین قدمیك! یا للمعتوه! استشاطت مادلین غضباً وھي تلتقط
أنفاسھا. لملم كلٌّ منهما أغراضه التي سقطت على الأرض، ومضى كلٌّ منهما في سبيله.
أقلعت
رحلة طائرة شركة الخطوط الجویة دلتا من نیویورك إلى سان فرانسیسكو . مبتھجاً بلقاء
ابنه، لم یشعر جوناثان كیف مضى الوقت. ما إن خرجا من الطائرة، تخلص شارلي من قلقه،
فنام بین ذراعي والده. في قاعة القادمین، جال جوناثان ببصره بحثاً عن صدیقه ماركوس،
الذي كان یدیر معه حانة فرنسیة صغیرة في قلب حيّ نورث بیش، والذي كان من المفترض
أن یأتي لاصطحابھما بالسیارة. وقف على أطراف أصابع قدمیه لكي یتبیّنه وسط الحشد،
ولكنه لم يتبينه. فقرر أن يتفقد هاتفه ليتحقق إنْ كان قد تلقى رسالة. وحالما فتح
الهاتف شاهد رسالة جديدة : أهلاً وسهلاً بكِ في باريس يا عزيزتي! أتمنى أن تكوني
قد ارتحتِ خلال الرحلة وأن رفائيل لم يشخر كثيراً. أنا مبتهجة لكونكِ وجدت الرجل
القادر على إسعادك .. صديقتك جوليان. حينها تفقد جوناثان الهاتف، ومن خلال البريد
الإلكتروني اكتشف هوية صاحبة الجهاز. امرأة إسمها مادلين غرين تعيش في باريس !! فقال
: اللعنة ! إنه هاتف حبيبة القلب التي صادفناها في المطار .
نظرت
مادلین إلى ساعة یدھا وھي تتثاءب. إنها السادسة والنصف صباحاً. لم تستغرق الرحلة سوى
سبع ساعات ولكن بسبب الفارق في التوقيت، حطت الطائرة في باريس يوم السبت صباحاً.
كانت أجواء عطلة عید المیلاد قد خیّمت على المطار على الرغم من أن الوقت كان مبكراً.
سأل رافائيل : هل أنتِ متأكدة من أنكِ تريدين الذهاب إلى العمل اليوم ؟ فقالت
مادلين : طبعاً يا عزيزي! لقد أخبرتك بأن لديّ العديد من طلبيات الزهور في الإنتظار.
حينها فتحت هاتفها وشاهدت رسالة جديدة : مرحباً جون , أنا ماركوس. لدي مشكلة مع
سيارتي لذا قد أصل إليك متأخراً. حينها خامرها الشك، فتفحصت هاتفها بانتباه
وتركیز: كان من الماركة نفسھا، من الطراز نفسه... ولكنه لم یكن ھاتفھا. صرخت:
اللعنة ! هذا هاتف الأبله الذي صادفته في المطار!
أرسل
جوناثان أول رسالة نصية إلى هاتفه : هاتفكِ بحوزتي. هل هاتفي بحوزتك ؟ جوناثان
لامبيرور .. فردت مادلين : نعم! أنا في باريس، وأين أنت ؟ فرد عليها: في سان فرانسيسكو,
سوف أرسل إليك هاتفك غداً بوساطة شركة البريد. فردت مادلين : سأفعل الأمر نفسه .
ثم تبادل كل منهما عنوان الآخر .
وصل
ماركوس متأخراً ليجلب جوناثان وشارلي من المطار. كان ماركوس الطفل غیر الشرعي من
والد فرانسیسكا، زوجة جوناثان السابقة، والذي لم یرث فلساً واحداً من والده الذي
كان رجل أعمالٍ من أثریاء نیویورك. وكانت والدته قد توفيت منذ فترة قصیرة، ولم یكن
یحتفظ مع أخته غیر الشقیقة سوى بعلاقات ضعیفة. كان ماركوس هو الشخص الوحيد الذي
ساند جوناثان بعدما هجرته فرانسيسكا .
حينما دخلت
مادلين إلى محلّها، تنھّدت وتنفست الصعداء. كان تاكومي قد اتّبع نصائحها حرفياً. كان
الفتى الآسیوي قد تزوّد بالبضاعة من سوق رونجیس، وكان المتجر ملیئاً بالأزھار
الطازجة: السحلبیة، الخزامى البیضاء، الزنبق... كانت مادلین تعتبر معرض زھورھا
بمثابة مكان ساحرٍ وشاعري، فقاعة مناسبة للحلم، ملاذ سلام واطمئنان بعیداً عن صخب
المدینة وعنفھا. فجأة رن الهاتف إلى جانبها . فتحت مادلين الرسالة الصوتية فارتفع
صوت أمريكيةٍ تتحدث بلكنة إيطاليه : جوناثان، أنا فرانسيسكا. اتّصلْ بي من فضلك. أنا
أعرف بأنني قد خنتك، ولكني أحبك. سامحني يا جوناثان. دعنا نتابع حياتنا كما كنا في
السابق، فمن دونك، لا حياة لي. حينها ارتعشت مادلين، ووضعت الهاتف على الطاولة وهي
تتساءل عما كان يفترض بها أن تفعل.
ساق
جوناثان السيارة إلى البيت بدلاً من ماركوس الثمل. وسارت السيارة القديمة على
الجزء الغربي من شارع فيلبير ستريت . ثم نزل الثلاثة إلى البيت. ونام كل من ماركوس
وشارلي. أخيراً خيم الهدوء على جوناثان. فتح حاسوبه المحمول. تفحّص بریده
الإلكتروني، رد على مورّدین للبضائع، وثبّت بعض الحجوزات لمطعمه، وأشعل سیجارة وھو
ینظر إلى آلاف الأضواء المتلألئة على المحیط. كانت الإطلالة من مكانه على الخلیج
الصغیر رائعة. رن الهاتف إلى جانبه وكانت جوليان، فأخبرها بأمر
الهاتف فقالت: ما هو رقمك إذن ؟ لكي أتصل
بمادلين بما أنها تملك رقم هاتفك الآن. فقال لها : لن أعطيك رقم هاتفي، فأنا لا
أعرفك! لديك بالتأكيد وسائل أخرى للتواصل معها! ثم أغلق الهاتف. كان جوناثان قد عزم على إطفاء الجھاز حینما
حرّضه فضولٌ شدید على أن یشاھد الصور المخزّنة في الھاتف المحمول. كان القسم الأكبر من اللقطات مكوّنة من صور
سیاحیة، ألبوم حقیقي لذكریات المغامرات الرومانسیة لزوجین. واصل اكتشافاته في
الھاتف وھو یستعرض المكتبة الموسیقیة لمادلین باھتمام وفضول. قطّب جبینه وركز
أنظاره وھو يكتشف.. كلّ الموسیقى التي یحبّھا ویفضّلھا: توم وایتز، لو رید، دافید
بواي، بوب دیلان، نیل یونغ....
مقطوعات حزینة وكئیبة وبوھیمیة
كانت تغني الخسارة والضیاع. وهو يتابع ما ينبغي أن يُسمّى نبشاً, وقع جوناثان على
المفكرة الإلكترونية لمادلين ووجد مواعيد منتظمة مع شخص يدعى ايستيبان. تخيّلَ
مباشرة بلاي- بوي. مرتان في الأسبوع، يومي الأثنين والخميس, بين الساعة السادسة
والسابعة مساء. هل كان رافائيل على علم بنزوات خطيبته الحسناء؟ كلا، بالطبع. كان
جوناثان بنفسه قد تعرّض للحظ العاثر نفسه، ولم یكن قد لاحظ أيّ شيء یحدث حینما
اكتشف خیانة فرانسیسكا له، بینما كان یعتقد بأنّ حیاته الزوجیة بمنأى عن العواصف.
كل النساء سواء.. فكّرَ وھو متقزز تماماً.
ومن بين
المواعيد الأخرى، كان هناك مواعيد مع الدكتور سيلفي آندريو الذي راجعته مادلین على
ما یبدو قبل ستة أشھر بسبب مشكلة تتعلق بالعقم. على الأقلّ، ھذا ما كان تفترضه
رسائل إلكترونیة مرسلة من مختبر للتحالیل الطبیة التي كانت مادلین قد احتفظت بھا.
أمام شاشة الھاتف المحمول، شعر جوناثان بأنه متلصّص ومنحرف المزاج، لكنّ شیئاً ما
عند ھذه المرأة بدأ یأسره. لفت انتباهه أيضاً مفكرة نسوية أودعت فيها مادلين جزءاً
كبيراً من حياتها الحميمية. كانت المفكرة منظمة بطريقة خاصة بحيث يحفظ التطبيق في الذاكرة
مواعيد الدورة الشهرية، ويوضّح أيام الإباضة وتواريخ الخصوبة. ومن خلال النظر إلى
المفكرة، قفزت الحقیقة البدیھیة إلى عیني جوناثان: كانت مادلین تدّعي بأنھا ترغب
في إنجاب طفل ولكنھا كانت تحرص على أن لا تمارس الجنس إلا خارج فترات الخصوبة ھذه
.
نادت
مادلين على تاكومي، ومدت نحوه مغلفاً صغیراً مختوماً كانت قد دسّت فیه الھاتف
المحمول لجوناثان. وأعطته ورقة نقدیة من فئة ٢٠ دولاراً وأوضحت له : سوف ترسله على
عنوان في الولایات المتحدة الأمريكیة. تمعّن تاكومي في العنوان وقال: جوناثان
لامبيرور.. مثل الشيف؟ سألته مادلين : هل تعرفه ؟ فقال : يعرفه كل الناس. منذ بضع
سنوات، استأجر جوناثان لامبيرور أفضل مطعم في نيويورك. كان مطعماً أسطورياً. فقالت
مادلين : لا أعتقد أن الأمر يتعلق بالشخص نفسه. العنوان الذي زودني به هو بالتأكيد
لمطعم، ولكنه عنوان مطعم حقير، وليس مطعماً من فئة الخمس نجوم.
أثارت
أقوال صانعھا فضولھا ولكنھا حاولت أن تستأنف عملھا وكأنّ شیئاً لم یكن. منذ أن
فتحت المتجر، لم یكن قد فرغ من الزبائن. انشغلت المرأة الشابة بتجھیز ترتیبٍ جدید
ولكنھا تركت ذلك بعد خمس دقائق. لم تستطع أن تخرج من ذهنها تلك الحكاية التي رواها
لها تاكومي. انتقلت خلف طاولة المكتب وبحثت عن جوناثان في محرك البحث : جوناثان
لامبيرور طاه ورجل أعمال فرنسي مارس جل أعماله في الولايات المتحدة الأمريكية. بدأ
العمل في سن مبكرة جداً . في عام 2001 التقى مع فرانسيسكا، إبنة رجل الأعمال فرانك
ديليلو. وتولدت بينهما علاقة غرامية، وقامت فرانسيسكا على أثرها بالطلاق من زوجها مارك
شادويك بعد أقل من أسبوع على زواجها، والزواج من جوناثان. وبمساعدة من زوجته،
افتتح جوناثان مطعمه الخاص. كان نجاحه فورياً ومباشراً. في سن الخامسة والثلاثين ،
اختير كأفضل طباخ في العالم. وفي عام 2009، وبعد أسابيع من الإنفصال عن زوجته،
تخلى لامبيرور عن عمله وانسحب من المشاريع والأعمال بعد أن طبع المطبخ المعاصر
ببصمته. اتصل تاكومي بمادلين وقال لها : كل مكاتب البريد مغلقة بسبب الإضراب.
فقالت له : حسناً، قبل أن تعود، إذهب إلى المكتبة واشتر لي كتاب : اعترافات طاه
مغرم للمؤلف جوناثان لامبيرور.
أرسلت
مادلين رسالة إلى جوناثان : ربما تعرف أن هناك إضراباً شلَّ هذا البلد والذي هو
فرنسا. وتعطلت مكاتب البريد عن العمل، وبالتالي فمن غير الممكن أن أرسل إليك حالياً
هاتفك المحمول. أتمنى لك الخير. مادلين. ثم شربت الكثير من النبيذ وبعثت برسالة أخرى
: عزيزي جوناثان، اسمح لي أن أشبع فضولي وذلك بأن أطرح عليك ثلاثة أسئلة : لماذا
يقدم اليوم من يزعم أنه الشيف الأفضل في العالم شرحات مشوية في مشرب ومطعم بسيط في
الحي ؟ لماذا ما زلت يقظاً إلى الساعة الرابعة فجراً ؟ هل لا تزال تحب زوجتك
السابقة ؟ أرسل جوناثان لها برسالة : عزيزتي مادلين، إذا كان يمكن لهذا أن يرضي فضولك،
فهذا هو الرد على أسئلتك : لم أعد "أفضل شیفٍ في العالم". لنقل بأنه وبأسلوب كاتبٍ قد فقدت إلھامي والشغف
الضروري لإنجاز إبداعات خلاقة. أما السؤال الثاني فهناك سؤالان يشغلان ذهني
ويجعلاني لا أستطيع النوم. وهما، الأول: من يكون ايستبيان. والثاني: لماذا تشيعين
الإعتقاد عند المحيطين بك بأنك تسعين إلى أن يكون لديك طفل في حين أنك تتخذين كل
الإحتياطات والتدابير بالضبط لكي لا يكون لديك طفل. أما جواب سؤالك الثالث: فاذهبي
واسخري من نفسك. اجتاحت مادلين موجة من الرعب. ھذا الرجل قد نبش في ھاتفھا النقال
وأصبح یتكھّن حول إیستیبان وحول الطفل! سمعت قلبها وهو يدق في
صدرها. كان عليها أن تُهدِّيء من روعها: بهذه العناصر وحدها، لم يكن بوسع جوناثان
أن ينال منها. طالما لم يضع يده على أمور أخرى، لم يكن هذا بالتهديد الحقيقي.
في اليوم
التالي، خاب أمل جوناثان لأن بائعة الزهور لم ترسل له رسالة. حينها تفحص مواصفات
الهاتف. كانت مساحته تقريباً ممتلئة ولكن محتويات الجهاز كانت ليست كافية لملء
الجهاز. لا بد أن الجهاز يحتوي على معطيات أخرى. لا بد أن مادلين تخفي شيئاً على
الجهاز. حينها ارتج الهاتف في يده ليرى إسم ايستيبان على الشاشة. لم يرد. ثم وصلت
رسالة صوتية وكان هناك صوت أنثوي يقول : "
صباح الخیر، آنسة غرین، ھنا عیادة الدكتور ایستیبان، أتصل بكِ
لكي أعرف إنْ كان بإمكانك أن تغیّري موعد یوم الإثنین لمدة ساعة واحدة. أشكرك على
التكرّم بالإتصال بنا. أتمنى لك عطلة نھایة أسبوع في غایة السعادة". أبدى
جوناثان حركة استغراب. فقد اكتشف أنّ ایستیبان لم یكن إسم عشیق بل إسم طبيب! نقر جوناثان
على الشاشة اللمسیة لكي یدخل معطیات إلى الدلیل الموصول على خط الإنترنت. كتب:
دكتور ايستيبان، ثم باريس. ظهرت معلومات الطبيب النفسي كاملة على الإنترنت. وھكذا
تبیّن لجوناثان بأنه كان قد سلك الطریق الخاطيء إلى خیانة مادلین الزوجية، ولكنه
كان قد خمّن إحباطھا النفسي وانحراف مزاجھا. ربما كانت المرأة الشابّة قد أظھرت
كلّ مظاھر السعادة، ولكنّ شخصاً یراجع طبیباً نفسیاً لمرّتین في الأسبوع نادراً
یكون مثالاً للصفاء والھدوء النفسي .
سار جوناثان وابنه شارلي، بالسيارة، على الشاطيء المقطّع
للمحيط الهاديء. سأل شارلي والده جوناثان : هل ما زلت تحب ماما ؟ فقال جوناثان :
لماذا ؟ فقال شارلي : لأني أعرف أنھا تشتاق إلیك وتود أن نعود ونعیش معاً نحن الثلاثة من
جدید. ھز جوناثان رأسه. كان لا یزال یرفض أن یجعل ابنه یعتقد بأنّ انفصاله عن
والدته قد يكون مؤقتاً. فقال : انس هذه الفكرة يا عزيزي. هذا الأمر سوف لن يحدث. جاء
یومٌ أدركت فیه بأنّ أمّك لم تعد المرأة التي كنت أعتقد بأنني أعرفها . خلال
السنوات الأخيرة من زواجنا، كنت عاشق وهم وسراب. هل تفهمني يا صغيري ؟ ھز شارلي
رأسه بحزن. ذهبا إلى "بوديغا باي" شمال سان فرانسيسكو، لمشاهدة الدلافين
وصيد السمك، ثم عادا عصراً إلى البيت. جلس جوناثان لوحده وأمسك بالحاسوب المحمول
الذي كان قد حمّل عليه كل صور مادلين , لاحظ أن إحدى صورها في قسم الشرطة , جاء إليه
ماركوس فنظر إلى الصورة وقال: لا بد أن هذه المرأة الشابة شرطية. أدرك جوناثان بأنه
قد عثر لتوّه على مفتاح السرّ. قرّر ماركوس أن یتحقق من الموضوع بنفسه ففتح محرّك
البحث وكتب: "مادلین + غرین + الشرطة + مانشستر. كانت ھناك المئات من
النتائج، ولكنّ النتیجة الأولى التي ظھرت كانت عبارة عن مقالة صحافیة مأخوذة من
صحیفة غاردين: مادلين غرین المحققة بقضية ديكسون، تقوم بمحاولة انتحار2009.
تقول
المقالة: بعد شھر من الإكتشاف المحزن والذي قضى على كلّ فرصة في العثور على الفتاة
آلیس دیكسون على قید الحیاة، حاولت نقيب الشرطة، المكلفة بالتحقيق، مادلين غرين أن
تضع حداً لحياتها بالإنتحار. ولحسن الحط تدخلت جارتها جوليان وود لإنقاذها . كان إقدامها
على الإنتحار للإحساس بالذنب. لقد كشف المدیر الأعلى لشرطة مانشستر، أنّ مادلین
غرین كانت متوقفة عن العمل منذ أن علمت بأمر وفاة آلیس دیكسون، البالغة أربعة عشر
عاماً، آخر ضحیة لھارالد بیشوب القاتل الجماعي الشهير والذي تم توقيفه قبل بضعة أيام
. رجع جوناثان إلى هاتف مادلين المحمول وأدار البرنامج المحمي بكلمة مرور. كتب
كلمة "آليس" وانفتح التطبيق. كان الھاتف یحتوي على المئات من الوثائق
المتعلقة بشأن "قضية ديكسون". قام بتحميل جميع الوثائق على القرص الصلب
لحاسوبه. على ما يبدو كانت الشرطیة الشابّة قد ارتبطت بتلك القضیة منذ ستة أشھر، وھي تعمل علیھا لیل نھار إلى أن خسرت
فیھا صحّتھا وعقلھا.
تقول
الوثائق: قضية آليس ديكسون.. ديسمبر 2008.. مفوضية الشرطة .. رفعت مادلين صوتها :
یجب علیكِ أن تشرحي لي الأمر على نحو أوضح لأنني لم أفھم بعد. لماذا انتظرتِ
ثمانیة أیام حتى تُبلّغي عن اختفاء ابنتك؟ فقالت إيرن ديكسون، أم آليس: أنت تعلمين
كيف هم المراهقون، اللعنة! يذهبون ويأتون. نسّقت المحققة مادلين أولى الإجراءات:
تعمیم صورة آلیس على كافة مفوضیات الشرطة في البلاد، والإعلان عن اختفائھا للصحافة
ولھیئات تحریر الصحف والتلفزیونات، والطلب العاجل لتعبئة فریق من الطبّ الشرعي . سألت
مادلين آليس ذهنياً: أتكوني قد فررت في النھایة؟ أتكوني قد غادرتِ حيك القذر الذي
لا يُصادف فيه سوى أناسٍ محطمين من البؤس والمصائب؟ أتكوني قد هجرت هذه الأم المعتوهة
التي لم تكن قادرة حتى على أن تخبرك من هو والدك ؟ لكن مادلین لم تكن تصدق ھذا
السیناریو. كان یبدو لھا أنّ آلیس فتاة ذكیة ومنظمة. ھل انسحبتْ من المدینة؟ حسناً.
ولكن لتذھب إلى أین؟ مع مَنْ؟ ولتفعل ماذا ھناك؟
آخر شخص شاھد
آلیس دیكسون على قید الحیاة، كان ... كان كامیرا مراقبة. كان مقطع الفیدیو،
المصوّر عند تقاطع بایكل كروس، یُشاھد فیه الشبح الھزیل للفتاة وهي تنزل من
الحافلة، وحقيبتها الظهرية على كتفها. تُشاهد وهي تذهب إلى مدرستها. وبعد ذلك آليس
تبخرت. ولأنھا كانت مقتنعة بأنھا تتحمّل مسؤولیة كبیرة عن اختفاء آلیس، وضعت
مادلین إیرن دیكسون، والدة آليس، تحت الرقابة المشددة، واستجوبتھا لأكثر من عشرین
ساعة، وما من جدوى. ومن خلال تصفح دفتر مذكرات آليس الیومیة
الخاصّة، اكتشفت مادلین أنّ الفتاة المراھقة كانت قد اعتادت على أن تنظم الأعمال
الصغیرة وھي تكذب بشأن سنھا وبھذه الطریقة كانت تكسب المال لكي تدفع ثمن كتبھا
وثمن رحلاتھا الثقافیة.
ظلت
مادلین تحلم كلّ لیلة بآلیس وظلت الفتاة تلاحقها. تستيقظ كلّ صباح وھي تأمل في أن
تعثر على دلیل جدید أو بدایة أثر قد تم إھماله. كان قد مر
ثلاثة أشهر على اختفاء آليس, وجنّت مادلين لعدم عثورها على أي دليل، فذهبت إلى
أحد الدجالين. من خلال لمسه لقطعة ثياب تعود لآليس، أكد الدجال بأن الفتاة قد ماتت
وأعطى الدجال مكان جثتها. كلفت مادلين فريقاً لكي يقلب المكان رأساً على عقب، ولكن
جهودها ذهبت سدى. حينها قررت زيارة داني
دويل. كان داني
"دوب"
دویل زعیم إحدى
الجماعات الأكثر قوّة من طبقة اللصوص في مانشستر، إنه الأب الروحي لسلالة عائلیة
شھیرة بإجرامھا تھیمن منذ خمسین عاماً على المملكة القذرة لمنطقة شيتام بريدج. كانت
مادلين قد تعاملت معه من قبل. قالت له : جئت لكي أقابلك بشأن آليس ديكسون، الصبية
التي اختفت. هل تقسم لي على أنك لست أنت الذي وراء القضية ؟ فقال: لأي أسباب قد أقوم
باختطاف هذه الفتاة ؟ قالت: لكي تستغلها. قال: ماذا تقصدين يا مادي؟ لدي كلّ أخطاء
الكرة الأرضیة، یداي ملطخة بالدماء ومكاني محفوظ مسبقاً في الجحیم، ولكنني لم ألمس
قط طفلة. فقالت مادلين : إذاً، ساعدني! أنت تعرف الجمیع في الحي ونصف الناس یدینون
لك بشيء ما. أنت تحلّ مشاكل الجیران وتحمي التجّار، بل وتتكفل بتوزیع ھدایا عید
المیلاد على الأسر الأكثر بؤساً. فوافق داني على مساعدتها .
في الأسبوع
الذي تلا اللقاء بين مادلين وداني، حضر شهود جدد بغزارة إلى مكتب الشرطة. في
الخامس عشر من حزیران/ یونیو، وصل طرد غریب إلى مفوضیّة الشرطة في شیتام بریدج. كان
الطرد موجّھاً إلى النقیب مادلین غرین، مسؤولة قضیة آلیس دیكسون. فتحت مادلین
الصندوق: كان ملیئاً بمكعبات ثلج مسحوقة. أبعدت بیدیھا المكعبات الشفیفة. كانت
الطبقة الأولى مائلة إلى البیاض، ولكن كلما حفرت أكثر، كلما لوّث سائل أحمر الثلج.
حینما شاھدت بقع الدم، تسارع إيقاع دقات قلبها. في القاع، كان ھناك... قطعة لحم
نصف مجمّدة. نظرت إلیھا بتقززٍ، ومن ثم أدركت أنھا عضو من جسم بشري (قلب بشري). لم
تمض بضع ساعات حتى أثبتت العينات البيولوجية المرفوعة عن قطعة اللحم (القلب) التي أتت
في الصندوق لها نفس الحمض النووي لأليس .. لقد ماتت آليس! في ذلك الیوم، انكسر شيء
ما عند مادلین. عادت إلى بیتھا كما لو أنھا تسیر وھي نائمة.
في السادس
والعشرین من حزیران / یونیو، خلال عملیة تفتیش عادیة على الطريق، أوقفت شرطة
میرسیساید رجلاً یدعى ھارالد بیشوب. كان الرجل، وهو في حالة سُكر، ینقل عبر
الصندوق الخلفي لعربته أدوات حادة ملطخة بالدم.
اعترف بیشوب، خلال جلسة الإستماع إلیه، بأكثر من عشرین عملیة قتل لنساء شابّات أو
مراھقات ومثلھا من عملیات اغتصاب ارتكبھا خلال الفترة الممتدة من العام ٢٠٠١ وحتى
العام ٢٠٠٩ . كانت المفاجأة كبیرة. سمحت عملیة احتجاز بسیطة بشأن تناول الكحول
بتوقیف أحد أعتى رجال الجریمة المرعبین الذین عرفتھم إنجلترا. العشرات من عملیات القتل والإختطاف التي ظلت
غامضة وجدت طریقھا أخیراً إلى الحل. كانت آخر عملية قتل نَسَبها إلى نفسه هي عملية
قتل آليس ديكسون. شرح بأنه ألقى جثتها في نهر ميرسي بعد أن أرسل قلبها إلى مفوضية
شرطة مانشستر.
في السابع
من تموز / یولیو، في منتصف اللیل، علّقت
مادلین غرین حبل مجفف الشعر إلى العارضة التي تعلو شرفة بیتھا. كان یجب لتلك
الحالة أن تنتھي. بمساعدة ما تبقى من الویسكي، ابتلعت كلّ الأدویة المتوفرة لدیھا.
ثم صعدت إلى كرسي وأمسكت بحبل مجفف الشعر لكي تشكل به حلقة. دسّت رأسھا في الحلقة
وشدت العقدة. منذ شھر، اجتاحت صور مرعبة خیالھا. صور لا یمكن تحمّلھا والتي لم
تترك لھا أيّ مھلة. صور جعلتھا تشعر بالأھوال التي لا بد أن آلیس قد تعرّضت لها. كان یجب لتلك الحالة أن تنتھي. فقفزت من الكرسي.
أشرقت شمس الصباح على سان فرانسيسكو . مسّد جوناثان
جفنيه وقد أنھكت
اللیلة البیضاء التي قضاھا أمام شاشة حاسوبه قواه. نهض بمشقة . كان
طيف آليس، المحفور بظل مادلين، لا يزال مزروعاً في الغرفة. آلمته أسئلة معذبة وألحّت علیه. أيّ فظاعات
أذاقھا بیشوب لھذه الصبیة المسكینة قبل أن
یقتلھا؟ ھل قدم اعترافات أخرى حول آلیس؟ ھل اعترضت مادلین من جدید طریق داني، وكیف
تحوّلت شرطیة مانشستر العنیدة إلى بائعة زھور باریسیة لطیفة؟ استغل جوناثان انشغال
ابنه بمشاهدة التلفزيون لكي يجلس أمام حاسوبه ويستأنف اكتشاف "ملف
ديكسون". نقر جوناثان على الملفّ الأخیر. انفتحت الصورة ملء الشاشة. كانت
عبارة عن نسخة الإعلان الصغیر المعلق بآلاف النسخ في الأركان الأربعة للمملكة
المتحدة للإشارة إلى اختفاء آلیس دیكسون. في مركز الصفحة، كانت ھناك صورة لصبیة
تبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عاماً، ذات شعر أشقر وقصیر. ما إن ظھرت الصورة على
الشاشة، تقافز قلب جوناثان في صدره . ثم التقت نظرته بنظرة آلیس وانقبضت معدته.
لقد سبق له أن التقى بھذه الفتاة. لقد سبق له أن تحدث معھا. أغلق على عجل حاسوبه.
على
الجانب الآخر ركنت مادلين دراجتها النارية في موقف مخصص للمركبات. توجهت إلى حانة
إيغلون أمام كافية فانفان، مطعم جورج لاتوليب. طلبت فنجاناً من الشاي وقطعة
كرواسان، وفتحت حاسوبها الشخصي لاستكمال بحثها عن جورج، ريثما يأتي جورج إلى مطعمه. تبين لها أن جورج يحب
رياضة الغطس. توقفت مادلین عند صورة سمكة نمر قرش رائعة على جزر
المالديف التقطها جورج. وحسب التاريخ المدون على الصورة كان ذلك في 26 من ديسمبر عام 2009 . أذهل
تاريخ الصورة الشرطية السابقة. إذ أن حسب الصحيفة الشعبية، كانت الصور الملتقطة مع
فرانسيسكا تعود إلى 28 من ديسمبر عام 2009 على جزر الباهاما . والمسافة ما بين جزر
الباهاما وجزر المالديف حوالي خمسة عشر ألف كيلوميتراً. حينها اقتنعت مادلين بأنها
قد أمسكت بشيء ما. كان هناك شيء ما يدفع إلى الإعتقاد أن جورج قد قطع على نحو مفاجيء
رحلته في جزر المالديف لينضم إلى فرانسيسكا . حينها دخل جورج إلى المطعم بزيه الأنيق،
وغادر بعد الساعة الثانية ظهراً بقليل. قفزت مادلين على الفور وركبت دراجتها
النارية ولاحقت سيارته من كثب لكي لا يغيب عن بصرها. لم تعد تفكر إلا في كشف سرّ
جورج لا تولیب الذي لم یراودھا الشكّ في أنه أیضاً سر انفصال فرانسیسكا وجوناثان.
وبینما كانت سیارة البورش تبطيء من سيرها، قطعت مادلین علیھا الطریق وداست على
الكابح فجأة لكي توقف عجلتھا الخلفیة. صدمت واقیة السیارة الدراجة الناریة. قُذفت
مادلین من الدراجة وتدحرجت مادلين على الأسفلت. ارتطمت جمجمتھا بالأرض، ولكنھا
كانت محمیة جیّداً بفضل قناعھا الواقي، وخُففت الصدمة بفضل بطء سیر السیارة في
لحظة حدوث الإصطدام. حينها خرج جورج مذعوراً متأسفاً لمادلين. وكانت تلك الحلقة
رقم 1 : إستدراج العدو.
انتقل جوناثان إلى صديقته الطبيبة النفسية موراليس، والتي
كان قد سبق بأن لجأ لها في مرحلة انفصاله العصيبة من زوجته. طلب منها فيديو
للجلسات التي كان يخضع لها. فقامت بإرسال التسجيلات له على بريده الإلكتروني. ثم
عاد إلى البيت سريعاً . فتح حاسوبه. كان هناك ثلاث تسجيلات لثلاث جلسات . كان
المقطع الذي يرغب في الإستماع إليه موجوداً في الجلسة الثانية. جلس يصغي إلى التسجيل.
خلال الدقائق الأولى كان جوناثان حينها يسرد اعترافاته: منذ عامين نزلتُ في أحد
فنادق باريس لدفن والدي الذي لم ألتقيه منذ خمسة عشر عاماً. كنت خلال أسبوع خسرت
كل شيء. قبل ذلك ببضعة أيام كنت أعيش مع أسرتي في مانهاتن ولكن قدر مشؤوم فرض عليّ
نفسه فجأة . لقد عشت وفرانسيسكا سنوات حبنا في ظل التوهج والحماسة . خرجت من
الفندق بالسيارة، وذهبت إلى إبن خالتي والذي ساعدني في شراء مسدس. خرجت من عنده
قاصداً الفندق، ولكني فوتت بغباء مفرقاً.
كان الكونياك قد أرهقني. ولم أعد متأكداً من إسم الشارع الذي أسير فيه. وجدت
نفسي في مكان كان به الكثير من المومسات في الشارع . وفجأة، وصلت سيارتا شرطة كالإعصار
إلى الشارع. وفجأة دخلت عاهرة إلى جانبي. كانت صبية في حدود الخامسة عشرة من عمرها.
قالت لي : أسرع وإلا ستجسن نفسك ! فانطلقت بالسيارة. لم تكن الفتاة كثيرة الكلام.
سألتها : ما اسمك ؟ فقالت: آليس كوالسكي. ثم رفعت عينيها وقالت لي : لقد سبق وأن
شاهدتك في التلفزيون! في برنامجٍ هاجمتَ فيه بشدة النباتيين! ثم سألتْ باستفزاز: إذا
كنت نجماً شهيراً، ماذا تفعل عند العاهرات. أخبرتها بأنني لم أكن زبوناً للعاهرات،
وأنني قد ضللت الطريق. ثم قلت لها : حسناً , ستقولين لي الآن من تكونين وأين
تقيمين، وإلا سأستدعي رجال الشرطة. فقالت : لقد ارتكبتُ حماقة , هروب مؤقت وهذا كل
ما في الأمر. أنا أعيش في نيويورك، ولكني أقضي العطلة مع والدي. كنت أريد العودة إلى
بيتي، ولكن حقيبتي سرقت مني ولم يعد لدي لا هاتفي المحمول ولا محفظة نقودي. أعطتني
رقماً وقالت إنه يعود لوالدتها. اتصلت بهذا الرقم. ردت عليّ سيدة تدعى كوالسكي
والتي تلقت مكالمتي على أنه فرج. اقترحتُ عليها أن أوصل بنفسي ابنتها فوافقت. وفي
الطريق، وبعد صمت طويل قالت : يقولون بأنك قد أغريت زوجتك بفضل طبق من حلوى المعكرون
! فقال : هذه قصة طويلة. سأرويها لك: في تلك الفترة، كانت فرانسیسكا قد تزوّ جت لتوّھا من مصرفي. وكانت
في رحلة شھر العسل على الشاطيء الأزرق في الفندق الذي كنت أعمل فیه. ووقعتُ في
حبها من النظرة الأولى. رأيتها تتمشى بمحاذاة الأمواج. سألتها عن حلواها المفضلة،
فقالت بأنها تفضل طبق الرز بالحليب مع الفانيلا. أعددت من هذه الحلوى ما يقارب
اثني عشر طبقاً وقدمتها لها. وتكفلت الأسطورة بما تبقّى من الحكاية. قولي لي أنتي
لماذا هربت من البيت ؟ فقالت : لدي صديق باريسيٌّ صغير كنت قد التقيتُ به في رحلة
مدرسية إلى فرنسا. أردت أن ألتقي به ولكنّ والديّ لم يكونا موافقين على ذلك.
أرشدتني آليس
إلى طريق بيتها. كان الممرّ مفروش بالحصى يعبر غابة من أشجارالصنوبر قبل الوصول إلى
منزل كبیر یعود لسنوات. كانت سیّدة ممشوقة القامة تنتظرناعلى درج المنزل. فتحت آلیس
البوابة الخارجية وأخذتا بعضیھما بالأحضان. عرّفت بنفسھا وھي تمد یدھا إليّ:
السیّدة كوالسكي. كانت ملامح وجھھا في غایة الرقة والنعومة، على الرغم من وجود ندبة
متمیّزة تبدأمن قوس حاجبھا وتشق أعلى خدھا حتى تصل إلى زاویة فمھا. شكرتني على مساعدتي
لھا وعرضت عليّ تناول فنجان من القھوة، ولكنني شرحت لھا بأنّ لدي موعد. انطلقتُ بالإتجاه
المعاكس وركنت سیارتي أمام الشاطيء الذي یدلّ على بدایة الطریق الساحلي. أخذت المسدس
من صندوق القفازات ومشیت ورأسي مليء بالذكریات.
لدى جمیع الناس
رأي حول الإنتحار. ھل ھو فعل شجاعة أم فعل جبن؟ لا ھذا ولا ذاك بالتأكید. إنه مجرد
قرار یائس حینما یجد المرءُ نفسه في مأزق. إنه الملاذ الأخیر لخروج المرء من حیاته
والتخلص ممّا لا یمكن تحمّله. لطالما واجھت، لطالما جابھت. لطالما صارعتُ كلّ شيء،
قاھراً قدري وفارضاً حظي ، لكن الیوم، كان الأمرمختلفاً. كان لديّ عدوٌّ لا یمكن مجابھته:
أنا ذاتي. العدو النھائي. العدو الأخطر. لم يكن تصرفي منطقياً في شيء. وضعت المعدن
البارد للسبطانة على صدغي. لقّمت المسدس وضغطت على الزناد. ولكنني لم أمت. فحصت
مخزن الطلقات: كان فارغاً. مستحيل. لقد تحققت بنفسي من وجود الطلقات قبل المغادرة.
عدت إلى السیارة وفتحت الصندوق الأمامي للسیارة: لم تكن ھناك ذخائر. لم یكن ھناك سوى
المندیلین الورقیین اللذین أخذتھما آليس. كانت قد تركت لي كلمة مكتوبة بسرعة:
عزیزي السیّد لامبیرور. لقد سمحت لنفسي أن أسحب الطلقات من مسدسك وأرمیھا في حاویة
القمامة في مرآب محطة الخدمة حینما كنت تشرب قھوتك. لا أعرف لماذا أردتَ أن تحصل على سلاح، ولكنني
كنت شبه متأكدة بأن هذه فكرة سيئة. كما أنني أعلم بأنك في ھذه اللیلة، حتى إن كنت على
ما لا یُرام، بذلتَ جھداً لكي تُضحكني وتعتني بي. أنا متأسّفة بشأن مشاكلك المالیة
وبشأن زوجتك. ربّما ستعود الأمور إلى نصابھا ذات یوم بینھا وبینك. ولكن ربّما أیضاً
لم تكن بكلّ بساطة حبّ حیاتك. لزمن طویل، لم أكن سعيدة. حينما كنت فعلاً حزينة، تعلقت
بجملةٍ تنسب أحیاناً إلى فیكتورھوغو، والتي نسختھاعلى الصفحة الأولى من دفتر یومیاتي.
كانت تقول: "أجمل سنوات الحیاة ھي تلك التي لم نعشھا بعد". اعتن بنفسك، یا
جوناثان. آليس . حینما قرأت ھذه الكلمات، استعادت الحیاة فجأة تفوّقھا وانھمرت دموعي
مثل مغفلٍ، في سيارتي. (انتهى التسجيل).
حينما رفع
جوناثان السمّاعات عن أذنیه، أدرك أنّ دمعة تسیل على خده. كان ذلك الغوص حتى درجة انقطاع
النفس في تعرّجات المرحلة الأكثر حلكة في حیاته صعباً للغایة. ھل حقاً آلیس كوالسكي
ھذه التي كان قد اعترض طریقھا ھي نفسھا آلیس دیكسون، ضحیّة جزار لیفربول؟ تلقت مادلين قلب آليس
الممزق، كما جاء في الوثائق على جهازها، في الخامس من حزيران 2009 . والمختبر
العلمي قد حدد رسمیاً
بأن عضلة القلب ھذه، دون أدنى شكّ، تعود للفتاة المختفیة. ولكن جوناثان كان قد
التقى آليس كوالسكي ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأول / ديسمبر 2009. أي بعد تلقي
مادلین للقلب الممزق بأكثرمن ستة أشھر! ذھب جوناثان إلى غرفته التي من المستحیل أن
یجد فیھا سبیلاً إلى النوم. راوده ذاك الشعورالمجنون بأنّ حیاة مادلین وحیاته قد ارتبطتا
بخیطٍ غیر مرئي.
الساعة السابعة
وعشرون دقیقة مساء. خرجت مادلين من شقتھا وھي تشعر بأنھا مثیرة وخبیثة بما فیه الكفایة
لكي تخدع العدوّ. لم یتأخر جورج لاتولیب في استعادة الصلة معھا. لم تمض، كما توقعت
وتأمّلت، بضع ساعات على "حادثتھما" حتى اتصل بھا في المتجر وعرض علیھا تناول
الغداء معه. ولكي تشوقه، رفضت في البداية عرضه، ولكنه، لحسن الحظ، ألح عليها فوافقت
مادلین ھذه المرّة على أن تتناول العشاء معه. وبعد العشاء صعدا إلى شقته. اقترحت
عليه خليطاً من الشراب، فوافق. صبت مادلين كأسين من الفودكا وأكملت علیھما بعصیراللیمون
الھندي وبقلیل من خلاصة عصیرالرمان. استغلت لحظة من عدم انتباه جورج لكي تزیّن مشروبه
بجرعة كبیرة من مادة روھایبنول، وھو منوّم قويّ یُستخدَم في غالب الأحیان من قبل مرتكبي
عملیات الإغتصاب. بعد فترة قصيرة، رقد لاتولیب على الأریكة مرھقاً بعد أن شرب
الكوكتيل. كان علیھا ألا تضیّع وقتاً وأن تقوم بعملھا في الحال ودون إبطاء. باشرت مادلین
عملھا بطریقة منھجیة ومنظمة. فتشت كل مكان في الشقة ثم انتقلت إلى البرید الإلكتروني
فوجدت رسالة من: فرانسیسكا دیلیلو في شهر حزيران: جورج، أتوسّل إلیك أن تتخلي عن مشروعك في الذھاب
لمقابلة جوناثان في سان فرانسسكو. لقد اتخذنا القرار السليم. لقد فات الأوان على
الندم , كنت أعتقد بأنك قد أدركت من خلال قراءة الصحف.. إنس جوناثان وما حدث لنا.
دعه يعيد تكوين نفسه. إذا اعترفت له بالحقیقة، سوف تضعنا نحن الثلاثة في وضع مأسوي
وسوف تخسركلّ شيء: عملك، شقتك، ورفاھیتك. طبعت مادلين الرسالة الإلكترونیة ولمزیدٍ
من الأمان، أرسلت نسخة من الرسالة إلى عنوانھا الخاصّ. رشت مادلين الماء البارد على
وجه جورج ومن ثم صفعته بضع صفعات. كان جالساً، موثوقاً بربطة عنقه إلى كرسي في الصالون.
قالت مادلين : أريد الحقيقة. لماذا كنت ترید الذھاب لمقابلة جوناثان لامبیرور في سان
فرانسیسكو؟ ولكي تحثه على الكلام، ضغطت بسبطانة المسدس على جبین جورج. فقال جورج
مذعوراً: جوناثان، إنه ھو الشخص الذي أدین له بكلّ شيء. لقد اخرجني من الورطة وجعلني
أتدرّج في العمل. كان شابّاً وممتلئاً بالطاقة والحیویة. كان فعلاً رجلاً
استثنائياً. فقالت مادلين: ولكي تشكره على ذلك وترد له الجمیل، سرقت منه زوجته؟ دافع
عن نفسه بینما كانت اختلاجات وخفقات تتصاعد في صدره: الأمر ليس هكذا تماماً! وھل تصدقین
أنّ فرانسیسكا قد تقع في غرام رجل مثلي! كانت مجنونة بحبّ زوجھا! ولكن لرغبتھا في أن
تكبر بسرعة فائقة، اتخذت قرارات استراتیجیة خاطئة قادت المجموعة إلى حافة الإفلاس.
سألته مادلين: صورك وصور فرانسيسكا هذه التي ظهرت في صحافة الفضائح، كانت إذن
عبارة عن شرك وفخ؟ قال: بالتأكيد! فذات یوم، قبل عامین، اتصلت بي من جزر الباھاما.
كان ذلك خلال عطلة أعیاد المیلاد بالضبط. وأنا كنت في جزرالمالدیف مع أحد أصدقائي لممارسة
ریاضة الغطس. كانت في غایة الذعر وطلبت مني أن آتي لمقابلتھا. وقالت لي بأنّ الأمر
ملحٌّ وعاجل. وبالفعل في عصر اليوم التالي التقينا وصورنا شخص من البابارازي كانت
قد اتفقت معه. وقامت بإخراج الصور الواهية التي تم نشرها. وعدنا برحلة الطيران
نفسها. وعند وصولنا إلى المطار، كان جوناثان في انتظارنا. لا أعلم من الذي أخبره بالأمر،
ولكن الأمر سار في غایة السوء. لكمني على وجھي وتشاجر بعنفٍ مع زوجته أمام الجمیع.
في الیوم التالي، أعلنا طلاقھما وبیع مجموعتھما.
لندن. حطت
رحلة شركة الطیران البریطانیة في مطار ھیثرو في الساعة السابعة. لم یُغظ ھذا الطقس
"الإنجلیزي" جوناثان كثيراً، فهو لم یأت إلى ھنا لقضاء عطلته. وصل إلى
المكان الذي عملت فیه مادلین، إنه المكان الذي انتقلت إلیه ذات صباح شاحبٍ إیرن دیكسون
لتبلّغ عن اختفاء ابنتھا... في بھو المدخل، استعلم لكي یعرف إن كان رجل التحرّي جیم
فلاھیرتي (الذي كان قد قرأ جوناثان اسمه في ملفات جهاز مادلين ) لا یزال یعمل في ھذا
المكان. وحين التقى به قال جوناثان على الفور : ماذا حلّ بإیرن دیكسون؟ فقال جيم :
والدة الصبیّة آليس ديكسون ؟ ماتت السنة الماضیة بسبب جرعة ممیتة من المخدرات. قال
جوناثان : لماذا تمّت تسویة ھذه القضیة بھذه السرعة الكبیرة؟ فقال جيم : بسرعة
كبيرة؟ لقد تلقینا قلب الصبیّة قبل عامین ونصف، قبل عشرة أیام من توقیف ھارالد بیشوب،
جزّار لیفربول. وحصلناعلى دلیلٍ على موت آليس واعتقلنا قاتلاً وكبلناه بالقيود، ألا
يكفيك كل هذا ؟ حينها فتح جوناثان سحّاب حقیبته الظھریة لیخرج منھا مغلفاً بلاستیكیاً
شفافاً یحتوي على مندیلین ورقیین مخربشین بكتابات وملطخین بالشوكولا. سأل جیم وھو یحاول
أن یقرأ ما ھو مكتوب عبرالمغلف البلاستیكي الشفاف: ما ھذا؟ فقال جوناثان: أريدك أن
تفحص الخط إنْ كان لآليس ديكسون وأن تبعث لي بالنتائج .
قدمت مادلین
جواز سفرھا وبطاقة الطائرة لمضیفة شركة الطیران الصینیة. حقدت مادلين على نفسها
لأنھا كذبت على صاحبها رافائیل وقالت له إنها ذاهبة الى جوليان في لندن. لم تتردد للحظةٍ واحدة في شراء بطاقة طائرة للذھاب إلى الطرف الآخر من العالم
(سان فرانسيسكو) بعد ثوان فقط من تلقیھا تلك المكالمة من جیم فلاھیرتي. كان زمیلھا
السابق في فریق التحقیق، جيم، قد اتصل بھا
في بدایة ما بعد الظھیرة لكي یخبرھا بأنّ شخصاً یُدعى جوناثان لامبیرور، وھو رجل یدّعي
بأنه یعرفھا، جاء یسأله عن قضیة دیكسون.
انتقل
جوناثان من لندن إلى باريس. لم تكن باریس تروق له. لم یكن یشعر فیھا بأنه في بلده،
لم تكن له ذكریات جمیلة فیھا ولم یرغب قط في أن یربّي إبنه فیها. كان قد تحقق من خلال
الھاتف المحمول "خاصّته" من مواعید فتح متجر مادلین. أراد أن يقابلها
خلال بضع دقائق، سوف یلتقي بھا ویتحدث إلیھا. شعر بمزیج من الإثارة والخشیة .
سان فرانسیسكو.. كانت العبارة
التالية مكتوبة على باب مطعم جوناثان: سوف يُغلِق المطعم أبوابه لغاية 26 ديسمبر
الجاري. نشكر لكم تفهمكم .. لم تصدق مادلین عینیھا: كان جوناثان لامبیرور قد أخذ عطلته القصیرة!
ولكنھا لم تقطع اثني عشرألف كیلومتر في سبیل... لا شيء .
باریس..
العبارة التالية كانت مكتوبة على باب متجر مادلين : الأصدقاء الأعزاء، سوف یُغلق متجر
الحدیقة الإستثنائیة أبوابه بدءاً من یوم الأربعاء 21 كانون الثاني . أعياد سعيدة
للجميع! فرك جوناثان عینیه غیر مصدق ما رآه. وبینما كان یفورغضباً، سمع ھاتفه المحمول
یرنّ في جیبه. كانت مادلین ھي التي تتصل...
ھي: أنا في سان فرانسیسكو. قل لي أين تسكن وسوف آتي إلیك. ھو: ولكنني لست في بیتي، بالضبط! ھي: ومعنى ذلك...
ھو: أنا في باریس، أمام متجرك !!
اتفق الإثنان
أن يلتقيا في مطار نيويورك. وما أن نزل جوناثان من الطائرة حتى أخذ یتفحّص على الشاشات
مواعید وصول الرحلات. كانت طائرة مادلین قد حطت على أرض المطار، في نيويورك، قبل طائرته
بعشر دقائق. اقترب من الكافتیریا الذي كانا قد اصطدما فيها ببعضهما البعض. نظر من خلال
زجاج الواجھة. كانت مادلین جالسة إلى طاولةٍ أمام فنجانٍ من القھوة وقطعة معجّنات. ذهب إليها،
وتبادلا هواتفهما.
سرت قشعریرة
في جسد جیم: كانت البصمات الموجودة على المندیل الورقي ھي بصمات الفتاة المراهقة
آليس. إذاً جوناثان لامبیرور ھذا لم یكن یروي له بدعاً وأكاذیب. بعد أكثر من ستة أشھر
من اقتلاع قلبھا، كانت آلیس دیكسون لا تزال على قید الحیاة! شعر بأنّ یدیه ترتعشان
وأنّ الأولویات تتزاحم في رأسه. سوف یُعید فتح التحقیق في القضیة. سوف یخبر رئیسه ووسائل
الإعلام ومادلین بالأمر. ھذه المرّة، سوف یعثرون علیھا. لیست ھناك لحظة واحدة لإضاعتھا،
سوف... قطع الصوت المخنوق، والمنتشرلإنفجارٍ، صمت اللیل. الرصاصة التي أطلقت من قرب،
قتلت جیم في الحال. تسلل الظل عبر النافذة. واصل القاتل المهمة التي استؤجر من أجلها.
وضع السلاح الآلي في يد جيم ليوهم بأنه قد انتحر ومن ثم،وكما طلب منه، أخذ الكيس الذي
يحتوي على المنديل الورقي والذي عليه بصمات الفتاة . ثم أرسل فيروساً لحاسوب جيم.
كانت الساعة
قد تجاوزت الآن العاشرة صباحاً. استمتع كل من جوناثان ومادلين بتلك اللحظة من الإستراحة.
رغم التعب، كان كلُّ منھما یشعر بأنه قد خرج من حالة سباتٍ شتوي. نظرت مادلين إلى ذاك الرجل الغریب الذي لم تتعرّف إلیه إلا
منذ أسبوع ولكنه، خلال الأیام الأخیرة ھذه، شغل الجزء الأساسي من أفكارھا إلى درجة
استحواذه عليها. التقت نظرتھما على نحو حقيقي. ھذه المرأة... كان یعلم بأنّ شخصیة حسّاسة ومعقدة تختفي خلف ھیكلھا
الصلب والبارد. شعر من جدید بتلك الرابطة المستجدة التي توحّدھما. فلقد شرعا في ھذه
الأیام الأخیرة في تعلیم متبادل متسارع. غذى كلٌّ منھما الآخر بوسواس وأفشیا أسرارھما
الأكثر حمیمیة وكشفا عیوبھما وضعفھما وعنادھما، وكشفا عن نقاط قوّتھما ونقاط ضعفھما.
في ھذه الأثناء,
في مدرسة جولیار دسكول، المدرسة الفنیة الأكثر سحراً في نیویورك. صرخت لوریلي وھي تفتح باب الحمّام وتفعّل ھاتفھا
المحمول تحت أنظار شریكتھا في الإیجار: لقد تلقیتُ رسالة من لوك! سألت آلیس: ماذا یرید
منك؟ فقالت لوريلي : إنه یدعوني إلى العشاء غداً مساءً في مطعم كافیة
لوكسمبورغ!
خرجت آليس
لتشتري مشروباً وعلبة من البسكويت، ولكنها رأت رجلاً مقنعاً یصوّب مسدساً نحوھا.
تراجعت إلى الخلف قلیلاً وأطلقت صرخة مخنوقة. ولكنه تقدم وضرب سھما المسدس اللیزري
في أسفل بطن آليس وھما یُطلقان شحنات كھربائیة تصعقھا. انھارت المراھقة في مكانھا، وقد انقطعت أنفاسھا وشلت
ساقاھا وتوقف جھازھا العصبي. وضعها في السيارة، وانطلق بها. لمحت آليس وجه الرجل بعد أن خلع قناعه.
كان رجلاً حلیق الرأس
له عینان زجاجيتان. من ھو ھذا الرجل؟ أثار أمرٌ ما انتباھھا: كان الرجل قد حرص على
ألاّ یُصیبھا في صدرھا بسلاحه وإنما آثر أن یستھدف أسفل بطنها. فقالت في نفسها : كان یعلم أنني قد أجریت عملیة زرع قلب وأنّ
شحنة كهربائية قريبة جداً من القلب قد تقتلني... وبعد فترة من المشي بالسيارة، توقفت السيارة أمام
مستودع قديم. رمى الرجل بآليس إلى داخل غرفة باردة فاحت منھا رائحة العفونة والرطوبة.
عاد إلى الزقاق الذي كان قد ركن السیارة فیه لكي یتبیّن له أنّ... لم تعد السیارة موجودة
ھناك! نظر من حوله. كان كلّ المكان خالیاً. ظل یوري للحظة طویلة جامداً في مكانه دون
حراك، مذھولاً وحائراً أمام السرعة التي تم بها اختلاس السيارة.
قرر ألا يقول لمعلمه شيئاً. فالأمر الأهم هو الوصول إلى الفتاة.
انتقل كل من جوناثان ومادلين إلى بيت صديقة لجوناثان.
كان البيت فارغاً ومهجوراً. وهناك اقتربت مادلين من جوناثان. شعر بأنفاس مادلين
تمتزج مع أنفاسه. وصلت الإثارة ذروتها. قالت: هل أنا امرأة مناسبة لك؟ ألصق جسده
بجسدها وقبّلها... وفي الصباح استیقظ جوناثان متوثباً وقد وضع رأسه على كتف مادلین. شعر جوناثان على
نحو مدھش بأنه على ما یُرام. ارتدى سترته وبنطاله ونزل إلى الصالون. أخرج من جيب
معطفه النسخة المصورة التي كانت مادلين قد أعطتها له: البريد الإلكتروني المسروق
من حاسوب جورج: (جورج، أتوسّل إلیك أن تتخلى عن مشروعك في الذھاب لمقابلة جوناثان
في سان فرانسيسكو. لقد اتخذنا القرار السلیم. لقد فات الأوان على الندم، كنت أعتقد
بأنك أدركت الموضوع من خلال قراءة الصحف... إنس جوناثان وما حدث لنا. دعه
یعید تكوین نفسه). فكر جوناثان , هكذا لم تكن فرانسيسكا قد خانته مع جورج. لماذا
من بین كلّ المسرحیات تم تركیب ھذا السیناریو الدنيء والجدیر بالإزدراء؟ لحماية أي
سر آخر؟ حينما قرأ الرسالة للمرة الثالثة، وضع إشارة على جملة : "كنت أعتقد أنك
قد فهمت الموضوع بعد قراءة الصحف.. ". إلى ماذا كانت تلمح فرانسيسكا ؟ كانت
الرسالة تعود إلى شهر حزيران. وبعد ساعة من البحث عبر الإنترنت عما حدث في ذلك
الشهر، عثر جوناثان على مقالة غريبة ! العثور على جثة خبير مالي في جوف سمكة قرش
على جزر الباهاما ! .. كانت الجثة تعود لرجل الأعمال الأمريكي لويد وارنر. لم یُصدق جوناثان عینیه. كان لوید وارنر قد مات
منذ سنتین ولم یعلم بذلك إلا الیوم! لوید وارنر، المدیر المالي لمجموعة وین إنترتینمنت...
الرجل الذي عجّل في سقوطه من خلال رفضه إعادة جدولة دیون مجموعته. أتكون فرانسيسكا
قد لعبت دوراً في موت لويد وارنر ؟ كتب بضع كلمات لمادلين وخرج جوناثان على الفور.
انطلق إلى المكان التي تعيش فيه فرانسيسكا حالياً. على الرغم من أنه كان قد عاش في
ھذا المكان لمدة عامین، كان جوناثان یشعر بنفسه غریباً فیه الآن. خرجت فرانسیسكا من غرفتھا في الطابق العلوي.
حينها سألھا وھو یقدم لھا الورقة التي طبعت علیھا المقالة التي تروي قصّة موت لوید
وارنر ثم قال : لقد قتلتِه، ألیس كذلك؟ فقالت: من قال لك ذلك ؟ هذا الأحمق
جورج؟ كلا... بالتأكيد ليس... قال: كيف حدث ذلك؟ أخذت تروي : كان ذلك في نھایة
كانون الأول/ دیسمبر، قبل عامین بالضبط من الآن. وفي الأسبوع الذي سبق ذلك، علمت
أنّ لوید وارنر سیذھب إلى جزر الباھاما. قررت أن أذھب بدوري إلى ھناك لكي أقنعه
بالموافقة على إعادة جدولة قرضنا. حاولت أن أقنعه بأن يمنحنا المزيد من الوقت
ولكنه لم يصغ إليّ. وبعد العشاء جاء لويد إلى غرفتي لكي يعرض عليّ صفقة. كان
موافقاً أن يبذل جهداً بشأن ديننا بشريطة أن أنام معه. فطردته من الغرفة، فأغلق
الباب وارتمى عليّ. وأنا أدافع عن نفسي، أمسكت بتمثال كان على الطاولة، وضربته على
رأسه. انهار على الأرض ومات. حينها سحبت الجثة إلى قمرة القارب، وذهبت لأرمي جثته.
كنت فزعة للغاية. وساعدني جورج، الذي كان يشبه لويد إلى حد كبير، من خلال نشأة فكرة
بأنه عشيقي. وأثبت وجودي في جزر البهاما وادّعى بأنه هو من كان معي في الفندق. ومن
هنا جاءت صور المصور البابارازي. ونشرتُ الصور للأعلام. حينها انفجر جوناثان
قائلاً : لماذا لم تتصلي بي أنا، زوجك ؟ فقالت : لأحميك أنت وشارلي! ولا أجعلك
شريكاً في جريمة قتل. أدرك جوناثان بأنه ینظر الآن إلى فرانسيسكا على أنها غريبة. لم
یعد یشعر حیالھا بأيّ اندفاع ولا أيّ شعور كما لو أن حاجزاً لا مرئیاً یفصل بینھما
نھائیاً الآن. خرج جوناثان تحت تأثير صدمة ما كشفته له فرانسيسكا .
الساعة
الخامسة صباحاً. كانت يدا آليس مقیّدتین بإحكام وقدماھا مربوطتین بخیطٍ من
النایلون ومع ذلك ضغطت بكلّ ما أوتیت من قوّة على قیودھا على أمل أن تزیل المواسیر
الصدئة. ولكنّ الماسورة كانت متینة وانھارت الفتاة على الأرضیة المبللة. شعرت بنبضات
قلبها المتسارعة فصاحت: أدويتي !! فمنذ أن خضعت لعملية زرع القلب، كانت حقيبتها
صيدلية. دخل عليها يوري وشدها بعنف من خصلة شعرها ثم قال : سوف تحصلین على الماء،
ولكن قبل ذلك سوف نمثل نحن الإثنان فیلماً قصیراً معاً.
التقى
جوناثان على الفور بمادلين وأخبرها بقصة فرانسيسكا. اتصلت مادلين
بمفوضية الشرطة، حيث أن تليفون جيم لا يرد، فردّ عليها رجل تحري آخر. قالت: أحاول
الإتصال بجيم منذ البارحة مساءً. فقال لها: لقد مات جيم، يا مادلين. لقد عثر عليه
صباح اليوم في مكتبه. لقد انتحر. قالت: كيف حصل الأمر؟ فقال: لا يزال التحقيق
جارياً. لقد أطلق جيم على رأسه رصاصة. ولكن هناك تفصيل يثير الشك. كان جيم يحمل
السلاح في يده اليمنى، ولكنه كان أعسراً !!
مذھولاً
للخبر، شعر جوناثان بالحیرة والإرتباك, ثم قال : أعتقد أنه
اغتيل وأن موته مرتبط بقضية ديكسون. أنا أعتقد أن الشرطة أو الأجهزة السرية قد
قامت بكل شيء لكي تخفي عملية الخطف هذه. حينها اتصلت مادلين بصديقة لها في الشرطة
لتبعث لها آخر ما كان يعمل عليه جيم قبل موته. ثم فتحت بريدها الإلكتروني فكان من
بين الرسائل الكثيرة رسالة من جيم: عزيزتي مادلين، ألم تجدي شيئاً غريباً في بعض
هذه الصور؟ اتصلي بي إن وجدتِ شيئاً غريباً ... جيم . فتحت مادلين ملف الصور المرفق.
كانت الوثائق جمیعھا
ترتبط بتشریح جثة داني دویل، عراب شيتام بريدج. كان قد تم العثور على جثة داني في
بؤرةٍ وقد أطلقت رصاصة على رأسه، وقد بُترت یداه وقدماه واقتلعت أسنانه. عملیة قتل
منسوبة إلى عصابة أوكرانیة. كان تحليل ال دي إن إيه يثبت أن هذا الشخص هو داني
دويل. تفحصتْ في الصور. كانت قطعة كبیرة من شحمة الأذن الیمنى للجثة قد انتزعت. حينها قالت مادلين : هذا ليس داني.. إنه توأمه
جوني ! وهذا يعني أن داني على قيد الحياة. حينها وصلت رسالة من الشرطية صديقة
مادلين : إلى مادلين غرين... هذه هي نتيجة التحليل الذي كان جيم قد طلب مني إجراءه،
وكلي أمل أن يساعدك هذا التحليل .. تاشا. فتحت مادلين التحليل وصمتت : اختبار
أبوّة أجري من دون وجود المادة الوراثیة للأم یستند إلى تحلیل الحمض النووي DNA .
الأب المزعوم: دانییل
دویل. الولید:
آلیس دیكسون. احتمال الأبوّة مرجّح بنسبة ٩٩9.٩٩%.
قبل موته، كان لدى جیم حدس رائع. بعد ثلاثة أعوام من التحقیق، استطاع لیس
فقط أن یثبت بأنّ داني دویل لم یمت فحسب، بل وأنه والد آلیس دیكسون. اكتشاف دفع
حیاته ثمناً له.
نظر جوناثان إلى خارج المقهى وقال: أعتقد أن هناك من
يقتفي أثرنا ويراقبنا! أترين سيارة الفيراري السوداء تلك يا مادلين ؟ لقد صادفتها
مرتين هذا الصباح. قالت بلهجة حازمة: اتبعني. حينها صعدت مادلين في سيارتها المستأجرة
وزادت من سرعتها. فجأة دعست مادلين على الكوابح وأدارت المقود إلى أقصى اليسار، الأمر
الذي جعل السيارة تخرج إلى منتصف الطريق. رست السيارة على الجانب الآخر من الطريق،
بعكس اتجاه سيارة الفيراري. أصبحت الآن السیارتان تسیران باتجاھین معاكسین. حینما تقابلت
السیارتان، كان لدى جوناثان نصف ثانیة لكي یعرف من ھو الشخص الذي یجلس خلف المقود.
كانت امرأة شقراء، جمیلة جداً، مع ندبة على شكل نجمة تمتد من قوس حاجبھا لكي تشق
أعلى خدھا وصولاً إلى ملتقى الشفتین. حينها صاح جوناثان : إنها
المرأة التي اصطحبتُ الفتاة آليس إلى بيتها قبل عامين والتي ادعت أنها أمها. أخذا
بتتبع السيارة، ثم دخلا وراءها إلى مستودع للسيارات، وحين أغلق باب المستودع وقفت
السيدة ذات الندبة أمامهما وهي تصوب سلاحها نحوهما وقالت: التحري بليث بلاك من
جهاز يو. إي. مارشال! نظر جوناثان ومادلين إلى بعضهما باندهاش، كانت هذه المرأة
شرطية !! وفجأة جاء داني دويل فصرخت به مادلين : أنت وغد حقيقي! كيف استطعت أن
تقنعني أن آليس قد ماتت ؟ فقال داني : مادي، هدئي من روعك.. سأروي لك الحكاية. سار
مع مادلين لوحدهما وقال: بدأت كلّ الحكایة قبل ثلاثة أعوام ونصف. كان ذلك قبل وفاة والدتي بشھر
واحد. لقد أنھت حیاتھا في مستشفى كریستي ھوسبیتال، من جرّاء سرطان في مرحلته
النهائية. كنت أعلم بأنھا تعیش آخر أسابیعھا وكنت أذھب لرؤیتھا كلّ یوم. وبعد زيارتي
للمستشفى كنت أذهب إلى مقهى سول كافيه. وهناك شاهدت آليس للمرة الأولى. كانت تنظر إليّ
من بعيد، ومن ثم، ذات مساء جاءت لتوجه لي الكلام بجسارة. سألتني إن كنت أتذكر
والدتها، إيرن ديكسون. هذا صحيح، كنت قد نمت مع إيرن مرتين أو ثلاث، قبل 15 عاماً.
ثم قالت لي آليس إنها سألت والدتها، وأجرت تحقيقاً وقالت إنه حسب رأيها أنني
والدها. واعتدنا على أن نلتقي تقريباً كل يوم. فكرت أن أتبناها شرعياً، ولكن نظراً
إلى عدد الأشخاص الذين كانوا يريدون قتلي، كان ذلك سيعرضها للخطر. علاوة على ذلك،
كانت هناك مشكلة صحية بقلبها. عرضتها على الطبيب وقام بمعالجتها. كانت آليس تعي أنني
ملاحق من الشرطة ومن العصابات، فذات مساء رأيتها تأتي ومعها ملف، وقالت لي إنها
وجدت الصيغة السحرية ليتاح لنا نحن كلينا أن نبدأ حياة جديدة. وكانت هذه الصيغة
السحرية هي البرنامج الأمريكي لحماية الشهود. وشقت هذه الفكرة طريقها. كان في
المكسيك حرب عصابات تجارة المخدرات وقد أوقعت العشرات من القتلى. وقبل خمس عشرة
عاماً، وخلال سنواتي الدراسية في كاليفورنيا، قابلت جيزيبيل كورت، إبنة رئيس
العصابة هذه، واستنجدتْ بي لتبييض الأموال. فساعدتها في الإستثمار في قطاع التطوير
العقاري والفندقي. وعندما حدثتني آليس عن برنامج حماية الشهود، طلبت من وكيلي
القانوني أن يعرض صفقة على الشرطة وهي إفلاتي من القصاص وهوية جديدة لآليس ولي
مقابل شهادتي للإيقاع بجيزيبيل كورت. وكانت الولايات المتحدة حريصة على الإيقاع بها
للحجز على ممتلكاتها. حينها وافقوا على الصفقة. فقامت الإستخبارات البريطانية بتأمين
ترحيل آليس بإشاعة الإعتقاد بعملية اختطافها. وكان المتفق أني سأنضم إليها. قالت:
وماذا كان دور بيشوب؟ قال: بيشوب القاتل هذا كان عبارة عن مصادفة. أما أخي جوني،
فلقد قتل نفسه بنفسه. كان مومياء نخرته المخدرات، وكنت تعرفينه مريض نفسياً. وتم
استخدامه لإشاعة خبر موتي بما أنه توأمي. والآن عليك مساعدتي يا مادلين في العثور
على آليس !!
على الطرف الآخر حكت الشرطية بليث، ذات الندبة، القصة
لجوناثان. سألها: هل تعتقدين أن داني قد يُستهدف من قبل المكسيكيين ؟ فقالت : ممكن،
ولكن داني قد سجل شهادته حتى قبل بدء الدعوى. شهادة مصورة، بحضور قاضٍ ومحام،
وتدين جيزيبيل كورت. وهذا الشريط سيكون كافياً لإدانة جيزيبيل، والأمل الوحيد
للعصابة هو أن يغير داني روايته يوم المحاكمة. فقال جوناثان : ولماذا يغير رأيه ؟
فقالت : بسبب هذا !! ثم شغلت فيلماً مصوراً. كان الفيلم يحتوي على مقطع موجز للوجه
المنهك لآليس وهي تقول : أنقذني يا أبي غيّر شهادتك لنكون معاً من جديد .
حينها خرج جوناثان من المستودع وترك مادلين مع داني والشرطية
بليك. أخذ يفكر بآليس وبالكلمات التي أرسلتها.راودته فكرة. أمسك بالقلم وأعاد
تمرير الريشة على الحرف الأول من كل جملة Save me dad <
Change your testimony <And well be together <Right dad
? . كانت الأحرف الكبيرة الغامقة تشكل على التوالي كلمة من أربع
أحرف: SCAR أي "الندبة" باللغة الإنكليزية. بعث
برسالة إلى مادلين قائلاً فيها: أعرف من الذي خطف آليس! وطلب منها أن تقابله في حانة
لايف آند ديث. ولما تقابلا قال لها : عرفت من اختطف آليس !! إنها بليث الشرطية. يجب
أن نحذّر داني إنه في خطر أيضاً. حينها أرسلت مادلين لداني رسالة سريعة بما توصلت إليه.
قررا إخبار الشرطة بما اكتشفاه. ولما خرجا من الحانة، وجدا سيارة بليث تنتظرهما على
الجانب الآخر من الطريق. حينها أطلقت بليث رصاصة كادت أن تخترق جمجمة جوناثان فركض
بعيداً، بينما تغلغلت مادلين بين العمارات وراقبت بليث من الخلف. أطلقت عليها رصاصة
في جمجمتها جعلت بليث تهوي إلى الأرض.
كان لا بد الآن من العثور على آليس , فتح جوناثان على
هاتفه المحمول تطبيق لتتبع الأجهزة الذكية من خلال البريد الإلكتروني، ووضع فيه
البريد الإلكتروني لآليس، فظهرت خارطة مانهاتن وومضت نقطة زرقاء محاطة بهالة على
الشاشة. لم يكن هاتف آليس موجوداً في نيويورك بل وكان على بعد أقل من ثلاثة
كيلومترات من هنا أيضاً. وصلا إلى السوق الذي كان يشير إلى مكان وجود الهاتف. كان
التطبيق يتيح توجيه رسالة على الهاتف المحمول أو إحداث رنين متواصل لمدة دقيقتين وإن
كان الهاتف على وضعية الصامت . جرب جوناثان أن يبعث برسالة، فرنّ الهاتف في جيب
فتاة جميلة بين الثامنة عشرة والعشرين من عمرها. أمرتها مادلين أن تقترب منها
مشهرة إليها مسدسها. سألتها مادلين عن الهاتف ؟ فقالت الفتاة: هذا الهاتف إنه هدية
من صاحبي أنتوني, عثر عليه في كراج السيارات. فأمرت مادلين الفتاة أن توصلها إلى
مكان الشاب. وحين وصلوا إلى بيته, وضعت مادلين السلاح على رأسه وقالت له : أين
عثرت على هذا الهاتف؟ فقال : عثرت عليه في سيارة قمت بسحبها بواسطة قاطرتي أول من أمس
مساء. سحبت السيارة من كوناي آيسلاند. حينها قالت مادلين لجوناثان : هيا بنا إلى
هناك.
كانت آليس مبللة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها , سالت
قطرات ضخمة من العرق على وجهها. كانت كليتاها تنزفان. كانت الحمى لا تزال تنهشها.
كانت أليس تقول لنفسها لا تموتي قبل أن تجربي كل السبل. ظلت تحاول لأن تفك الوثاق إلى
أن نجحت أخيراً، ولكن حينها كان يوري قد
اقترب منها !!
قالت مادلين لجوناثان : أنت ستذهب إلى المكان عبر المترو
وأنا سأجرب حظي عبر الطريق, ومن يصل عند آليس أولاً سيقوم بما عليه أن يفعله, اعتن
بنفسك. وانطلقت, فاليوم تكتب خاتمة تحقيق كان يعذبها منذ ثلاثة أعوام. بعد فترة
عثرت مادلين على المكان. دخلت إلى ساحة المستودع فهاجمتها خمسة كلاب فاضطرت إلى
قتلهم. أحست أن الأدرينالين يجتاحها ويمتزج بالخوف. دخلت إلى المستودع الغارق في
الظلام وصاحت: آليس؟ كررت النداء وهي تتقدم ببطء وأصابعها قابضة على زناد مسدسها. وصلت
إلى غرفة تحتوي على سرير متنقل. عثرت مادلين على رباط بلاستيكي مقطوع ورأت بلوزة
تخص الفتاة المراهقة . قربت مادلين البلوزة على وجهها : كانت مبللة بعرق فاتر. نظراً
إلى البرد الذي كان يخيم على هذا السجن، تأكدت مادلين أن آليس كانت موجودة في هذا
المكان قبل ربع ساعة من الآن! ولكن قد فات الآوان! لقد وصلت متأخرة! غادرت
المستودع وهي عاقدة العزم على أن تواصل المطاردة .
خلف مقود شاحنته , كان القلق يعتري يوري. قبل ساعة من الآن،
ذهل لنبأ وفاة بليث بلاك الذي سمعه من نشرات الأخبار. لذا قرر أخيراً أن يبيع
الصبية. كانت آليس صغيرة وجميلة ومثيرة وبلا شك عذراء. حينها التفت يوري إلى آليس
وقال : هل تريدين شيئاً لتتناولينه ؟ فقالت آليس : نعم أريد ذلك من فضلك .
ما إن توقفت مادلين عن الجري، حتى صعقها الألم الشديد.
دخلت إلى أحد مطاعم الوجبات السريعة , اشترت معقماً لجروحها. انتظرت أمام صندوق
المحاسبة خلف رجل روسي طويل القامة يشتري بسكويت مدور بالشوكولا، مزينة بالكريمة
البيضاء. إنه بسكويت أوريو. حينها قفز قلب مادلين إلى صدرها. كان هذا البسكويت
المفضل لآليس عندما قرأت يومياتها. لحقت به إلى عربته وقالت مصوبة مسدسها نحوه:
ارفع يداك! حينها فتح يوري باب الشاحنة... فضغطت مادلين على الزناد مراراً وتكراراً
ولكن كان المسدس فارغاً. حينها اتصلت مادلين على الفور بجوناثان الذي كان على بعد
عشرين متراً منها. أومأت له بإشارت كثيرة، فأخرج جوناثان بمسدس داني الذي أخذه من
مادلين وصوب المسدس نحو الشاحنة وضغط على الزناد. اخترقت الرصاصة الواجهة الزجاجية
للشاحنة. انحرفت الشاحنة عن مسارها مصطدمة بدعامة هيكل المترو. اقتربت مادلين من
الشاحنة. كانت آليس هناك مكبلة، وجامدة، وثيابها ملطخة بالدم. انحنت مادلين فوقها ووضعت
أذنها على صدرها بحثاً عن نبضة قلب. وامتزج دمها بدم آليس .
صباح اليوم التالي. عكست الشمس المشرقة وسط سماء صافية أشعتها
على المدينة الصدفية. نزل جوناثان وهو يمسك قدحاً بيده وعلبة كرتونية بأخرى بخطوات
حذرة الرصيف المغطى بالثلج. كان قد قضى قسماً كبيراً من الليل في مفوضية الشرطة ورجال
FBI المكلفين بحماية داني . استقل جوناثان مصعد
مستشفى سان جود حتى وصل إلى الطابق التي تتلقى فيه آليس العلاج. رفعت بصرها نحوه
وهي لا تزال مخدرة بعض الشيء وأشرق وجهها الجميل بابتسامة خفيفة. ذهب جوناثان
بعدها إلى الغرفة التي كانت مادلين تتلقى فيها المعالجة من جروحها. دخل إلى الغرفة
فلقي عندها الكابتن ديلغاديلو، أحد أركان الشرطة في مدينة نيويورك المحلية. قال
الكابتن قبل أن يقوم : أنتظر ردك يا آنسة غرين. وبعد أن غادر قالت مادلين لجوناثان
: لقد عرض عليّ منصباً! مخبرة استشارية لصالح شرطة مدينة نيويورك المحلية! فقال
جوناثان : وهل ستوافقين ؟ فقالت : أعتقد ذلك. أحب الأزهار كثيراً، ولكن عملي
كشرطية مغروس في جلدي، أدمنتُ عليه. حينها فتح جوناثان هاتفه المحمول على صور لبيت
قديم في غرينتش فيلج وقال : هذا البيت للبيع. ويمكن أن يتحول لمطعم جميل. أعتقد بأني
سأخوض المغامرة. تنفست مادلين وهي غير قادرة على إخفاء فرحتها : حقاً ! حسناً، هذه
ليست فكرة سيئة. فقال جوناثان: بهذه الطريقة، إن بقيتِ في نيويورك، سوف يمكنني أن أقدم
لك يد المساعدة في تحقيقاتك. لأني لاحظت أنك تحتاجين إلى دماغي لكي تجدي الحلول
للأوضاع. فقالت: وأنا بالمقابل يمكنني أن أساعدك في المطبخ !
كان الهواء منعشاً في الخارج والسماء صافية. وهي تنظر إلى
الثلج يتلألأ تحت أشعة الشمس , تذكرت مادلين الجملة التي كانت آليس قد دونتها على
الصفحة الأولى من دفتر مذكراتها اليومية الخاصة : أجمل سنوات الحياة هي التي لم
نعشها بعد.. هذا الصباح كانت مادلين ترغب أن تُصدق ذلك.
النهاية.
تعليقات
إرسال تعليق