لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ..قناة راجوشو ...الرابط التالي :
وقفتْ آن برنتيس على الرصيف في انتظار القطار ، في محطة فيكتوريا ، وأخذت تلوح بيديها .. وسار القطار وهو يزمجر ويطلق صفارات ثابتة متلاحقة مستمرة ! ثم ابتعد القطار واختفى معه وجه سارة الصغيرة ، واستدارت آن بحركة بطيئة فوق الرصيف نحو باب الخروج.. و الوجع الكبير يأخذ بمجامع قلبها .
سارة الصغيرة الغالية .. كم ستحن اليها في غيبتها .. صحيح أنها لن تغيب أكثر من ثلاثة أسابيعز، ولكن كيف تمضي هذه الام الحنونة هذه المدة الطويلة بدون سارة ؟ ثلاثة أسابيع ولن يكون في البيت إلا آن برنتيس و مدبرة المنزل المخلصة أديث .. امرأتان في خريف العمر .
سارت آن وهي تحاول أن تتغلب على اوجاع قلبها : سوف أفتقد سارة جداً ، ولكني سوف أنعم بالسلام و الهدوء لمدة ثلاثة أسابيع .. وفضلاً عن ذلك ، فإن أديث ستتمتع بشيء من الراحة هي الاخرى ، مع أن أديث تحب سارة بشكل كبير وتعتبرها سارة أمها الثانية . فكرت آن : ولكن ماذا أريد؟ لقد تمتعت بكل شيء طيلة عمري و حياتي .. تمتعت بالحب والسعادة مع باتريك ، وأنجبنا ابنتنا الغالية سارة ، وحصلت على كل ما ارغب فيه من الحياة .. والآن .. انقضى كل شيء .. الآن سوف تكمل سارة الحياة حيث توقفتُ أنا .. سوف تتزوج وتنجب أطفالاً ، وسوف يصير لي احفاد ! ما أجمل هذه الحياة .. ولكن الخوف الغريب البارد ما زال يقبض على جماع قلبها .. لو أن باتريك لم يمت ! لقد مات منذ مدة طويلة للغاية ، كانت سارة لا تزال في الثالثة من عمرها . ومرة ثانية عاود آن الشعور المخيف البارد . الشعور بالوحدة المطلقة . قالت في راسها : لقد حان الوقت الذي يجب أن تستقل فيه سارة بذاتها .
بلغت آن الواحدة والأربعين من عمرها ، لم تكن تقاوم الأعوام الطويلة . لم تكن تستعين ب الثياب و لا ب المساحيق , ولكنها كانت تشعر بينها وبين ذاتها أنها ليست امرأة في منتصف العمر . ما اجمل أن تكون المرأة أماً . إنه شيء مثل أن ترى ذاتها تولد من جديد ، وتنمو من جديد ، وتستكشف الدنيا لمرة ثانية في الحياة الواحدة . في هذه اللحظات وهي تحدث ذاتها وجدت آن نفسها أمام سيارة تاكسي . قالت لذاتها : أين أذهب الآن ؟ ثم تذكرت أنها على موعد مع جيمس جرانت .. جيمس العطوف العزيز . لقد قال لها في ليلة البارحة : سوف تشعرين بفراغ بعد فراق سارة ، تعالي نقضي أمسية رائعة ! إن صداقة خمسة وعشرين سنة مع جيمس تقضي عليها أن تصغي لثرثرته السخيفة التي يجد لذة وهو يحكيها . ولكنها قبل ذلك ستتناول الغداء مع رفيقتها لورا .
كانت الساعة الواحدة وأربعة عشر دقيقة عندما وصلت الى منزل لورا . كانت السيدة لورا امرأة في الرابعة والستين من عمرها ، وكان لها مظهر الإنسانة التي تعرف أن لها شخصية كبيرة في الحياة . قالت لورا : إذاً سافرتْ سارة إلى سويسرا ؟ كم ستظل هناك ؟ فقالت آن : ثلاثة أسابيع ، ولكني احس باني وحيدة بعض الشيء . هل شعرت قط بأنك وحيدة يا لورا ؟ فقالت : طبعاً .. لقد جاءني هذا الاحساس للمرة الاولى وأنا في السادسة والعشرين , لقد أدهشني هذا الشعور و جعلني اشعر بالخوف على غير عادتي ، ولكني سلمت به ، لا يجب أن ننكر الحقيقة على الاطلاق .
رجعتْ آن إلى المنزل . استقبلتها أديث في حجرة الإستقبال وقالت لها : طلبك الكولونيل جيمس جرانت حتى يخبرك بأن موعدك معه في الثامنة مساء . ثم خرجت أديث من الغرفة ، بينما بقيت آن وأغمضت عينيها واسترخت لبعض الوقت !
في المساء وصلت آن إلى المطعم لتجد الكولونيل جالساً في بار المطعم ينتظرها وعلى ملامحه دلائل اللهفة و القلق . أسرع يُحييها في سرور صادق. كان الكولونيل جرانت رجلاً متناسق الأعضاء طويل القامة ، وله حركات رجال الجيش المحسوبة بدقة ، ويكلل رأسه شعر حليق رمادي اللون .. فقال : لماذا لم يحضر الباقون حتى هذا الوقت ؟ فقالت آن : من الباقون ؟ فقال : آل مسينجهام . وأيضاً جينيفر جراهم ، إنها ابنة عمي ، وأيضاً ريتشارد كولدفيلد . وفجأة قال : ها قد جاء آل ماسينجهام .
كانت مسز ماسينجهام امرأة نحيلة الجسد ، وبشرتها مليئة بالبثور . وكان مستر ماسينجهام رجلاً قصير القامة ، لا يكاد من يجلس معه يحس بوجوده إلا إذا تكلم . ثم حضرت جنيفر ومعها كولدفيلد . كانت جينفر في الخامسة والثلاثين من عمرها ، ولها وجه مثل وجه الحصان . أما ريتشارد كولدفيلد، فكان رجلاً في منتصف العمر ، وله بشرة اعطتها الشمس لونا مميزا . جلس ريتشارد بالقرب من آن فشرعت من باب اللباقة تجاذبه الحديث وقالت : ما هو رأيك في انجلترا بعد هذه المدة الطويلة من الغياب ؟ فقال إن الأمر في البداية كان صعباً للغاية ، وأن كل شيء قد تغير عما كان يعرفه عليه قبل الحرب . ولكنه الآن يبحث عن عمل مناسب . ثم ابتسم وقال : عندي ثروة لا بأس بها ، وإذا لم أوفق إلى وظيفة فإنني قد ابتاع مزرعة في الريف و قد اشتغل في زراعة الخضراوات والدواجن . فقالت آن : عندي اصحاب عملوا في تربية الدواجن ثم انصرفوا عنها ، يبدو أن الدواجن تتعرض للأمراض على الدوام . فقال : إني أكره الناس الذين يمضون حياتهم و هم يشكوا و يبكوا ، ملوحين أمام الحياة بسوء حظهم . فقالت : إني أعرف شاباً من هذا النوع .. إنه صاحب ابنتي المقرب ، وهو لا يحدثنا عن شيء إلا عن فشله في الحياة . فقال الكولونيل جرانت : من تقصدين ؟ جيرالد ليولد ؟ إنه لن ينجح في شيء طيلة حياته ؟ قال ريتشارد : إذن فلك ابنة شابة ؟ فقالت : نعم . إبنتي في التاسعة عشر. سألها جيمس جرانت: هل هذا الصباح سافرت ابنتك ؟ فقالت : نعم يا جيمس . سألها: هل رافقها جيرالد في رحلتها ؟ فقالت : لا .. لقد ذهب إلى مزرعة عمه ! فقال : حمداً لله.. على كل حال لن تراه فترة ثلاثة أسابيع . قالت: لا اظن ان العلاقة التي تربطها بجيرالد علاقة جادة .
فتحت آن عينيها في صباح اليوم الذي يليه وللوهلة الأولى لم تعلم أين هي . عند ذلك تنبهت حواسها و عرفت أنها كانت تحلم .. كانت تحلم بأنها عادت شابة صغيرة في بيت عائلتها . وحتى بعد استيقاظها كانت آن لا تزال تحت تأثير ذلك الخيال الجميل . لقد كان حلماً جعلها سعيدة للغاية ، ترك في نفسها ما يشبه الاسى و اللوعة . دخلت اديث الى الحجرة وأزاحت الستائر وقالت : لقد نمت جيداً هذه الليلة ، هناك ضباب في الأفق . إفطارك جاهز، سوف اجهزه لك في الحال ؟ غادرت أديث الحجرة ، ثم عادت حاملة الإفطار قائلة : تناوليه على مهل ، وتمتعي بالاسترخاء و الكسل في الفراش ، وحلقي مع أفكارك الجميلة في هذه العطلة ؟
كانت آن تُحدث نفسها في بعض الأوقات : أنه قد يحدث مكروهاً لابنتي ، ولكني لن أتدخل إلا إذا احسست بأنها في حاجة إليّ .. لن أشعر على الاطلاق بسيطرتي أو بتدخلي في امورها الخاصة . ثم حدث المكروه .. ذلك الشاب المزعج جيري ليولد الذي نجح في أن يحظى بلفت انتباه ابنتها . عبثاً حاولت أن تفصل بينهما .. والآن .. ها هي ابنتها بعيدة عن ذلك الكابوس الذي يجري بقدمين جيري .. ومن المؤكد أنها ستقابل شباناً أفضل منه ألف مرة .
بعد لحظات دخلت أديث إلى الحجرة و راسها ملفوف بمنديل ، وعلى وجهها تلك العلامات التي تكون على وجه كاهنة تقوم بطقوس مخيفة وثنية قائلة : أتتناولي طعامك في الخارج ، أليس كذلك ؟ وسوف أنتهز أنا هذه الفرصة حتى اقوم بناظيف البيت باكمله . فقالت آن : حسناً يا أديث ، سوف أخرج . ثم انسحبت الخادمة من الحجرة حتى تبدا الهجوم الكبير و المرتقب على الأثاث والسجاجيد وشرعت آن تستعد للخروج .
عثرت آن أثناء تسكعها في المخازن على طقم صيني جميل للسوفلية فاشترته . ثم ذهبت الى متجر الاثاث الزراعي ، كانت تريد أن تشتري بعض الأصص لغرفة الإستقبال . وفجأة اتاها صوت من الخلف : صباح الخير يا مسز برنتيس . استدارت لتجد ريتشارد كولدفيلد يقف من بعيد ينظر إليها . قال : ما أجمل أن اراك مصادفة .. لقد كنت أفكر فيك لتوي ، فقد لمت ذاتي لأني لم أسألك عنوانك ليلة البارحة . فقالت آن : سوف أكون سعيدة اذا ما زرتني في البيت . مشى معها نحو باب الخروج ، وفجأة سألها : ترى هل في إمكاني أن أدعوك لناكل غدائنا سوية هذا اليوم ؟ فقالت: يسعدني أن أقبل دعوتك ، والواقع أنني ممنوعة من الرجوع إلى بيتي في هذا الوقت . فقال : ممنوعة ؟ فقالت : نعم .. إن خادمتي تنظف البيت هذا اليوم بمناسبة فصل الربيع ، وقد منعتني من ان ارجع الى البيت قبل حلول الليل . فقال في سذاجة : وكيف تسمحين لها أن تعاملك هكذا ؟ فقالت : أوه ، إن أديث صديقتي و خادمتي , إنها معي منذ وقت كنت طفلة . ثم وقف الإثنان أمام نافورة مياه و اخذا يتطلعان ال الطيور المائية وهي تسبح في الماء بكل سرور . كان ريتشارد شخصاً وديعا اليفا ، وتحدث الإثنان وضحكا ، وشعر كل منهما بأنه لا غنى له عن الشخص الاخر .
سألت لورا : هل مسز برنتيس (آن ) في البيت الان ؟ فأجابتها أديث التي فتحت لها الباب : ليست موجودة في هذا الوقت ، ولكنها لن تغيب لمدة طويلة ، فدخلت لورا إلى المنزل وقالت : سوف أنتظرها ربع ساعة لا أكثر ، فقد مضت أيام كثيرة لم اقابلها فيها . تناولت لورا كتاباً وأخذت تدقق فيه ، وما هي إلا دقائق حتى سمعت صوت المفتاح يدور في ثقب الباب الخارجي ، ثم سمعت صوت الباب يشرع ، وترامى إليها صوت شخصين يتكلمان بصورة مرحة . صوت آن برنتيس وصوت رجل . دخلت آن برنتيس الى الحجرة ، وخلفها ريتشارد كولدفيلد . فوجئت آن برؤية ضيفتها ، فارتبكت لدقيقة ، ثم تمالكت نفسها وعرّفتها على ريتشارد كولدفيلد . تحدثا في مواضيع عديدة ، ثم دخلت أديث إلى الحجرة التي يجلس فيها ريتشارد ولورا وآن وقالت : ها هو خطاب سارة يا سيدتي . وخرجت بعد أن وضعت الخطاب على اقرب طاولة . حينها شرب ريتشارد كولدفيلد فنجان الشاي على وجه السرعة ثم استأذن في الإنصراف !
تمتمت آن بعد خروجه للورا وقالت : إنه إنسان لطيف للغاية ، فقد انصرف كي يمنحنا الفرصة حتى نتحدث سوية . ولكن لورا لم ترد عليها فوراً ، كانت تنظر إليها و تدقق في ملامح وجهها ، وتعاين في دهشة ذاك التغيير الرائع الذي ألمّ برفيقتها . كانت ملامح آن الوادعة الرضية قد تحولت إلى جمال يفتن الاعين . فقد عرفت لورا ذاك التغيير في نساء أخريات ، وكانت تفهم سببه .. إنه الحب ! قالت آن : ريتشارد صديقي ، عرفته منذ عشرة أيام فقط ، تقابلنا للمرة الاولى في عشاء جيمس جرانت . فقالت لورا مغيرة مجرى الحديث : ما هي أخبار ابنتك ؟ فقالت آن : إنها تقضي وقتاً جميلا جدا . هذا الخطاب من ابنتي ..هل تسمحين لي بان اقراه ؟ قالت لورا : طبعاً يا عزيزتي . ففتحت آن الخطاب وقرأته : ماما الحبيبة .. الثلج هنا رائع جدا . الجميع يقولون إن هذا هو افضل موسم انزلاق عرفته سويسرا . احس بميل نحو أحد المدربين ، ولكن من المؤسف أنه لم يتجاوب لأنه متعود على أن تحس البنات نحوه بميل أثناء تدريبه لهن . لقد تعلمت أن أرقص الفالس فوق الثلوج اخيرا .. ما هي أحوالك يا ماما العزيزة ؟ أرجو أن تتمتعي بوقتك مع كل اصحابك . إلى اللقاء قريباً . إبنتك المحبة سارة .
قالت لورا: يبدو أن ابنتك تنعم بوقتا رائعا في سفرتها .. وأنت يا آن ؟ فركت آن يديها و هي مرتبكة .. وقالت : ريتشارد عرض عليّ الزواج اليوم ، و لقد وافقت على عرضه . فقالت لورا : أليس هذا قراراً سريعاً جداً ؟ فقالت آن : يبدو لك هذا الموضوع سخيفا ، ولكني في الحقيقة مغرمة به بشكل كبير . قالت لورا : تقبلي تهاني الصادقة . قالت آن : لا أعتقد أن سارة سوف تمانع في الزواج ، أليس كذلك ؟ فقالت لورا : يجب أن تعلم ابنتك خبر نيتك في الزواج قبل عودتها من سويسرا , بذلك يكون لها الوقت الذي يجعلها تتعود على هذا التغيير الحديث الذي سيطرا على حياتها . فقالت آن : أرجو ألا تستاء من زواجي . فقالت لورا : إذا استاءت ابنتك دعيها تستاء ، ستتغلب على استياءها بشكل سريع ففي النهاية .. إنها تحبك .
سارة الصغيرة الغالية .. كم ستحن اليها في غيبتها .. صحيح أنها لن تغيب أكثر من ثلاثة أسابيعز، ولكن كيف تمضي هذه الام الحنونة هذه المدة الطويلة بدون سارة ؟ ثلاثة أسابيع ولن يكون في البيت إلا آن برنتيس و مدبرة المنزل المخلصة أديث .. امرأتان في خريف العمر .
سارت آن وهي تحاول أن تتغلب على اوجاع قلبها : سوف أفتقد سارة جداً ، ولكني سوف أنعم بالسلام و الهدوء لمدة ثلاثة أسابيع .. وفضلاً عن ذلك ، فإن أديث ستتمتع بشيء من الراحة هي الاخرى ، مع أن أديث تحب سارة بشكل كبير وتعتبرها سارة أمها الثانية . فكرت آن : ولكن ماذا أريد؟ لقد تمتعت بكل شيء طيلة عمري و حياتي .. تمتعت بالحب والسعادة مع باتريك ، وأنجبنا ابنتنا الغالية سارة ، وحصلت على كل ما ارغب فيه من الحياة .. والآن .. انقضى كل شيء .. الآن سوف تكمل سارة الحياة حيث توقفتُ أنا .. سوف تتزوج وتنجب أطفالاً ، وسوف يصير لي احفاد ! ما أجمل هذه الحياة .. ولكن الخوف الغريب البارد ما زال يقبض على جماع قلبها .. لو أن باتريك لم يمت ! لقد مات منذ مدة طويلة للغاية ، كانت سارة لا تزال في الثالثة من عمرها . ومرة ثانية عاود آن الشعور المخيف البارد . الشعور بالوحدة المطلقة . قالت في راسها : لقد حان الوقت الذي يجب أن تستقل فيه سارة بذاتها .
بلغت آن الواحدة والأربعين من عمرها ، لم تكن تقاوم الأعوام الطويلة . لم تكن تستعين ب الثياب و لا ب المساحيق , ولكنها كانت تشعر بينها وبين ذاتها أنها ليست امرأة في منتصف العمر . ما اجمل أن تكون المرأة أماً . إنه شيء مثل أن ترى ذاتها تولد من جديد ، وتنمو من جديد ، وتستكشف الدنيا لمرة ثانية في الحياة الواحدة . في هذه اللحظات وهي تحدث ذاتها وجدت آن نفسها أمام سيارة تاكسي . قالت لذاتها : أين أذهب الآن ؟ ثم تذكرت أنها على موعد مع جيمس جرانت .. جيمس العطوف العزيز . لقد قال لها في ليلة البارحة : سوف تشعرين بفراغ بعد فراق سارة ، تعالي نقضي أمسية رائعة ! إن صداقة خمسة وعشرين سنة مع جيمس تقضي عليها أن تصغي لثرثرته السخيفة التي يجد لذة وهو يحكيها . ولكنها قبل ذلك ستتناول الغداء مع رفيقتها لورا .
كانت الساعة الواحدة وأربعة عشر دقيقة عندما وصلت الى منزل لورا . كانت السيدة لورا امرأة في الرابعة والستين من عمرها ، وكان لها مظهر الإنسانة التي تعرف أن لها شخصية كبيرة في الحياة . قالت لورا : إذاً سافرتْ سارة إلى سويسرا ؟ كم ستظل هناك ؟ فقالت آن : ثلاثة أسابيع ، ولكني احس باني وحيدة بعض الشيء . هل شعرت قط بأنك وحيدة يا لورا ؟ فقالت : طبعاً .. لقد جاءني هذا الاحساس للمرة الاولى وأنا في السادسة والعشرين , لقد أدهشني هذا الشعور و جعلني اشعر بالخوف على غير عادتي ، ولكني سلمت به ، لا يجب أن ننكر الحقيقة على الاطلاق .
رجعتْ آن إلى المنزل . استقبلتها أديث في حجرة الإستقبال وقالت لها : طلبك الكولونيل جيمس جرانت حتى يخبرك بأن موعدك معه في الثامنة مساء . ثم خرجت أديث من الغرفة ، بينما بقيت آن وأغمضت عينيها واسترخت لبعض الوقت !
في المساء وصلت آن إلى المطعم لتجد الكولونيل جالساً في بار المطعم ينتظرها وعلى ملامحه دلائل اللهفة و القلق . أسرع يُحييها في سرور صادق. كان الكولونيل جرانت رجلاً متناسق الأعضاء طويل القامة ، وله حركات رجال الجيش المحسوبة بدقة ، ويكلل رأسه شعر حليق رمادي اللون .. فقال : لماذا لم يحضر الباقون حتى هذا الوقت ؟ فقالت آن : من الباقون ؟ فقال : آل مسينجهام . وأيضاً جينيفر جراهم ، إنها ابنة عمي ، وأيضاً ريتشارد كولدفيلد . وفجأة قال : ها قد جاء آل ماسينجهام .
كانت مسز ماسينجهام امرأة نحيلة الجسد ، وبشرتها مليئة بالبثور . وكان مستر ماسينجهام رجلاً قصير القامة ، لا يكاد من يجلس معه يحس بوجوده إلا إذا تكلم . ثم حضرت جنيفر ومعها كولدفيلد . كانت جينفر في الخامسة والثلاثين من عمرها ، ولها وجه مثل وجه الحصان . أما ريتشارد كولدفيلد، فكان رجلاً في منتصف العمر ، وله بشرة اعطتها الشمس لونا مميزا . جلس ريتشارد بالقرب من آن فشرعت من باب اللباقة تجاذبه الحديث وقالت : ما هو رأيك في انجلترا بعد هذه المدة الطويلة من الغياب ؟ فقال إن الأمر في البداية كان صعباً للغاية ، وأن كل شيء قد تغير عما كان يعرفه عليه قبل الحرب . ولكنه الآن يبحث عن عمل مناسب . ثم ابتسم وقال : عندي ثروة لا بأس بها ، وإذا لم أوفق إلى وظيفة فإنني قد ابتاع مزرعة في الريف و قد اشتغل في زراعة الخضراوات والدواجن . فقالت آن : عندي اصحاب عملوا في تربية الدواجن ثم انصرفوا عنها ، يبدو أن الدواجن تتعرض للأمراض على الدوام . فقال : إني أكره الناس الذين يمضون حياتهم و هم يشكوا و يبكوا ، ملوحين أمام الحياة بسوء حظهم . فقالت : إني أعرف شاباً من هذا النوع .. إنه صاحب ابنتي المقرب ، وهو لا يحدثنا عن شيء إلا عن فشله في الحياة . فقال الكولونيل جرانت : من تقصدين ؟ جيرالد ليولد ؟ إنه لن ينجح في شيء طيلة حياته ؟ قال ريتشارد : إذن فلك ابنة شابة ؟ فقالت : نعم . إبنتي في التاسعة عشر. سألها جيمس جرانت: هل هذا الصباح سافرت ابنتك ؟ فقالت : نعم يا جيمس . سألها: هل رافقها جيرالد في رحلتها ؟ فقالت : لا .. لقد ذهب إلى مزرعة عمه ! فقال : حمداً لله.. على كل حال لن تراه فترة ثلاثة أسابيع . قالت: لا اظن ان العلاقة التي تربطها بجيرالد علاقة جادة .
فتحت آن عينيها في صباح اليوم الذي يليه وللوهلة الأولى لم تعلم أين هي . عند ذلك تنبهت حواسها و عرفت أنها كانت تحلم .. كانت تحلم بأنها عادت شابة صغيرة في بيت عائلتها . وحتى بعد استيقاظها كانت آن لا تزال تحت تأثير ذلك الخيال الجميل . لقد كان حلماً جعلها سعيدة للغاية ، ترك في نفسها ما يشبه الاسى و اللوعة . دخلت اديث الى الحجرة وأزاحت الستائر وقالت : لقد نمت جيداً هذه الليلة ، هناك ضباب في الأفق . إفطارك جاهز، سوف اجهزه لك في الحال ؟ غادرت أديث الحجرة ، ثم عادت حاملة الإفطار قائلة : تناوليه على مهل ، وتمتعي بالاسترخاء و الكسل في الفراش ، وحلقي مع أفكارك الجميلة في هذه العطلة ؟
كانت آن تُحدث نفسها في بعض الأوقات : أنه قد يحدث مكروهاً لابنتي ، ولكني لن أتدخل إلا إذا احسست بأنها في حاجة إليّ .. لن أشعر على الاطلاق بسيطرتي أو بتدخلي في امورها الخاصة . ثم حدث المكروه .. ذلك الشاب المزعج جيري ليولد الذي نجح في أن يحظى بلفت انتباه ابنتها . عبثاً حاولت أن تفصل بينهما .. والآن .. ها هي ابنتها بعيدة عن ذلك الكابوس الذي يجري بقدمين جيري .. ومن المؤكد أنها ستقابل شباناً أفضل منه ألف مرة .
بعد لحظات دخلت أديث إلى الحجرة و راسها ملفوف بمنديل ، وعلى وجهها تلك العلامات التي تكون على وجه كاهنة تقوم بطقوس مخيفة وثنية قائلة : أتتناولي طعامك في الخارج ، أليس كذلك ؟ وسوف أنتهز أنا هذه الفرصة حتى اقوم بناظيف البيت باكمله . فقالت آن : حسناً يا أديث ، سوف أخرج . ثم انسحبت الخادمة من الحجرة حتى تبدا الهجوم الكبير و المرتقب على الأثاث والسجاجيد وشرعت آن تستعد للخروج .
عثرت آن أثناء تسكعها في المخازن على طقم صيني جميل للسوفلية فاشترته . ثم ذهبت الى متجر الاثاث الزراعي ، كانت تريد أن تشتري بعض الأصص لغرفة الإستقبال . وفجأة اتاها صوت من الخلف : صباح الخير يا مسز برنتيس . استدارت لتجد ريتشارد كولدفيلد يقف من بعيد ينظر إليها . قال : ما أجمل أن اراك مصادفة .. لقد كنت أفكر فيك لتوي ، فقد لمت ذاتي لأني لم أسألك عنوانك ليلة البارحة . فقالت آن : سوف أكون سعيدة اذا ما زرتني في البيت . مشى معها نحو باب الخروج ، وفجأة سألها : ترى هل في إمكاني أن أدعوك لناكل غدائنا سوية هذا اليوم ؟ فقالت: يسعدني أن أقبل دعوتك ، والواقع أنني ممنوعة من الرجوع إلى بيتي في هذا الوقت . فقال : ممنوعة ؟ فقالت : نعم .. إن خادمتي تنظف البيت هذا اليوم بمناسبة فصل الربيع ، وقد منعتني من ان ارجع الى البيت قبل حلول الليل . فقال في سذاجة : وكيف تسمحين لها أن تعاملك هكذا ؟ فقالت : أوه ، إن أديث صديقتي و خادمتي , إنها معي منذ وقت كنت طفلة . ثم وقف الإثنان أمام نافورة مياه و اخذا يتطلعان ال الطيور المائية وهي تسبح في الماء بكل سرور . كان ريتشارد شخصاً وديعا اليفا ، وتحدث الإثنان وضحكا ، وشعر كل منهما بأنه لا غنى له عن الشخص الاخر .
سألت لورا : هل مسز برنتيس (آن ) في البيت الان ؟ فأجابتها أديث التي فتحت لها الباب : ليست موجودة في هذا الوقت ، ولكنها لن تغيب لمدة طويلة ، فدخلت لورا إلى المنزل وقالت : سوف أنتظرها ربع ساعة لا أكثر ، فقد مضت أيام كثيرة لم اقابلها فيها . تناولت لورا كتاباً وأخذت تدقق فيه ، وما هي إلا دقائق حتى سمعت صوت المفتاح يدور في ثقب الباب الخارجي ، ثم سمعت صوت الباب يشرع ، وترامى إليها صوت شخصين يتكلمان بصورة مرحة . صوت آن برنتيس وصوت رجل . دخلت آن برنتيس الى الحجرة ، وخلفها ريتشارد كولدفيلد . فوجئت آن برؤية ضيفتها ، فارتبكت لدقيقة ، ثم تمالكت نفسها وعرّفتها على ريتشارد كولدفيلد . تحدثا في مواضيع عديدة ، ثم دخلت أديث إلى الحجرة التي يجلس فيها ريتشارد ولورا وآن وقالت : ها هو خطاب سارة يا سيدتي . وخرجت بعد أن وضعت الخطاب على اقرب طاولة . حينها شرب ريتشارد كولدفيلد فنجان الشاي على وجه السرعة ثم استأذن في الإنصراف !
تمتمت آن بعد خروجه للورا وقالت : إنه إنسان لطيف للغاية ، فقد انصرف كي يمنحنا الفرصة حتى نتحدث سوية . ولكن لورا لم ترد عليها فوراً ، كانت تنظر إليها و تدقق في ملامح وجهها ، وتعاين في دهشة ذاك التغيير الرائع الذي ألمّ برفيقتها . كانت ملامح آن الوادعة الرضية قد تحولت إلى جمال يفتن الاعين . فقد عرفت لورا ذاك التغيير في نساء أخريات ، وكانت تفهم سببه .. إنه الحب ! قالت آن : ريتشارد صديقي ، عرفته منذ عشرة أيام فقط ، تقابلنا للمرة الاولى في عشاء جيمس جرانت . فقالت لورا مغيرة مجرى الحديث : ما هي أخبار ابنتك ؟ فقالت آن : إنها تقضي وقتاً جميلا جدا . هذا الخطاب من ابنتي ..هل تسمحين لي بان اقراه ؟ قالت لورا : طبعاً يا عزيزتي . ففتحت آن الخطاب وقرأته : ماما الحبيبة .. الثلج هنا رائع جدا . الجميع يقولون إن هذا هو افضل موسم انزلاق عرفته سويسرا . احس بميل نحو أحد المدربين ، ولكن من المؤسف أنه لم يتجاوب لأنه متعود على أن تحس البنات نحوه بميل أثناء تدريبه لهن . لقد تعلمت أن أرقص الفالس فوق الثلوج اخيرا .. ما هي أحوالك يا ماما العزيزة ؟ أرجو أن تتمتعي بوقتك مع كل اصحابك . إلى اللقاء قريباً . إبنتك المحبة سارة .
قالت لورا: يبدو أن ابنتك تنعم بوقتا رائعا في سفرتها .. وأنت يا آن ؟ فركت آن يديها و هي مرتبكة .. وقالت : ريتشارد عرض عليّ الزواج اليوم ، و لقد وافقت على عرضه . فقالت لورا : أليس هذا قراراً سريعاً جداً ؟ فقالت آن : يبدو لك هذا الموضوع سخيفا ، ولكني في الحقيقة مغرمة به بشكل كبير . قالت لورا : تقبلي تهاني الصادقة . قالت آن : لا أعتقد أن سارة سوف تمانع في الزواج ، أليس كذلك ؟ فقالت لورا : يجب أن تعلم ابنتك خبر نيتك في الزواج قبل عودتها من سويسرا , بذلك يكون لها الوقت الذي يجعلها تتعود على هذا التغيير الحديث الذي سيطرا على حياتها . فقالت آن : أرجو ألا تستاء من زواجي . فقالت لورا : إذا استاءت ابنتك دعيها تستاء ، ستتغلب على استياءها بشكل سريع ففي النهاية .. إنها تحبك .
وفي المساء كانت لورا تجلس مع رفيق لها في أحد المطاعم ، وكان الصديق يتكلم و يثرثر بكل حماش عندما لاحظ شرودها . فسألها : ما الذي يزعجك ؟ فقالت : كنت أفكر في أم وابنتها . فقال: أم ظالمة ؟ فقالت : بل بنت ظالمة.. وصل في اليوم الذي يليه خطابين إلى منزل آن . كان أحدهما من لورا . فقررت آن ان تتكلم معها عبر الهاتف ، فرفعت السماعة وطلبتها وقالت لها : لقد استلمت خطابك في هذه الدقيقة ! سيسعدني أن أحصل على لوحة بريشة بيكاسو، سأضعها أمام مكتبي مباشرة .. أوه لورا .. لقد كنت غبية . تصوري أني كتبت مكتوبا طويلا لسارة ذكرت لها فيه كل شيء عن الزواج ، ولكن الخطاب رجع لي ، لأني كتبت العنوان ونسيت أن أكتب إسم سارة . ماذا أفعل الآن وسارة سوف ترجع الى البيت بعد غد دون أن تعلم شيئاً عن نيتي في الزواج . سأضطر أن أشرح لها كل شيء دفعة واحدة . أشعر بحرج كبير .. في الواقع لا اعرف كيف ابدا في شرح الموضوع !
كان ريتشارد كولدفيلد يعيش أحلى أيام عمره . كان يشعر بأنه رجل مستقر و فرح . وبأن حياته قد استقرت إلى مرفأ هادئ و امين اخيرا . كان قد استوعب مهام وظيفته الجديدة في شركة أخوان هيلنر , و احس أنه ليس بالإمكان ان يكون أفضل مما هو كائن , وظيفة مربحة و مريحة ، ورئيس عمل صديق ، ومستقبل تحتل صدارته المرأة التي يعشقها والتي ينوي أن يتزوجها . كانت برنتيس تلاحظ أن ريتشارد قد تغير بشكل كبير عما عرفته في اول لقاء لهما ، فقد أصبح أكثر إنسانية ، وأكثر ثقة في ذاته ، وأكثر قدرة على التصادق .
سار ريتشارد في الشارع وهو يصفر لحناً يملئ ارجاء الطريق بالمرح . ثم دلف إلى محلٍ لبيع الورود ، وخرج منه وهو يحمل باقة جميلة من الزهور! وصل إلى بيت آن . دق جرس الباب وفتحت له أديث ، وأدخلته إلى حجرة الاستقبال . استقبلته آن وقالت له : هذه مفاجأة ، لم أكن أنتظرك هذا اليوم ، إن سارة ستصل بعد مدة قصيرة ! قال : حقاً ؟ لقد نسيت هذا الامر . كان ريتشارد قد نسي حقاً موعد وصول سارة ، فقد كانت آن قد اتفقت معه على أن تظل لوحدها مع ابنتها سارة يوم وصولها على أن يزورهما في اليوم الذي يليه ويتناول الغداء معهما . فقال لها : أنا آسف حقاً يا عزيزتي ، فقد نسيت الموعد تماما . فقالت آن : إسمع يا ريتشارد .. لا تذهب الى بيتك .. إبق حتى ارجع من المحطة وتناول معنا الشاي ، اظن أن هذه أفضل طريقة ، والآن يجب أن اسرع حتى اصل الى المحطة . ثم هرعت آن إلى الباب وخرجت ...
أثناء خروج آن اصطدم طرف فستانها بأناء زهور التيوليب ، فأوقع بعض الزهور على ارضية الحديقة . فقامت أديث بارجاع الورود إلى المزهرية وقالت : إن زهور التيوليب هي الزهور المحببة الى قلب سارة . فقال ريتشارد لأديث : يبدو أن هذا البيت يدور كله في فلك الآنسة سارة ! فقالت أديث بصوت مجرد من الاحساس : إنها فتاة رائعة في الواقع، إنها شقية كثيرة الحركة ، ومعتادة أن تترك كل اشيائها و ثيابها مبعثرة في كل مكان . إنها تثير جنوني ، وأنا أنظف ورائها ، ولكني أعبدها رغم كل شيء .. لا يملك كل من يتعرف عليها إلا أن يعبدها .. إنها جذابة ، وهذه هبة الطبيعة لا حيلة لأحد فيها . فقال ريتشادر محاولاً أن يكسب اجيث الى طرفه : لقد مضى عليك عهد كبير جدا وأنت مع آن ، أليس كذلك ؟ فقالت : أكثر من عشرين سنة ، فقد التحقت بخدمة والدتها قبل أن تتزوج مستر برنتيس الراحل ، فليرحمه الله ، كان سيداً محترما للغاية . وفجأة رن جرس الباب ، ثم رن الجرس بدون انقطاع .. فقالت أديث : أنا اعرف من يدق الجرس بهذه الطريقة ؟ وفتحت الباب فصاح صوت بنت : أديث ، أين ماما ؟ ثم ركضت سارة و دخلت الى حجرة الاستقبال .. كانت فتاة جميلة سمراء ، وكانت مفعمة بالحيوية و الشباب لدرجة أثارت دهشة ريتشارد .
كان ريتشارد قد رأى صوراً فوتوغرافية لسارة من قبل ان يراها حقيقة ، ولكن الصور تعكس الشكل ، ولا تعكس الروح . كان يتخيل ان سارة نسخة شابة من والدتها ، ولكنها كانت شخصاً مختلف بشكل كبير .. كانت كتلة من الانوثة و الشباي ، كان مجرد وجودها يضفي على المكان روحاً مرحة نشيطة ! عرّفها ريتشارد عن نفسه قائلاً : أنا ريتشارد كولدفيلد . صافحته بكل ادب . ثم صاحت سارة : جيري أين أنت ؟ فدخل إلى الحجرة شاب ذو وجه جميل وهو يحمل حقيبة سفر في يده . حينها قالت لريتشارد : إنه جيري ليولد يا مستر ... فقال ريتشارد : سوف اخرج الان , أرجو أن تقولي ل مسز برنتيس بأني سأحافظ على موعد الغد . صعدت سارة إلى حجرتها ، ثم رجعت سارة إلى حجرة الجلوس وهي تحيط حول جسمها روباً منزلياً فاتنا أظهر قدها الرشيق . فقال لها جيري : من هذا الرجل ؟ فقالت : لم أره في كل حياتي على الاطلاق ، لا بد أنه واحد من المعجبين بوالدتي ! ثم أكملت : لقد كان لطفا و ذوقا منك يا جيري أن تحضر لمقابلتي في المحطة ، إني آسفة لأني لم أكتب لك من سويسرا . وفجأة فتحت آن باب البيت ، وأسرعت إلى الداخل وهي تصيح : ابنتي.. حبيبتي ثم احتضنت الام ابنتها حضنا دافئا حاراً . تنبهت آن إلى وجود جيري ، فتظاهرت بالسرور لمقابلته ، ولو أنها كانت ترجو أن تكون ابنتها قد نسيته اثناء سفرها . قال جيري : لا بد أن أنصرف الآن ، وداعاً يا سارة . فصحبته سارة إلى باب الشقة ثم ودعها و مضى خارجا .
رجعت سارة الى حجرة الإستقبال ، قالت : والآن يا ماما . حدثيني بما كنت تعملين أثناء غيابي في سويسرا .. هل كنت تخرجين مع الكولونيل جرانت ؟ قالت آن في تردد : لا.. نعم.. بعض الشيء ! قالت سارة : هناك شيء.. هيا.. قولي لي ماذا تخفين عني . فأمسكت آن بيد ابنتها وقالت : عزيزتي سارة ، يجب أن تتأكدي ان كل شيء سيطل على ما هو عليه . فقالت سارة : اظن يا ماما أنت تحاولين ان تبدين لطيفة و انت تقولين لي بأنك على وشك الزواج ؟ فقالت الأم : كيف خمنت ؟ فقالت سارة : لم يكن صعباً عليّ ان اكتشف هذا . هل تتصورين أن زواجك سوف يزعجني ؟ قالت آن: هذا حقاً ما تخيلته .. ألا يزعجك زواجي ؟ قالت سارة : لا يضايقني على الاطلاق , أعتقد أن ما تفعلينه هو عين الصواب ، من حقك أن تتمتعي قبل أن يفوت الوقت بك , أنت الآن تعبرين ما يسمونه بالسنوات الخطرة ، وأنا أعلم أن أخلاقك لا تسمح لك بعلاقة غير قانونية ! كما أنك لا تزالين جميلة ، وأنا مندهشة لأنك لم تتزوجي حتى هذا الوقت . من هو الشخص المحظوظ ؟ دعيني أخمن من هو ، لا بد أنه الكولونيل جرانت ؟ فقالت الأم في كل سكينة و هدوء : ليس الكولونيل جرانت يا ابنتي ، إنه ريتشارد كولدفيلد . فقالت سارة : ماما ليس ذلك الرجل الذي كان يجلس هنا قبل مجيئك بحق السماء . أومأت الأم برأسها دون أن ترج على ابنتها ! فقالت سارة : ماما ، إنه ثقيل الظل ! أنا لا اقدر ان اتخيل أنك تحبينه ! فقالت الأم : ولكنك رأيت ريتشارد ل لحظات معدودة فقط ، وأنا واثقة أنك ستعجبين به عندما تتعرفين اليه عن قرب . فقالت سارة : لك ما تشائين يا ماما .. (إنها جنازتك أنت) . صمتت الأم وابنتها لدقائق . وأخيراً قالت سارة : في الحقيقة يا أمي أنت في حاجة إلى من يرعاك و يهتم فيك ويرشدك في الحياة . ما كدت أتركك ثلاثة أسابيع حتى رميت بذاتك في هذه الحماقة . صاحت الأم في استياء كبير : سارة.. هذا قول قاس جداً ! فقالت سارة : إني أحبك جدا ، ولا أريدك أن ترتكبي اي سخافة من أي نوع .. وذاك الرجل هل هو غير متزوج ، أم مطلق أم أرمل ؟ فقالت الأم : لقد فقد ريتشارد زوجته منذ اعوام طويبة , ماتت وهي تضع طفلها الأول، ومات الطفل أيضاً. قالت سارة: متى تنويان الزواج ؟ فقالت آن : في بحر ثلاثة أسابيع. على العموم ريتشارد سيتغدى معنا غداً.. أرجوك سارة أن تكوني لطيفة معه. فقالت سارة : طبعاً يا ماما .
جلست سارة وجيري في مكان ساكن و هادئ . فقالت سارة : جيري .. ماما ستتزوج في وقت قريب من ريتشارد ذلك الرجل الكريه . فقال جيري : بدا لي شخصاً طبيعيا . أليست هي خير من يحكم على هذا الامر من اي انسان اخر ؟ فقالت : ذلك الرجل لا يستحق ماما على الاطلاق . أنا أعرف الحياة أكثر مما تعرفها هي . فقال جيري : أنت لا تقدرين أن تقطعي بأن ذاك الرجل لا يلائم امك . أنت لم تبادليه أكثر من كلمتين ، أليس من الجائز أن سبب سخطك عليه هو أنك غرت منها بعض الشيء ؟ فصاحت سارة : أنا لست صاحبة طبيعة غيورة ، كل ما يهمني هو أن أحافظ على هناء امي و سعادتها . أمي ضعيفة الشخصية ، سهلة الاقناع و الانقياد لاي شخص . أراد جيري أن يغير الموضوع فقال : أنا أفكر بان استقيل من العمل من مكتب عمي ، لم يعد في مقدوري ان اتحمل , إنه مكتب لعين . فقالت سارة : وإذا تركت هذا المكتب يا جيري ، فماذا تقدر أن تفعل ؟ فقال بثقة غريبة : سوف أجد عملاً يلائم قدراتي و مواهبي . وأنا أفكر في ان اهاجر إلى أي مكان يكون فيه الناس أكثر إنسانية . فصمت الإثنان . ثم قالت سارة : هل عندك رأسمال ؟ فقال : ولا بنس . أنت تعلمين الامر جيدا . وبعد برهة تمتم وقال إنه سوف يتنازل و يمنح عمه فرصة اخرى حتى يصلح المواضيع فيما بينهم . فصفقت سارة لهذا القرار ثم قالت : أعتقد أن يحسن أن ارجع الى المنزل الآن . فقال جيري : حسناً ، ولكن تفهمي موقف أمك يا سارة، إذا كانت ترغب في ان تتزوج من ذلك الشخص ، وتعتقد أنها ستكون هنيئة معه فهذا هو المهم . وعلى العموم فستتزوجين يوماً ما ! فقال : نعم . يوماً ما ربما ، لست متحمسة الى هذا الامر الان ! ولكن سحابة من عواطف الشباب الدافئة حلّقت فوقهما وأفعمت وجدانيهما بشعور سعيد و دافئ .
احست آن بارتياح عميق أثناء تناول الغداء في اليوم الذي يليه . كانت سارة تتصرف بشكل رائع ، وكانت تتبادل اطراف الحديث مع ريتشارد بشكل اعتيادي . وشعرت آن بالفخر لأن هذه الشابة الساحرة ابنتها . إلا أنه كان هناك شيء واحد ينكد على ان صفو هذه الجلسة .. فقد كان ريتشارد يتصرف في توتر و ارتباك ، وكان يحاول أن يبدو طبيعياً ، ولكن محاولاته هذه كانت تزيد في ارتباكه ، ورغماً عنه كان يبدو متعاظما مغرورا . وكانت آن تتالم لحالته لأنها تعرف بشكل جيد أنه إنسان طيب بسيط . وبعد انتهاء الغداء وجلوس الثلاثة حتى يحتسوا قهوتهم ، تظاهرت آن برغبتها في أن تتحدث بالهاتف المحمول ، وتركت الأثنين معاً . كانت تأمل أن يتمكن ريتشارد وسارة من ان يصلا الى تفاهم فيما بينهما ، بدون وجودها . قال ريتشارد : إسمعي أيتها الشابة , أريدك أن تعلمي أني أفهم مشاعرك جيداً ..لقد كنت تسكنين مع والدتك دون وجود شخص غريب ، ومن الطبيعي أنك تكرهين أي شخص غريب يدخل فيما بينكما ، ومن الطبيعي أن تحسي بغصة وبشيء من الغيرة . قالت سارة : تأكد إني لا أشعر بشيء من ذلك قط ؟ أكمل حديثه و هو يقول : لا أريد منك أن تحبيني لمجرد أني سوف اصير زوج والدتك , المهم أن تفكري في سعادة أمك . فقالت سارة : هذا ما أفكر فيه بالفعل . فقال : شباب هذا الجيل مليء بالأنانية ، ولا يفكرون إلا في ذواتهم .. يجب أن تفكري في سعادة أمك .. من حق أمك أن تحيا هي الاخرى ، ومن حقها أن تكون سعيدة . فقالت سارة على غير المتوقع : أوافقك بكل عقلي على ما تقول . وفي هذه اللحظة دخلت آن إلى الحجرة , وخرجت سارة . قال ريتشارد : لقد قررت ابنتك أن تمقتني الى نهاية عمرها . فقالت آن : أنت تدرك طبعاً أن هذا الزواج جاء مفاجأة لها .. وابنتي في الواقع شابة نقية القلب كريمة العواطف . لم يجب ريتشارد بشيء .. وكان رأيه أن سارة فتاة سيئة الأخلاق ، ولكنه لم يجرؤ أن يبوح برأيه لوالدتها ..
وصلت سارة إلى حجرتها وعيناها مغرورقتان بالدموع بسبب كبر التعب النفسي الذي بذلته أثناء حديثها مع ريتشارد . دخلت أديث وبنظرة واحدة علمت ان سارة فيها شيء غير طبيعي . صاحت سارة : إنه رجل فظ و لا يطاق .. كيف تقدر ماما أن تحب ذاك الشخص ؟ لقد انهار كل شيء .. لن يرجع أي شيء كما كان . دعيني لوحدي يا أديث . خرجت أديث وأغلقت الباب من ورائها . أما سارة فدفنت رأسها في فراشها و اخذت تبكي في حرقة كأنها طفلة صغيرة . كان الأسى يملؤها و يمزق قلبها اربا اربا ، وبكت وهي تتأوه : أوه .. ماما ... ماما !
جلست لورا مقابل صاحبتها آن في ارتياح .. ثم قالت : كيف تسير الامور معك ؟ فقالت آن : أخشى أن ابنتي قد صارت عنيدة و صعبة الاقناع بعض الشيء ! أنا لا أنام جيداً يا لورا وأصاب بنوبات صداع من وقت للثاني ! أنت لا تتصوري مدى العذاب الذي اعانيه في ايامي , ما تمر لحظة يتقابل بها ريتشارد وابنتي حتى يبدا بينهما الشجار . فقالت لورا : إن ابنتك غيورة و هذا واضح بالطبع . فقالت آن : أعتقد أن ذلك هو السبب .. ولكن المفاجأة الحقيقية هي تصرفات ريتشارد هو الاخر ، إنه يغار من ابنتي . أنا أعيش في جحيم يا لورا . قالت لورا : ما الموعد الذي وضعتموه لاتمام مراسم الزواج ؟ فقالت آن : الثالث عشر من الشهر الثالث في السنة ، اي ما يقارب بعد اسبوعين . في هذه اللحظة سمعت الصديقتان صوت الباب الخارجي وهو يفتح ثم صوت سارة السريعة و هي تاتي باتجاههما . دخلت سارة الى الحجرة وسلمت على لورا . نهضت آن وخرجت من الحجرة بحجة شيء تريد أن تفعله . فقالت لورا لسارة : لقد كانت أمك تبكي قبل ان تدخلي الى الحجرة . لماذا تعملين على تعاسة أمك يا سارة ؟ فقالت سارة : ولكني لا أعمل على تعاستها .. أنا لا أفعل شيئاً على الإطلاق . قالت لورا : أنت تتشاجرين مع ريتشارد على الدوام كلما تلاقيتم ، أليس كذلك ؟ قالت سارة : هذا الشخص كريه لا يطاق .. وأعتقد أن ماما ستكتشف ذلك عاجلاً أم آجلاً . فقالت لورا : لا يجب أن تخططي لحياة الآخرين بدلاً منهم يا عزيزتي . خذي حذرك يا سارة من أن تكوني السبب في أن تُقدم أمك على شيء تندم عليه طوال عمرها و حياتها . وقبل أن تجيب سارة بشيء دخلت أديث الى الحجرة وقالت : لقد حضر مستر ليولد . قفزت سارة وقالت : جيري تعال هذه هي لورا . فقالت لورا : اهلا و سهلا بك يا جيري , سأترككما معاً وأذهب للبحث عن والدتك يا سارة .
وما إن خرجت لورا من الحجرة حتى صاح جيري قائلاً : سوف أغادر انجلترا يا سارة . قالت سارة : متى ؟ وإلى أين ؟ فقال جيري : إلى جنوب إفريقيا في الخميس القادم،. سأزرع البرتقال ، معيَ رفيقان ثانيان ، وأنا واثق من أننا سوف نمضي اوقاتا سعيدة و ممتعة هناك . لقد ضقت ذرعاً بهذا البلد الذي يكرهني وأنا أبادله كرهاً بكره . فقالت سارة : وماذا عن عمك ؟ فقال : منذ فترة ليست بالقصيرة و نحن لا نتكلم مع بعضنا البعض ، أما زوجته لينا فقد كانت لطيفة معي ، وأعطتني مبلغاً من النقود . فقالت سارة : سأفتقدك كثيراً جيري . قال : اظن انك ستنسيني بعد فترة . فاقتربت سارة من جيري وقبلته قائلة : لن أنساك , كنت أرجو لو أنك لم تكن ستغادر بهذه السرعة من هنا ، كان يسعدني أن أجدك بجانبي نتبادل الاراء و الأفكار . سألها : كيف حال ريتشارد كولدفيلد ؟ فقالت : نحن لا نكف عن مضايقة بعضنا البعض . فقال جيري : أعتقد أنكِ غيورة يا سارة . فنظرت إليه في حنق قائلة : إذا كان هذا رأيك فيجدر بك أن تغادر البيت الآن .
دخلتْ لورا إلى آن وقالت : لقد جاء شاب لزيارة سارة إسمه جيري . فقالت آن : إن ابنتي تعشقه , إنه شاب غير جدير بالحب غير انه فاشل , إنه لم ينجح في أي شيء ولا يريد أن يفعل شيئاً يضعه على الطريق الصحيح . وأعتقد أنه لن ينجح في حياته على الإطلاق . فقالت لورا : هذه هي العادة ، الفتاة الناجحة و الجميلة تُغرم بالشاب الفاشل السيء الطالع . أعترف أني وجدت ذلك الشاب جذاباً بشكل كبير ! فقالت آن : حتى أنت يا لورا؟ فقالت لورا : أنا أيضاً أنثى أحمل في قلبي ضعف الأنثى أمام الذكر الجميل . والآن طبت مساء يا حبيبتي . وصل ريتشارد إلى شقة آن في الثامنة مساء . كان على موعد للعشاء مع آن ، أما سارة فكانت مدعوة للرقض و العشاء خارج البيت هذه الليلة . وعندما دخل ريتشارد وجد سارة تجلس في حجرة الاستقبال تصبغ أظافرها . فقال لها : لقد قابلت صديقك الشاب جيري ليولد هذه الليلة ، وقد قال لي انه سينتقل إلى جنوب إفريقيا . فقالت : نعم .. سيسافر الخميس القادم . فقال متفلسفاً : جنوب أفريقيا ليست بالمكان الذي سينجح فيه شاب لا يحب العمل . فقالت : جيري شاب ذو عزيمة قوية إذا كان لا بد من استعمال هذا التعبير . فقال : ما عيب هذا التعبير! فقالت وهي توجه عينيها بعينيه : إنه تعبير مقزز , هذا كل ما هناك . فاحمر وجه ريتشارد وقال : من المؤسف أن والدتك لم تحسن تربيتك ! نظرتْ إليه بكل هدوء . ثم ابتسمت وقالت : هل أسأت الأدب .. انا حقا اسفة . فقال : أين أمك ؟ فأجابت : إنها تلبس ملابسها ، ستكون هنا بعد لحظات . ثم أخرجت مرآة من حقيبتها وأخذت ترى وجهها فيها . كان قد سبق لها إتمام عملية التزيين قبل حضور ريتشارد ، ولكنها كانت تعيد التزين مرة اخرى الان .. لأنها تعرف ان ذلك يزعج ريتشارد .. وكانت تعلم أنه يكره أن يرى امرأة تتزين أمام الآخرين .
البقية في الجزء الثاني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردحذفوين الجزء الثاني اخواني؟
ابحث عن الجزء الثاني من رواية الغيرة القاتله منذ سنوات وللاسف لم اجده .. لو حد يعرف رابط لتحميل الجزء الثاني يدلني واعطيه مكافأة مالية
ردحذف