القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية إبنة القس: جورج أورويل. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.


لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ..قناة راجوشو ...الرابط التالي : 

"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"
تلخيص رواية 
 إبنة القس: جورج أورويل. 
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.











عندما دوّى جرس المنبه الملقى على طاولة الادراج مثل قنبلة صغيرة، تلوّت دوروثي من الألم ووثبت مستيقظة من أعماق حلم معقد و مزعج . تذكرت أن الضجيج سيوقظ ابوها من نومه لو استمر مدة أطول، فقفزت من الفراش لتسكت المنبه . دوروثي هير هي الطفلة الوحيدة للعظيم تشارلز هيرقس في سوفولك. خطت دوروثي بعزم داخل الحمام و قعدت لتجعل حزام الماء الجليدي ينزلق صاعداً فوق جسدها ، ويغمرها ما عدا شعرها. 

كانت دوروثي فتاة قوية وحسنة الشكل متوسطة القامة,. أما وجهها فكان أشقر نحيل لا يتميز بشيء، وأنفها طويل جداً. ومع ذلك ظل الذين لا يعرفونها يقدرون عمرها الذي لم يكمل الثامنة والعشرين بأقل مما هي عليه في الحقيقة ، بسبب ملامح عينيها الطفولية . لقد بان الصباح الآن، وكان صباحاً غائما و بليدا . أخرجت دوروثي دراجتها من البوابة الأمامية . قادت دراجتها وصعدت التل على وجه السرعة لتذهب إلى الكنيسة. كانت الكنيسة قارسة البرودة مع رائحة الشمع والرماد القديم. وكالعادة، لم يكن هناك احد غير الآنسة العجوز ميفيل.

 جلست دوروثي وراء الآنسة ميفيل وبدأت بالصلاة تكفيراً عن ذنوب اليوم الماضي . وعندما أنهى القس الصلاة، ألقت دوروثي نظرة جانبية عبر الباب الجنوبي ، و شاهدت رمحاً خاطفاً من ضوء الشمس يخترق الغيوم ويخر للأسفل عبر أوراق الزيزفون، فالتمعت وريقات شجرة الزيزفون بلون أخضر. 
غمر فيض من السعادة فؤاد دوروثي فاخذت الكأس من يد أبيها وأكملت تلاوتها . تقع كنيسة اثليستان على أعلى نقطة من تل نايبهل. ويقع منزل القس في منتصف المسافة عن التل، وتطل الواجهة الامامية منه على الكنيسة وظهره للشارع العام. كان منزلا من العصر المظلم , واسع بشكل غير مناسب. 




نزلت دوروثي من دراجتها عند البوابة الأمامية. عندما فتحت الباب الأمامي رأت مكاتيب على الحصيرة البنية القديمة . واحدة كانت من رورال دين ، والأخرى كانت رسالة مقيتة من كارجيل اللحام . كانت مكتوبة بخط كارجيل ، قرأتها، و في اخرها ملاحظة : يجب أن نلفت انتباهكم بأن هذه الفاتورة مستحقة منذ فترة ليست بالقصيرة ، ويلزم تسديدها بأسرع ما يمكن . وضعت دوروثي الفاتورة في جيبها. كانت تنتظرها مهمة صعبه وهي طلب النقود من ابوها ، حيث كان الحصول على مال منه أقرب إلى المستحيل. كان القس قد ولد عام 1871. ودخل الكنيسة فيما مضى لأنها كانت مهنة تقليدية للأبناء الصغار. تزوج زواجاً ليس سعيدا على الاطلاق ، وظلت تعاسة هذا الزواج سرية.
 وفي السابعة والثلاثين من عمره انتقل إلى نايبهل وكان يعاني من مزاج عصي على الشفاء فاسد. ذلك المزاج الذي نجح في إبعاد رجال ونساء وأطفال البلدة عن الأبرشية. ولذلك لم يحبه أفراد الطبقات الدنيا ، ولم يكن يكترث بكرههم او بحبهم . مرت العشر دقائق الأولى من الفطور بسكون مطلق كانت دوروثي تستنهض شجاعتها للكلام مع ابوها . قالت: أبي، هناك شيء ارغب في ان اسالك عنه . إنه شيء هام . تبدلت ملامح القس، وخمن مباشرة ما الذي ستقوله فقال : أعتقد أنك ستطلبين مني مالا , أليس كذلك؟ كي أجنبك التعب يا ابنتي . لا أملك أي نقود بتاتاً. فمن العبث الان حديثك وإزعاجي . خارت قوى دوروثي أكثر. وأسوأ ما في الأمر، أنه كان لا يتأثر على الاطلاق عندما تُذكره أنه غارق في الدين لأذنيه .

 من الواضح أنه لم يفهم أنه يجب على كل انسان أن يدفع للتجار بين الحين والآخر, ولا يقدر اي منزل ان يستمر من دون مخزون كافٍ من المال. قالت : أبي، ليس في مقدوري أن أنظر إلى الأمر كما تفعل أنت، هذا كريه جداً ويسبب لي الخجل الكبير امام الناس ! أبي، ألا تستطيع بيع بعض الأسهم أو أي شيء ؟ فقال: لا تتكلمي معي عن الأسهم! فقد علمت أنها هبطت . قالت: من أين سناخذ حينها اللحم؟ لا أجرؤ على طلب حصة ثانية من كارجيل. قال القس: إذهبي إلى الجزار الثاني ولا تهتمي بكارجيل . خرجت دوروثي من الحجرة بائسة الى درجة انها رغبت في ان تبكي بشدة ، ووُضع موضوع الديون البائس على الرف مرة ثانية كما وضع آلاف المرات من قبل دون أي أمل في حل جذري للمشكلة . نزلت دوروثي التل ممتطية دراجتها القديمة والسلة على المقود. دققت في حاجيات المطبخ ولكن كان المطبخ بحاجة لكل شيء في الواقع . أما الآن فيجب عليها أن تتدبر لحم العشاء و تنصاع لاوامر ابيها بحذر , يجب أن تقضي تسعة وثلاثين يوماً بثلاث جنيهات. احست دوروثي بالإشفاق على الذات .

 في هذه اللحظة شاهدت بروجيت، الرجل المتشائم والعضو المخلص للكنيسة . قال: الأجراس يا آنسة تتكسر على ارضية برج الكنيسة ، يجب أن ننزلها. كان بروجيت يأتي مرة كل نصف شهر فقط ليقول لها و يشكو لها حال أجراس الكنيسة وكلفة إصلاحها التي تقارب بخمسة وعشرين جنيهاً . تحسرت دوروثي مرة ثانية وقالت: لا أعرف ماذا يمكننا أن نفعل ، نحن ببساطة لا نملك أي اموال . في تلك اللحظة جاءت سيارة زرقاء ، وخرج من إحدى الشبابيك رأس السيد بيلفل ، مالك معمل تكرير السكر، وإلى جانبه إبنه البكر رالف ، وهو شاب مخنث في العشرين من عمره ، وبنتا اللورد بكثهورن . وحياهما بضحكة كبيرة . فقالت دوروثي لبروجيت : يبدو أن السيد بيلفيل لطيف جدا هذا الصباح. فقال: نعم يا آنسة. إن الإنتخابات قادمة الأسبوع الذي يلي هذا الأسبوع . أكملت دوروثي مسيرها إلى السوق .

 تسمّرت عينا دوروثي الى هيئة السيد كارجيل ، الذي كان واقفاً أمام محله ، لذلك لم تتطلع إلى الطريق الذي سلكته فاصطدمت برجل بدين و ضخم . فهتف الرجل قائلاً: يا الله إنها دوروثي! فقالت: أوه السيد وربيرتون! فقال : كنت في الحقيقة ارغب في رؤيتك . سأستضيف الليلة على العشاء رونالد بيولي الروائي . إنه قادم من إبسويتش للعشاء وربما يقضي الليلة هنا. اتصور انك ترغبين في رؤيته . تعالي بعد العشاء سوف تستمتعين بحديثه . ترددت دوروثي. والحقيقة تقال أنها كانت تستمتع بزياراتها العرضية إلى منزل السيد وربيرتون ، ولكنها كانت لا تذهب إلى منزله إلا بعد أن تتأكد مسبقاً من وجود ضيف ثاني على الأقل هناك. 

التقت دوروثي للمرة الاولى بالسيد وربيرتون في حفل شاي قبل عامين ، وبعدها قامت بزيارته فمارس الحب معها بشكل وحشي و عنيف . لقد كان اغتصاباً. وبالرغم من هذه البداية غير الجيدة ، فقد نشأ بين الطرفين نوع من الصداقة إلى درجة شاع بسببها كلام كثير عن دوروثي . تجازوت الساعة الحادية عشرة, بدأ النهار كسيدة زوجها توفي . أكملت دوروثي طريقها إلى بيت الرجل العجوز بيثر لتعطي السيدة بيثر تلك القصاصة من الديلي ميل عن شاي أنجليكا للروماتيزم . حيتها السيدة بيثر على الزيارة . وبعدها ذهبت دوروثي باتجاه البيت. لفحت الشمس جسدها ، وكانت هنيئة لأنها أنهت زياراتها الصباحية . 




كانت الساعة الثانية عشر تماماً. وفي قاعة الموسيقى كانوا يتدربون بشكل سريع و بصوت عالي على تشارلز الأول . دوروثي لم تكن تشارك فعلياً في البروفة ، لكنها كانت مشغولة بعملها في الازياء . لقد قامت بصناعة أزياء كل المسرحيات التي مثّلها التلاميذ المدرسة ة. كان نصف بال دوروثي منشغلاً في تأمل جزمتين و معطفين من القرن السابع عشر، أما النصف الآخر فكانت تستمع به إلى صرخات فيكتور الغاضبة الذي كان يؤدي دور الغاضب كما يفعل في التمرينات دون اي تطوير عليها . كانت تعمل في سباق مع الزمن فالمسرحية ستعرض بعد نصف شهر، وهناك العديد و العديد من الاشياء التي من اللازم عملها . الخوذ، والستر، والسيوف، والأحذية العسكرية. كانت دوروثي تعمل بشكل سريع كالشيطان ، وفي هذه اللحظة نسيت حتى امر ديون كارجيل ، ولم تستطع التفكير إلا بهذا الجبل المرعب من الثياب المرمية مقابلها و غير المصنوعة . سألت: كم الوقت يا فيكتور ؟ فقال: إنها الواحدة إلا خمس دقائق. فصرخت دوروثي : آوه، يا إلهي الكريم! يجب أن اقوم بسرعة . عليّ صنع ثلاثة أقراص من عجة البيض. وأسرعت دوروثي إلى مطبخ المنزل لتطبخ العجة لابوها .

 تجاوزت الساعة العاشرة بقليل. لقد جرت احداث كثيرة ، ولكن ليس هناك شيء ذو أهمية خاصة. وكما خططت دوروثي مسبقاً في النهار ، كانت في منزل وربيرتون تحاول أن تمسك ذاتها من الوقوع بشرك أحد تلك النقاشات التي يبتهج في إرباكها فيها. قال وربيرتون : دوروثي، هل توقنين بالجحيم ؟ فقالت: نعم أنا اوقن به . فقال: أنا لا أؤمن بذلك، وكافر وغارق في الذنوب ، ومن الواضح أني محكوم عليّ بالعذاب اللا نهائي ، ومع ذلك لا تزالين تقعدين بصحبتي . فقالت: أنا لم أقل أبداً أنك ستذهب إلى جهنم . أفترض بوجود فرصة لان تحصل على كفارة عن الجهل الذي لا يهزم على الدوام .
 قال السيد وربيرتون: ألا تخشين بأي ظرف من أن أحولك عن يقينك ؟ فقالت: أعتقد أنه قد حان وقتي لارجع الى المنزل . لم يظهر السيد بيولي ، لقد اخترع السيد وربيرتون السيد بيولي كحجة لدعوة دوروثي إلى منزله . 
قال: أنا راحل غداً. سوف اخذ سيارة إلى المدينة ومعي الأولاد , وسنرحل إلى فرنسا . سأغيب ما يقارب نصف السنة . حينها قالت: وداعاً !! وغادرت بأسرع ما قدرت عليه دون أن تركض . ورغم ذلك سمعت صوت إغلاق شباك في مكان ما في منزل السيدة سيمبرل . هل كانت تراقبها ؟ طبعاً كانت تراقبهم ! من المؤكد أن الحكاية ستذاع صباح الغد في كل البلدة . 

اختفى جل قلق دوروثي عندما وصلت إلى المنزل ، ولكنها قررت أنها ارتكبت خطأ بسبب ذهابها الى بيت السيد وربيرتون هذه الليلة . بعدها تذكرت أن لديها ساعتان من الشغل في الأحذية العسكرية . ثم بدأت بالعمل . 

استيقظت دوروثي من نوم خال من الاحلام و قاتم ، وشعرت أنها تنتشل من هاوية سحيقة شيئا فشيئا ، ولكن ظلت عيناها مقفلتان . ازدادت حدة إدراكها الحسي شيئا فشيئا . بدأت أشياء متحركة تخترق عينيها . ظلت تنظر إلى شارع وسخ وصاخب من الدكاكين الصغيرة ، والبيوت ذات الواجهات الصغيرة . بدأت بملاحظة شكل الأشياء ولكن دون انتباه , كان شيئاً في داخلها يقول: أنا أكون أنا ! بل من أكون أنا ؟ من كانت هي؟ قلبت السؤال في راسها و لاحظت انه ليس لديها اي فكرة عن ذاتها سوى إدراكها بأنها كائناً بشرياً . من كانت هي ؟ وجدت بأنه ليس لديها فكرة عن ذاتها لاحظت انها فتاة لوجود الثديين على صدرها .
 بدأت تمشي بمحاذاة الرصيف. وصلت إلى محل مجوهرات فيه مرآة تعكس اشكال الناس . التقطت دوروثي صورة لشكلها . أظهرت المرآة لها وجهاً اشقرا و نحيلا لامرأة صغيرة وعليه لطخ من القاذورات . كان الوجه غير مألوف لها، ولكنه ليس غريباً . ابتعدت عن محل الجواهرجي ، وقرأت إعلاناً على محل الدخان : إشاعات جديدة حول إبنة القس .. إبنة القس في باريس الآن ! علمت أنها في لندن من الكلمات التي قرأتها. الم بها رعب واضح . توصلت لهذا الإكتشاف. لقد استيقظ الآن راسها كله وأدركت ما لم تفهمه من قبل. ماذا تفعل هنا ؟ كيف وصلت إلى هذا المكان؟ ماذا حدث لها ؟ فهمت تماماً ما بها وقالت : لقد فقدت ذاكرتي !! 

 مر بها فتاة و شابان . كان الشابان ينظران إليها و يهمسان الى بعضهما البعض . سمعت دوروثي الفتاة تقول : تلك البغي تبدو متعبة بعض الشيء . قال أحد الشابين: إنها ليست مريضة ، بل هي متشردة . تقدم ثلاثتهم إلى دوروثي بقيادة الشاب نوبي . قال الشاب نوبي لدوروثي : ما رأيك أن تقيمي معنا في حجرة واحدة أنا وفلو وتشارلي كشركاء ؟ ما اسمك يا صغيرتي ؟ قالت دوروثي: إيلين، حسناً سامشي معكم . كان هذا في التاسع والعشرين من شهر ثمانية في الليلة , في الليلة الواحدة والعشرين منه خرت دوروثي تنام في قاعة الموسيقى ، لذلك هناك انقطاع في حياتها ما يقارب ثمانية أيام . انطلقت دوروثي مع الشابان إلى بروملي. وكانوا الأربعة يشحدون من الصباح الباكر إلى الليل طارقين باب كل خباز و جزار وكل كوخ ، وكانوا يسرقون من البساتين التفاح والبندق والخوخ والأجاص . كانت الليالي باردة . كانت كل لوازم النوم لهم الأربعة كيسان ضخمان . فلو وتشارلي لهما كيس ، ودوروثي لها كيس . أما نوبي فينام على الأرض القاحلة . 

كانت هذه الحياة الصعبة الغريبة التي سلمت بها دوروثي لم تشعرها أو ربما أشعرتها بشكل غامض باختلاف الحياة الثانية التي لم تعد تذكرها و التي تركتها وراءها . وبعد يومين قبلت بكل شيء ، قبلت بالجوع والجرجرة والقذارة والتعب . ولد فلو وتشارلي في أحياء لندن معدمة الحال ، ورغم أنهما مرا بشهور من الفقر في لندن ، إلا أنهما لم يكونا على الطريق سابقاً . اتفقا مع نوبي كي يذهبا لقطف حشيشة الدينار متخيلين أنها مسألة لعب ، لكنهما نظرا باحتقار له ولدوروثي لأنهما لم يمتهنا التسول إلا من فترة قصيرة من الزمن نسبيا . لقد قدّرا معرفة نوبي بالطرق وجرأته في السرقة ، ولكنه ظل بمرتبة اجتماعية قليلة بالنسبة لهم .

 أفصح نوبي عن رأيه الخاص لدوروثي بأن تشارلي وفلو يرغبان في ان يعودا إلى لندن إن سنحت الفرصة لذلك . في ظهر اليوم الثالث وصلوا إلى حدود الريف التي تنبت فيه الحشيشة. وهناك قالت لهم امرأة إيرلندية : من الأفضل لكم أن تغادروا من هذا المكان وتحاولوا في تشالمرز . سمعت أنهم بحاجة إلى عدد كبير من القاطفين ، وأعتقد أنهم سيوفرون لكم شغلا . حينها صرح تشارلي وفلو أنهما غير قادرين على المشي إلى مزرعة تشالمرز . فمشي كل من دوروثي ونوبي إلى هناك، إلا أن المراقب قال لهم تنه لا يوجد اي عمل هناك .
 كانت الساعات الاتية أسوأ وقت , وقت عصيب جداً. اشتاقا إلى العمل كثيراً بسبب الجوع و التعب و الإجهاد ! لكن كانت فرص الحصول عليه تقل كلما توغلا أعمق في الريف الذي تنبت فيه حشيشة الدينار . ولكن في وقت متأخر من الليل انقلب كل شيء . حاولا طلب العمل في مزرعة تدعى كيرنز وتم قبولهما كعمال على الفور . كان عملاً بمنتهى اليسر و السهولة . وبدنياً كان مرهقاً دون شك , اذ تظل واقفاً على قدميك عشر أو اثنتا عشرة ساعة كل يوم .

 كل يوم في المخيم كان نسخة عن اليوم الذي سبقه ما عدا أيام الآحاد . كانت دوروثي تعد فطور نوبي باستمرار مثلما تعد لذاتها وتدق على جدار كوخه عندما يكون جاهزاً ، وتعد وجبة تماثل وجبة الفطور للغداء أيضاً . كانت حقول الحشيشة مقسمة إلى مزارع، وكل مجموعة تقطف سوية في مزرعة واحدة . نصف قاطفو المجموعة كانوا من الغحر الرحل ، ويوجد منهم ما لا يقل عن مائتين في المخيم . لم يكونوا من النوع غير الجيد فهم ودودون كفاية ويتملقونك بشكل كبير .




 كانت دائما كل ما تتذكره دوروثي هو فترة بعد الظهر. تلك الساعات الطويلة المتعبة تحت أشعة الشمس القوية، حيث يزداد اجهادك ويصعب عليك الوقوف ، ولكنها في نهاية اليوم تنجح أخيراً في جرجرة ذاتها إلى عش القش غير الدافيء وغير المريح ، وتنام بمعدل خمس ساعات في اليوم الواحد . إن ما يكسبه العامل من قطف الحشيشة لا يكفي إلا لسد الرمق فقط . كان متوسط الأجرة للبوشل الواحد بنسين ، ويمكن للقاطف المتمرس أن يكسب ثلاث بنسات في الساعة إن كانت الحشيشة ليست سيئة ، لذلك نظرياً يمكن كسب ثلاثين شلناً في أسبوع شغل مؤلف من ست وأربعين ساعة . و لم يقترب أحد من هذا الرقم فعليا . فيكسب أفضل القاطفين ثلاثة عشر أو أربعة عشر شلناً في الأسبوع ، أما أسوأهم فيكسب ست شلنات. أما دوروثي ونوبي، فقد اقتسما الدخل، و كان كل منهما يكسب أربعة شلنات في الأسبوع . وهكذا مر أسبوع ثم نصف شهر ولم تقترب دوروثي من حل مشكلة هويتها، وفي الحقيقة أصبحت أبعد عن الحل مما كانت عليه من قبل، وتلاشى الموضوع من بالها فلقد كانت حياة القاطفين تنهكك وتستنفذ كل ذرة من طاقتها.

 فجاة في يوم الأحد انقض شرطيان على المخيم وقبضا على نوبي واثنين آخرين معه بتهمة السرقة ، ولم يتمكن نوبي من الهروب . كانت دوروثي خائفة وتواقة لان تهرب . شعرت أنها لم تعد نفس الانسان الذي كانت عليه منذ ساعة ، وتبدلت كلها من الداخل . ظهر السؤال مرة ثانية على ذهنها : من أكون ؟ طيلة الليلة الفائتة وبالها مشغول بهذا السؤال ، وخافت فعلاً من اكتشاف هويتها. فتحت إحدى الصحف فكان على رأس الصفحة صورة وثلاث عناوين مكتوب بخط كبير . نعم هذه هي !! كان الخبر يقول عن صرخة الوالد الحزين المبجل تشارلز هيرقس نايبهل عند علم بقصة هروب ابنته ذات الثمان والعشرين سنة مع أعزب كبير السن يدعى وربيرتون . 

قبل منتصف ليلة الواحد والعشرين من شهر ثمانية ، صدف أن نظرت السيدة سيمبريل من شباكها ورأت السيد وربيرتون واقفاً مع المرأة الشابة إبنة القس . وظهرا ثانية بعد نصف ساعة في مركبة السيد وربيرتون التي تسللت من البواية الأمامية و ذهبت باتجاه طريق إبسويتش ، وكانت الآنسة تستر جسمها بثياب قليلة ، وبدت كأنها تحت تأثير الكحول . 

رمت دوروثي الصحيفة من يدها وتذكرت كل ما جرى معها تلك الليلة . فذلك المساء رجعت متعبة من منزل السيد وربيرتون ، ومن المفترض أن النوم داهمها في حجرة الموسيقى . كم اشتاقت إلى المنزل كيف ترجع إليه الآن بعد أسابيع من الجوع و القذارة ! هل تجرؤ ؟ وفي المساء قررت ان ترجع إلى نايبهل رغم عدم الشك بأنها لن تكون محل ترحيب في البداية . وبعدما انتهى عمل اليوم الذي يليه ، بدأت تكتب إلى ابوها رسالة طويلة شرحت فيها كل شيء ، وطلبت منه أن يبعث لها بعض الثياب وجنيهين أجرة القطار لترجع الى المنزل . وطلبت منه أن يراسلها على إسم زائف ايلين ميلبورو، فهي لم تجرؤ على ان تخاطر و تمشف هويتها في القرية وربما في المخيم أيضاً ، ويعرفوا بأنها هي دوروثي هير ، إبنة القس ذات السمعة غير الطيبة . منذ أن بدأ عقل دوروثي بالتفكير تحمست لان تخلص من المخيم . فلم تعد تحتمل المزيد من المتاعب بعد ان رجعت اليها ذكريات حياتها السابقة . 

مر خمسة أيام ولم تصلها رسالة من ابوها ، فكتبت رسالة ثانية شرحت فيها المرة تلو الأخرى ما جرى لها ، وتوسلت الى ابوها بألا يتركها في هذه الحيرة . وما من رد على الرسالة الجديدة أيضاً . إن سكوت والدها و عدم رده لا يعني سوى أنه صدّق حكاية السيدة سيمبرل بأنها فرت من البيت بظروف معيبة . لن تستطيع العودة إلى المنزل بعدما حدث ، ولن تجرؤ. إن الذي يجب أن تفكر به الآن هو المستقبل . وبات من الجلي امامها ما يجب فعله ، يجب أن تذهب إلى لندن وتكتب لابوها مرة ثانية ، ثم تبدأ بالبحث عن عمل .

 انتهى القطاف في 28 من الشهر التاسع في السنة . في الصباح ذهب القاطفون ليقبضوا رواتبهم المالية ، وكسبت دوروثي خمس بنسات أخرى جراء تسجيل دفاتر لمن لا يعرفون الكتابة او القراءة . وبعدها انطلقت دوروثي مع آل تيرل، الذين تعرفت اليهم في المخيم ، إلى لندن لتصل هناك بعد الساعة التاسعة بفترة قليلة . قضت دوروثي الليلة مع آل تيرل. لقد تعلقوا بها بشكل كبير ، فقدموا لها فراشاً على الأرض في منزلهم . وفي الصباح ودعتهم و انطلفت في طريقها للبحث عن مكان تعيش فيه . ووجدت في حوالي الساعة السابعة مساءاً غرفة باردة سيئة مظلمة و صغيرة . بقيت فيها، ولكن لما تقدم الليل بدأت تسمع في الحجرات القريبة منها أصوات ضحكات عالية ومجنونة ، وصوت قبلات ، ولكنها لم تكن قادرة على التفكير و غطت في نوم عميق . 

وفي الصباح ذهبت إلى أقرب مكتبة لتنظر في إعلانات الجرائد . خلال الأيام الأربعة الأولى تقدمت دوروثي إلى ثمان عشرة عمل ، وأرسلت طلبات توظيف إلى أربعة غيرها . كتبت إلى والدها مرة أخرى ولم تصلها أي رسالة لتجيب عليها . رجعت إلى الحجرة التي استقلتها وهناك عرفت أن تلك الحجرات ليست بيت دعارة فعلي ولكنه مأوى معروف للعاهرات ، وكانت ماري مديرة الحجرات عاهرة سابقة . 

 في الصباح الأخير من أسبوعها في منزل ماري نزلت دوروثي بآخر ومضة أمل إلى سجل الرسائل ولم تلق أية جواب من ابوها . لقد انتهى الأمر ولم يبق بوسعها سوى ان تخرج في الطرقات ، أي الرذيلة . عاشت حياة التشرد مع المتشردين . قدرت دوروثي ان تتحمل هذه الحياة عشرة أيام ، وللدقة تسعة نهارات وعشر ليال . كان من الصعب ان ترى ماذا يمكنها أن تفعل غير ذلك . يبدو أن ابوها قد تخلى عنها تماماً. لهذا بقيت في لندن و صارت واحدة من تلك القبيلة الغريبة والقليلة التي لم تنقرض تماماً. مجموعة من النسوة المشردات و المفلسات اللواتي يقمن بجهود بائسة لإخفاء وضعهن وينجحن في ذلك .

 لم تكن طبيعة دوروثي أن تكون متسولة كغيرها من الناس القريبن منها أمضت ساعاتها الأربع والعشرين الأولى في ساحة ترفلغار سكوير دون اي اكل . ولكن في المساء أصبح وضعها مزريا ، فمشت نحو امرأة غريبة وقالت : أرجوك يا سيدتي هل يمكنك أن تمنحيني بنسين ؟ لم أذق طعم الزاد منذ اليوم الماضي . فحدقت المرأة بها و قدمت لها ثلاث بنسات. وبعد ذلك وجدت بأن تَسوّل الشلن اللازم يوميا الذي يبقيها على قيد الحياة عملية سهلة جداً، ومع ذلك لم تتسول أبداً . وبدا لها أنها لا تقدر فعل ذلك فعلاً إلا عندما يتجاوز جوعها حدود التحمل .

 وفي إحدى الليالي قُبض عليها بينما كانت برفقة فتيات اخريات كن يتسولن دون مبالاة من امرأة كبيرة في السن . دوروثي لم تهتم كثيراً . كان كل شيء كالحلم الآن . وتم وضعهم في زنزانة الشرطة . لم تشعر دوروثي بشيء سوى ارتياح غريب من امره لكونها في مكان نظيف ودافيء . ونامت عشر ساعات دون حركة . ولم تدرك حقيقة هذا الوضع إلا في صباح اليوم التالي عندما تدحرجت برشاقة إلى محكمة الشرطة . أخطأت دوروثي بحق ابوها عندما اعتقدت انه يرغب في ان تموت من جوعها في الطرقات ، لأنه في الواقع قام بعدة محاولات للإتصال بها ولكنها لم تكن ذو فائدة . كان إحساسه الأول بعد اختفاءها مجرد اضطراب شديد. ففي حوالي الثامنة صباحاً ، بدأ يتساءل عما جرى للماء الذي سيحلق ذقنه فيه، عندما دخلت الخادمة إلى المنزل وقالت: سيدي , الآنسة دوروثي ليست في المنزل . ولم أجدها في أي مكان ، ويبدو أنها لم تنم في سريرها , أعتقد أنها هربت من المنزل ! حينها قسا قلبه ضد دوروثي الى نهاية الحياة . وانشغل عنها بالواجبات الموكلة إليه . ولكن في اليوم التالي صارت الحكاية أكثر إلحاحاً ، لأن السيدة سيمبريل نشرت قصة هروب دوروثي . فأنكر القس ذلك بشدة ، ولكن ساوره شك خفي في قلبه بأنها قد تكون هذه هي الحقيقة .

 استمرت القصة في الجرائد حوالي أسبوع، وبعد هذا وصل من دوروثي ثلاث رسائل تشرح فيها ما جرى ، ولكن والدها لم يصدق بأنها فقدت ذاكرتها واعتبرها حكاية ملفقة . واعتقد إما أنها فرت مع السيد وربيرتون أو قامت بعمل مخزي مقارب لهذا ، وانتهى بها المطاف إلى التشرد. كتب رسالة لإبن عمه الثري ، وطلب منه أن يتصل بدوروثي إن كان ذلك ضمن استطاعته ، وأن يجد لها عملاً في لندن. إذ بعد ما جرى ، لم تعد طبعاً هناك أي إمكانية لرجوعها إلى نايبهل . 

وبعد هذا جاءت رسالتان من دوروثي تحكي له عن الجوع الذي يهددها و الموت ، وتتوسله ليبعث لها بعض النقود . انزعج القس. وهي المرة الأولى في حياته التي أخذ مثل هذا الشيء على محمل الجدية . حينها باع القس أسهماً بقيمة عشرة جنيهات و بعثها على شكل شيكاً إلى ابن عمه ليحتفظ بها لحين ان تظهر دوروثي. وأرسل رسالة إلى دوروثي، ولكن الرسالة وصلت متأخرة ، فكانت دوروثي في الطرقات عندما وصلت الرسالة إلى ماري . ولكن إبن عم القس لم يتطلع إلى القس إلا كقريب متطفل سيء ، ولكنه أخبر أحد الخدام ، السيد بلايث ، ليبحثوا عنها في لندن وقال له : لقد حان الوقت للإمساك بتلك الفتاة الحمقاء ، وحبسها في مكان ما قبل حصول أية مشاكل. 

 استغرق البحث عن دوروثي اسابيع عدة . ففي صباح أحد الأيام التي تلت خروج دوروثي من زنزانة محكمة السجن قدم إليها السيد بلايث، وأخبرها أنه أرسل بناءاً على طلب ابن عمها الذي يتلهف ليعاونها ، ويجب أن تأتي معه إلى البيت على الفور , فتبعته دوروثي دون أن تنبس ببنت شفة . 
أمضت ثلاثة أيام في المنزل الخالي الذي وضعها فيه السيد بلايث قبل أن يعود إبن عمها إلى المنزل . ووصل السيد توماس ، ولم يقدر ان يتغلب على الدهشة التي سببها له مظهر دوروثي , فتوقع أن يرى فتاة جميلة جدا تضع الأحمر والمساحيق على وجهها، ولكن هذه فتاة عازبة ريفية ، كيف استطاعت ان تهرب. ولم يحدث شيء يذكر ليومين اثنين ، واستمرت دوروثي بالحبس الإنفرادي في الحجرة القابعة في الدور العلوي . 

 كان السيد توماس متحمسا في محاولة إيجاد شغل لدوروثي ، فأشار عليه محاميه بوظيفة معلمة مدرسة ، فعاد السيد توماس إلى المنزل فرحا بهذا الإقتراح، واندهشت دوروثي عندما سمعت بذلك . وبالتأكيد الجازم صارت دوروثي معلمة. فلقد قام المحامي بكل المعاملات بأقل من ثلاثة أيام. وهكذا، وبعد عشرة أيام من إلقاء القبض عليها كفتاة تتسول في الطرقات بدأت دوروثي في مدرسة رينغوود هاوس في بورورود، ساوثبريدج، مع صندوق صغير مليء بالملابس وأربعة عشر جنيهاً في محفظة مالها . لأن السيد توماس قدم لها الجنيهات كهدية . ساوثبريدج ضاحية منعزلة تبعد حوالي عشرة أميال عن لندن، وبورورود تقع في وسطها كانت المنطقة متروسة بالمدارص الخاصة . اكتأبت دوروثي من منظر رينغوود هاوس . لم تتوقع أي شيء جميل هنا ، ولكنها توقعت شيئاً أفضل من هذا المنزل الوضيع و الكئيب . 

فتحت السيدة كريفي مديرة المدرسة الباب لدوروثي و رحبت بهغ ، وقالت: أتمنى أن تكون علاقتنا جيدة يا آنسة ملبورو ، بناءاً على نصيحة محامي السير توماس الحكيم على الدوام . ( حيث التصق إسم ايلين ملبورو بدوروثي). ثم قادت السيدة كريفي دوروثي إلى حجرتها في المنزل وتركتها لوحدها . في الثامنة صباحاً نزلت دوروثي إلى الطابق السفلي ، ووجدت السيدة كريفي تنتظرها مقابل مائدة الافطار في ما سمتها الغرفة الصباحية . قالت السيدة كريفي : ستتناولين دائماً ما أتناوله . لذا أرجو أن لا تكوني صعبة الإرضاء في الطعام. لم تتكلم السيدة كريفي مرة اخرى على الإفطار، ولكن صوت أقدام على الحصباء في الخارج ، وأصوات عالية في حجرة الصف، أعلنت عن وصول الطالبات الفتيات اللواتي يدخلن من باب جانبي تُرك مفتوح لهن . دخلتا إلى الغرفة الصفية كانت غرفة كبيرة وُضع على جدرانها ورق رمادي فبدت أكثر قتامة جراء الانارة الضعيفة . 



جلست البنات، الواحد والعشرين، في مقاعدهن مسبقاً وازداد هدوءهن باقتراب الخطى . وحين دخلت السيدة كريفي انكمشن في مقاعدهن . قالت السيدة كريفي: أيتها الفتيات، هذه هي المعلمة الجديدة ، الآنسة هيلين ميلبورو . الآنسة ميلبورو سوف تعلمكن اللاتينية والفرنسية والإملاء والقواعد والكتابة والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والأدب الإنكليزي والإنشاء والرسم الحر. واجهت دوروثي الفتيات في الصف ، لم تكن خائفة منهن . اعتادت على التعامل مع الصغار ولم تخفْ منهن على الاطلاق . وحين جلوسها مع الفتيات، اكتشفت دوروثي جهلهن غير الطبيعي . لا يعرفن أي شيء. من المرعب أن يكون الصغار بهذا القدر من عدم المعرفة . ولم يكن جاهلات فقط، وإنما غير معتادات على أن يسألهن اي شخص ، لهذا كان من الصعب الحصول منهن على إجابات. 

حاولت دوروثي ألا تؤذي عاطفة التلميذات بالإفصاح عن جهلهن، لكن في صميم قلبها اندهشت و خافت ايضا . لم تعرف أن هذا النوع من المدارس لا يزال موجوداً في العالم الحديث . هذه المدرسة صارت مدرستها هي، وسوف تعمل من أجلها وتفتخر بها ، وستبذل كل قصارى جهدها كي تحولها من مكان للعبودية إلى مكان للمحترمين البشر . قد يكون ما تستطيع القيام به قليل ، لأنها تفتقر إلى المؤهل و الخبرة ، لكنها سوف تعلم نفسها قبل أن تعلم احد اخر ، وستبذل كل ما في طاقتها ، وتقوم بكل ما تستطيع فعله من الإرادة والقوة لتنقذ تلك التلميذات الصغيرات من الظلام المخيف الذي حُبسن فيه. في غضون الأسابيع القليلة التي تليها شغل دوروثي شيئان اثنان ، واستبعدت كل الأشياء الثانية . كان الأول وضع نوع من النظام لتلميذات الصف ، والثاني ترسيخ نوع من العلاقات مع السيدة كريفي. لقد علمت دوروثي أن أسوأ شيء في حالها هنا هو عدم وجود نوع من الخصوصية، وقلة الوقت المخصص لذاتها . 

بعد أن ينتهي اليوم الدراسي تكون الغرفة الصباحية الملجا الوحيد , حيث تكون تحت رقابة السيدة كريفي . وفي الأوقات التي تعتبر مساءا تمضي دوروثي وقتها في المكتبة العامة .
 فهمت دوروثي أن السيدة كريفي امرأة مقيتة ، ووظيفتها هي وظيفة عبد لكن ذلك لم يقلقها بشكل كبير ، واستحوذ عملها على جل اوقاتها ، وبدا ذو أهمية مقارنة براحتها ومستقبلها. لم يتطلب الأمر أكثر من يومين لتضع لصفها نظاماً و تستمر عليه . ناسب دوروثي عملها كمدرسه بشكل كبير جدا وكانت سعيدة به. عرفت عقول الصغيرات بشكل صريح في هذا الوقت ، وعرفت مميزات كل واحدة من الفتيات الصغيرات ، والحوافز الخاصة التى تلزمهن قبل أن تدفعهن للتفكير . وبدت لها وظيفتها هدف و رسالة في الحياة . لكن لم يكن استمرار ذلك ممكناً بالطبع . فلم تمض أسابيع كثيرة حتى بدأ الأهالي في التدخل بخطة و برنامج شغل دوروثي . فهم ينظرون إلى التدريس كما ينظرون إلى فاتورة السمان او اللحام ، ويشكون دائماً بأنهم يتعرضون للغش . في البداية ، كانت هناك مشاكل حول دروس الكتاب المقدس، ثم حول شكسبير . حينها عقد الأهالي ما يشبه الإجتماع غير المغلن عنه . وبعد انتهاء اليوم الدراسي زار مجموعة منهم السيدة كريفي. واستمر الجدال بين دوروثي والأهالي العشرون دقيقة تقريبا , بعدها التفتت السيدة كريفي إلى دوروثي، ولقنتها درساً كبيرا أمام الأهالي، وقالت إن جلب كتب شكسبير من غير علمها يُعتبر ذلك خيانة عظمى ، وإنْ تكرر حدوث شيء مثل هذا ، فسوف تطرد دوروثي ومعها راتب أسبوع في جيبها. وأعادت تلقينعا الدرس مرة ثانية بعبارات مثل : (البنت التي آويتها في منزلي ، وتأكل من خبزي، وتعيش على إحساني). جلست دوروثي هادئة بوجهها المتردد المهان ، وأدركت أنها ستنفجر من البكاء إن لم تصارع لمنع ذلك. لم تطلب دوروثي إذناً لان تخرج ، ولكنها شعرت بعدم القدرة على ان تظل في المنزل أكثر من ذلك ، فانطلقت في طريق المكتبة العامة . إلا أنها لم تكن يائسة إلى ذلك الحد الذي يجعلها تهجر المدرسة.

 في اليوم الذي يليه بدأت بتغيير جدولها الدراسي بناءاً على تعليمات السيدة كريفي. و رجعت التلميذات الصغيرات إلى روتين النسخ وتمارين الجمع التي بلا نهاية ، وإلى التعلم الببغائي ، لهذا بدأن باهانة دوروثي وتمردن عليها. كانت الأسابيع الأخيرة من الفصل الدراسي غير جيدة على الاطلاق . فظلت دوروثي مفلسة بشكل كبير الى ما يقارب نصف شهر لأن السيدة كريفي قالت لها بانها لن تقدر ان تعطيها مرتبها حتى تقدر ان تاخذ بعض الرسوم من البنات . فأدركت الآن تماماً شناعة البقاء في منزل السيدة كريفي ، وأصبح ملجأها الوحيد خارج االمنزب هو المكتبة العامة في الأمسيات القليلة ، إضافة إلى الكنيسة صباح أيام الأحد . 

في اليوم الأول من الاجازة تسلمت دوروثي مكتوبا من السيد وربيرتون . كتب لها: عزيزتي دوروثي، أخشى أنك اعتقد بانني قاسي القلب لاني لم أكتب لك قبل ذلك، ولكن أؤكد لك بأني لم اعلم عن هروبنا المزعوم إلا منذ عشرة أيام . عندما وصلت إلى نايبهل لم يقبل ابوك ان يستقبلني في بيته ، لكن استطعت الإمساك بالأب ستون فأعطاني متردداً مكانك والإسم الذي تستخدمينه الآن . أعتقد أن حكاية هروبنا قد خفت ، ولقد أنكرتُ صحة القصة برمتها بأقصى قوة. سمعت بأن ابوك يشتاق اليك كثيراً جداً ، و يسره رجوعك الى المنزل مرة ثانية لولا الفضيحة. وأنك حصلت على منصب وظيفي ممتاز في مدرسة للبنات . وسوف تصدمين لسماع أحد الأشياء التي حدثت له , لقد أجبر ابوك على سداد كل ديونه ! لم يكتب اب دوروثي لها في عيد الميلاد ، وإنما ارسل لها بجنيهين هدية عيد الميلاد . أوضحت نغمة الرسالة بأنه غفر لها في هذه اللحظات . 

شعرت دوروثي باشتياق كبير الى منزلها ، فحاولت إشغال نفسها بقراءة الكتب ، ونجحت في ذلك أسبوع أو اثنين، ولكن بعدها صارت كل الكتب تقريباً غامضة و مملة . وعند نهاية العطلة أقامت علاقة صداقة مع امرأة صغيرة الحجم إسمها الآنسة بيفر، وهي معلمة جغرافيا في واحدة من المدارس الخاصة في المنطقة. بدأ فصل عيد الفصح الدراسي . في الفصل الماضي تعاملت دوروثي مع الفتيات بشكل غير صحيح فقط لأنها عاملتهن ككائنات بشرية ، ولكن عندما انتهت الدروس تمردن عليها . فتعلمت طرق معلمي المدارس البائسة . تعلمت أن تسطح عقلها ضد ساعات من الملل المستمر لكي تقتصد في قدرتها العصبية ، ولتكون متيقظة و عديمة الرحمة دائماً . لقد ازدادت قسوة ونضجاً . 



وبعد نهاية الإثنتا عشر أسبوعاً قالت السيدة كريفي: تفضلي هذا مرتبك ، والآن أرجو أن تغادري من هذا المنزل على الفور . لم أعد أريدك هنا، لقد حصلت على معلمة جديدة . حينها صعدت دوروثي إلى الطابق العلوي وكانت ترتعد بصورة لاإرادية . بعد نصف ساعة من قرار الطرد ، فتحت دوروثي الباب الأمامي تمسك معها حقيبة يدها . 

كان ذلك في الرابع من نيسان في يوم عاصف و مشمس . لم تعرف أين تتوجه بطريقها ، ولم يخطر فى بالها ماذا ستعمل سوى الذهاب إلى لندن وإيجاد إيجار ملائم لها . لكن تبدد ذعرها الأولي وأدركت أن الوضع ليس ميؤوس منه . لا شك لأن ابوها سيعاونها بأي شكل ، وعلى أسوأ الأحوال يمكنها أن تطلب المعاونة من ابن عمها مرة ثانية ، رغم أنها كرهت مجرد التفكير فيه . لكن يبدو أن الاحوال تحولت باتجاه آخر ، اذ لم تبتعد دوروثي خمس ياردات من البوابة حتى وصل صبي الرسائل . وبادر دوروثي بالكلام وقال: هل تعيش الآنسة ميلبورو هنا ؟ فقالت: أنا الآنسة ميلبورو. فأعطاها جواباً لها. فتحت الجواب وكان مكتوب به : افرحي برب الصلاح! اخبار سعيدة ! سُمعتك الحسنة عادت مرة اخرى . 
وقعت السيدة سيمبريل في شر افعالها ، عمل التشهير. لم يعد يصدقها اي شخص . والدك يتمنى رجوعك الى المنزل فوراً. أنا قادم إلى المدينة وسأقلك على الفور إن أحببتِ .. كانت الرسالة من السيد وربيرتون. احست دوروثي بضعف وارتعاش . وقفت على الرصيف وقتاً لم تحسب مقداره ، إلى أن قدمت سيارة أجرة في الشارع و فيها السيد وربيرتون . ركبت معه وأخذ يتحدث بشكل كبير ، لكن دوروثي لم تسمع أي كلمة ، ولم تفهم منه سبب التبدل المفاجيء في احوالها إلا بعد أن وصلوا إلى الضواحي الداخلية للندن. فقال : قبل شهور ليست بالكثيرة ، كانت السيدة سيمبرل على درجة من الحماقة لتكتب قسماً من إحدى حكاياتها الملفقة في رسالة ، فأخذها شخص ورفع ضدها دعوة تشهير . وبعدها تركت السيدة سيمبرل البلدة فجأة وسراً في الليل . وهكذا انتهت كل حكاياتها الملفقة تجاه أهل القريه و حكايتك ، لذا عندما نرجع إلى البلدة ستقولين إنك أصبت بالأنفلونزا ورحلت لاسترداد صحتك . 

خرجا في القطار إلى نايبهل . أدركت دوروثي أن فقدانها للذاكرة الذي تعرضت له هو مجرد اداة او وسيلة استخدمت دون وعي للخلاص من وضع لم تكن تقدر ان تطيقه اكثر ، فالعقل يقوم بخدع غريبة عندما يكون في وضع سيء . تحدثا في أمور شتى وخاصة في معتقداتنا و افكارنا الدينية ، ثم خلع السيد وربيرتون قبعته الرمادية وقال : أخلع قبعتي لكي تريني في أسوأ ظروفي , هل تتزوجيني ؟ فقالت: لا اقدر على ذلك . لن أتزوجك أبداً . فقال السيد : أنا أكبر منك إلى حد ما، ولكن بعمري البالغ التاسعة والأربعين ، وسمعتي السيئة وأولادي الثلاثة ، ، وازدراء ابوك لهذا الزواج ، ودخلي الذي لا يتعدى السبع مائة جنيه في العام الواحد ألا تعتقدين انه عرض جدير بالتفكير ؟ أنت بحاجة إلى منزل وسبيل عيش، وأنا أحتاج إلى زوجة تقدر ان تمسكني ، فقد سئمت النساء المثيرات للإشمئزاز وأنا متحمس للاستقرار . 

جلست دوروثي صامتة وهي تنصت بانتباه مرعب فقال : بعد عشر سنوات سيتوفى ابوك دون أن يترك لك قرشاً واحداً ، ما الذي سيؤول إليه حالك ؟ فقالت دوروثي : بطريقة ما ، احس أنه من الأفضل لي أن أستمر في اكمال ما كنت عليه في السابق .

 بعد مرور أسبوع .. صعدت دوروثي التل تاتي من البلدة على دراجتها ووقفت عند بوابة المنزل . كانت متعبة قليلاً بسبب الزيارات التي تقوم بها صباحا . كان الوضع في الكنيسة لا يحتمل ، فقد ترك القس الأشياء كلها تنهار . ظلت دوروثي غارقة في شغلها منذ ان وصلت الى المنزل ، وعادت الأشياء إلى رتابتها القديمة بسرعة كبيرة جدا . تلاشت الفضيحة في هذا الوقت وفرحت بعودتها . رحب بها ابوها هو الاخر وكأنها غابت في عطلة أسبوعية فقط . لم تحدث أشياء مهمة في البلدة . دخلت دوروثي إلى قاعة الموسيقى، وكان في انتظارها عمل كثير في صناعة الأزياء اليدوية من أجل الموكب الذي سيشرف عليه طلاب المدرسة في عيد القديس جورج . توقفت بعد لحظات ليست بالطويلة عن العمل . كانت فكرة حياتها المستقبلية التي تحدث عنها السيد وربيرتون تشغل بالها ولكن هذا لا يعني لها . استمرت بالعمل وهي تلصق شريطاً تلو الآخر في أمكنتها بتركيز اسر و تقي ، وسط رائحة صمغ الإناء الكبيرة . 


                                             النهاية 
تفاعل :

تعليقات