القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية قبل أن تنام الملكة -المؤلفة : حزامة حبايب - اعداد واشراف- رجاء حمدان


تلخيص رواية
 قبل أن تنام الملكة المؤلفة : حزامة حبايب 
إعداد وإشراف -رجاء حمدان




 لم أحسب أن رحيلك لثاني مرة سيكون قاسيا أكثر وأكثر بما لا يطاق من اول رحيل لكي عني . نفضتُ مخزون كل غضبي من العالم عليك و سكبت كل قهري من ترتيبات الحياة المتعنتة على ترتيباتك التي تنظميها بعيداً عن ترتيباتي . لقد جاهدتُ كي اقلل من حبي لكي لكنني لم أستطع إلا أن أحبك أكثر . في رحيلك الأول بكيت بحرقة الغياب غير المجرب , قلتِ لي وأنتِ تخفين دمعة وقفتْ في زاوية عينك حين تعالت شهقاتي تداخلت مع نداءات المطار الداخلية : (أنا مش رايحة احارب انا رايحة ادرس ) . في رحيلك الثاني بكيت بحرقة الغياب المجرب. كنا في المطار إياه فالمطارات هي مستودعات للحيوات العابرة و الغياب .. حين وصلت المنزل أقفلت الباب , أسندت ظهري وأسلمت روحي للتداعي , وضعت يدي على خدي . قرطك الفضي الصغير ها هو موجود على طاولة الكمبيوتر , دخلت المطبخ فاشتممت رائحة بقايا الشعاط في الجو , كنتِ قد أكلت قبل رحيلك آخر سندويشة جبن مشوية , كنت أحدثك عن أخطاء الثورات وتحدثيني عن جرائم الأنظمة , أحذرك من ان تعتنقي اي افكار او مبادئ طهرانية غير قابلة للتلون وتحذرينني من ارتداء الوانٍ لا تلائمني .

  عليَّ أن أعترف بأنك تقودينني أكثر مما أقودك انا , تنتشليني من شروط واقعي الذي استسلمت له ، ترجعينني إلى عصر الأمنيات الرائعة الجميلة .. أنت لا تحبين البكاء , ليس أمامي على الاقل , وإذا ما أتاك الدمع تلجئين إلى أقرب عتمة حتى تستري نفسك , لكنك لا تعلمين أني رأيتك تبكين حين وقعت مجزرة الرصاص المسكوب على الأبدان المفزوعة في غزة .. أنتِ أيضاً بكيت في حجرتك في الجامعة على بعد آلاف الكيلومترات من حجرة نومي التي كنت آوي إليها بعد مطالعة صور موتانا بكل الاحجام و الهيئات منهكة من النحيب المفرد . لقد بكيتِ دون أن تدعيني ان اراك وعرفتُ ذلك من صفحتك على الفيسبوك التي أصدرتها بصورة طفل غَزي ذهب الى مدرسته بعد نهاية حصاد الأجساد الفلسطينية اليانعة , جلس على كرسيه في مقدمة و أول الصف وإلى جانبه ورقة مقواة حملت اسم زميله الذي انتقل الى الرفيق الاعلى . نكس الطفل رأسه وغطاه بيده , كان يبكي رفيق دربع الذي كان يتقاسم وإياه سندويشة الزيت و الزعتر , وفي الأيام المرفهة اللبنة و الخيار ! فكما ورثتي عِنادي لعلك ورثتي دموعي السهلة . 

كنتِ صامتة بتبرم طوال الطريق الى المطار من البيت من كثرة حكيي غير المفيد عن الفلوس وآليات توفيرها و الضن بها و توفيرها قبل إنفاقها . إعلمي يا مليكتي أنني أنحدر من اسرة عرفت القلة أكثر مما عرفت الكثرة . لقد عشنا لاجئين وافدين في الكويت , كنا قد شرعنا نمشي أكثر في طريق التمرد والغرور والتكبر على نعم الله التي من بينها شهيتنا المفتوحة على الدوام على الطعام و الحياة , حتى أن أمي كانت تنغز خواصرنا بكوعها إذا كبّرنا اللقمة أكبر مما يناسب معدتنا ,أو إذا استفردنا بصحن اللحم المفروم و البيض على العشاء وعزفنا عن الأطباق الأخرى ( المستورة ) والمكررة من زيت و زيتون و زعتر و بندورة مُقطعة على هيئة أهلة , وأقراصٍ من خيارٍ ذابلة التي لم يتسن لاي احد ان ياكلها في اوانها واكتُشفتْ صدفة في أحد أدراج الثلاجة . وهناك من نعم الخالق علينا باعة الملابس غير الغالية الثمن , وكذلك الصحة الجيدة عموماً دون اللجوء إلى اي دكتور خاص , حتى أسناننا حين تتخلخل تتكسر و تقع لوحدها , فاذا تلكأتْ ربط والدي السن المرتخية بخيط في يد باب البيت وفتحه وسط انبهارنا نحن بأفكار أبي المبدعة الغريبة . كما لم تتعد العمليات الجراحية استئصال الزائدة الدودية لثلاثة منا واللحمية لأربعة واللوزتين لإثنين والفتق لأبي والبواسير لأبي أيضاً إلى جانب ولادات أمي الثمانية , وعَملتَيْ إجهاض استغنينا بهما من فمّين زائدين , والتحاقنا بمدارس الكويت الحكومية قبل ان يصدر قرار القاضي الذي يحكم بحرمان الشريحة العظمى من أبناء الوافدين من حق التعليم المجاني . كنا في الصيفيات نحلّ زائرين على عدة بيوت في الأردن . كلاجئين من الكويت كنا أكثر ثراء من لاجئي الأردن . من بين اقرب المنازل إلى روحي المتوثبة في ذاك الزمان , بيت خالتي رحمة الواسع الكبير في جبل التاج بعمان . خالتي رحمة كانت جميلة و بقيت جميلة حتى لما كبرت في العمر , ففيها ذاك النوع من الجمال المختزن المشع الذي لا يشيخ مع مديد العمر . كانت كل ما يطلب زوجها اي نقود تذره بميراثه الذي ورثه من بيت والده الذي بدّده على القمار , والثلاجة التي سحبها أحد اصحاب ليالي لعب الورق يوم راهن على قرشٍ لا يملكه , والتلفزيون الذي أعطاه لأحد ديّاناته الذين لا يعدوا , ثم تعايره بأنه بات يعيش على القرش الذي تُدّخله إلى المنزل بعرقها و كدها , فينقضُّ عليها كالمسعور ويجمع فلوسها و يخرج من البيت . فاطمة , جدتي لأبي , التي كانت تسكن فيما مضى في مخيم الوحدات في عمان , كانت تلبس سراويل داخلية بيضاء موردة عريضة طويلة بدكة تنتهي بكشكشة أو دانتيل . كانت تخيطها في يدها وتحويها على العديد من الجيوب الخفية لجمع المبالغ الكبيرة , فإذا التممنا حولها نحن أحفادها الكثيرين في عددنا , نطلب منها الشلنات والبرايز لشراء خبز الكعك بالسمسم أو ان تدفع لنا أجرة بضع دورات على مراجيح أبو سعيد في المخيم , وهو أقصى ما قد نطمح ان نحصل عليه منها , كانت تمنحنا النقود بكل حذر .

 تمددتْ جدتي ذات مَسَوية ناعمة صيفية على مصطبةِ بيتها بعد صلاة المغرب , فغفت وحلمت ثم شعرت بشيء يتمشى بخفة على جسدها ثم قرص لحمها فسَمَتْها رعشة في كل جسدها , ففتحت عيناها فكان ثوبها قد ارتفع إلى ما فوق كاحليها , ثم صرخت بأن سروالها لم يعد موجودا أمامه . جدتي لم تقلق لعريها بقدر قلقها على النقود . ضربتْ عمتي نجاح على صدرها وحاولت أن تدفن الحكاية في ارضها و تداري الفضيحة , ولكن المخيم في اليوم التالي كان قد عرف عن لصِّ سروال جدتي فاطمة , ولكن ما أثار دهشة الناس و استغرابهم أن سروال جدتي كان به ألف دينار موزعة على جيوبه السرية غير الظاهرة , حتى أنه فارَ دمُ عمي أبو تيسير لأنها كانت تحتفظ بهذا المبلغ بينما هو بالكاد يقدر أن يطعم عياله ! . 

أمّا رضِّية , جدتي لأمي , كانت الأكثر ابداعا و تفكيرا في ابتداع آلياتِ إيداعٍ مضمونة , فقد كانت تقسم ثروتها وتوزعها على صرر كثيرة , ثم تضعهم في كيس نايلون و تقغله بمطاطة قوية , ثم تدفنهم في جوف مرطبانات الأرز و الفاصولياء البيضاء و العدس و الحمص و البرغل . أرسلت أم صبحي , جارة جدتي , يوماً صبحي إلى المنزل حتى يطلب كمشة عدس ولكنني لم اعلم بالضبط ما هي كمية العدس فأعطيته المرطبان كاملاً , لكن جدتي رضية حين عرفت لهذا الموضوع ضربتني بعنف ومسمرتني بالجدار وغرزت عينيها المستدقتين سكينين في وجهي و هي تصيح (كيف أعطيتها مرطبان أبو العشرين ؟ ) . وحين أرجع صبحي مرطبان العدس لم تجد جدتي ما كان في المرطبان , فاندفعت خارجة من البيت , ولحقناها لنحاول ثنيها عن الإشتباك , حينها حلفت أم صبحي برحمة كل الغاليين الذين ماتوا أنها لم تأخذ أي فلوس ولكن جدتي بقيت تصرخ و تصفها بالحرامية حتى وفاتها . لكن ما لم تعلمه جدتي لأمي وربما أم صبحي , أن صبحي الذي لاحقتني عيناه لاعوام طويلة بقي لمدة ايام عديدة يشتري لنفسه ولي وللرفاق الكثير من العصائر المثلجة و زجاجات البيبسي و الشوكولا الغالية , كما اشترى لي علبة مرآة معدنية حملت صورة فتاة جميلة وقال ان شكلها يماثل شكلي بعض الشيء , ثم أهداني سنسالاً ذهبياً علاه الصدأ بعد أقل من اسبوعٍ من ارتدائي له , ولأيام بهيجات مسترخيات كان صبحي ملكاً سعيداً ! . 

خبرتني الأيام البعيدات الملتصقات بكل قوة في ذاكرة القلب ,أن المخابيء السرية يا مليكتي حياة , بل اغفري لي قلة حيلتي وضمور خيالي مقارنة بتطرف خيال الاشخاص الاخرين وسعة حيلة الناس الحقيقيين ممن عانقوا الحياة . كانت أمي تبدو دائماً حصيفة و دقيقة لجهة مخابئها , كانت أمي تضع مبلغاً من المال , يفترض أنه مؤجل , لحقب الحاجة الكبيرة , وفي درج ملابس أبي الداخلية مبلغاً ثانيا لنقود الجمعية الشهرية . ومع أن هذه الأماكن سرِّية إلا أن العديد من الناس يعلمون في موضوعها . وأمي لم تكن تألو نحتاً وئيداً في صخر حياتنا الصلب والمصمت لاستخراج النقود , كما كانت تستمطر سماوات الكويت القاسية . فعلى وعورتها و عسرتها أعانها الله على اعتماد الجمعيات الاسبوعية او الشهرية لسد احتياجاتنا . وهناك طبعاً السرقة كخيار بائس لا فكاك منه , فعندما تُسد السبل في وجه والدتي , كانت تمد يدها إلى الجيب الخلفي لبنطال أبي فتستل عدة دنانير لا يثير فقدانها اي شبهات كبيرة حولها , بل طورت أمي ابتكاراتها لتسرق أبي تحت بصره و سمعه , فقد كان أبي نزّاعاً إلى النسيان فينسى مأل الدينار الذي يخرج من جيبه على الفور , ومع ذلك ظل شعور الذنب يخز أمي في اعماق قلبها كدبوس منسي في صدر فستانها , ولكن منذ الأزل أقنعتْ أمي ذاتها أنها على حقٍ وأن اعتقادات والدي ليست كلها آثاماً , فهو الذي لا يزال مستغرقاً في العباطة او البساطة ! . أبي لا يتخيل في أشد تخيلاته أن فاتورة الكهرباء التي يدفعها لثلاث مرات في الشهر كانت أمي تشتري بها حذاءاً لأخي أو حذاءاً جذابا لشقيقتي التي تصغرني , لكنها سبقتني في استحضار المرأة المترصدة في جسدها قبلي , والكثير الكثير من متطلباتنا , لكن نوايا أمي لم تكن مخلصة كلها على الاطلاق في تفسير مفهوم الحاجة والإحتياجات التي شرعنت سرقاتها , فقد كان لديها ولعٌ في شراء التماثيل ذات الهيئات البشرية , حيث تعلقت أمي بتمثالٍ خزفي لراقصة باليه نحيفة لبست ثوبا زهرياً إلى أن جاء يوم وانشطر فيه التمثال إلى نصفين , حيث كانت والدتي تمسح الغبار عنه فوقع من يدها عن طريق الخطا .. بكت أمي وأجهشت في عياط قاسي للغاية ... 

أبي لم يكن يضم يده رغم المال القليل الذي يمطر علينا ك قطرات شحيحة متباعدة ولا يروي أرضنا الظامئة , بل إن كرم أبي أوشك أن يهز عماد منزلنا الذي يمسك نفسه بكل صعوبة مرات لا محدودات .. كان أبي يعمل فني كهرباء في وزارة الصحة الكويتيه وراتبه لا يكفينا لا نسد احتياجاتنا . قديماً باعت أمي مصاغها ليتشارك أبي في فتح محل صغير مع صاحب مقرب له , ولكنه أعطاه لامرأة تشبه أمه بعدما اخذت تشكو له ضيق الحال , وللآن لم يعوّض والدي والدتي بدل ثمن هذا السوار عشرة كما وعدها , فجزءٌ من راتب أبي يذهب لجدتي فاطمة وعمتي التي تستعجل خاتمة لعزوبيتها المفروضة عليها فرضا , وزياده على ذلك اضطرار أبي إلى أن يبعث نقودا بشكل متقطع إلى عمي أبو تيسير . 

أبي لا يعرف أننا نكبر بشكل سريع للغاية وأن قمصاننا و أحذيتنا و بنطلوناتنا و فساتيننا التي نتوارثها تتقلص على أصغرنا قبل أكبرنا . لم يكن أبي مقترا او بخيلا , كل ما في الأمر أن قراءته لعداد الحياة لم يتغير .. كان الطعام وتحديداً إطعامنا يشكل نوع من المتعة بالنسبة لوالدي , والمتعة الأعظم عنده أن نفترش الأرض بعد رجوعه حتى نتعشى فينادي علينا بالإسم , ولا يطيب وجوده حتى نغمره كلنا بجلوسنا المسهب في مساءاته .. يتخلف أبي عنا في العشاء قليلاً حين نشرع نحن في الاكل , فيبدأ بعد شوط من بدايتنا ويمد يده لينتقي الأطباق غير الرغيدة التي تتأبّى عنها أنفسنا الإنتقائية . وكم يبدو والدي فرحا سعيدا وهو يرانا نسمن في مساحته المتقلصة جغرافياً و الكبيرة جدا جدا عاطفيا , وبحسب قناعاته نقدر أن ننام عراة ولكننا لا نستطيع أن ننام جائعين , هكذا يكون أبي ملكاً مغتبطاً بافراد اسرته الذي لا يريد لهم إلا أن يشبعوا ! .

 أما أنا يا ملكة الملكات فأنا هي , أنا ابنة أبي الحائر وابنة أمي الذكية جدا , كبرت على انتشار لحم بشري وافر في منزل لا يكاد يتسع لنا , توقفت عن تخبئة وريقات المال في طيات الكتب , واكتفيت بحقيبة اليد ذات الجيوب الكبيرة ثم استحسنت حقائب الكتف التي تستخدم في الجامعة .. علمني أبي من خبرته الكبيرة في الضياع مراعاة احتياطاتٍ وقائية لازمة , فصرت أوزع فلوسي في المساحات غير الكثيرة المصاحبة لوجودي المرتحل , ودسست بعضها في تجاويف أحذيتي أو كنت أدفنه تحت فراشي فالليالي لم تسمح بشرود اي افعال سرية ثم اذا زادت الفلوس و معها بالتالي تزيد احتمالية الفقد فطورت مخبأ مضموناً بدا لي حصيفاً في أحد الجوارب الصغيرة التي أشارت له عليَّ مريم , معلمة اللغة العربية و صديقتي في المدرسة التي عملتُ فيها في الرصيفة في المملكة الاردنية , فقد كانت ملتزمة ولكنها لم تر في اني احمل لقب بنت مطلقة في وقت مبكر اي سبب يدعو للحذر النسائي مني . وحين توطدت صلتنا وسط دهشة المعلمات من مشي المؤمنة مع السافرة , كنت أكثر إقبالا على عملي و وظيفتي من مريم , واكتشفتُ لاحقاً أن التعليم وظيفة حكومية متيسرة جداً في الاردن لفلسطينية مثلي , فلقد تصالحت مع مهنتي كمدرسة في الكويت ثم في الاردن بل حلى لي أن أقنع ذاتي , التي تورمت قليلاً حين أسندت إليَّ صفوف التوجيهي, أني قد اصنع ابناء جيل جديذ , لكني اكتشفت أن المدرسة تشكل تربية قاسية شديدة امتداداً لتربية البيت , فحين أستدعي , في مرات قليلة ,أمهات طالبات لا يظهرن تحسناً في سلوكهن , فإنهن ببساطةٍ يوكلن إليَّ مهمة معالجة المسالة ب ( إكسري رأسها ) ! . لكني لم ألجأ لذلك , فالاشياء الخاطئة و المنحنيات في المناهج الدراسية قد يفتح الرؤوس دون حاجة لكسرها .. كانت الطالبات ينقمن عليَّ على معلمة اللغة الانجليزية التي تقف مقابلهن برأس حاسر وبنطلون قماش رجالي وقميص حريري ولا ترى في المُصّلى كبقية زميلاتها .

 استدعتني المديرة عائشة إلى المكتب الخاص بها , وبعد حديث طويل اتهمتني بأني لا اتي مبكرا و لا احضر الصباحي تهرباً من تحية العلم . حذرتني مريم من عائشة ففي مقدورها ان تزقع بي في عقوبات تأديبية ونقل المعلمات إلى المنافي , ولكن لصعوبة توفير معلماتٍ للتوجيهي ولا سيما بعد أن انتشرت سمعتي بين الطالبات والأهالي , صيت معلمة اللغة الإنجليزية الشاطرة التي تشبه الأجنبيات , فقد تجد ذاتها عائشة مضطرة لاحتمالي ! 

وفي غضون أشهرٍ تعرضتْ أكثر من نصف المعلمات للسرقة و زادت كمية الهلع و الخوف في المدرسة بأكملها , والمديرة أعلنتها صراحة أن اللصة واحدة منا , نحن المربيات العظيمات , ثم جاءت مريم ورمت بدفترها على الطاولة وقالت لي إن المديرة تشك بنا , لم أفهم ما كانت تقصده فشرحت لي مريم وقالت : لأننا فلسطينيات ! اندهشت لأن أكثر من نصف المعلمات فلسطينيات ولكنهم متأردنات ! . لم أقتنع أن الست عائشة يمكن أن تتهمني أنا ومريم بالسرقة لاننا نعلن ان جنسيتنا فلسطينية بحتة , وفي داخلي أعرف أنها مدفوعة بكراهيةٍ شخصية ومشاعرمختلطة من الرفض و الغيرة , فمريم كانت حادة الطباع وأنا كنت مُطلقة وغريبة بلبسي خارج سرب المجلببات . بعدها أشارت عليَّ جدتي رضية بصبغة اللفت , وبالفعل تم الكشف ان السارقة هي أم بكر الآذنة بعدما رأينا يدها مصبوغة بصبغة اللفت التي تم صبغ خمسة دنانير بها . هكذا كنا أنا ومريم ملكتين فلسطينيتين فرحتين نرتشف هناءات موسمية مع الشاي العكر ! . 


تاق أبي لولد يكون بكره . أراد الصبي و بكل قوة وأعطاه الإسم قبل أن يتقابل معه حتى . أبو جهاد هو اللقب الذي انتخبه والدي لذاته , وحين هلتْ ثمرته الأولى , لم يخف أبي خيبته لا لأني بنت وإنما للإسم الذي خاف أن يتأجل أو يفقد وقعه بين اصحابه . ظللت خمسة أيام بلا إسم , تلقيت الهدايا وأمي حاولت ان تسميني بعدة وقاومتْ واستماتتْ كي لا أسمّى جهاد , ولكن أبي لم يتزحزح عن قلعة عناده و اصراره فاستسلمت والدتي بعد ذلك , وجاء بعدي بنتين وبعدهن الابن الاول الذي أسماه أبي جمال , وبعده جاء ثاني ولد الذي اعطاه ابي اسم ناصر , وعاش جمال وناصر الحياة على هامشها . مضت حياتهما بسلاسة غريبة حد الملل و الروتين , كلاهما تزوج في العمر البيولوجي المتوقع لزواج الذكر , وتوظفوا ورُزقوا بابناء . وحين جاء الولد الثالث والأخير أسماه أبي أحمد بن بيلا . كان بيلا أقرب اخوتي إليَّ رغم فارق السن الذي بيننا , كان يحب تربية الحمام في اول لمحات طفولته في الكويت , وعند نزوحنا إلى الأردن اتخذ من سطح بيتنا في الزرقاء مساحة لبناء بيت للحمام . أما البنات , فركبت أمي موجة من الأسماء الرقيقة الناعمة الهشة , فكانوا رانيا وريما ورولى ورشا أخيراً , ولكن أبي لم يحب أسماء بناته ولكنه كان قد اعطى وعدا لوالدتي بعدم التدخل في أسماء البنات بعدما انتزعني ووهبني الجهاد . أحببت أسماء اخواتي , وفي المرات الكثيرة التي كان اسمي يخذلني فيها , كنت أشتهى إسماً من أسمائهن , ولكن شقيقاتي لم يكنّ على قدر أسمائهن , كن يشبهن بعضهن البعض بشكل كبير , يتبادلن الخبرات السطحية والقناعات السديدة نفسها حائرات في تفسير الحب إذ يعلمنه . ويوم نهضتْ أجسادهن أحببن خطفاً ثم تزوجن أول طارقٍ دون مفاصلة او مفاضلة .. وأنا ظللت أنا , جهادْ بتسكين الحرف الأخير بعد مدٍّ يحاول أن يمتد أكثر , ولم يكن في تسكين الحرفين الأخيرين سلامة و امانا .. التسكين لم يضمن لي أن لا أخطيء ! . 

لم اناقش إسمي في بدايات طفولتي فأنا يا ملكة ماضي وراهني جهاد أنا الجهاد الذي لم اختره ولم اطلبه .. ولقد كسبت زخماً في الكويت , ربما لأن مؤسسة الثورة الفلسطينية احتضنت اول رجالها هناك , فاعتقدنا أننا قريبون جداً من فلسطين . في اول صفوفي في المدرسة لازمتني صديقتي فلسطين , كانت بشعة ومتاخرة دراسياً , كانت تتكلم كثيراً بخلاف صمتها المستمر و المتواصل الذي يستفز المعلمات . سألتها مرة عن سبب ارتدائها للحجاب , فكشفت لي عن حجابها و أبانت عن منطقة واسعة من رأسها جرداء اللهم إلا من زغب قليل متناثر . أصبحت فلسطين تأتي إلينا كثيراً فكانت تضحك كثيرا و تتكلم كثيرا ايضا , وكانت تجلس معنا على العشاء منتظرة دورها كي يقوم والدي بضرب راسها ببيضة مسلوقة ثم يقشرها لها , إذا ما حل وقت رحيلها كتمتْ وجهها و انطفا بريق عينيها و قل كلامها وانسدلت فوق عينيها ستارة كآبة .. تعودت على فلسطين في حياتي وأحببتها جداً , وفي اخر سنة لي للمرحلة المتوسطة تحسن أداء فلسطين , ووالدها غدا أكثر إيغالا في عنفه , انضمت شقيقاتها إليها يحتمين بوجودنا من والدها , وبعد مدة فقدتُ فلسطين فانتقلتْ من منزلها الى منزل اخر يشبه المنفى , وطريقانا بعد ذلك لم تلتقيا ..  

كنت أنا بِكْر أبي , نجحت في الثانوية العامة و تم قبولي في كلية الآداب في الكويت ثم اصطحبني والدي في مشوارنا الذي خطط له كي يكون كاشفا و حاسما . فانطلقنا باتجاه البحر , أكلنا وشربنا و رمينا قذاراتنا إلى جانب القذارات الثانية ولم نتكلم , حتى البحر لم يهدر مُنْصتاً بجسده الصامت الينا . دخن أبي ثلاث سيجارات ثم التفت نحوي وبحثت عيناه عن عيني , أمسك بيدي ثم قال كما لو أنه وقع على الروح , المعنى : يابا يا جهاد ! أنت رجل هذا المنزل ! . 

لقد أردتُ اسمك , نزل إليَّ في مناماتي واستقر موقعك في فؤادي , ولعلك تخلقتِ في رحمي فتاة لشهوة الإسم المصطفى لا لشهوة الطفل , فإسمك يا جلال كينونتك هو كل ما ارغب في ان اكونه . التقيتك أول مرة جنيناً في الشهر الخامس من الحمل , خفت عليكِ بشكل كبير و انتي التي تسبحين في دمائي و مائي , وكانت تلك المرة الثانية بعد اول مرة حين قال لي الطبيب بالمفاجأة ولكنني أردت أن أكون مخطئة ,رغبت في أن يكون بَوْلِي خالياً من علاماتِ غرسٍ بشري فيه يمد جذر الزواج ويُفرِّعه بدل من أن ينتزعه من جذوره . انطلقت من عند الطبيب وبكيت كل البكاء المخصص لكل حياتي و عمري .. مخاضي بك كان متعسراً وفي دفعة المخاض الأخيرة في هبة جسدي الكبيرة فصلتُ كيانك عن جسمي اخيرا . لقد أنقذتيني من نفسي ومن سأم نفسي من نفسي , وعندما سألتْنِي الممرضة عن اسمك قلت لها (ملكة .. إسمها ملكة) .

 إن الحياه في بلدٍ نفطي كالكويت لم تجعلنا كويتين بل كانت استمرارا لعيشتنا التي كانت يمكن أن تكون في المخيم موسومة بالشتات مع القليل من الاضافات و التحسينات . كنا كثيراً ما نتخلف عن دفع إيجار المنزل الذي نسكن فيه , وكان أبو حمد مالك منزلنا يتوعدنا و يهددتا كل اسبوع , وجاء هذا الاسبوع وأخذ يهز الباب ولكن بابنا لا يرضخ و لا ينخ لوعيد أبو حمد , بابنا بطل مغلق مكتسِباً صموده من عقيدة التعود , ومنيعاً مناعة الأشياء , والكائنات تتآلف مع أصحابها فتحس بما يحسون وتتخاطر معهم , لقد كان بابنا حنوناً علينا .. كان منزلنا صغيرا ضيقا حيث تألّفتْ شقتنا من غرفتي نومٍ وصالون مفتوح مُطلٍ على الشارع , حجرة نومنا كانت هي ذاتها حجرة المعيشة , وفي الليالي المنطفات , تقاوم أجسادنا الإغفاء تتقلب أنفاسنا على كل جنباتها نتكلم ونتهامس نتوشوش ونضحك . شقيقاتي كلهن تحجبن في سِنِين انبثاقة الجسد الشقي , ريما كانت أولى المحجبات مُدشّنة حقبة ستر الاجسام ومحاصرتها بالملاءات . لم تكن قد سفحتْ دم المرأة الأول حين اتخذتْ قرارها بأن ترتدي الحجاب , كانت رانيا أيضاً طائعة منقادة لمساعي معلمة التربية الإسلامية , حاول أبي أن يقنعها بتأجيل الفكرة إلى أن يتشكل عقلها بشكل موازي ل استكمال تشكل جسدها لكنها ظلت على موقفها , ثم تبعتْ شقيقاتي ريما وأمي في ارتداء الحجاب . أما أنا فكنت خارج المقارنة و خارج هذا الطرح , منذ نشوئي خرجت إلى توقعاتٍ مختلفة وحيثيات عمري تخطت المرايا غير الخوانة و الحصيفة إلى مرايا كاشفة و فاضحة , وفي معظم الحياة كان يكفي أن البس ذاتي كي أكون عارية ! . 

لم تخايلني اي من التصورات او التخيلات في اي لحظة أن أيامي تلك كانت ستكون أيامي الأخيرة في الكويت .. بعد شهر من ولادتي نلت الطلاق ثم بعد اسبوع انتقلنا إلى منزل جديد , شقة كبيرة بثلاث غرف نومٍ وصالون كبير وغرفة معيشة وحمامين وبلكونتين , فحينها لملمنا كراكيبنا و انتقلنا من المنزل خشية انتشار خبر طلاقي في المنطقة , فكانت أمي تنام و تصحو و هي مقهورة , وحين تنام يجثو همي ومعه (همّ) إضافي أي أنتي على رأسها كما تبقى تكرر طيلة النهار . أحببت الشقة الجديدة على الرغم من لا عاطفيتها وبهتان حوائطها من الدهان غير الجيد , حيث احتللنا أنا وأنتي حجرة النوم الرئيسية , وعندما نغلق بابها نصبح أنا وأنتي في وطننا فيما يحيا من تبقى في الشتات لاجئين . اشترينا طاولة سفرة جديدة وطقم كنب غير جديد لحجرة المعيشة . كان لحمنا قد قل وتناقص فعلياً بسفر ريما وجمال إلى الأردن للدراسة وزواج رانيا , لكن لحم من تبقى تضخم و كبر , وظللنا دائما كثيرين وظلتْ أي مساحةٍ مهما كبُرت ضيقة علينا . نمنا وأفقنا في صباح يوم ما فكانت الكويت قد راحت , كنا ثلاثتنا والدي و انا و انتي في بيتنا الجديد في كويتنا , حاولنا أن نصرِّف شؤوننا عن الإجتياح العراقي , وبكل تأكيد لم يأت قضم العراق للكويت إلى وطني المؤلف من حجرة تتسع لحياتينا أنا وأنتي , ثم بعد شهرين اكتشفنا أننا نحيا حياة غريبة غير قابلة للشرح , ومع ذلك لم يكن قلقنا أنا ووالدي في نهاية المطاف على ذواتنا بقدر ما كان على بقيتنا العالقين في الأردن في إجازة صيفية طالت أكثر مما هو مخطط لها . و بعد مرور أكثر من شهرين تعودنا على هذا الوضع غير العادي , إذ ألفنا أن نكون في حالة بين الإحتلال والتشريد والحصار , فيعلق أبي أن صدام لا يريد الكويت أو على الأقل لن يبقى فيها لوقت طويل , العملية بالنسبة له سطو مسلح . كان على أحدنا أبي أو أنا أن يذهب إلى الأردن لنجدة شقيقاتي و والدتي ..

 عند تخرجي من جامعة الكويت اشتغلت في مدرسة خاصة بموارد محدودة كمعلمة للغة الإنجليزية , ثم التحقت بالمدرسة الإنجليزية الدولية كمدرِّسة مترجمة , فكان مرتبي الشهري أكثر من ضعفي دخل أبي , فساهمت في تغطية رسوم دراسة رانيا الجامعية , وتكفّلت بنفقات و رسوم التعليم الجامعي لكلٍّ من ريما وجمال , وأرسل من مدة الى اخرى بعض الفلوس لجدتي فاطمة وعمتي نجاح , أما والدتي روعة فتوقفت عن سرقة والدي و صارت تشتري أصنامها بشعورٍ قليل بالذنب , لكنها بعد طلاقي فقدت شهيتها وأقلعت عن عبادتها .. كان الوقت عصراً وكنت انفرد بك , أبي خرج إلى محله فهو , وإن امتنع عن الإلتحاق بوظيفته الحكومية نزولاً عند رغبة الكويتيين , إلا أنه آثر أن يفتح محله و يجلس فيه طيلة النهار . غادرت غرفتي وإياك بحقيبتَيْ سفرٍ فيها ثيابنا وإطار البوم وصور يؤرخ أيامك المخلوطة بأيامي وعضَّاضة أسنانك وزجاجتا حليب .. لو أننا يا ملكة قلبي في مقدورنا أن نشيل وطننا معنا في مركبة والدي التي حَمَلنا فيها إلى البصرة , ومن ثم حانت لحظة الفراق التي لم احسب لها حساب ... أخذك أبي بين ذراعيه وقبَّل وجهك و راسك وعنقك , خلعتُ حينها نظارتي فتقابلت عيوننا وقال بصوت يائس إنها لحظة الوداع ! . 

في الطريق من البصرة إلى بغداد بقي وجه والدي مبثوثاً على زجاج سيارة الأجرة وكان قلبه مليئا بالاوجاع إلى أن وصلت إلى الفندق , فاستقبلتني شابة هناك و اعطتني رسالة مطوية في غلاف أبيض تقول في مضمونها (آسف , لم اقدر ان انتظرك كان عليَّ أن أرحل , أرجو أن تتفهمي . اصذق تمنياتي بالتوفيق لك ) , فكان من المخطط أن انتقل مع صديق قديم لي من المدرسة إلى الأردن ولكنه سبقني . احسست أني على وشك التهاوي فأخذتك بين يديَّ وجلست ثم ذهبت الى الحجرة ,وبعد أربعة أيام قَدِمتْ لي فتاة الإستقبال , بعدما علمت حكايتي , وقالت لي أنها التقت أردنياً واتفقت معه أن يصطحبني إلى عمان مقابل مئة دولار . وفي الصباح انطلقتُ معه ومع رجل ثاني إلى عمان . كان الطريق طويلاً إلى أن اغربت الشمس ففتحت عيني فعرفت أننا قد وصلنا إلى الحدود الارنية العراقية , وأخبرني أبو أيمن , الرجل الأردني الذي اصطحبني , أن القيادة العراقية قد اقفلت هذا المعبر إلى أجلٍ غير معروف . تجمعت السيارات على الحدود عشوائياً في دوائر و حلقات , وبعضهم أشعلوا النار وجلسوا حولها يقيسون بُعْد أصوات الحيوانات و الضباع التي تخترق فراغات الليل . نهار ثاني يوم لنا كان أشد لهيباً وليله كان اقسى من ناحية البرد , كنت حينها أقبلك من شعرك ومن وجهك و من جبينك وأحْكِمُ ضمك إلى صدري . في ثالث يوم لم نجد ما نأكل , كنت أظل في السيارة أقاوم قرصات الجوع والإعياء ثم رقدت في المركبة , وفي العصر افترشت صيحات إبن أبو أيمن عمار وهو يقول : ملكة بتمشي ملكة بتمشي ! رأيتك تمشين اولى خطواتك بثبات وبسرعة إلى أن ارتميتِ في احضاني .. 

 كان أبي قبل ثلاثة أعوام من الإجتياح العراقي للكويت قد ابتاع منزل جدتي رضية بالزرقاء .. فتحت جدتي رضية الباب فوقفتُ مقابلها امرأة ضامرة بثياب قديمة مغبرة , التفت ذراعا المرأة بضعف على طفلة في شهرها العاشر , عاينتْ جدتي المرأة فعلمت من انا وابتسمتُ لها , حينها أدركتْ جدتي أننا خرجنا من الكويت في ما قد يكون تقريبا الى الابد , ثم بسطتُ أمام جدتي ما معي من نقود و وضعت والدتي مقابلي كيساً فيه سوارٌ ذهبي يتيم لها احتفظت فيه للأيام القاسية . لم تكن المشكلة في توفير منزل بل المشكلة في الحياة ذاتها في هذا المنزل فقد كانت حالته مزرية , قمنا بالحد الأدنى من التعديلات وعلقتْ أمي البراويز .. كان أبي قد فضل ان يبقى في الكويت , لقد أدرك أبي ببساطة أن حياته خُتمت اخر فصل لها في الكويت ولا يستطيع أن يستهل فصلاً ما بعد النهاية التي وضعها لنفسه في الأردن .. توسطتْ حديقة منزلنا الجديد ثلاث دوالي عنب عريضة معرشة , في بعض الليالي كنت اؤثر أن ننام انا و انت على الصوفا تحت المعرشة لأفيق على عين الشمس تلكز حواسي مع بسملة النهار , فأغطي وجهك الريان بيدي حتى لا تصيبك عينها الحامية , وأرقب أجفانك الطرية تقاوم تحرش الضياء بها , أو قد يصحيني شجار قطط الشارع عند قدميك المضمومتين إلى بطني ! . 

كانت شجرة الأكدنيا الفارعة تستدعي الصِّبْية حتى يتسلقونها , وذات مغربية تراكضنا على صوت صرخةِ فزع فقد تدلى صبي من شجرة الأكدنيا وعلقت ذراعه و ساقه فيها بشعره الأشقر الجعد النحاسي وعينيه العسليتين المصفرتين . حاكى الصغير بؤساً يليق ببؤس الأرض التي نعيش فيها كان ماهر إبن أم ماهر , أخْذته إلى الحمام و فركت رجليه بالماء لتلمع بشرته المسفوعة المغبرة بالرمال , ورَكن إليَّ أنني لن أشيَ به لإمه , وأخذ حبات أكدينيا من يده ناصر ثم انطلق على وجه السرعة . بعدها قلمنا كل أشجار الحديقة .. 

 خِلاليْ شهرين من وصولي إلى الأردن تنقلت في الشغل بين مراكز عدة ل تقوية متخصصة بمنهاج التوجيهي إلى أن استقررت في مركز الإمتياز .. كانت النقود تضيع منا في الأردن أسرع بما لا يقاس من نفادها في الكويت , فطوّرنا آليات إشباع لا تعتمد على نوعية الاكل بل كميته , فشكّلَ خبز الكعك بالسمسم القاعدة العريضة لإفطارنا اليومي و نملؤه بالزيت و الزعتر , وعلى العشاء كتوقيع شبه يومي افترشت مائدتنا أطباق الفول والفلافل والحمص والمسبحة يجلبها بيلا من مطعم شعبي قريب , ومع ذلك لم نكن يا ملكتي ننام إلا شبعانين وفي أوقات قليلة جداً لكنها سعيدة جدا . 

أمّا وقد كتب علينا ان نحيا فعشنا وأوينا إلى حياتنا في الأردن .. عام انقضى على وجودنا الذي حفرناه في بلادٍ لم تطلبنا , فتحررت الكويت بعدها ولكنها أقالت كل الاشخاص الذين يحملون الجنسيات التى تواطئت أنظمتها مع الإحتلال العراقي الغاشم على اعتبار أن المواطن يؤخذ بطبيعة الحال بجريرة نظامه , فأقيل أبي من عمله في وزارة الصحة ثم انتقل حتى يعمل في وكالة لبيع السيارات الأميركية , أما نحن في حياتنا الجديدة وجب علينا أن نتحرر من فكرة أن اليوم ممكن أن يمضي بكل سهولة و يسر , وكنا دائماً متيقظين للأخبار غير الجيدة . ظل الصِّبية يسرقوا الفاكهة من أرضنا ويهربوا قبل أن يمسكهم بيلا و ناصر . استدعيتُ كثيراً إلى مخفر الشرطة , كنت أنسب التهمة إليَّ بدلاً عن بيلا أو بدلاً عن أيٍّ من واحد من اخوتي , فكان بيلا خليطاً حراً من شقاوة و نمردة وبعض دمار مندفعاً لاستكشاف ما لا يفكر أحد بان يستكشفه يوما ما , فكان كشِّيش حمام بنَفسٍ لصوصي يغوي حمامات الكشيشة ممن هم مثله , وكثيراً ما ذهبنا للمخفر بسبب هذه القصة .. لكن حياتنا الجديدة كما الفائتة بقيت ثرية إنسانياً وبيتنا المتقشف ظل يلبي الضرورات ويحتال على المحظورات وفوق كل هذا ظل يحب و يرام , من قال إن البيوت لا تحب لأسبابٍ غير الأسباب الموجبة ؟ فجدتي رضية اصبحت تشكو من السام بعدما حزمنا فوضانا و انتقلنا من عندها , فصارت تغلق بيتها النظيف وتزورنا وقد تبيت عندنا , فقد كانت تشتاق لنا كثيراً وتأتينا مُحملة بأكياس الشوكولاته و الشيبس , أما جدتي فاطمة وعمتى نجاح ايضا فلم تنقطعا عنا , فكانتا تقطعان الرحلة الطويلة من مخيم الوحدات إلينا مُحملتين بفطائر السبانخ و الزعتر البلدي . كنا نحب جدتي فاطمة وعمتي نجاح بشكل كبير فحكاويهما التي تتناول أسرار نساء المخيم التي لا نعرفهن ممتعة , أما عمي أبو تيسير وإن كانت زياراته لنا بشكل متباعد و متقطع لكنه كان حريصاً أن يأتي متطقّماً بجاكيت و بنطلون لا علاقة لأحدهما بالآخر , ودائماً ما يسأل عن أبي فأعطيه بعضاً من المال الذي يبعثه لنا والدي لنا ثم يُذكّرني بأني ( أرجَلُ من ألف زلمة ) .

 تدخلين الصالة بالبسكليت تسابقين الأيام نحو سنتك الثانية و مع ان النقود عزيزة و صعبة فلم يعدم الأمر من ترف مستحق , ففي أواخر بعض النهارات ارجع الى المنزل بفستان لك وأساور بلاستيكية وبيجامات وأحذية للصبيان .. هو الحب يا ملكة , إعلمي أن الحياة إذ تعاش أقل تقهقراً رغم القهر. والدي راى في الحب حبنا و داناه عن بعد أكثر مما قاربه , وفي آخر الليل يغشى رنين الهاتف فاسمع صوت والدي و هو يسألنا عن حياتنا و صخبنا و أيامنا وضحكنا ثم يسكت فيطوقني بكاؤه ويلتف علي ليهتز فؤادي فأهبط على أقرب كرسي وأتوسله حتى يعود الينا . قد أحببت أبي كثيراً أحببت الأب الضال فيه أكثر من الأب القدوة , الأب المتخبط في جبه و ماله و حياته . حدثني أبي في ليالي الإحتلال العراقي للكويت عن امرأة وقع في غرامها قبل عشر سنوات , تفاجأت لا لأن والدي احب والدتي بل لأنها جرت العادة أننا لا نتخيل اباءنا يهيمون خاصة عندما يتزوجون أمهاتنا .. الحب هو نفسه الذي أحسّتْ به خالتي رحمة وهي متزوجة , أمي غضبت غضباً كبيرا عندما سمعت ما قالته خالتي رحمة , فمهما كان زوجها لا يعني أن تعشق عليه , ثم إن الحب لا يمكن أن يصيب النساء مثلهن المتبتلات بالعيال و الزواج , فعشق النساء جحيم يحرقهن يأتي على هشيم روحهن فيهلكهن وتهلك معهن اعمارهن , ولكن خالتي كانت قد كرهت زوجها الذي ما زال يعنفها وقد وصلت الاربعين من عمرها , وبعد سنوات هربت خالتي إلى منزلنا مع ابنتها الصغيرة سماح التي أراد زوج خالتي أن يزوجها لسداد ديون الشدة التي تراكمت عليه , فتقدم بيلا دون أن يطلب أحد منه ذلك للزواج من سماح , بعدما درس الهندسة الميكانيكية والتحق بشركة صيانة كبيرة للسيارات في عمان , وكان قد أحب سماح منذ ان كانت طفلة صغيرة حبا كبيرا عظيما .. لكننا في اللحظة التي نتخيل فيها أن الحياه بدأت تحفر في مجراها المنطقي فإن الأشياء تنحرف نحو دربها اللامنطقي الاصلي , فتطيح الأيام باليقين الذي اعتقدنا أنه يمكن أن يبقى يقينا . كنا قد دخلنا في سنتنا الثالثة في الأردن عندما رجعتُ إلى المنزل فكانت والدتي تقعد على الصوفا وعيناها اهترتا من العياط , وعندما استفسرت عن الموضوع عرفت ان جدتي رضية التي قاربت أن تنهي سنواتها السبعين قد تزوجت شوفير تاكسي كان دائما ما يوصلها حتى تشتري مسلتزماتها من السوق , ولكن حماد شوفير التاكسي قد اختفى بعد ثلاثة شهور من الزواج وقد اخذ كل اموال جدتي رضية , وبعدها رجعت جدتي إلى حياتنا , وبعد أسابيع أغمي عليها فنقلناها الى مركز الرعاية الصحية لنعرف هناك أن السرطان التهم أنسجة صدرها العميقة . حاولنا إقناع جدتي أن تنتقل من منزلها وتأتي عندنا ولكنها رفضت , فرتبنا أمورنا وكنا انت و انا نمضي الليل عندها وفي الصباح تأتي والدتي لتهتم بها . وفي إحدى الليالي كنت أقف متعثرة عند السطر الأخير من قصة , لم أشعر بك وأنت تجذبينني من بيجامتي وصرخت بي بنزق ( ماما , تيتا ما بتحكي معي , هي مش نايمة تيتا عيونها مفتوحة ) !!! وقع القلم من يدي و ذهبت على وجه السرعة إليها , أزحت باروكة شعرها إلى موضعها ومشطتُ بأصابعي خصلات شعرها المتناثرة بعيداً عن وجهها , وعيناها شبه المائيتين كانتا مفتوحتين أغمضتهما لها بيدي , فنامت .. في السطر الأخير من حكايتها أودعت العاشقة عينها في مملكة التوق ! . 

إننا إذ نتعثر بالحب فإن القلوب تلحق بها الكدمات , وقلبي يا ملكتي من أورام البعد و الفراق ورضوض الخذلان ما زال مزرقا .. أدركتُ أن حياتي كلها كانت كذبة غبية , لقد عرفته بالإسم فقط الدكتور إياس سليمان , أستاذ المسرح و الدراما في كلية الآداب بجامعة الكويت , فلسطيني يحمل الجنسية البريطانية ثم عرفته بالحب إياس . أعطاني تلك المادة في خلال اعوام دراستي بالجامعة وأحببته وأحبني , مشيت أنا واياس في زمن سرقناه من أيامي الخاليات , ذلك أني بقيت أنتظره معظم الأيام ومن بعض أيامه المليئات بالاحداث بقي يحاول ان يجد لي مكاناً في أيامه ولو حشراً , حتى عندما تخرجت كان ما يزال يلاقيني و الاقيه , وعندما عرضت عليه أن يتزوجني لم يرضى بذلك الشيء , كنت أعلم أنه متزوج ولديه ولدان ,ولكنه لم يوافق على الزواج بي فقلت له إن غيره يرغب في ان يتزوج بي , كان ذلك الدكتور أحمد ناهض الذي التقيته في المرات العديدة التي التقيت بها إياس , وكان دكتور جديد على الجامعة , كان يهتم لوجودي وكثيراً ما يدعوني للغذاء معه و الحديث معه أو مرافقته . وفي مرة قال لي و بدون استئذان إنه يحبني وفي مرة اخرى قال لي عن زوجة الدكتور إياس , لا اعرف لماذا , ولكنه قال إنها فاتنة الجمال ولا تكبرني كثيراً وأنيقة على حد وصفه ومن يراها لا يمكن أن يصدق أنها قد ولدت ولدين . وبعد مده تزوجت الدكتور أحمد ناهض الذي قال لي ذلك , وبعد ستة أيام من زواجي , أن زواجنا أكبر غلطة وأنه تزوجني حتى يكسر الدكتور إياس الذي يملك كل شيء و يعتقد أنه قادر على الحصول على كل شيء !! . طلبت الطلاق منه ليلتها ولكنه ضربني و غادر المكان . 

بعد سبع سنوات من عيشنا في الأردن ودّعْتها . لم آت لدبي حتى اطلب حلم أو حتى ابتعد عن كابوس بل اجتلابا لأرضٍ ثانية وسعياً وراء وطنٍ آخر مستعار , أتيتها هرباً .. يأتي وليد ,الطفل الذي رايته في الأردن , وكان يعمل بائعاً للكعك ودرَّسته , فالآن هو مهندسٌ في شركة ألمانية كبيرة تختص في بناء الجسور في مسقط , يأتي إليَّ مرات عديدة يقتحم غيابك وينام في حجرتك ويقرأ كتبك . ها قد بلغ الثلاثين من عمره ولم يتزوج فوجد نفسه هو المسؤول عن أخواته البنات الثلاث , كنت أنا من تكفلت برسوم دراسته الجامعية بعدما لم يقدر والده على ذلك مع أن مجموعه في الثانوية كان مرتفعاً . أما ماهر الصبي الذي كان يسرق الأكدنيا فاكتفى بشهادة دبلوم في الكمبيوتر من إحدى كليات المجتمع و عمل في مؤسسة للدعاية والإعلان , تزوج مبكراً حسب رغبة والده وأنجب بنتاً وولداً أسماه جهاد .. عاد والدي إلى الأردن بعد نحو خمسة اعوام من حرب الكويت , لم يقل لنا ما جرى معه , كيف ترك ولماذا ترك ولكنه عاش مع والدتي , والتحقت بهما عمتي نجاح بعد وفاة جدتي فاطمة . 

انتقلتُ إلى دبي بعدما وقعتْ عيني على إعلانٍ لعمل في دبي بمزايا و رواتب مغرية , تكدّرت مريم لأني سأتركها تناكف عائشة بمفردها ولكني رغبت في ان اهرب من كل شيء , مريم تعتقد أن أحمد قد أحبني بطريقةٍ من الطرق وأنا أيضا حاولت أن أحبه ولكنه لم يعطيني وقتا لذلك , لا الصحيح منه ولا الغلط , سألتيني حينها يا ملكتي (وأنا أبُويَ حبَّني ؟) . لم تفهمي لماذا لم يحاول والدك أن يسأل عنك كل هذه الاعوام , أن يفتش عن شيء منه وأنا ايضا كذلك لم أفهم . 

بعد أقل من سنة أفرَدتِ الصفحات الثقافية في بعض الصحف مساحة للحديث عن المسرحي إياس سليمان الذي , لقد علمت من احد اصحابه أنه كان يعاني من اكتئاب كبير ولا يخرج من منزله على الاطلاق . 

قد لا نملك يا ملكة أمرنا في الحب لكننا نقدر ان نصنعه . قبل سنتين وبعد أيام من اول رحيل لك وصلني (إيميل) لتقديم آخر عملٍ مسرحي للراحل إياس سليمان وكان في النهاية توقيع بإسم طارق إياس سليمان ! وقال لي إن المسرحيه مهداة لي , فجاء في ورقة الإهداء " إلى جهاد نعيم وفقط " . انتهيت من قراءته ودخلتُ إلى حجرتك أسحب روايتك المحببة الى قلبك من أحد أرفف مكتبتك وأقلب الصفحات ثم اقفل الرواية , أجلس على طرف فراشك وأدفن نفسي في وسادتك أبحث عن رائحتك , لم تشائي أن تكبري أكثر معي , أصررتِ على ان تدرسي في بريطانيا ... في حجرتي ارتمي على فراشي أفرد جناحي , فوقي لحافاً وافياً دافئاً وأرتخي ..... مستسلمة للنعاس .


                                                  النهاية
تفاعل :

تعليقات