القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية هيبنوسيس - مهند رحمه - الجزء االرابع - إعداد وإشراف - رجاء حمدان




رواية هيبنوسيس - مهند رحمه - الجزء االرابع  


إعداد وإشراف - رجاء حمدان 




 




رواية هيبنوسيس - مهند رحمه - الجزء االرابع  

إعداد وإشراف - رجاء حمدان 


يعيش في سكنٍ الجامعة مع صديقه المُقرَّب، كان بطبعه هادئًا، بسيطا بمعيشته، ، الا انه في كل ليله كان يُراوِده حُلم سيئ، يجعله يدخل في نوباتُ ذعرٍ ، فيُقرِّر زيارةَ الطبيب النفسي «جمال عبد الرحمن»، فيُخضِعه لجلسةِ تنويمٍ مغناطيسي، وهنا تبدأ الحكاية ، يتذكَّر كلَّ شيء، فيتذكَّر ماضيَه القاسي ، وعندها تبدأ أحواله بالتغير ليصبح شخصًا ثائرًا متمردًا حانقًا، على بلاده التي كانت تغرق في بحر من الظلم والقهر. فيرفع شعار الثورة والنضال وضل يناضل إلى أن وصل إلى الرمق الاخير من نفسه ، ، وغادر آمالَه وفَتاتَه التي أحبها بجنونٍ . ولكن،ما هو الماضي الذي تذكَّرَه وبدَّلَ أحواله هكذا؟



 أغلقت الهاتف خائفا مرتعبا، كنت أتمنى و اود حقا ان تنقطع علاقتنا و ألا يتصل بي أو يظهر مجددًا ابدا، لا أريد أن أشعر بالتأنيب و الصراع مع ذاتي .

اتصلت بالضابط فورا وأخبرته إنني أعرف مكان عمار، وإنني أريد ضمانات أنهم سوف  يتركوني وشأني بعد هذا، ولن يمسوا أحدًا من أسرتي بسوء. وان عمار سيكون في الميدان يوم الجمعة.

 

على أية حال يا دكتور، رافقت عمار، وخرجنا في مجموعات يوم الجمعة بعد الصلاة، واتجهنا في ميدان الرابطة في شمبات، ازداد عدد المتظاهرين.. عشرات.. مئات.. اكثر فاكثر فاكثر فاكثر..

كان احدهم يهتف و المئات خلفه يهتفون ورائه، مع تصفيقات ايقاعية قصيرة و منتظمة، ارتفعت عشرات اللافتات، الرافضة و المنددة..

«حرية»، «حرية»، «حرية».






كنت انا و عمار و محمود من يتوسط الميدان، بين مجموعة كبيرة من زملاء الجامعة! و فجأة أحاطت بنا وحاصرتنا قوات الأمن.. وصارت قنابل الغاز تتساقط علينا كالمطر وتلقى علينا من كل مكان

بعدها لا أدري ماذا حدث.. وابل من الرصاص.. هتافات مرتبكة.. حشود تتراجع.. وكأنني أشاهد فيلما أو عرضا تلفزيونيا! كل شيء حدث بسرعة مخيفة و مرعبة جدا!

كل ذلك حدث في لحظة، وفي اللحظة التي تليها بدأ الجنون الحقيقي! بدأ الجميع يركض بلا خطة وانا ركضت تماما مثلهم، كان أمامي شاب غارق في بركة دماء.. قفزت فوقه و تابعت الركض برعب و خوف! كان كل شيء مخيف و مرعب..

أصوات اختناق ضخمة، وصراخ لا يطاق فعلا..

جريت كثيرا  مع إحدى المجموعات الصغيرة من اجل ان أصل الى أحد الأحياء المحيطة بالميدان، وفجأة لم يعد  أثر لا لصوت عمار ولا لمحمود ولم أعد أسمع  في حينها إلا  صوت لهاثي فقط.. . استمررت بالجري.. آخر الميدان، فالترعة، فالشارع الرئيسي

فجأة وبدون سابق إنذار ظهرت سيارة مكافحة الشغب و سدت أمامنا الطريق! لقد ارتعبنا بالفعل، توقفت مصدوما، مذهولا، و رأيت الجنود يخرجون منها فورا ثم يصوبون بنادقهم واسلحتهم خلف الدروع الزجاجية نحوي ، كنت أعلم أنني لو هربت ببساطة سوف يطلقون النار على ظهري  ! لذا جلست على ركبتي و استسلمت.. لااريد الموت .






جروني الى المدرعة ، وجلست داخلها منكمشا،.. كنت حينها مختنقا، متعبا، مرهقا، منهكا، وكنت اود ان اتنفس، بحاجة للهواء، ارغب به بشدة، وذلك بسبب  دخان قنابل الغاز و بقاياها والتي لا تزال في الاجواء حولي وفي كل مكان ، لذلك همست و تمتمت "اريد هواء، أريد أن أتنفس " وعندما مرت السيارة المدرعة جسر القوات المسلحة، تعرفت لأول مرة في حياتي إلى بيوت الأشباح!

 رمونا في منزل أرضيّ  يشبه كل المنازل السودانية  المتواجدة في كل مكان ، يتكون بالعادة من مجموعة من الغرف البسيطة والتي قد بنيت بالطوب والحجارة ذات اللون الأحمر، و يكون حمامها متواجدا في الخارج وكذلك ساحة كبيرة جدا في المنتصف.

كنا خمسة، التقيت هناك بمحمود و عمار و شاب غريب لم أره من قبل ولم أعرفه ، و شيخ كبير غريب، كان وجهه مغطى بالدماء سلفا من آثار الضرب، ثم عرفت فيما بعد انه احد اعضاء حزب شهير من أحزاب المعارضة، اعتقلوه في احدى المظاهرات، داخل الخرطوم، و بالرغم من حالته الصعبة و الدماء التي كانت قد غرقت ملابسه ووجهه، إلى أن ذلك لم يمنعهم من ضربه بشدة  في كل مكان من جسمه و وجهه.

كان  الجلادون يرتدون أقنعة تمنع رؤيتهم ،   دخلوا علينا بسياط مرعبة تشر منها الدماء، لم نكن نستطيع رؤية شيء فيهم سوى  أعينهم  فقد كانوا يلبسون  طواقي قطنية تغطي وجوههم ما عدا فتحة للعينين والفم، لم أستطيع أن أميز أي أحد فيهم،..  ومع ذلك رأيت كمية  الشراسة من طريقة  سيرهم  و أصواتهم الخشنة.. أوقفوا في الساحة الصغيرة الخارجية، وراحوا يضربوننا في ظهورنا بشكل عشوائي بما يتوفر في أيديهم من خراطيش وسيطان، وبعض العيدان الخشبية، مع سيل من الشتائم العنصرية والمهينة  .





كانوا يضربوننا بقسوة وغل.

وقادونا بعدها إلى السجن..

أخيراً بقيت أنا و عمار وحدنا في السجن، شعرت بتأنيب ضمير ضخم، لكني كنت لا ادري ماذا افعل بنفسي! لم اعلم كيف اتصرف.. اقتربت منه وكانت حالته صعبة، ومع ذلك سألني عن حالي ووضع يده على وجهي برفق و الفة!  و بصوته الحزين المتعب.. حاول أن يهون علي بحزم ووطنية.. سألته لماذا كان يتجاهلني انا و هبة، فقال بحزن و شفقة لأنني مراقب وخفت عليكما..

حينها شعرت أني نذل جدا..ولم أشعر بهذا الشعور المهين من قبل بأي  لحظة من حياتي التي مضت  .

كانوا يتناوبون على ضربنا يوميا..

يضربوننا في كراهية وقسوة .

كانوا قساة.. وحوش بشرية.. وحوش متعطشة للدماء و الضرب و..

ضربوا عمار بحقد وغل لأنه  وقف أمامهم صامد، وكأنه لا يتألم، لقد كان يلقي قصيدة حتى في عز ألمه.. كان وكأنه ليس بشريا.. لا يشعر.. كان جسده كله ينزف دما، ومع ذلك بقي هادئا في حزنه و صمته! حتى وهو يبكي في نهاية التعذيب، لم يأخذوا منه اي كلمة عن اسم أي شخص تعاون معه في هذه الثورة .. لذلك قسوا عليه كثيراً..

 

 

هذا كل ما أخبرني به ابراهيم.

في الثالث من اكتوبر يا سيدتي يوم الخميس الساعة الخامسة و تسعة دقائق توقف قلب عمار عن العمل، يقول تقرير الطبيب الشرعي أن سبب الوفاة كان نقص في السوائل بسبب نزيف داخلي وخارجي للجِسم. بالإضافة لفشل عدد من الأعضاء الحيوية عن العمل دفعةً واحدة. وكأنه كان صابرا صامدا ثم استسلم أخيرا من المرارة و الالم.

بعد شهر و اكثر، من رقود الجثمان في المشرحة، و الكثير الكثير من الإجراءات الورقية و المعاملات الرسمية و الاثباتات القانونية و غيرها ، وقفت أمام اللحد ونظرت في جثمان عمار و قد استكملت اللمسات الأخيرة فيه.

تمنيت لو كانت جنازته مهيبة و أسطورية تليق  ببطل، تمنيت أن يكون هناك مئات الشبان والعديد من النساء التي تشقق ملابسها في لوعة و حزن و آسى،، تمنيت لو رأيت أطفالا وعجائز يبكونه ويذكرون   شجاعته و قوته وصبره وحزنه، و يستقبلون جثمانه بحب وعاطفة وشفقة،  لكنها لم تكن كذلك، كنا قلة القليل ، بعدد أصابع اليدين، انا و ابراهيم و وشابين من جامعته و من شعبته، كان هذا كل شيء.

 






تعاون شابان في إنزال الجثمان إلى القبر،  كنت أرمق ابراهيم خلسة من خلف نظارتي السوداء، كان يقف واجما ينظر إلى الأرض.. مستسلما لحالة الذل و الندم التي أصابته.

لم تنل وفاته قدرا كبيرا من الاهتمام، كانت الخرطوم عادت نوعا ما هادئة، و ظل اهتمام الناس منصبا تماما على شهداء الثورة، لقد مات دون ان يعلم أحد بذلك، فلم يعيره أحد انتباه.

وفي تلك اللحظات رأيتك، يا سيدتي كنت تقفين خارج المقبرة أسفل ظل شجرة و تدفنين أنفك بمنديل ورقي و تبكين بحراره ،  كان على يديك نقوش طازجة رسومات حِناء مزخرفة، والقلائد والأساور الذهبية حول جيدك ويديك، مع الثوب السوداني الخفيف المميز للمتزوجات حديثًا. فعلمت انك انت هي .. هبة.

كنت أود أن اقترب وأقدم واجب العزاء يا سيدتي، لكني توقفت حين شاهدت رجل الى جوارك، و هناك الحناء الجديد على يديه كذلك، حناء الرجال المتزوجين جديدا، كان يحتضنك بشدة و يضع رأسك على صدره وانت تنهجين ببكاء شديد، ثم رأيتك وأنت تركبين السيارة معه و تنطلقان بعيدا.






بعد ذلك قدت سيارتي بعيداً، و بشرود تام، وأنا أفكر في عمار، قدت طويلا عبر شوارع "ود نوباوي" متجها الى منزلي، ثم توقفت قليلا الى جانب الطريق ،  واستسلمت للبكاء عليه. وها أنا يا سيدة هبة، أوصلتك الأمانة، لقد أحبك كثيراً عمار، وارادك ان تعرفي هذا

 

                             النهاية
تفاعل :

تعليقات