صراخ.. صراخ ..صراخ..
صراخ أخته بجواره، وصراخ أهالي القرية، الرصاص،
الأباتشي، شعر عمار ان هذا لا يمكن ان يكون حقيقيا هذا وهم، شعر بالإنفصال عن
الواقع، و أحس بالغثيان، ودوخة غريبة مفاجئة،ثم راحت الأصوات تخفت و تبعد، وأحس
انه ليس هنا.. انه ليس هو..
فجأة عاد الى الواقع عندما شعر بدفع أمه له ،
صرخت فيه وقالت " دافع عن أختك بحياتك يا عمار" ثم نظرت نظرة
طويلة اليه وقبلت أخته وقبلته وإندفعت خارجا ، فاحتضن الصغيرة إليه بقوة ،
كان الملثمون قد وصلو الى بهو المنزل، رأى امه تخرج للرجال الملثمين ،
علم عمار انها قد فعلت ذلك حتى لا يدخل أحد و يراه هو و أخته جالسين أسفل الطاولة
الطينية فيقتلهما، سمع صوت ضربة قويه وراح احدهم يعدل مزلاج السلاح ثم تبعها
صوت ضحكات وتهكمات غير لائقة ، قالت أمه للرجال الملثمين لا يوجد احد بالمنزل
سواي، زوجي خرج الى الحقل"....
ثم سمع عمار صوت أحداهم يدخل المطبخ و يتفحص
المكان، وحاول ان لا يصدر صوتا هو أو اخته الصغيرة فوضع يده فوق فمها كي لا تصدر
اي صوت.. رغم اختناقهما من الغبار الاسود المتطاير في كل مكان.. حاول ان لا
يسعل .
ثم تسلل هاربا عبر فجوة موجوة بالجدار القشي
الذي بجانبه ..
عندما أطل للخارج كان المنظر الذي رآه فظيع ، قطعة من الجحيم
رأى وهو يركض رجل مصاب يتلوى وقد احترق نصفه،
ورأى رجل اخر يصارع الموت وسط بركة من الدماء، ورأى رجلان آخران يحملان جثة
متفحمة، ورأى اطفال تبكي وحدها ولا احد مكترث بها، و مسجد محترق وامامه جثث عديدة،
يبدو انها حاولت الاختباء فيه اثناء القصف و نيران متوهجهة بكل مكان ...
اكتفي بما رأه ، وراح يركض وهو يبكي
.. واضعاً أخته على كتفه يمسكها بيد واليد الاخرى يحاول الحفاظ عليها كي لا
تقع أرضا عن كتفه ، كان صوت الرصاص الذي لا يريد أن يتوقف وصوت بكاء اخته قد
أصم أذنيه وزاده ارهاقا و تعبا حتى كاد أن يقع أرضا .. وتساءل بإحباط وجنون:
الن تخرس تلك اللعينة؟
في تلك الاثناء، شعر بوخز شديد أعلى
كتفه و تدفق سائل دافئ على ظهره، لم يفهم ما هذا لكن
لم يكن لديه وقت ليتفقد نفسه . كان عليه ان يبلغ الجبل هناك سريعا ،
ومن خلف الأشجار المحترقة أطل على القرية و راح ينظر الى هناك.. بلا مبالاة..
رأى صخرة بارزة أعلى الجبل، وداخلها تجويف فراح
يعيد لف غطاء اخته، ووضعها داخل التجويف، ثم ارتمى الى جوارها وصدره يعلو و يهبط و
أنفاسه تتلاحق بشدة، ثم التفت لينظر الى القرية.. التي لم يتبق منها شيء
وضع يده مكان الوخز، واذا بكتفه مليئة بالدماء،
تحسسه بأصابعه، ثم شعر بثقل شديد في جفنيه، ورأسه يزداد الما و ثقل شديد، غاب عن
الوعي بعد ان قال بصوت خافت حزين مبحوح وهو يستنجد: "امي". يبدو انه احتمل فوق طاقته ..
..
انتهى عمار من التذكر و راح يبكي بشدة..ويقول
لقد كنا اناس مسالمون أمي لم تكن متمردة حين اغتصبها الملثمون وقتلوها بدم بارد
واختي الطفلة لم تكن متمردة عندما قتلت وأصدقائي وأهل القرية كذلك لم يكونوا
متمردين كلنا كنا أناس مسالمون بسطاء لانريد سوى الأمان ونسعى لقوت يومنا ولكنهم
صمموا على إزالتنا من الوجود
ثم نظر لي نظرة ثاقبة وحادة وقال
: يومها فقدت الوعي ، وعندما استيقظت وجدت نفسي في مستشفى
المدينة، أخبروني أن رصاصة إخترقت ظهري ، وأنهم قاموا بعملية
جراحية دقيقة لاستخراجها وإنقاذي. وقالوا لي إن أختي الصغيرة وجدوها
مُصابةً بحروق خطيرة وحاولوا إنقادها ، لكنها لم تَنجُ.
وارتجف صوته وهويقول : لقد كانت تصرخ وتبكي
بجواري لساعات وساعات ، كانت تنزف وتحترق وهي تحت شمس
الصحراء اللاهبة وأنا فاقدٌ الوعي، الى أن جاء رعاة القرية
المجاورة واستدلوا على مكاننا من خلال صوت بكاءها الضعيف ، لقد أنقذت حياتي
علمت من أحد اصدقاءه أن هذا التاريخ حساس و مؤذي
جدا له ففي هذا التاريخ ه توفيت والدته في هجوم سياسي شرس لا يرحم، كنت قد وصلت
لاستنتاج أن سببًا ما يمر به «عمار» يتعلق بذكرى مكبوتة متعبة و مجنونة داخله،
موقف صادم بشدة و مؤلم بحق و منهك لمشاعره الحساسة قد عاشها في طفولته ،
حاول أن يتناساه سبب له تلك الأعراض التي بدتْ لي أقربَ لاضطرابات ما بعد
الصدمة في مناطق الحروب والكوارث.
لقد تفهمت ما مر به عمار، كل هذا الحزن الضخم و
الغضب و العجز الرهيب احتبس داخله لسنوات و سنوات، احتبس ببساطة لانه وقتها
كان عاجزا تماما أن يقوم بأي شيء! كان كل شيء يبدو أكبر منه حجما.. كان
يريد أن يمد يد المساعدة لأمه و اخته و صديقه سليمان و أهالي قريته، كان يود
ان يبقوا بسلام! على قيد الحياة! كان يريد أن يكون قويا بما يكفي ليجعل هذا الحزن
أصغر و أقل وأبسط.. لكنه كان طفلاً صغيراً مذعوراً خائفاً و عاجزاً تماما. كان لا
بد ان يعود و يواجه هذه الذكرى، ان يقف أمامها دون أقنعة النسيان، و يراها.. و
ينفس أخيرا عن حزنه و غضبه ووحدته و عجزه، كي لا تعود تلك الحالات النفسية اليه
مرة اخرى.
وكان يبدو لي بوضوح انه بدأ يتقلب أمامي بين
ثلاثة مراحل في ذات الوقت، الرفض و الغضب و المساومة، و كان ينتقل بينهم في سرعة
شديدة مع هيجان واضطراب في مشاعره.
ومع كل ذلك كنت أشعر بقوته ، انه شابا ذكيا،
وكنت ادرك في قرارة نفسي، انه سوف يتصالح قريبا مع ماضيه ومع نفسه ، مهما تألم
وشعر بالغربة،فإنه سوف يستطيع أن يتعدى كل هذه الصعاب ويشد قامته للأعلي ويعود
يسير في حياته بيسر وثقة بالنفس وقد تأكدت من ذلك الاحساس حين
مسك بيدي و شد عليها حين ودعني ناظرا لي بملامحه الهادئة وتعابيره الباردة وقال
لي : "بالرغم من كل الذي حصل ، فانك قد ساعدتني جدا يا دكتور، وانا شاكر لك "
هذا هو ذاته الشاب الذي كان يبكي قبل قليل
أسرته و أصدقاءه و عشيرته، شخص قد خسر كل شيء فعلا، ومع ذلك لايزال واقفا امامي
بعينيه الهادئتين و يشكرني على مساعدته.
قلت له و أنا ارافقه نحو الباب أنه قد يتعرض
مستقبلا لعدة نوبات أخرى، وأنه بحاجة أكيدة الى جلسات مستمرة، فمواجهة ذلك الماضي
المسبب للنوبات، ليس كافيا لوحده ، عليه أن يبقى مع متخصص يشرف عليه، لأنه
قد يتعرض الى مؤثرات اخرى قوية تحفز هذه النوبات لديه، لكنه نظر لي باسمًا، وصمت
للحظات ، مطرقًا رأسه للأرض، ثم قال بصوت هادئ:
أترى حين أفقأ عينَيْك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما،
هل تستطيع أن ترى؟
هي أشياء لا تُشترى.
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ،
لكن خلفك عار العرب.
لا تصالحْ.
ولا تتوخَّ الهرب!
لم أفهم حينها ما قال، ليتني فعلت.
.....
وبعد فترة من زيارته لي، اندلعت الانتفاضة
الشعبية في قلب خرطوم، لقد توقع الجميع ذلك، لكن ما لم يتوقعوه حقا هذا الحشد
الهائل من الناس، طلاب جامعات و طالبات مراحل ثانوية، عمال، موظفين، جميع الطبقات
والمستويات المادية والثقافية و السياسية ايضا. لكن ما ميزهم انهم كانوا جميعا
رجالا و نساء شبابا وكان خطابهم هو: «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
كانت الشوارع تغلي حرفيا، اطارات و اوراق و
لافتات و هتافات ..
نهاية الجزء الثاني ...والى اللقاء في الجزء الثالث
تعليقات
إرسال تعليق