القائمة الرئيسية

الصفحات

الضياع - الجزء الثاني -- رجاء حمدان

 


تعرفت على ندى وأنا أقدّم امتحانات السنة النهائية في الجامعة... كنت محتاجاً للحنان والعطف، وإلى إنسانٍ ينتشلني من وحدتي القاتلة. أعجبتُ بأخلاقها، ولباقتها،  وجمالها. كانت جذابة جداً... سحرني شعرها البني، وعيناها العسليتين، وقامتها الناعمة... كل شيء فيها كان يسحرني. كانت بالنسبة لي حلمٌ تمنيت الحصول عليه. كان أول لقاء لنا في باص الجامعة. تعمدت أن ألحق بها، وأن أكون خلفها مباشرة، وأن أجلس بجانبها. نظرتْ إليّ بعينيها الساحرتين وقالت: إن هذا المقعد مشغول، إنه لصديقتي. فقلت لها: أنا معجب وأريد أن أتعرف عليك. أدهشتها صراحتي وأربكتها.

ما عليك سوى الانتساب الى القناة 
https://www.youtube.com/channel/UChQ8cuMtdK57I-YRZ_qtHPg?view_as=subscriber
" راجو شو يقوم  بحكاوي الروايات بإسلوبه المستقل  المختصرالوافي الممتع  """" ربما تكون الرواية او الاساطير او الحكايات او قصص المشاهير التي نننشرها ...منتشرة على اعلانات جوجل ..ولكن معنا متعة القراءة وسما ع الرواية متميزة  ..موقع وقناة راجوشو وفر لجمهوره الكريم كل ما يحتاجه ويلبي ذوقه من افضل الكتب وافضل القصص الشيقة والاساطير والحكايا وقصص المشاهير بطريقة  محترفة ،  حتى لايشعر القارئ  بالملل من  السرد الطويل الممل ....لذلك قمنا ب انشاء موقع الكتروني ضخم لقراءة الروايات على الرابط التالي : https://www.rajaoshow.com/
وكذلك عملنا على تخطيط وتصميم الموقع الالكتروني الى قناة سماعية بجودة واحترافية فائقة على الرابط التالي االرسمي للقناة على الرابط التالي:
https://www.youtube.com/channel/UChQ8cuMtdK57I-YRZ_qtHPg?view_as=subscriber

 




الضياع - الجزء الثاني 

إعداد وإشراف : رجاء حمدان 
 



 أخذ عقلي يلف ويدور... لقد أظهرت التحقيقات أن المجرم فتح الباب بشكلٍ طبيعي ولم يكن هناك أي آثار لكسرٍ أو استخدام أية أداة لفتح الباب عنوة... كما أن المفتاح لا يوجد له سوى نسختين فقط، واحد لي، والآخر لها، ولم يصدف أن أضعناه مرة أوعملنا له نسخ إضافية... ماذا يعني هذا ؟؟؟؟!!! من هو هذا الذي معه مفتاح البيت ويدخل البيت هكذا... لا بد أنه شخص تعرفه ندى، لأنها لم تصرخ في لحظتها أو تسأل من الذي دخل... بل أنها قامت وأنهت التصوير على السريع!!!... أكيد أن الذي دخل ليس أنا، لأني كنت بالعمل لحظتها.

 انقبض قلبي... بماذا أفكر؟؟؟ هل يعقل أن تخونني ندى، ولماذا ؟؟؟ فنحن كنا سعيدين جداً... ومن عساه يكون؟ أنا لا أعلم بأن لها أصدقاء حتى وهي بالجامعة، فأنا أول شخص كنت في حياتها... ربما يكون أحدٌ من أقاربها القلائل... ربما سامي، إبن خالتها، إنه الشخص الوحيد، من أقاربها، الذي كانت ترتاح للحديث معه، وعلمت أنه تقدم لطلب يدها في نفس الوقت الذي تقدمتُ فيه أنا لطلب يدها، ولكنها اختارتني أنا. 
هل يُعقل أنه صار شيء ما بعد ذلك ؟ ...لا ...لا.. عليّ التأكد قبل أن أفقد عقلي وأجن. طرقت باب بيت باسل، فتحتْ غادة الباب، وعندما شاهدتني صاحت بحدة: ماذا بقي لك شيء لم تفعله يا طارق، ألا يكفيك ما تتهم به أخاك وضربك إياه... إنك مجنون! مجنون!! يا خسارة الحب الذي أحبه لك واعتناءه بك، هل نسيت ذلك يا طارق، يا خسارة يا خسارة... 
أمسكتُ بالباب قبل أن تغلقه في وجهي وقلت لها: أرجوكي ياغادة، لا تزيدي من أوجاعي... أنا تعبان جداً ولا أعلم ماذا أفعل، أشعر بنفسي بأني أغرق ولا أجد من ينقذني، أحس أن الدنيا كلها ضدي... صعبٌ أن تعيش لوحدك بلا أم ولا أب، ولا حبيب، ولا صديق، ولا أخ، لم يبقَ لي أحد في الدنيا، حتى أخي الوحيد أزعلته وقاطعني... لا أعلم إن كنت أنا من ظلمه أم أنه هو الذي ظلمني... ثم انهرت واتكأت على الحيط. 
نظرتْ غادة إليّ بشفقة وقالت: أرجوك، ادخل يا طارق،إن  باسل في الحمام الآن، باسل قلبه طيب ولا يهون عليه عذابك ووحدتك هكذا. فقلت لها ليس الآن. أريد أن أسألك يا غادة: هل صدف وأعطتكِ ندى مرة مفتاح بيتنا؟؟ فأجابت بدهشة: طبعا لا، لم يحصل، ولماذا تعطيني إياه؟! 
طارق : ربما طلبتْ منك ذات مرة شراء حاجات لها وأعطتك المفتاح لتدخّليهم. 
غادة : لا، لم يحصل هذا أبداً. 
طارق : أريد أن أسألكِ سؤالاً آخراً، وهو مهم، أرجوكي ركزي معي. هل رأيتِ شخصاً ما... رجلاً ما يقوم بزيارة ندى أثناء غيابي؟... ربما يكون أحد أقربائها. 
غادة : أبداً، لم أصادف أحداً غريباً... إن أباها وزوجة أبيها وأقاربها كما افهمتني ندى زياراتهم لها رسمية، ولا يزورونها إلا وأنت موجود،... آه، أظن أن سامي، إبن خالتها، قد صادفتُه في إحدى المرّات قادم لوحده، وكان يحمل بيده شيئاً... أعتقد أنه كان يوم عيد ميلادها، وأحضر لها هدية ما... 
ركبتُ سيارتي وانطلقت كالمجنون فى الأوتوستراد السريع. لا أريد هذه الحياة، لقد تعبت... كل يوم أتفاجأ بخيانة أحد من أعز الناس إليّ! انعطفتُ في طريقٍ جانبي ووصلت إلى شركة "عبر الزمن السياحية" التي يعمل فيها سامي. أوقفت سيارتي بالشارع المقابل للشركة... جلست أربع ساعات أنتظر خروج سامي من عمله. لم أكن، يوماً، أحب سامي؛ فمنذ أن رأيته أول مرة أمام الجامعة ينتظر ندى، لم أرتحَ لنظراته لندى... ولكن ندى قالت لي في حينها: إنه مثل أخي، وخالتي توصّيه عليّ منذ أن ماتت أمي، فهي تعاملني كابنتها.

 لم أرتح يوما  لسامي  ولصداقته لندى، والتي كانت  سبب لخلافات بيننا لأكثر من مرة حتى صارت ندى تتجنبه وتبعده عن حياتنا رويداً رويداً. 
فجأة ظهر سامي خارجاً من الشركة. ركب سيارته وانطلق بها فتبعته. تابع طريقه إلى البيت. أنا أعرف مكان بيته، فعندما توفيت والدته، جئت أنا وندى للعزاء. الآن هو في البيت لوحده، لم يتزوج وما زال أعزباً. 
حُمْت بسيارتي حول البيت أكثر من مرة. بيته يتكون من طابقٍ أرضي وطابق فوقه لغرف النوم، وله سور، وهو منفصل عن بقية البيوت التي بجانبه. ظهر ضوء خافت من مدخل البيت، يبدو أنه دخل الآن إلى الصالون. وبعد عدة دقائق رأيت ضوءاً آخر في الطابق الأرضي، وكان واضحاً من خلال الزجاج بأنه المطبخ... وبعدها بقليل أضيئت غرفة جانبية بالطابق الأعلى، لا بد أنها غرفة نومه... قلت في نفسي: "يكفيني هذا اليوم".

 وضعت خطة لاقتحام بيت سامي وتفتيشه. كنت أريد دليلاً دامغاً ومؤكداً على الخيانة كي أقدمه للضابط خالد. 
شغّلت السي دي السادس. لم يبق من حياتنا في ذكريات ندى سوى أربع سيديات. 

ندى : اليوم طارق زعّلني كثيراً... لأول مرة أراه يصرخ ويحتد، ويتكلم معي بطريقةٍ غير لائقة... أحسّيت أنه يشكّ فيّ... لا يريدني أن أزور خالتي، وأخذ يسألني: هل كان سامي موجود في وقت زيارتك؟ عن ماذا تحدثتم؟؟ أنا لا أحب نظراته لك. وعندما قلت له إن سامي شخص لطيف ويعاملني كأخت له، صرخ فيّ بحدة وقال: وهل يتقدم الأخ ويطلب يد أخته للزواج؟ فأخبرته أن خالتي هي من كانت تضغط علينا للزواج، إنها تريد أن تطمئن عليّ، وتريد أن يكون هناك رجل يحميني قل أن تموت. ولكن نحن مشاعرنا مشاعر أصدقاء وأخوّة... وأنا اخترتكَ أنتَ يا طارق، وأحبكَ أنتَ يا طارق. ولكنه فاجأني بردة فعله تلك، ولم يصدقني. 

لبستُ تيشرت أسود، وبنطلون جينز أسود اللون، وبوت رياضة خفيف، وأيضا أسود اللون. وعند الساعة الثامنة إلا ربعاً ركبت سيارتي، وانطلقت بها إلى بيت سامي. فبعد مراقبةٍ دامت سبعة أيام لبيته وتحركاته، علمت أن الشركة قد أرسلت سامي إلى خارج العاصمة لمدة يومين، وأن البيت الآن خالٍ. لم يأخذ فتح الباب مني وقتاً طويلاً. دخلت إلى الصالون وتفقدته. لم يكن به شيء مريب. تفقدت السيديات الموضوعة في رف طاولة التلفزيون، ولم يكن يوجد عليها كتابات تسترعي الإنتباه. ثم بدأت بتفقد الطابق الأرضي والمطبخ... صعدت إلى غرف النوم، فتحت الغرفة الأولى، كانت على ما يبدو لوالدته، حيث أن صورها موجودة على الحيطان، وخزانتها مليئة بملابسها. فتحت الغرفة المقابلة لها، كانت غرفة سامي، صورته موجودة على الحائط، وكذلك صورة صغيرة موجودة له على الكمدينو التى بجانب سريره. كانت أوراقة الخاصة بعمله مبعثرةٌ على مكتبه. فتحت أدراج المكتب درج درج وفتشته بدقة... ثم فتحت خزانة ملابسه وفتشتها... قمت بتفتيش كامل غرفته، حتى مرتبة السرير رفعتها وتفحصت ما تحتها. لم أجد شيئاً يؤكد شكي فيه. جلست على طرف الكرسي، لا أدري ماذا أفعل... يمكن عدم عثوري على دليلٍ للخيانة أراحني قليلاً. خرجت إلى الممر. كان هناك غرفتان أخريتان... ولكن ما فائدة تفتيشهما إذا لم أجد شيئاً في غرفته الشخصية... إلا أن فضولي شدني لتفحّص الغرفة التى أمامي. كانت غرفة بسيطة ولا يوجد بها أثاث كثير سوى سرير وخزانة صغيرة لا تحتوي على الثياب، يبدو أنها قد خصصت للضيوف. خرجت منها واتجهت إلى الغرفة الأخرى، أضأتُ النور. كانت هناك صورعديدة للعائلة معلقة على الحائط، وكانت معظمها لندى منذ أن كانت طفلة هي وسامي... وجدت ألبوماً لصورهما معاً منذ أن كانا صغاراً حتى كبرا وأصبحت ندى فتاة ناضجة. نظرت الى الأوراق الموجودة على المكتب، وبدأت في تفقدها... كانت هناك كلماتُ حبٍّ موجهة إلى الحبيبة الغالية... لم أجد اسمها على الورق... ولكن كان واضحاً جداً من الصور وما ينطوي عليه الكلام أنها موجهة من الحبيب سامي إلى حبيبته ندى!!!!





 خرجتُ من بيت سامي، وذهبت إلى بيت باسل. طرقت الباب ففتح لى باسل. رميت نفسي فى حضنه ورحت أبكي وأعتذر له قائلاً: أرجوك يا باسل، سامحني، أرجوك، لقد تعبت يا أخي وليس لي أحدٌ سواك في هذه الدنيا... حتى الإنسانة التي كنت على استعدادٍ أن أقتل نفسي لأجلها خانتني... أشعر أن الدنيا تضيق بي وتدير لى ظهرها... أريد أن أموت... ساعدني على أن أموت... إن قلبي به حزنٌ يكفي العالم ويزيد... لن أشعر بالسعادة بعد الآن... لقد انتهت البهجة من حياتي وتبخر الفرح. ثم أحسست بنفسي وأنا أرتمي على الأرض. ساعدني باسل، هو وغادة، للدخول إلى بيتي، وتمددت على الأريكة في الصالون. أحضرتْ لي غادة كأساً من عصير الليمون، وذهب باسل لشراء وجبة طعام لي من المطعم المقابل لآخر الشارع، فمنذ الصباح لم يدخل لجوفي أي أكل.
 وبعد أن اطمئنوا عليّ وأصبحت بحالٍ أفضل، سألني باسل: أين كنت يا طارق بهذه الملابس السوداء. حكيت لهم الحكاية، وكيف أني اقتحمت بيت سامي، وأني وجدت غرفة خاصة مقفلة تخص صور ندى، وأوراقاً بها كلمات حبّ موجهة إلى ندى... إنه يحبها، هو من قام بقتلها... فهو لم يستطع أن يراها مع رجلٍ آخر فقام بقتلها. إنها خائنة... لقد سمحت له بالدخول إلى البيت وزيارتها في غير وجودي... إنها خائنة يا باسل. 

باسل : أرجوك أن تهدأ يا طارق... إن الأمور لا تُؤخذ بهذه الطريقة...عليك أن تتأكد قبل أن تصدر هذه الأحكام. 
كنت أرتجف من الإنفعال... وصار صوتي يُسمع همساً... إنها خائنة... خائنة. يا خسارة حبي وأنيني ووجعي على فراقها. كنت أموت في اليوم مئة مرة حسرة عليها... يا ويله مني... سوف أقتله... سوف أعصره بين يديّ وأشرب من دمه. ركضت نحو الباب، أريد أن أذهب إليه وأقتله. مسكني باسل وصرخ بي: إهدأ يا طارق، ألم تقل إنه خارج العاصمة الآن. طارق : لا أستطيع أن أصبر وأهدأ... إن بي بركاناً ثائر، كيف أطفيه يا باسل، لا أستطيع... لا أستطيع. 
باسل : انتظرْ يا طارق، أرجوك. سوف أتصل بالضابط خالد وأخبره بالأمر. نهض الضابط خالد عن كرسيه وصوب نظراته الحادة نحو عيني سامي الجالس أمامه، وقال بحزم: وكيف تفسر وجود هذه الصور، وكلمات الحب الموجهة إلى ندى. 

سامي : أرجوك، صدقني يا حضرة الضابط، أنا بريءٌ من دم ندى. الضابط : هل قتلتها خوفاً من أن ينفضح أمرك؟؟؟ هل هددتكَ بشيء ما ؟؟ هل هددتك بأن تفضح علاقتكما لطارق؟!!! سامي : أبداً... أبداً... ندى أطهر من ذلك... ندى إبنة خالتي. أنا لا أسمح بأن تهان سمعتها. 
الضابط : طبعاً، لا بد أن تدافع عن خيانتكما. هل كنت تقابلها في كل مرة فى بيتها، أم كانت تذهب هي إليك؟؟ سامي : لم يحصل أن ذهبتُ إلى بيتها لوحدي. الضابط : أنت تكذب. هل تنكر أنك ذهبت إلى بيتها قبل شهرين من قتلها؟ 
سامي : آه... ماذا؟! 
الضابط : لقد رأتكَ غادة وأنت تصعد إلى بيت طارق... كنت بمفردك... وكان طارق وقتها في العمل. 
سامي : الأمر ليس كما تظن. 
الضابط : إنِ اعترفتَ بالحقيقة... صدّقني سوف أساعدك... وسوف تكون العقوبة عليك أخف من الإعدام. 

فتح طارق فمه في ذهولٍ وهو يشاهد السى دي قبل الأخير من مذكرات ندى وهي تقول: لقد بدأتُ أختنق... ما الذي يحصل؟؟؟... ما هذه المصيبة التى أنا فيها!!!!... للمرة الرابعة اليوم، طارق يسألني أين خرجت... لم يصدق بأني ذهبتُ للتسوق مع صديقتي هالة... أحسست أنه يشك بي ويكذبني... لقد فاجأني... ولماذا يسأل في الأصل؟... هل يشك في تصرفاتي؟ أيعقل هذا! ألم يعلم أن الحب الذي بيننا أقوى من أي شك!... ولكن لماذا يشك !! فأنا أحبه أكثر من الحب، وأخاف عليه أكثر من نفسي... فمن أين أتى له هذا الإحساس البغيض؟... ترى هل قام أحد بإفساد العلاقة فيما بيننا؟! 

سامي : أرجوكَ يا حضرة الضابط، أنا لم أقم بإيذاء ندى. كيف أؤذي هذا الملاك... فأنا أخاف عليها. وقد وعدت أمي، وهي تموت، أن أهتم بها. 
الضابط : إن الوقائع كلها تشير إلى أن لك يداً في قتلها!!! 
سامي : أقسم لك أنني لم أقتل ندى. 
الضابط : هل تنكر أنك كنت تحب ندى، وكنت تريد الزواج منها، ولكنها رفضتك واختارت طارق، فكسرتْ قلبك، وعندها قررت أن تنتقم منها، فذهبت إلى بيتها، في وقتٍ كنتُ تعلم جيداً أن زوجها في العمل، وكذلك باسل في الصيدلية، وغادة عند أمها، والأولاد في المدارس، ففتحتْ هي لك الباب، لأنها تعرفك ولا تتوقع منك الغدر، فقمت بخنقتها بسلكٍ كهربائي، وخرجت من البيت دون أن يراك أحد. 
سامي : لا أنكر بأني كنت أحب ندى، وتلك الصور والأشعار، بالفعل، تشهد لحبي الشديد لها، ولكن هذا كان قبل عشر سنوات، كان حب مراهق. أحببتها بشدة... كانت في حينها طفلة تتحول لامرأة صارخة الأنوثة والجمال. همت بها، وكتبت لها قصائد الحب... ولكن كان كل ذلك في خيالي فقط. وحين صارحتها بحبي، في وقتها، قالت لي أنتَ مثل أخي، ولن أحس تجاهك في أي يوم بشعورٍ غير ذلك. ومرت الأيام، وتعديت مرحلة المراهقة... وبالفعل بدأ حبي لها يتحول من العشق إلى مشاعر الأخوة... حتى جاء يومٌ طلبتْ أمي مني أن أتقدم لندى وأطلب يدها. وقالت لي أمي: إن ندى إبنة أختي، تربيتي، ولن أجد لك عروساً أجمل منها ولا أحسن من أخلاقها، وأتمنى أن أراكم عندي، وفي بيتي، زوج وزوجة. وحاولت أن أفهّم أمي بأن مشاعرنا هي مشاعر الأخوة، ولا نستطيع أن نغيرها. ولكن تحت إلحاح أمي، وافقتُ على أن أتقدم وأطلب يدها. وكان جواب ندى صريحاً لي ولأمي: أنها لا تشعر نحوي إلا بعاطفة الأخوة. وعندما تقدم لها طارق وطلبها للزواج، وافقنا عليه أنا وأمي وباركنا لها هذا الزواج. الضابط : وكيف أقنعتَ والدتك بحبك الأخوي لندى، وصورها تملؤ غرفتك ؟؟ سامي : تلك الغرفة كانت غرفتي، ولم تكن صور ندى هي الصور الوحيدة الموجودة فيها، فصور العائلة كلها موجودة أيضاً، وإنْ كانت أغلب الصور لندى، لأنها كانت مثل إبنة لنا. وكانت الغرفة ملاصقة لغرفة أمي، وعندما توفيتْ أمي، لم ارغب بتغير الغرفة، وأقفلتها على حالها حتى تبقى الذكريات العائلية فى الحفظ. 

الضابط : لقد رأتكَ غادة تصعد إلى بيتها، وأنت كنت تعلم أن طارق لا يحب أن تلتقي بندى. فكيف تأتي لبيتها وهو غير موجود؟؟ 
سامي : في أحد الأيام، اتصلت بي ندى وهي تبكي. قالت لي لم أجد أحداً ألجأ إليه غيرك يا سامي، ثم انهارتْ وأجهشتْ بالبكاء، وأقفلتْ الخط. قلقت عليها جداً. وما هي إلا دقائق حتى كنتُ أطرق باب بيتها، وبيدي هدية صغيرة اشتريتها على السريع من محل الشوكولاتة، لأني أعلم مدى حبها للشوكولاتة، فقد كان ذلك اليوم يصادف عيد ميلادها. وحين رأتني تفاجأتْ بوجودي وقالت: لماذا أتيتَ يا سامي، لو رآك طارق الآن لأقام الدنيا وأقعدها فوق رؤوسنا، أرجوك، لا أريد مزيداً من المشاكل... إذهب. هالني منظرها. فقلت لها: ما بالك. إن الألم والشحوب يبدو على وجهك، هل بك خطب ما؟! هل طارق يسيء معاملتك ؟؟ دعيني أتدخل بالأمر، وسوف أخبر أخاه لعلنا نجد حلاً. فقالت لي: لا، أرجوك لا تتدخل بأي شيء، أنا في تمام الصحة، وطارق يعاملني بلطف، ونحن نحب بعضنا بشكلٍ لا يوصف. فقلت لها: ولماذا كنت تبكين بشكل هستيري هكذا عندما اتصلتِ بي؟ فقالت: لقد كنتُ أشعر بالوحدة والإكتئاب، تذكرت خالتي وحنّيتها، وتذكرتك، وأحببتُ أن أسمع صوتك. ثم طمأنَتْنِي عنها. كنت واقفاً على الباب، ولم تدعُني للدخول. ثم انصرفت. 

مازال طارق يسمع السى ويزيد اندهاشه اكثر واكثر من حديث ندى وهي تقول : ندى : إنني مصدومةٌ جداً منك يا طارق. آخر شيء توقعته منك أن تشك بي. آخر ما توقعته أن تتهمني بالخيانة. مرة تتهم سامي، إبن خالتي، ومرة تتهم أحداً من أصدقائنا المقربين، أو البعيدين. واليوم تتهم عادل، أخو صديقتي هالة... ألأني أخبرتك أنه قام هو وهالة بتوصيلي إلى البيت بعد أن انتهينا من التسوق! لم أعد أعرف ماذا أفعل معك... كيف أتصرف. إنني مصدومة من اتهاماتك لي، ومتفاجئة من تصرفاتك التي أصبحتُ بسببها أنام ودموعي على خدي.

 فتح الضابط خالد المغلف الموجود على مكتبه والمُرسل من مكتب التحقيقات... لقد كان سامي، بالفعل، على رأس عمله وقت وفاة ندى... وكذلك، لم يؤكد التفتيش الدقيق لبيته أي شكوك بأن له علاقة بندى، سوى تلك الصور القديمه المنتشرة على حائط الغرفة، وبعض المذكرات لكتابة كلمات حب ممكن أي شخص يكتبها... وبدت الأمور أنها طبيعية. ويبدو أن طارق لديه غيرة شديدة على ندى، فتخيل أن هناك علاقة ما بينهما. إن الأمور تتعقد. ندى : لقد تغير طارق كثيراً. ففجأة وبدون سبب بينقلب ويتغير. اليوم كنا سهرانين نضحك ونلعب ونمزح... ونمنا ونحن نتغزل ببعض. وفي الصباح استيقظتُ قبله وبدأت بتحضير الفطور، وذهب هو للإستحمام. وعندما خرج من الحمام أخذ يصرخ بي ويقول لي مع من كنتِ تتهامسين بالموبايل في هذا الصباح الباكر... ثم أمسكني من ذراعي ورماني على السرير... وفجأة أصبح شخصاً غير الذي أمسى عليه...يالله ما الذي يحدث فجأة ينقلب هكذا ويصبح شخص لاأعرفه .... أنا أحبه كثيراً وخائفة عليه، أخشى أن أخبر أحداً عن الامر ... كي لا أجرح شعوره وتهتز صورته أمام أي أحد. أنا أعرفه كويس، إنه لطيف وحنون ويحبني بشدة، ولكن لا أعرف لماذا تحول هكذا وبدأ يشك بي. في بعض الأحيان أجده أمامي وأنا بالمطبخ متسللاً، فأرتعب وأصرخ. وحين أسأله ما الذي جاء بك باكراً من عملك يقول لي إنه نسي شيئاً مهماً وسوف يعود لعمله. لقد أصبحت عادة قدومه إلى البيت، في أوقات دوامه، متكررة وبطريقة غير لائقة. لا بد أن أحداً قام بزرع الفتنة بيننا. 
اليوم عندما يأتي من عمله سوف أجلس معه وأفهّمه بأني أحبه جداً، وأن ما يدّعيه هو مجرد تخيلات ووهم ربما زرعها أحد ما بعقله. 

أغلقتُ شاشة التلفاز وأنا حزينٌ من كلام ندى. لماذا تتهمني بأنني أشك بها... هل إذا سأل الزوج زوجته مع من كنتِ تتحدثين، أو أين تذهبين، يكون يزعجها لهذه الدرجة ويكون يشك فيها. لم أكن أتوقع أن تكون ندى حساسة جداً لهذه الأمور البسيطة. تلك الأسئلة كانت فقط للإطمئنان عليها. نمتُ وأنا ساخطٌ على نفسي... كيف أن ندى فهمتني بطريقة خاطئة هكذا؟؟؟ عندما استيقظت في الصباح، كان رأسي يكاد ينفجر من الوجع. نظرت حولي فوجدت نفسي على السرير في غرفتي... ماذا حصل لي ؟؟؟ لقد نمت على الأريكة البارحة!!! ما الذي أوصلني إلى هنا؟ لقد أصبح هذا الأمر يتكرر!!! نهضت من السرير، وكانت معدتي تؤلمني من شدة الجوع، وكأن وجع رأسي لا يكفي. دخلت الصالون وهناك صعقت من هول المفاجأة... البيت مقلوبٌ رأساً على عقب. ذهبت إلى باب البيت لأتأكد إن كان أحد ما خرج منه، فوجدته مغلقاً كما أغلقته مساء أمس. تفقدت النوافذ، والباب الجانبي المفتوح على البرده، كان كل شيء كما تركته بالأمس... من دخل البيت وقام بالتكسير هكذا؟؟؟!!! 
ركضت إلى جهاز تسجيل الكاميرات. شغّلت التسجيل، وبدأت بمشاهدة ما حصل بعد ما نمت في الصالون على الأريكة. لقد كنت، بالفعل، نائماً على الأريكة وليس على السرير... وبعد لحظاتٍ شاهدت نفسي أنهض من عن الأريكة... ذهبت إلى المطبخ وعدت بكوب القهوة خاصتي، شربته وأنا أنظر بين زوايا البيت بطريقةٍ غريبة. ثم بدأت بالمشي في الصالون أنظر إلى الصور والحيطان، وأخبط كفي بالحيطان. لم يكن أحدٌ غيري في البيت... لم يدخل أحدٌ المنزل. شاهدت نفسي أكسر ما أراه أمامي، وأقلب الطربيزات والتحف الموجودة على الطاولة، وأكسر كل ما أراه أمامي... وخبطتُ اللاب توب بالأرض... ثم ذهبت إلى بقية الغرف الأخرى وأنا أصرخ وأحطم كل ما أصادفه أمامي، كأنني وحش هائج لا يمكن مسك لجامه. ثم ذهبت إلى غرفتي... وخرجت منها قبل قليل.

 صعقتُ مما رأيت، هل هذا أنا؟؟ ولماذا أفعل ذلك. تجمدتُ في مكاني، لا أعلم كم بقيت واقفاً هكذا. لم تعد قدماي تحملاني. سندت ظهري للحيط، ثم وقعت على الأرض، وبقيت أبكي وأنتحب. أنا خائف، وخائف لدرجة الموت. من أنا ؟؟؟ كيف؟؟ لا يعقل أنّ من رأيته بالكاميرا هو أنا... إنه شخص لا أعرفه... أنا أرى شخصاً آخراً، شكله أنا ولكن ليس أنا؟؟ لم أصدق ما أراه، ولا أريد أن أعرف أي شيء. جسدى يرتجف. أنا تعبان... تعبان! 

وقع نظري على السي دي الأخير المتبقي من مذكرات ندى، فشغلته.

 ندى : لقد زاد الأمر عن حده... طارق لم يعد يطاق... حتى شغله أهمله، لم يعد يحضّر الدروس لطلابه، وأصبح المدير يشتكي من إهماله... وطوال الوقت يجلس وحيداً، ويسأل عن أغراضه وينسى أين يضعها، ويتهمني بأني أغيّر أماكنها. اليوم هجم عليّ وضربني وكسر موبالي لمجرد أنه سمعه يرن بصوتٍ عالٍ. لم يعد طارق الذي أعرفه والذي أحبه. تكلمت معه ولم يصدقني... أخبرته بأنك تقوم بأمورٍ غريبة، وأنك تتهمني بالقيام بأمور لم أفعلها، وأني لم أعد أتحمّل أكثر من ذلك. أشعر بأنني أعيش مع شخصين، مرة يكون الحبيب الرقيق الذي عرفته، ومرة يكون ذلك الشخص الهجومي الثائر الذي يقول كلاماً جارحاً، ويفعل أموراً غريبة. أخبرته أن به خطب ما، وأن عليه أن يعرض نفسه على الطبيب، وعليه أن يتعالج. أنا تعبت كتيراً، ولم يعد بإمكاني أن أعيش معه أكثر وأكمّل حياتي معه على هذا النحو... 
سامحني يا طارق... لا اريد ان أتخلى عنك، بس أنا تعبت كثيراً... أكملتْ ندى حديثها في الأيام التالية في نفس السي دي... ولكن بدت لهجتها ووجهها أكثر طمأنينة وإشراقاً. قالت: أنا اليوم في غاية السعادة . طارق أخبرني بأنه يحبني، بل يعبدني، وأنه عليّ أن أنسى أي شيء قد يسبب زعلاً بيننا، وأنه ينوي فعلاً أن يذهب اليوم إلى الطبيب. اتصل قبل قليل وأخبرني أن أستعد وألبس أجمل شيء عندي. يريدني أن أكون بأحلى أبهة، وأنه حجز ليلتين بالمنتجع الذي شهد شهر عسلنا وحبنا... وأنه سوف يُحضِر لى هدية أحبها!!! الحمد لله... لقد عرف طارق أن به خطب ما، وأنه سوف يتعالج منه... سوف أسامحه وأقف بجانبه وأتفهم حالته حتى يشفى منها تماماً... سوف أسامحه... إنني أحبه جداً، ومغرمةٌ به لدرجة الجنون... حبيبي طارق. سأذهب لأستعد إلى لقائه... لقد قارب موعد قدومه. 

نظرتُ إلى تاريخ التسجيل فكان في 20 من شهر أغسطس، الساعة الرابعة، أي قبل مقتلها بساعة. أحسست وكأن الدنيا تدور بي... لا أستطيع أن أتنفس... ألا يوجد أكسجين بالغرفة! وضعت رأسي تحت صنبور الماء... نظرت إلى نفسي بالمرآة... للحظة تذكرت كل شيء... تذكرت كل اللحظات التي زعّلت بها ندى... وتذكرت كيف كنت أشك فيها وأضربها. ...تذكرت كيف كنت أترك عملي وأعود إلى البيت، أفتح الباب بهدوء وأدخل البيت دون أن تشعر بي فتجدني أمامها مباشرة. كانت تتوسل لي وترجوني أن أكفّ عن هذه الوساويس... هددتني بأنها أصبحتْ غير قادرة على التحمل، وأنها ستتركني... تذكرت... نعم... نعم... يا ربي... أنا الذي قتلتها!!!!! كنت عائداً من العمل، وأحمل معي هدية الصلحة؛ خاتم مزخرف جميل... وحجزت لمدة يومين في المنتجع، وعندما دخلت إلى البيت رأيتها مع أحد... رأيتها تخونني... هجمت عليها... رميتها على الأرض... هربتْ مني إلى غرفة النوم... ركضتُ وراءها وأنا أحمل سلك شاحن التليفون، لففته حول رقبتها، لم أرحمها. كانت تتوسل لي أن أتركها. كانت تخبرني أن ما رأيته هو وهم... قالت إني أختنق يا طارق... إني أموت... أرجوك. ثم اختفي صوتها فجأة. 
حملتها، ووضعتها في حوض الإستحمام، وفتحت الماء عليها. وكأنه لم يكفِ خنقها!!! حاولت إغراقها أيضاً بالماء. ثم نظرتُ حولي، فكان هذا الشخص قد اختفى... اختفى. خرجت من البيت أركض وأدوّر عليه. لا أعرف لماذا فعلت ذلك!... وبعدها عدت إلى البيت غير متذكر أي شيء. عدتُ فوجدتها في حوض الإستحمام، غارقة بالماء وميتة. 





أنا قتلتها... أنا قتلتها... قتلتها بيديّ!!! أنا قاتل... أنا مريض... أنا من دمر حياته... من أكون أنا ؟؟ولماذا أنا هكذا ؟؟؟ ماااااذا عملت!!!! ظللت ألطم وأخبط بحالي حتى فقدتُ الوعي. وحين أفقت، كان باسل يخبط بوجهي ويرش الماء عليّ. باسل : طارق... طارق، إصحَ... ما الذي حصل... رُدّ عليّ يا طارق. طارق : باسل... اقتلني أرجوك... أنا لا أستحق العيش... أرجوك اذبحني وريّحني... أريد أن أموت... ما أجمل الموت. صاح باسل وهو ينظر إليّ بذهول: ماذا حصل لك، أخبرني؟ 

طارق : أنا... أنا من قتل ندى... أنا يا باسل. لفني باسل بالحرام، وطوّقني بين يديه، ووضع رأسي على صدره غير مصدق ما أقول: أنت!!!! ماذا حصل لعقلك يا طارق، أرجوك اهدأ... أترجّاك أن تهدأ... سنجد حلاً لكل شيء. بكيت بحضن باسل لساعات. كنت محتاجاً لأحدٍ يحضنني... يخفف عني... ويخبرني أن كل شيء سوف يصير بخير. لم أكن واعياً على شيء، والله ما كنت واعياً. لا أعرف ماذا كنت أعمل، صدقني يا باسل... ما كنت عارف أفرّق بين الوهم والحقيقة. أنا تعبااان... أنا مريض... أنا لست إنساناً طبيعياً... أنا إنسان ضائع. قضيت الليل على هذه الحالة من الهذيان... 
وحين استيقظت، وجدت نفسي ممدداً على السرير، وموصولٌ بيدي أنبوب الجلكوز. نظر إليّ باسل بلهفة وقال: لا بأس عليك... لن أتخلى عنك يا طارق... إطمئن يا أخي. فقلت له: أرجوك يا أخي، إتصل بالضابط خالد.

 باسل : إن الضابط خالد موجود من وقت أن أحضرتك إلى المستشفى... إنه ينتظرك حتى تستيقظ... لقد اتصل بي، وأخبرني بأنه يريد أن يستجوبك بعد أن حقق مع سامي... وهناك أمور عليك تفسيرها!!! دخل الضابط خالد، وجلس على الكرسي المقابل لسريري، وهو بحالة ذهول، هو وباسل، من كلامى. قلت له: بإمكانكم أخذ الفيديوهات الموجوده بالكاميرات، والسديات التي سجلتهم ندى كمذكرات. وبعد أن تفاهم الضابط خالد مع الطبيب على نوعية مرضي، وأن حالتي الصحية تسمح لي بالخروج من المستشفى، ولكن حالتي النفسية تستلزم دخولي لمستشفى نفسي؛ حيث أن طبيب المستشفى النفساني قد شخّص حالتي بأن عندي انفصامٌ في الشخصية، وهي في مرحلة متقدمة. 

اتصل الضابط خالد بدورية الشرطة لأخذي إلى المخفر للتحقيق معي. تم وضعي في السجن. كنت في كل يوم أموت ألف مرة وأنا أتذكر ما فعلتُه بندى. إنني إنسان أعيش بشخصيتين، وكل شخصية لا تعلم عن الأخرى أي شيء... أنا شخصٌ غريب عجيب... ضائع، لا أعلم من أكون. يا رب خذ حياتي وريّحني. يا الله... أتوسل إليك أن تقبض روحي. في صباح اليوم التالي، جاء ضابط وأمسكني من يدي وأخذني إلى مكتب مدير الضبّاط. وعندما دخلت، تفاجأت بوجود باسل ومعه الضابط خالد وشخص آخر. قال الضابط : تعال واجلس على هذا المقعد هنا... نظر إليّ باسل بشفقة وقال لي: إطمئنَ يا أخي، سيكون كل شيء على ما يرام... لن أتخلى عنك. فقلت له بيأس: لن يكون هناك شيء حسن وعلى ما يرام! 
مدير الضباط : هذا الدكتور عمر، طبيب أعصابٍ وعلاج نفسي، جاء بناءً على طلبنا لمعاينة حالتك حتى نقدمها للنيابة. وسوف يتم محاكمتك هناك.
 كان الطبيب عمر يأتي لمركز السجن يومياً، ويجلس معي لساعتين، وتمتد أحياناً إلى أربع ساعات. كانت تشمل جلساته فحوصات وأسئلة، وعلاجات، وتنويم مغناطيسي، وصور أشعة لدماغي، ورنين مغناطيسي. كنت بغاية الإستسلام والتجاوب معه... فأنا لا أملك لنفسي أي اعتراض على شيء. كنت إنساناً منهاراً، مجهول الذات، واقعاً في ظلمةٍ لا نهاية لها... وقد حاولت الإنتحار ثلاث مرات. مرة عملت حبلاً من غطاء السرير وحاولت شنق نفسي... ومرة حاولت أن أغرق نفسي في سطل المسح، بعد أن ملأته بالماء ووضعت رأسي فيه... ومرة بوضع رأسي داخل كيس، وربطت الكيس حول رقبتي. ولكن للأسف، محاولاتي كلها باءت بالفشل، وتم إنقاذي.

 بعد ستة أشهرٍ من العلاج اليومي... طلبوني أنا والدكتور عمر إلى عند مدير الضباط. الضابط: أرجو يا حضرة الطبيب أن تكون قد عاينت حالة طارق بشكل..... قاطعه الطبيب : إن حالته صعبة جداً. طارق يعاني من مرض الشيزوفرينيا!! الضابط : وماذا يعني هذا؟؟؟


الطبيب : هذا يعتبر انفصاماً بالشخصية... وليس أي انفصام... طارق واصلٌ لأسوء مرحلةٍ بالإنفصام، بالإضافة لحالة الإكتئاب الشديدة التى يعاني منها... لذلك طلبت أكثر من مرة تمديد الوقت، وأخذت وقتي الكافي حتى أحدد الحالة بالدقة. 

الضابط : هل توضح الأمر أكثر. هل يعتبر طارق مجرماً ومسؤولاً عن تصرفاته!

 الطبيب : إن طارق يعيش بشخصيتين منفصلتين عن بعضهما البعض، وكأنه شخصان لا يمتّان لبعضهما البعض بصلة، وكل شخصية لا تعلم عن أفعال الأخرى، فهو لا يستطيع أن يفرق بين الوهم والحقيقة... عقله الباطني يصور له أموراً لا وجود لها في الواقع... فشخصيته تنفصل إلى جزأين... في بعض الأحيان، يكون طارق بنفسه وبشخصيته، وأحياناً أخرى تنفصل شخصيته، ويبدأ يتوهم ويشوف أموراً ليست موجودة. فمثلاً يوم مقتل زوجته... كان يتخيل أنها تخونه، كما خبّرني، وهذا الشيء كان وهماً وجزءاً من انفصامه، وكذلك في اليوم الذي شاهد باسل يبكي بجوار قبر ندى، وكذلك أيضاً عندما رآه يخرج من بيته، بعد أن قلبه رأساً على عقب، وكذلك تخيله أن سامي، إبن خالة ندى، كان يقيم علاقة معها، كلها أمور من وهم خياله هيأتها له الأوهام. 

 الضابط : وكيف حدثت هذه الأمور وأصيب بالإنفصام. الطبيب : توجد أسباب كثيرة، منها التربية، والضغوطات النفسية من الصغر، أو التعرض لنكباتٍ واكتئابات متلاحقة، وغيرها... من الممكن أن يكون عاملاً وراثياً، أو تعاطي نوع من المهدئات... لكن في حالة طارق، أنا اكتشفت أن السبب هو خلل في الجينات. كان من المفروض، من أول ما بدت عليه الأعراض، أن يوضع بمستشفى نفسي ويبدأ بالعلاج، لكنه تأخر كثيراً.

 باسل : ماذا يعني هذا؟؟؟ ما في أمل يتعالج!؟ 

الطبيب : هناك أمل... بس يلزم صبر ووقت.

 الضابط: وبالنسبة للنيابة، هل يعتبر الذي بمثل حالته واعٍ لتصرفاته؟ 

 الطبيب : سوف أنهي تشخيصي لحالته، وسوف أقدمها كلها بملفاتٍ وإثباتات. طارق لم يكن يدرك ما يفعله، ويجب محاكمته على هذا الشيء، وحكمه الوحيد لازم يكون العلاج... ولا نستطيع أن نعتبره مذنباً. وأنا سوف أثبت كل شيء بالملفات الخاصة به . 
كنت أنظر إليهم بذهولٍ وأسى على نفسي... فسواء أكنت مريضاً أم لا... فأنا قاتل!... قتلت حبيبتي وشريكة حياتي. آه ...آه. كم أتمني الموت. 
 سلّموا الملفات التي تتعلق بحالتي للنيابة، وقام عدد من الأطباء، غير الدكتور عادل، بفحصي، وتم إثبات مرضي المزمن. وبعد فترة، تم الإفراج عني وتحويلي لمستشفى نفسي. بدأت أتعالج بمشفى للأمراض النفسية تحت رعاية الدكتور عادل.



 كانت أياماً طويلة ومريرة... تعبت فيها كثيراً... وأكثر من مرة حاولتُ فيها إيذاء الدكتور وإيذاء نفسي. كنت أوضع بغرفةٍ منفردة على أبوابها الأقفال، ويطل شباكها الوحيد، المدعم بالحديد والقضبان، على ممرٍ طويل لا أستطيع أن أرى نهايته. كان يأتيني بالأكل ويعطيني الدواء ممرضٌ خاص متمرس على التعامل مع مرضى في مثل حالتي. كنت أتلقى كل أنواع العلاجات الممكنة لحالتي. 

لم يتركني باسل. كان يزورني بانتظام في كل يوم خميس، ويجلس معي ساعتين. كنت أنظر إليه وأترجاه أن يسامحني، وأن لا يتخلى عني. كان يخفف عني ويقول: أنت لم تكن تدرك ما كنت تفعله، إن الله وندى وأنا نسامحك. 
 استمر علاجي بالمستشفى خمس سنين كاملة. لم أخرج خلالها من المستشفى إطلاقاً. كانت حالتي تتحسن تدريجياً... حتى بدأت أشفى من مرض الشيزوفرينيا. بعدها بدأت بالخروج المشروط من المستشفى.عندما حان موعد خروجي للمرة الأولى... 

كنت خائفاً من مواجهة الناس، ولا أرغب بالخروج... لا أريد أن أرى نظرة الناس إليّ والتي تقول إني مختل عقلياً، أو أني مجرم... والأكثر من ذلك خائف من معارف ندى وأقربائها. جاء باسل ليأخذني إلى البيت... رفضت الذهاب معه في البداية بشدة... ولم يستطع أن يقنعني بمرافقته إلا عندما أكدّ لي أنه سوف يأخذني، فقط، في جولةٍ سريعة في البلد. لم يتخلَ عني باسل. صار كل يوم خميس يأتي ويصحبني فى جولةٍ في أنحاء المدينة.

 كنا نتناول طعام الغداء في إحدى المطاعم، ثم يعيدني إلى المستشفى. بقينا على هذه الحالة لمدة سنتين، إلى أن حان موعد خروجي النهائي من المستشفى. 
حاول باسل أن يقنعني بالذهاب إلى البيت، ولكني رفضت، وطلبت منه أن يوصلني إلى الفندق. وصلت إلى الفندق، وحاولت أن أرتاح فيه عدة أيام لكي أصفّي ذهني. لكن ما كنت قادر... فرغم مرور سبع سنين على الذي حدث، إلا أنني لم أستطع النسيان. ما زال صوت ندى يرنّ في أذني... صورتها لا تريد أن تفارق خيالي... حبها مزروع في قلبي. 

كان عندي مبلغ من المال في البنك، سحبته وتوجهت لأشتري شقة صغيرة قريبة من ندى... وطلبت من باسل أن ينقل كل أغراضي وأغراض ندى للشقة الجديدة. وبدأت فيها حياة جديدة... بدأت من الصفر، بدون أهل... بدون حب، بدون أي شيء. 




اليوم سوف أزور قبر ندى، لأول مرة بعد هذه المدة الطويلة. عندما وصلت إلى قبرها، لم أتمالك نفسي وبدأت أنتحب: سامحيني... سامحيني... والله لم يكن الأمر بيدي، والله أنا أحبك وأتمنى، كل يوم، أن أموت وألحقك... يا ليتني سمعتُ كلامك وصدقتك عندما قلتِ لي إني مريض... يا ليتني لحّقت حالي قبل ما أعمل عملتي وآذيك . سامحيني يا ندى. 

 هبت نسمة هواء منعشة حملت في طياتها رائحة ندى... رائحة عطرها المميز. شعرت بأن روحها تمر من جانبي، وتتسلل إلى قلبي. أحسستها تقول لي: "سامحتك". 

بدأتُ بالتدريج أتعوّد على حياتي الجديدة، الفارغة. كنت كل يوم أذهب إلى قبر ندى، وأحدّثها عن يومي الممل بدونها، وأتأسف لها. باسل وغادة هم أحلى ما في حياتي، وهم دائماً يدعمونني، ومواظبين على زيارتي. وغادة حامل بتوأم، وهم مبسوطين جداً. بدأت بالبحث على عملٍ بأي مدرسة، ولكن كان الرفض من نصيبي. وحاولتُ أن أعطي دروساً خصوصية، ولكن من يقبل بمثلي كمدرسٍ لأولاده. لا أعلم هل أنا مذنب أم بريء! هل أنا أستحق أن أتعاقب أم لا. كل الذي أعرفه أني ما كنت أنا. كنت إنساناً ضائعاً... إنسان تائه بين الوهم والحقيقة. والحقيقة الوحيدة التي أعرفها الآن وأحس فيها، هي أني أحب ندى. لقد أحببتها كثيراً، ومستحيل أن أؤذيها... وبالتأكيد، أن الذي آذاها لم يكن أنا. والله لم يكن أنا...



                                          النهاية.
تفاعل :

تعليقات