القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: بنات حواء الثلاث: أليف شافاق. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.



تلخيص رواية: 
 بنات حواء الثلاث: أليف شافاق.
 إعداد وإشراف: رجاء حمدان.

 لسماع الرواية والاشتراك بالقناة راجوشو الرابط التالي: 

https://www.youtube.com/channel/UChQ8cuMtdK57I-YRZ_qtHPg?view_as=subscriber


""راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"



تلخيص رواية: 
 بنات حواء الثلاث: أليف شافاق.
 إعداد وإشراف: رجاء حمدان.
 إسطنبول 2016 . كان النهار نهاراً اعتياديّاً من نهارات الربيع في اسطنبول، عصراً طويلاً وثقيلاً مثل غيره من أوقات العصر الكثيرة. كانت نازبيري نالباتوغلو - المعروفة بين الناس أجمعين ببيري - امرأةً طيبة، إذ كانت تدعم الصدقات، وتزيد في حدة الوعي بمرض الزهايمر، وتجمع الأموال من أجل الأسر المحتاجة. كانت تراقب عن كثبٍ أداء أطفالها في المدرسة، وتُعِدّ العشاء الشهي لربّ عمل زوجها والعاملين وإياه. لقد كانت زوجة رائعة، وأمَّاً رائعة، وربةَ بيتٍ رائعة، ومواطنةً رائعة، ومسلمةً عصريّة رائعة. 

عندما تتذكر بيري عصر ذلك اليوم المنذر بالسوء، تستنتج أن سلسلة الحوادث التي أيقظت جزءاً من ذاكرتها، التي كانت تغط بالنوم، ما كان لها أن تبدأ لولا ذلك الإزدحام الخانق والميؤوس منه. مضت سيارة بيري مترنحة في طريقها برفقة ابنتها دينيز. كانت بيري مدركة أن دينيز، التي بلغت سن الثالثة عشرة الحَرِجة، مضطرة إلى التحرر من تأثير والديها، وخصوصا تأثير أمها. فابنتها تغلي كالمرجل من شدة غضبها وسخطها على نحوٍ لم تمر به بيري في أي مرحلة من مراحل حياتها، ولا حتى في سني المراهقة. 

كان السير متوقفاً تقريباً بسبب انقلاب شاحنة. نظرت بيري من خلال سيارتها فشاهدت المتشرد الذي يسير في منتصف الشارع، طويل القامة كالنخلة، ضامرَ الوجه، بارزَ العظام. واحد من ملايين اللاجئين السوريين الذين فروا من حياةٍ لا يعرفون لغيرها نمطاً آخر. هذا ما ظنته باديءَ الأمر، وإن كانت ثمة فرصة مساوية تدل على أنه من أهل البلد: تركي أو كردي أو غجري أو خليط من كل شيء. كانت قدما الرجل ملطختين بما تيبّس من الوحل، ويرتدي سترة مهلهلة. كان ثمة خطرٍ ما في مشيته وسلوكه. انسكبت القهوة عليها، فأخرجت علبة من المحارم الورقية من حقيبتها، ورمت بالحقيبة إلى المقعد الخلفي، علماً بأن الأبواب غير مغلقة. 

 تنفست بيري الصعداء حين تحول ضوء إشارة المرور إلى الأخضر. كانت بيري توشك على أن تضغط بقدمها على دواسة البنزين لمّا صك سمعها صوتُ باب السيارة الخلفي يُفتح ويغلق. ورأت في المرآة حقيبة يدها تُنتزع من داخل السيارة. فصرخت بيري: لصوص! النجدة! لقد سرقوا حقيبتي. أطلق سائقوا السيارات أبواق سياراتهم من خلفها بعصبية. كان من الواضح أن أحداً لا يريد مساعدتها. انحرفت بيري بسيارتها إلى الرصيف. فقالت لها دينيز: اتركيها يا أماه، إنها مجرد حقيبة، ومزيفة! فقالت بيري وهي تخرج من السيارة: فيها نقودي وبطاقاتُ الإئتمان. امكثي هنا، وأغلقي الأبواب وانتظريني. خلعت بيري حذاءها وهرولت بثوبها البنفسجي، وبثقل أعوام سنّها، وبتورد خديها، أمام أنظار عشرات الأعين خلف الأطفال الشحاذين المشردين الذين سرقوا حقيبتها. اندفعت إلى الأمام، وأخذت تتذكر ذلك الزمن البعيد الذي كانت تمارس فيه رياضة الجري في أوكسفورد. كانت بيري تعشق الجري، غير أن تلك البهجة غابت عن حياتها مثلما هجرتها بقية المسرات. 

إسطنبول ثمانينيات القرن العشرين.
 حين كانت بيري طفلة صغيرة، سكنت أسرتها في شارع الشاعر الصامت الكائن في أحد أحياء الطبقة الوسطى من مدينة اسطنبول. كان بيت الأسرة يتألف من طبقتين بلون الكرز الحامض. وقد استأجرت الأسرة الطبقة الأرضية، في حين سكن مالك العقار في الطبقة العليا. كانت بيري آخر العنقود في أسرتها، وكان الحمل بها مثار دهشةٍ لا تُوصف، لأن أبويها اللذين ربّيا ولدين اثنين حتى بلغا سن المراهقة، كانا أكبر سناً من أن ينجبا طفلاً آخر. كان أبوا بيري متناقضين تناقضَ الخمارة والمسجد. كان كل واحد منهما يرى في الآخر طاغية مستبداً في الأسرة. كانت أمها، سلمى، إنسانة متدينة. كانت مفعمة بالحيويّة والنشاط، كثيرة الثرثرة والنقاش، تواقة إلى إعادة الآخرين، وخصوصاً زوجها منصور، إلى جادة الصواب. وبما أن منصور لم تكن لديه أيّ نية في أن يُقوّم سلوكه، فقد انقسمتِ الأسرة إلى منطقتين: منطقتها هي، ومنطقته هو؛ دار الإسلام، ودار الحرب. ووقف الإبن الأصغر، هاكان، المغالي في تمسكه بالدين وبالقومية إلى جانب أمه، بينما لبث الإبن الأكبر، أوميد، محايداً برهةً وجيزة من الزمان، في محاولةٍ منه لتسوية الخلاف، وإن كان الواضح من أقواله وأفعاله أنه يساريّ الهوى. ولذلك وجدتِ البنت الصغرى، بيري، نفسها في موضعٍ حرج، يحاول كل واحد من أبويها أن يكسبها إلى صفّه. فأصبحت دمثة لينة الجانب، وأرغمت نفسها على الكياسة وعلى أن تكون سلسلة القياد. كانت بيري في يقظتها وإذعانها شاهدةً على العداوات المتأصلة، تراقب كيف كان أحباؤها يمزق أحدهم الآخر إرباً إرباً. وتعلمت، منذ وقت مبكر، أن لا معركة أشد إيلاماً وأذىً من معركة عائلية، ولا معركة عائلية أكثر إيلاماً وأذىً من تلك التي تدور عن الله. 




إسطنبول 2016 ... 

انطلقت بيري وراء المتشردين في أزقّة مرصوفة بالحجارة، إلا أنْ رأتهم يجتمعون حول ذلك المتشرد الذي رأته قبل قليل. بدا الرجل عن كثب مختلفاً. ابتسم لها وكان في حضنه حقيبة يدها. فتح المتشرد حقيبة يدها وقلَبها رأساً على عقب، فسقطت محتوياتها: مفاتيح البيت، وقلم حمرة، وزجاجة عطر، وهاتف محمول، وحافظة نقود سرعان ما أخذ مِنْ داخلها النقود.... وسرعان ما جذب نظره شيء ما: صورة انزلقت قليلاً من مكانها بعد أن حُجبت عن الأنظار بعناية. تذكارٌ من زمنٍ مضى وانقضى. كان في الصورة أربعة وجوه: رجلٌ واحدٌ وثلاث نساءٍ شابات، أستاذ وطالباته، مولّين ظهورهم مكتبة بودليان في أوكسفورد. راقبت بيري الصورة تطير في الهواء ثم تسقط على الأرض، فجفلتْ كأن في الصورة روحاً حية قد تتعرض للأذى في أثناء سقوطها. صرخت في وجهه: إن الشرطة قادمة. نهض المتشرد واقفاً مقابلها. لم تكن ملامحه، بل حدة انفعالاته ونظرته الحادة التي يرمق بها من حوله، هي التي ذكّرت بيري بشخص ما؛ شخص اعتقدت أنها تركته وراء بابٍ مغلق في الماضي؛ شخص أحبته كما لم تحب أحداً من قبل. كانت الصورة الوحيدة التي تملكها بيري للأستاذ آزور. شهقتْ فجأة لمّا شاهدت لمعان السكين المعدني الذي شهره في وجهها. 

 إسطنبول ثمانينيات القرن العشرين...

تم الحكم على أوميد بالسجن ثمانية أعوامٍ وأربعة أشهر بعد أن عثرتِ الشرطة على مسدسٍ في غرفته، والكثير من الكتب الشيوعية. كانت بيري تكتب لأخيها الرسائل مُخبّرة إياه بأمور لطيفة لترفع معنويّاته، ببهجةٍ لا تحس بها، عن أشخاصٍ قلما صادفتهم، وعن حوادث نادراً ما حدثت على النحو الذي كانت تصفها به. إلا أن أوميد لم يرد على رسائلها كأنه كان يستشف فيها الخديعة. 

أدى وجود أوميد في السجن إلى حالةِ عداءٍ بين أفراد الأسرة. فوجّه منصور اللوم إلى زوجته، فلو أنها أنفقتْ وقتاً أقل مع وعّاظ الدين، وكانت يقظةً لِمَا يجري حولها، لمنعت حدوث المصيبة التي أحلّت بهم. أما سلمى، فقد ألقتِ المسؤولية على زوجها لأنه هو الذي بذر بذور الإلحاد في ذهن ولدهما. وغدا جوّ المنزل خانقاً وثقيلاً. في تلك الأيام تقريباً، بدأت بيري تعيد صياغة علاقتها بالرب، فتوقفت عن الصلاةِ قبل الخلود إلى النوم، وبدأت خصامها مع الرب. 


اقترب منصور من ابنته بيري وقال: العلم هو الطريق الوحيد إلى الأمام، لذا عليك الإلتحاق بأفضل جامعة في العالم. أنت الوحيدة من بين أطفالي التي في وسعها أن تفعل هذا الشيء. اشتغلي بجدٍّ وأنقذي نفسك من الجهل. ثم قام منصور بإعطاء بيري مفكرة جميلة وقال لها: أعرف أنك منشغلة التفكير في الرب، لذا من الآن فصاعداً، إذا فكرت في الرب – أو في نفسك - فعليك أن تدوني ذلك في مفكرتك كأنها يوميات. في تلك الليلة، جلست بيري على سريرها وفتحت المفكرة ودونت افتتاحيتها الأولى: أعتقد أن الرب يتجلى في مختلف الأشكال والألوان. 

إسطنبول 2016 ... 

اندفع المتشرد بقوةٍ في اتجاه بيري وهو يهز سكينه فأصاب راحة كفها الأيمن بجرح. دفعت المتشرد بكل ما أوتيت من قوة. ففقد توازنه وتأرجح، فاستحوذت بيري على السكين، وقالت له: توقف! لو ألحقت بي أي أذى، فسوف تواجه مشكلة عويصة. فقال: أيتها العاهرة! من تظنين نفسك؟ فقالت: حسناً، احتفظ بالحقيبة وسأذهب أنا وشأني. حينها دفعها المتشرد إلى أسفل بعد أن أمسك رقبتها. دفعته بيري دفعةً قويةً فسقط على ظهره، فركلته على منفرج ساقيه ثم على وجهه، فندّت عنه صرخة تثير الغثيان، ثم أخذت تركله إلى كل جزء من أجزاء جسمه. ثم قالت بيري: يا ابن العاهرة! ثم هرعت إلى سيارتها بعد أن لمّت أغراض حقيبتها. وما إن خطت بيري وابنتها إلى داخل منزل مضيفها، المطل على البحر، حتى اندفع زوجها، عدنان، من وسط الضيوف وتقدم نحوهما، وقد اكتست ملامح وجهه بمزيجٍ من التوجس والإستياء. كان عدنان رجلاً عصامياً، شق طريقه إلى القمة بعد بدايةٍ متواضعة ليجمع ثروته من تشييد العقارات. قال عدنان: أين كنتِ؟ لقد اتصلتُ بكِ خمسين مرة؟ قالت بيري: لقد فقدتُ هاتفي اليوم. إنها قصة طويلة. فقالت دينيز: أمي كانت منشغلة بمطاردة اللصوص. فقال عدنان: هل حاول أحد أن يخطفك؟ الغلطة غلطتك، ما كان ينبغي لك أن تتمتعي بكل هذا الجمال. 





 إسطنبول تسعينيات القرن العشرين ... 

سلّط اعتقال أوميد على أركانٍ مظلمةٍ من حالات الضعف التي كانت أسرة بيري تخفيها عن نفسها وعن الآخرين. تغير منصور كثيراً، أصبح يسكر منفرداً بعيداً عن أصحابه، وأصبح الصمت رفيقه الوفي، وقررت الشركة التي يعمل فيها إحالته على التقاعد مبكراً. وزادت المشاجرات بينه وبين إبنه الأصغر، وكانت سلمى تقف إلى جانب ولدها الأصغر دوماً. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، أعلن هاكان أنه سيترك الجامعة ولا ينوي العودة إليها. وانضم إلى مجموعةٍ من الأصدقاء أسماهم الإخوان، لديهم أفكار طنانة عن أمريكا وإسرائيل وروسيا والشرق الأوسط. 

بينما انهمكت بيري في القراءة والدراسة وانتهى بها المطاف إلى أن تكون متفوقة والأولى في صفها المدرسي. وكان منصور على الدوام يقول لها: أنتِ فخر أسرتنا التي لا تعرف الفرحة، أريدك أن تذهبي إلى أوكسفورد وهناك ستملئين رأسك بالمعرفة، وبعدها سوف ترجعين إلينا، فأمثالك من الشبان هم وحدهم القادرون على تغيير مصير هذا البلد العجوز. 

إسطنبول 2016 ... 

سألت دينيز أمها: من هؤلاء الناس الذين في الصورة في حقيبتك يا أماه؟ فقالت بيري: هذه منى. طالبة أمريكية من أصل مصري، والفتاة الأخرى هي شيرين، وهي من أسرة إيرانية. لقد كنا صديقات جامعيات، نسكن في البيت نفسه، وندرس في الكلية نفسها. والرجل هذا اسمه الأستاذ آزور. لقد ذهبت لمدة قصيرة إلى أكسفورد، ولم أنهِ الدراسة. فقالت دينيز: تركتِ الدراسة في أوكسفورد ورجعتِ إلى اسطنبول وتزوجتِ وتخليت عن دراستك وأنجبت ثلاثة أطفال وتحولت إلى ربة منزل. يا للأصالة. ممتاز! لماذا تخليتِ عن الدراسة؟ لم تكن بيري مستعدة للإجابة عن ذلك السؤال لأن الحقيقة كانت مؤلمة أكثر مما تحتمل. ولكنها قالت: كانت الدراسة صعبة عليّ ولم أحتملها. 

إسطنبول - تسعينيات القرن العشرين ... 

في اليوم الذي تخرجتْ فيه بيري من المدرسة الثانوية متفوقة على دفعتها، اصطحبها منصور إلى وكالة تربوية تساعد الطلاب للإلتحاق بالجامعات خارج البلاد . 

 أوكسفورد 2000 ... 

اصطحبا والدا بيري ابنتهما، بيري، إلى أوكسفورد. كانت أوكسفورد، في شوارعها المرصوفة بالحجارة، وأبراجها المزودة بفرجات، وأروقتِها المعمّدة والمسقوفة، تشبه صورةً من كتب الأطفال المصورة. انتظرتْ بيري ووالداها إحدى الطالبات، مُنتدبة من طرف الجامعة، حتى تأخذهم في جولة استطلاعية في أرجاء الجامعة. وفجأة جاءت فتاةٌ، فارعة القد، يبدو عليها مظهر سلطانة لو كانت في زمنٍ آخر، ترتدي تنورة وردية، وشعرها الطويل ينساب على ظهرها في لفائف متقنة التصفيف. قالت الفتاة: مرحباً بكم في أوكسفورد. إسمي شيرين. يسرني أن ألتقيكم، عرفت أنكم من تركيا. لقد وُلدتُ في طهران. أخذتهم شيرين في جولة في أرجاء المدينة، ثم زاروا الكلية حيث ستقيم بيري. وأخذت شيرين تتحدث عن نفسها وتقول: كنت أكبر البنات الأربع. سافرنا إلى سويسرا، ثم إلى البرتغال، وها أنا في إنكلترا. كانت غرفة بيري مجاورة لغرفة شيرين في السكن. وحين جلست بيري فوق سريرها، شعرت بحِيرةٍ في أعماقها، إذ بدا قلق أبويها وقد لحق بها، وسرعان ما نزل الدمع من عينيها. وفجأة طُرق الباب، ودلفت شيرين، وهي تقول: مرحباً أيتها الجارة! إن لم تكن الدموع هذه من أجل حبيب، فلا بد من أنك تحنين إلى الوطن. ثم نظرت شيرين إلى بيري وقالت: هل أنتِ متدينة؟ فقالت بيري: لا، لست كذلك، غير أن الرب موضع عنايتي واهتمامي. أخبريني عن الطلبة؟ فقالت شيرين: ثمة ستة أنواعٍ من الطلاب هنا. النموذج الأول يتمثل في الطلبة أنصار البيئة والمجتمع والعدالة، وهم ثرثارون جداً وجادون وحادو الطباع. أما النموذج الثاني فيتمثل في الأوروبيين المتحدرين من أسرٍ أوروبية غنية. أما الفئة الثالثة فهم المجموعة التي تشارك في النشاطات الإجتماعية. ثم هناك الطلبة من الجنسيات العالمية كالهنود والصينيين والعرب والأندونيسيين والأفارقة. وخامساً الطلبة البغيضين، الذين يتصفون بالجد والمثابرة والذكاء وحب الإستطلاع، وهم جديرون بالإحترام ولكن يستحيل مصادقتهم. أما النوع السادس فهم الذين يصلون إلى هذا المكان على نحوٍ يختلف عما سيصبحون عليه لاحقاً. أعرف كل هذه الأنواع لأني واعدت فتياناً وفتياتٍ من كل مجموعة. فقالت بيري: واعدت فتياتٍ؟ فقالت شيرين: مؤكد. فأنا يمكنني أن أغرم بامرأة، ويمكنني أن أغرم برجل، ولا أعير أي أهمية للتوصيفات. أما من غيّرني هنا فهو الأستاذ آزور، الأسطورة، الذي يدرّس الرب. ينبغي لكِ أن تلتحقي بفصلٍ من فصوله الدراسية طوعاً. 

تعرفتْ بعدها بيري إلى منى الأمريكية ذات الأصول المصرية. كانت منى في السنة الثانية من دراستها في أوكسفورد، وفي صدد تغيير فرع دراستها إلى الفلسفة. كانت منى مشاركة في سلسلةٍ من النشاطات الطوعية فضلاً عن دعم النّسويّة: مساعدة جمعية البلقانيين، وأصدقاء جمعية فلسطين، وجمعية الدراسات الصوفية... وغيرها. فقالت بيري: من أين لك الوقت لكل هذه النشاطات؟ فقالت منى: القضية لا تتحدد في إيجاد الوقت، وإنما في تنظيمه. ولهذا، أمرنا الرب بأن نصلي خمس مرات في اليوم، كي نُهيكل حياتنا. في تلك الليلة، كتبتْ بيري في يومياتها المخصصة للرب: يريد بعض الناس تغيير العالم، بينما يريد آخرون تغيير أزواجهم أو أصدقائهم. أما أنا، فأود أن أغيّر فكرتي عن الرب، وسيكون حدثاً قائماً في ذاته، فهل يستفيد أحد من ذلك؟ 
احتفلتْ شيرين بعيد مولدها العشرين في حانة تورف التي تبلغ من العمر قروناً. وقف صديقها الجديد إلى جانبها. كانت شيرين تبدو رائعة في سترتها اللؤلؤية وبنطالها الجينز الأبيض المفرط في ضيقه. أمسكت شيرين الهدية وطوقت بيري بذراعيها، وقالت: أين كنتِ؟ لقد فاتك ضيف الشرف الذي انصرف قبل قليل. قلت: من؟ قالت: آزور، لم أصدق أنه حضر. 
خرجتْ منى وبيري من الحانة قبل انتهاء الإحتفال. قالت منى: إنني لا أفهم سبب دعوة شيرين لي. أشعر دوماً أن شيرين لا تستلطفني بسبب حجابي على الأرجح. إنها تصر عليّ دوماً أن ألتحق بمنهاج الأستاذ آزور الدراسي. فقالت بيري: إنها تلح عليّ أنا أيضاً. ثم افترقتا، كلٌّ إلى سَكَنَها. 

 إسطنبول 2016 ...

اتصلت بيري بوالدتها وقالت لها: ثمة مفكرة في الدرج الثاني في حجرة النوم بغلافٍ جلدي شذريّ اللون. فقالت سلمى: المفكرة التي أهداك إياها والدك؟ تفوهت سلمى بهذه العبارة بنبرة تشوبها المرارة حتى بعد مرور كل تلك السنين، إذ كانت تمتعض من العلاقة بين زوجها وابنتها، ولم يغير موت منصور مشاعرها. فقالت بيري: نعم يا أماه، ستجدين رقم هاتف على الصفحة الأخيرة بإسم شيرين، هلا أعطيتني إياه. لقد سُرق هاتفي يا أمي، فأرسلي رقم الهاتف برسالة نصية إلى عدنان ولكن لا تخبريه بالموضوع. فقالت سلمى: لماذا تريدين أن تكلميها؟ إنها ليست صديقتك. ففكرت بيري في نفسها: "كانت صديقتي المفضلة، هي ومنى وأنا، نحن الثلاث: الآثمة والمؤمنة والمشوشة". فقالت بيري لأمها: لا تقلقي. إنني متأكدة من أن شيرين تركت كل شيء وراءها. 

أوكسفورد – إسطنبول 2000 ... 

وصلت بيري إلى اسطنبول لحضور حفل زفاف أخيها هاكان في عصر يومٍ من أيام منعطف فصل الشتاء. قالت بيري لأمها: ألم يأتِ أوميد؟ فقالت سلمى: قال إنه سيأتي، إلا أنه اتصل في اللحظة الأخيرة وقال إن لديه أعمالاً مهمة. بدأ حفل الزفاف، وكان العروس والعريس متوترين؛ فالعريس يلوح بيده إلى الناس أجمعين والعروس تخفض بصرها إلى أسفل. هو كثير الصخب وهي هادئة أكثر مما ينبغي لها أن تكون. كانت بيري ترتدي ثوباً أزرق اللون يصل إلى ركبتيها، وشعرها مصفف في هيئة كعكة كبيرة. تنبهت إلى أحد الشبان وهو يحدق إليها بنظرات ذات مغزى. وبعد مرور نصف ساعة اعترض الشاب طريقها وقال لها: أنتِ تشبهين الملاك. الواضح أن أبويك كانا على حق في تسميتك بهذا الإسم. فقالت بيري: اتركني و شأني. لم يمنحك أحدٌ الحقَّ في إزعاجي. أخِذ الفتى على حين غرّة، فقال: يقولون إنك مغرورة ومعتدّة بنفسك، وكان يتعين عليّ أن أفهم ذلك، أنت تظنين أنك أفضل منا لأنك تدرسين في أوكسفورد فقالت: ليس لهذا شأن بأكسفورد. فقال بصوتٍ خفيض: أيتها الفاجرة المتعجرفة! 

كان قد تقرر أن يقضي العروسان ليلتهما الأولى في منزل أسرة نالبانتوغلو، قبل أن يذهبا إلى الفندق في أحد المصايف. في مساء يوم الزفاف وبعد ساعة من خلود بيري إلى النوم، استيقظتْ فزعة على صوتٍ غريبٍ في البيت. قامت بيري لتجد والدتها مستيقظة، ممتقعة الوجه. أما والدها فكان يذرع الغرفة يمنةً ويسرة شابكاً يديه، أشعثَ الشعر، وإلى جانبه شقيقها هاكان. طلب منها هاكان أن تخرج من الغرفة، فذهبت إلى الغرفة الرئيسية لتجد الباب موارباً، والعروس جالسة إلى حافة السرير وبجانبها والديها. وسمعت الأم تقول: أصدّق ما يقوله الطبيب. ورويداً رويداً فهمت بيري السبب الكامن من وراء الضجة التي سمعتها قبل قليل، فقد اندفع شقيقها خارج غرفة النوم معتقداً الإعتقاد كله أن زوجته ليست عذراء. قامت أم العروس وقالت لمنصور: سنذهب إلى الطبيب، وإذا كانت ابنتي مخطئة، فسوف أعاقبها بنفسي. أما إذا كان ولدك كذاباً، فالله يشهد على أنني سأجعله يندم على ذلك. 

 بعد أقل من نصف ساعة كانوا جميعاً قد اتخذوا أماكنهم في أقرب مستشفى. وبعد فترة خرجت الطبيبة وقالت أمام الجميع: هي عذراء. بعض الفتيات يولدن من دون غشاء بكارة، وبعض هذه الأغشية يمكن أن يتمزق عند ممارسة الجنس أو القيام بأدنى نشاط بدنيّ من دون أي نزف. لقد حطمتم نفسية امرأة شابة. والآن، أطلب منكن أن تنصرفوا من هنا. فنحن لدينا مرضى يشكون من علل حقيقيّة، أما أنتم فتهدرون وقتنا. حينها قالت أم العروس: الله أكبر! لقد حاولوا تشويه سمعة ابنتي. إسمعوا! ولدكم هو الفاشل. وغادرتِ العروس ووالديها المستشفى. تملك بيري إحساس عارمٌ بالغضب من أخيها الذي تسببت أنانيته وعدم ثقته بهذه الحالة التعسة، ومن والديها اللذين لم يحاولا بذل أي جهد للحيلولة دون حدوث هذه الإساءة. في طريق العودة إلى البيت، سألت بيري: ماذا سيحدث؟ قالت سلمى: لا شيء، إن شاء الله. سوف نشتري الحلوى والحرير والمجوهرات غداً... ونعتذر منهم، ففكرة الذهاب إلى المستشفى كانت فكرتهم. 

 إسطنبول 2016 ... 

جلست بيري مع الضيوف وأخذوا يتحدثون عن أيام دراستها في أوكسفورد. فقالت امرأة ضيفة: إن شقيقي درس في أكسفورد في الفترة التي درستِ فيها، وكان يتكلم عن أستاذٍ اسمه آزور تسبب بفضيحة. قال أخي إنه تناهت إلى سمعه شائعاتٍ راجت يومئذٍ عن فتاةٍ تركية تدرس منهاج هذا الأستاذ. وأضاف أنها كانت محور حديث المدينة. وعلى أثر الفضيحة توقف هذا الأستاذ عن التدريس. فقالت بيري: لم أكن أعرف الأستاذ معرفة جيدة. لقد كنت طالبة هادئة ولست من نمط اللواتي يتورطن في الفضائح. لم تشعر بيري بالذنب وهي تكذب. فهي مصممة على عدم كشف ماضيها أمام امرأة غريبة. 

أوكسفورد 2001 ... 
في الفصل الدراسي الربيعي، تحدثتْ بيري مع دكتورها رايموند مطولًا عن المنهاج الدراسي الذي يتعين عليها أن تتلقاه في سنتها الدراسية الثانية، فقالت بيري في حيويةٍ ونشاط: ثمة منهاجٍ دراسي أتمنى أن ألتحق به، إنه المنهاج الذي يخص موضوع الرب للأستاذ آزور. إن موضوع الرب دوماً كان قضية مثار خلاف في بيتنا؛ فأبي وأمي يحملان وجهتي نظر متباينتين، وأنا أريد دراسته دراسة صحيحة. فقال الدكتور رايموند: إن آزور واسع المعرفة. لكنني يجب أن أحذرك من أن طريقته في التدريس خارجة عن العرف والتقاليد ، وهي طريقة لا تصيب النجاح مع كل طالب. فقسم من الطلاب يستمتع بالمنهاج، وقسم آخر تزداد تعاسته وكآبته إلى حد كبير. على أي حال، إذهبي وكلّمي آزور واطلبي منه أن يُطلِعك على تفاصيل المنهاج. 
ذهبتْ بيري إلى كلية اللاهوت للبحث عن الدكتور آزور. دخلت بيري إلى مكتب الأستاذ آزور وقالت له: إنني أرغب في قراءة تفاصيل المنهاج الخاص بموضوع الرب، وقد طلب مني الدكتور رايموند أن أكلمك في هذا الموضوع مباشرة. فقال آزور: لماذا ترغبين في الإلتحاق بهذا المنهاج؟ فقالت: أشعر بالتناقض في القضايا الدينية، وبحب الإستطلاع أيضاً. وأنا أريد أن تتوضح أفكاري. فقال: إن الرب لغز يتطلب الإستكشاف، والمنهاج المخصص لدراسة موضوع الرب يمثل نقطة التقاء عقولٍ متطلعة إلى حب الإستكشاف. 

وصل إلى بيري مظروفٌ مُرسل من الأستاذ آزور يعلن لها موعد بدء المنهاج الدراسي. وحين دلفت إلى قاعة الدرس، كان هناك خمسة ذكور وخمس إناث، ووجدت في خضم دهشتها "منى" التي حيّتها تحية تنم عن مفاجأتها هي الأخرى. دخل الأستاذ آزور إلى القاعة وطلب من الطلبة أن يُعرّف كل واحدٍ نفسه ببضع جمل، وأن يذكر السبب الذي يدفعه للإهتمام بموضوع الرب. كان أول المتحدثين "منى" التي قالت: بعد أحداث الحادي عشر من أيلول استبد بي قلقٌ عنيف بشأن تصور الغرب للإسلام، وأضافت أنها تعتز بأنها شابة مسلمة، ولكنها محبطة بسبب هول التعصب الذي تضطر لمواجهته يومياً. وقالت: إن الذين لا يعرفون شيئاً عن الإسلام يطلقون آراءً عمومية غير صحيحة في ديانتي ورسولي ومعتقدي وحجابي. إنني أحترم التنوع، وأتوقع أن أحظى بالإحترام مقابل ذلك. ولما جاء دور بيري قالت: إسمي بيري... لقد أتيت من اسطنبول... تلعثمتْ بيري بالكلام، فقالت: لا أدري سبب وجودي في هذا المكان. وبعد أن انتهى التعريف، قال آزور: صفوا لي الرب؟ فقالت منى: إنه رحيم. قال آخر: إنه مُكتفٍ بذاته. قالت طالبة: إنّها، وليس إنّه. 
عندما خرجت بيري من قاعة الدرس، شعرت بأن شيئاً ما في داخلها تغير في أثناء إصغائها إلى آزور. تغييرٌ طفيفٌ يكاد يكون غير محسوس، لكنه متعذر الإلغاء. فعندما تكلم آزور عن الرب والحياة والإيمان والعلم، كانت كلماته متماسكة مثل حبات أرز مطبوخ على البخار، على استعدادٍ لإطعام الأدمغة الجائعة. شعرت بيري بصحبته بأنها مكتملة، غير مجزأة. لقد وجدت في كلمات آزور منفذاً يؤدي بها إلى خارج الثنائية المرهقة التي نشأت وترعرعت فيها داخل أسرتها. 



 إسطنبول 2016 ... 

بعثتْ سلمى رقم هاتف شيرين إلى بيري عن طريق هاتف عدنان. اتصلت بيري بالرقم فجاءها الرد الآلي يطلب منها ترك رسالة مع الإسم ورقم الهاتف بعد النغمة. فقالت بيري: مرحباً يا شيرين... قد لا يروقك أن تكلميني، أنا لا أنحو باللائمة عليك، فقد انقضت سنوات... إنني مضطرة إلى أن أكلم آزور، لا بد لي من أن أسمع رأيه لأتأكد إن كان قد غفر لي أم لا... 

أوكسفورد 2001 ... 

 قررت بيري أن تبقى في أوكسفورد في إجازة الكريسماس. اقترب موسم الإحتفالات برأس السنة بتهيّجٍ شديدٍ واحتدامٍ في العواطف. لاحت أوكسفورد كأنها تفقد روحها بغياب الطلبة. لقد سافرت شيرين وبقيت بيري وحيدة في السكن. كانت تقضي نهارها في العمل في مكتبة قريبة من سكنها. كانت تجلس في المكتبة وحيدة لمّا دخل المكتبة الأستاذ آزور. كان ملتفاً بمعطفٍ طويلٍ، وعلى رأسه قبعة. قال آزور: مرحباً يا بيري. ماذا تفعلين هنا؟ فقالت بيري: إنني أشتغل في المكتبة بدوامٍ جزئي. فقال آزور: لماذا لا تحتفلين برأس السنة بصحبة أسرتك؟ فقالت: لم أستطع السفر، كما أن عيد الكريسماس ليس قضية مهمة عندنا. وأنتَ؟ أعني هل تنوي الإحتفال برفقة أسرتك؟ فقال: الكلب سيينوزا هو أسرتي الآن. سأخبرك بشيء. سوف نتناول عشاءً لا يهتم بالرسميات: بعض الأصدقاء القدامى وعدد من المساعدين، وواحد منهم في مثل سنك. لا ينبغي لك أن تكوني وحيدة عشية رأس السنة. فهل ترغبين في الإنضمام إلينا؟ فكّري في الموضوع. تعالي لوحدك. 

يوم رأس السنة، شعرتْ بيري بالإرتياح لمّا حان الوقت للإستعداد للذهاب إلى عشاء الأستاذ آزور. اكتفت بوضع الماسكارا والكحل الأسود وأحمر الشفاه، وتركت الأمور على حالها. اشترت ثماني قطعٍ من الحلوى، وانطلقت إلى بيت آزور. 

كان آزور يقطن خارج المدينة. كان المنزل بواجهةٍ مزدوجة ومكسواً بحجارةٍ مهيبة ومدهشة. وبينما هي تخطو خطوة إلى أمام المنزل، انساب إلى سمعها صوتٌ خافت، كان هناك شابٌ، إنه تروي، زميلها من الجامعة. فقالت: لقد أفزعتني. هل كنت تقتفي أثري؟ فقال تروي: لا، إنني أسعى وراء الشيطان آزور. فقالت: أنت تتجسس على الأستاذ؟ فقال تروي: سأرفع عليه قضية لأنه طردني من الدرس، وأحتاج إلى دليلٍ في المحكمة. أرجو ألا تخبري أحداً بأنني هنا. 

دخلتْ بيري إلى البيت. وفي غرفة الجلوس، عرّفها آزور إلى طالبٍ في الدراسات العليا إسمه دارين. كان دارين فتىً لطيفاً، كان ذكياً وطموحاً. حاول أن يضحكها، مطلقاً النكات. لكنها لم تشعر بالإنجذاب نحو هذا الفتى. كانت تحن سراً إلى الأستاذ. على الرغم من أن بيري لم تكن شجاعةً ولا غريبة الأطوار، فإن بذرةً خارجة عن العرف والتقاليد زُرعت في قلبها. لقد اشتاقت نفس بيري إلى ارتكاب الخطأ. وبعد العشاء، وعندما حان وقت منتصف الليل، انتقل آزور ليقبّل جميع الضيوف. تقدم من بيري وطبع قبلتين على وجنتيها، قائلاً: كل عامٍ وأنتِ بخير! تعالي إلى غرفي. أدركت بيري أنه يقصد بكلمة غرفي قاعات التدريس. ولكنها اقتنعت أيضاً أن أستاذها يكِنّ لها مشاعر عاطفية.

 بعد منتصف الليل بقليل، بدأ الضيوف يغادرون المنزل. تبرعت إحدى الضيفات بتوصيل بيري ودارين إلى أوكسفورد. وعندما وصلوا إلى أوكسفورد، نزلت بيري ودارين من السيارة. سار الإثنان، يتبادلان أطراف الحديث، إلى أن وصلا إلى منزل بيري. تبادلا قبلة تحت نور الشارع ثم قبلة أخرى في الظلام. سألها دارين: هل يمكنني ارتقاء السلالم؟ فقالت بتلقائية: نعم. كانت تدرك أنها سوف تستيقظ في الصباح يساورها شعورٌ فظيع بالإثم من جراء مضاجعتها شخصاً لم تهتم به إلا قليلاً، وبالإثم بسبب خذلانها والديها. كما أن ضميرها سيكون مثقلاً بالعار. وبينما راحت تبادل دارين القبلات ولمسات الأيدي، كانت تفكر في شخصٍ آخر. فقد كانت معرفتها بأنها كانت ترغب في أستاذها تفوق كل عواطفها. أوكسفورد 2002 ... 

انقلبت كل حياة بيري اليومية بسبب انجذابها إلى آزور، إلى حياة محتدمة مفعمة بالألم. فكلما قصدته في غرفته لأجل التحدث إليه، كانت كل إشارة منه، وكل كلمة تقرأها وتخطيء في قراءتها، تجعلانها عاجزة عن رؤيته بطريقة متزنة. فكرت في أن مثل هذا الشيء لن يحدث لها أبداً، فهي ليست واحدة من أولئك الفتيات اللواتي يستبد بهن الهوس بكبار السن من الرجال؛ الفتيات اللواتي تعتقد أنهن يبحثن عن شخص الأب الغائب عن حياتهن. ولكنها لم تستطع أن تجد تفسيراً لتعلقها بآزور. 

شعرتْ بيري أنها تريد أن تتحدث إلى أبيها. اتصلت به وهنأته بالسنة الجديدة وسألت عن حال أخيها هاكان. فقال منصور: إنهما ينتظران مولودهما. فقالت بيري: لا أعتقد أن في مستطاعي أن أفعل هذا الشيء. فقال منصور: أن تفعلي ماذا؟ فقالت بيري: أن أتزوج شخصاً يعاملني معاملة سيئة. فقال منصور: سوف نساعدك في كل ما من شأنه أن يجعلك سعيدة. ولكن ما خطبك يا ابنتي؟ أتبكين؟ تجاهلت سؤاله وقالت: ما رأيك إن ألحقتُ بك العارَ يوماً ما؟ فهل ستتبرأ مني؟ فقال منصور: لن أتخلى عنك مهما يكن السبب. من هو هذا الفتى؟ فقالت: إنه طالب، والقضية بيننا ليست جادة. فقال والدها بارتياح: نعم يا لب فؤادي، سوف تمر القضية، وما عليك إلا التركيز في دراستك، ولا تذكري الموضوع أمام والدتك. 




  قررتْ كلٌّ من شيرين ومنى وبيري أن يتركوا السكن الجامعي، وأن يسكنوا في بيتٍ لوحدهم. ابتهجت بيري بغرفتها على الرغم من صغر حجمها وقلة أثاثها ونافذتها المطلة على الفناء. وقد تبين لبيري أن لدى شيرين جميع كتب آزور، وأنها كلها تحمل إهداءات الأستاذ إليها. وعلمت أن شيرين كانت تزور الأستاذ مرتين في الأسبوع على الأقل، وأن الإثنين قريبان أحدهما من الآخر. واقتنعت بيري بأن الأستاذ آزور قد اختارهم الثلاثة لإجراء تجربة اجتماعية عليهم، وأنه هو من حثّ شيرين على جمع الفتيات الثلاث معاً. 
 كان تروي يجلس على مصطبة برفقة مجموعةٍ من الأصدقاء يتحدث حديثاً مفعماً بالحيوية والنشاط. ولما شاهد بيري، انفصل عن الشلة وسار في اتجاهها، وقال لها: أما زلتِ تقرئين من أجل آزور؟ فقالت بيري: أما زلتَ تتجسس عليه؟ فقال: لا يجب السماح لذلك الرجل بالتدريس في مؤسسة محترمة. إن ذلك الرجل آزور مغرم بصديقتك شيرين ويقيم معها علاقة. 
 وجدتْ بيري ذلك المساء شيرين وحيدة في المطبخ تعدّ السلطة، بينما خرجت منى مع قريباتها. فقالت بيري: سأطرح عليك سؤالاً، هل كانت هذه خطة آزور؟ أعني أن نعيش معاً في البيت نفسه؟ حينها قالت شيرين: ما مشكلتك مع الأستاذ؟ فقالت بيري: يبدو أنه يستمتع بالتدخل في شؤون طلبته. شيرين، هل أنت مغرمة به، وتعاشرينه؟ فقالت شيرين: إبتعدي عن شؤوني.

 إسطنبول 2016 ... 

أسرعت بيري بالإتصال بشيرين التي ردت على الهاتف عند أول رنة. فقالت بيري: مرحباً شيرين. لقد مر وقتٌ طويل. لم أتصل بك من قبل خشية أن تكوني ما زلتِ غاضبة. فقالت شيرين: كنت، ما زلت، لا أفهم، لا أفهمك، إن ما فعلته بنفسك وبه يثير الجنون، فأنت حتى لم تعتذري إليه. فقالت بيري: كنت غيورة، تصرفتُ تصرفاً ساذجاً، ولكني الآن زوجة ولديّ توأمين، ولد وبنت، وأنت ما هي أحوالك؟ فقالت شيرين: عدتُ أنا وصديقي القديم المحامي لبعضنا، وأنا الآن حامل، وسأرزق بالمولود في شهر أيار. فقالت بيري: ماذا عن آزور؟ ما شعوره تجاهي؟ فقالت: عليك أن تعرفي ذلك بنفسك، فهو في المنزل حتماً. ثم أعطتها رقمه. وفجأة شاهدت بيري من الممر رجلين يقتحمان المكان على صاحب المكان وزوجها والضيوف. كان الرجلان يحملان الأسلحة. فأغلقت بيري الخط على الفور واختبأتْ في مكانها. 

أوكسفورد 2002 ... 

كان مسكن رئيس الجامعة يحتل جانب المبنى الأمامي الذي يعود إلى القرن الخامس عشر. دخل آزور إلى مكتب الرئيس. وبعد السلام، قال الرئيس: أنت تعرف كم أنا معجبٌ بك، ونحن محظوظون بأن تكون بيننا زميلاً، ولكن ثمة شكاوٍ موجهة إليك. يقال إن لك علاقات ببعض الطلبة. فقال آزور: هل يخص الأمر شيرين؟ إنها ليست طالبة من طالباتي. فقال الرئيس: لا... أتكلم عن طالبة تركية، وهي في صفك. لقد حاولتِ الإنتحار ليلة أمس. فامتقع وجه آزور وقال: بيري؟ أهي على ما يرام؟ فقال الرئيس: نعم، على ما يرام... جرعة مُسكّن مضاعفة... ولكنها تحملتِ الجرعة. شحب وجه آزور وفقد كل حيويته. أكمل الرئيس مضيفاً: الحقيقة أنك على علاقةٍ بها، وأنك هجرْتَها. فقال آزور: أهي التي قالت هذا الكلام؟ فقال الرئيس: لا، لكنِ الفتى تروي قرر مقاضاتك، وهدد بالحديث إلى الصحافة. فقال آزور: أؤكد لك بأنه لم يحصل أي شيء بيني وبين بيري، إسألها، وأنا واثق بأنها ستقول الحقيقة. اقترح الرئيس على آزور أن يتوقف عن التدريس فترة وجيزة ريثما تهدأ الأمور. فقال آزور: لم يسبق لي أن تصرفت تصرفاً لاأخلاقياً، سأنتظر حتى تقول بيري الحقيقة. ثم مضى في سبيله. 





عندما أفاقت بيري وجدت نفسها في غرفة من غرف الطب النفسي في المستشفى. انحدرت دمعة من عينها حين تذكرت والدها الذي أرسلها إلى أوكسفورد لتجلب الفخر للأسرة، ولكنها جلبت عوضاً عن ذلك المذلة والفشل. التقت في اليوم التالي بطبيبها المعالج الذي أخبرها بأنه سيعطيها الأدوات اللازمة التي تُمكّنها من بناء نفسها مرة أخرى. لقد هز الأستاذ آزور مشاعرها، ولكنه لم يكن مسؤولاً عن محاولتها الإنتحار. لقد تخيلت آزور وهو يمرر أصابعه في شعر شيرين وأسفل رقبتها، فوجدت في ذلك شيئاً لا طاقة لها عليه. لقد كان آزور قريباً من شيرين في حين كان متعالياً عليها. وكان يقلقها رفضه أن يحبها كما يحب شيرين. 

 صُدمت كل من شيرين ومنى صدمة عميقة حين تناهى إلى سمعيهما خبر محاولة انتحار بيري. هرعا إليها في المستشفى للإطمئنان عليها، ومعرفة سبب محاولتها. وكان ذلك سبباً لا تعرف له بيري جواباً. كما توسلت إليها شيرين أن تقدم شهادتها دفاعاً عن آزور، وطلبت منها إنقاذ أستاذها الحبيب. 

 حين بدأت ريح الصباح تهدأ وتتحول إلى نسمة، جاءت بيري إلى لجنة الإستماع وهي في حالةٍ شبه حالمة، وشعرت بثقل ساقيها وتصلبهما. فكرت في لو أنها قدمت إفادتها لمصلحة آزور، وهو ما اعتقدت أنها ملزمة به أخلاقياً، فلربما أدرك آزور كم هي مهتمة به. ولكنها تعلم بأنه سيحتفل مع شيرين. فقررت عدم الإدلاء بإفادتها. استدارت وابتعدت. سوف تمر الأعوام قبل أن تدرك بيري أن سلبيتها أسهمت إسهاماً كبيراً في تدمير الإنسان الذي أحبته، فعندما خانت آزور، خانت الحقيقة. 

 إسطنبول 2016 ...
 انضم رجلٌ ثالث، كان قد غطى نصف وجهه بمنديلٍ ملون، إلى الرجلين المتطفلين. أدركت بيري أنها كانت ترتعش وهي مختبئة داخل خزانة الثياب. لكنها شعرت ببعض الإرتياح لان دينيز انصرفت من المكان برفقة صديقاتها، والتوأم عند أمها سلمى. اتصلت من الهاتف الذي بيدها على الشرطة، وقالت: ثمة رجال مسلحين... ثم أعطت الضابط العنوان الخاص بالمنزل. فقال لها الضابط: ما سبب وجودك في ذلك المنزل؟ فقالت: إنني ضيفة، وهؤلاء مسلحين. فقال الضابط: حسناً، سوف نرسل فريقاً. 

كانت يداها ترتعشان. وفي الوقت الذي كان فيه زوجها وضيوفه رهائن، اتصلت بآزور. 
 لا يزال آزور يعيش في البيت نفسه ذي النوافذ الناتئة والمطلة على الغابة. لقد اضطر إلى التخلي عن التدريس قبل أربعة عشر عاماً، وتفرّغ للقراءة والبحث والكتابة. ودفعته كتبه إلى الشهرة والتقدير، وإلى نقطةٍ ما كان ليَصَلَها لو لم يفقد منصبه. 

 كان آزور عائداً من نزهته المسائية حين راح هاتفه يرن. رفع سماعة الهاتف بعد طول رنين، فسمع صوت بيري قادماً من قصر بحري في اسطنبول، محاولة أن تتمالك صوتها. 
قالت بيري: آزور... هذه أنا، بيري. كان يتحتم عليّ أن أكلمك قبل الآن، لقد تصرفت تصرف الجبناء. قال آزور: يا لها من مفاجأة، أأنت بخير؟ قالت: إنني مدينة لك باعتذار، كان يتحتم عليّ أن أتكلم أمام اللجنة. فقال آزور: لا تلومي نفسك، فأنت لم تكوني في حالٍ تُمكنك من تقديم إفادة صحيحة، لقد كنتِ أصغر سناً مما يجب! فقالت بيري: هلا صنعت لي معروفاً؟ أريد الإلتحاق بفصلٍ دراسي واحد، الآن، فصل عن الغفران، والحب، والمعرفة، وسأكون أنا الأستاذة في هذه المرة، موافق؟ قال: إنني مصغٍ إليك. قالت: إنني دوماً متأرجحة في تلك المنطقة الوسطى بين أل نعم وأل لا. فأنا لست غريبة عن الإيمان ولست غريبة عن الشك. دائمة مترددة، متذبذبة، لا أملك الثقة أبداً. لعل افتقاري إلى اليقين هو الذي أوصلني إلى ما أنا عليه الآن. قال آزور: كثيرون منا مشوشو التفكير. فقالت بيري: كنتَ محطَّ إعجابي الشديد، وفي وسعي ملاحظة هذا الآن. عندما نغرم ببعصنا بعضاً، نحوّل الشخص الآخر إلى إله، يا لخطورة هذا الأمر. وحين لا يبادلنا الحب، نردّ عليه بالغضب والإمتعاض والكراهية. ثمة شيء في الحب يشبه الإيمان. نوع من الثقة العمياء. الشعور بالنشوة وطعم السعادة، سحرُ الإرتباط بمخلوقٍ خارج نفوسنا المحدودة والمألوفة. 

 فجأة صك سمعَها صوتُ صافرات الإنذار. وبعد بضع دقائق سوف يتغير كل شيء. بداية جديدة أو نهاية أقرب مما يجب. وفي الوقت الذي أطلق فيه الهاتف إشارته الأخيرة، قبل أن يهمد نهائياً، فتحتْ باب الخزانة التي اختبأت فيها... وخرجت. 

                                النهاية.
تفاعل :

تعليقات