لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ..قناة راجوشو الرابط التالي :
"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"
تردد صوت إطلاق النار في كافة أرجاء الطابق السفلي ذووالمساحة الضيقة . رفعت بصري نحو الأعلى، بينما كانت أجزاء من العضلات، والعظام، والأحشاء الداخلية، تتطاير على الجدار الحجري، على مسافة ثلاثة أقدام مني فقط. استدرت وقلت: كفى! تقوس حاجبا الرقيب في التحري، لوك كلوديل، وقال: جرذان! لا بد أنها من نسل الشيطان. فصرخت: يمكنك أن تقذفها بالحجارة.
أتعبتني الساعات التي جلست فيها القرفصاء في مونتريال، في يوم الإثنين البارد والرطب من شهر ديسمبر. سألته: أين شاربونيو؟ فقال: إنه يستجوب مالك المطعم. فقلت مشيرة إلى أرض الغرفة: ومن اكتشف هذه العظام؟ فقال: إنه السمكري. عثر عليها بينما كان يعمل على أنابيب الصرف الصحي. يقول إنه تعثر بها، فأخرَجَها وأخذها للمالك.
حدقتُ بالصندوق الموجود في الغرفة، إنه يحتوي على عظام. شاهدت عظمة ترقوة، وعظام حوض، ولمحت جمجمة بشرية. اللعنة ! سأكرر القول للمرة السادسة. بكّرت يوماً واحداً بالمجيء من "شارلوت" إلى "مونتريال" كي أستعد للمثول أمام المحكمة يوم الثلاثاء. اتهم رجل بقتل زوجته وتقطيع أوصالها. وأنا سأقدم شهادتي بخصوص تحليل آثار المنشار التي أجرَيتها على جمجمة المرأة المسكينة. بدت القضية معقدة، لذلك رغبت بمراجعة ملفها الذي أعددته. وجدتُ نفسي، بدلاً من ذلك، أحفر في الطابق السفلي لمطعم يقدم البيتزا.
لقد علمت من رئيسي في العمل، بيار لامانش، أن عظاماً وُجدت في قبو مطعم البيتزا. استَدعى المالك رجال الشرطة على الفور، وأسرعت الشرطة لاستدعاء الطبيب الشرعي، وتم استدعائي لأتفحص العظام. يعمل لوك كلوديل، وميشال شاربونيو بصفتهما تحريين في قسم الجرائم الكبرى التابع لمركز شرطة مونتريال. أما أنا فأعمل بصفة مختصة بعلوم الإنسان الشرعية التابعة لمقاطعة كيبيك. عملت مع هذين الشخصين على مدى السنوات الماضية. اكتشفنا أن هناك ثلاثة هياكل عظمية لثلاث نساء أكبر قليلاً من فتيات.
جئت إلى مونتريال للإدلاء برأيي بقضية ماري رايت بيتيت، التي تبلغ الثانية والأربعين من عمرها، أماً لثلاثة أولاد. عملتْ هذه المرأة في محلٍ لبيع الخبز، لكنها اختفت قبل سنتين. ومضت أربعة أشهر قبل اكتشاف جذع ماري راين المتحلل في كيس هوكي خلف منزلها. وبعد فحص العظام اكتشف أنه تم تقطيع الجثة بمنشار الحديد الذي يستخدمه زوجها والذي سيمثل اليوم أمام المحكمة بتهمة قتل زوجته.
في طريقي إلى المحكمة، فكرت بماري رايت، وشعرت بالأسى على حياة جرى اختصارها بحقد عميق. فكرت أيضاً بأولادها الذي سجن والدهم لأنه قتل والدتهم. هل يستطع هؤلاء الأولاد أن ينسوا ما حدث لهم؟ أقسمت اليمين بمساعدة كاتب المحكمة. سألتني المدعية العامة: عرّفي نفسك ؟ فقلت: تمبرانس ديسي برينان، مختصة بعلم الإنسان الشرعي، أستاذة جامعية بجامعة كارولينا الشمالية في مدينة شارلوت. وأنا عالمة بعلم الإنسان الشرعي لمقاطعة كيبيك، في مختبرات العلوم القضائية والطب الشرعي في مونتريال، وأمارس مهنتي منذ ما يقارب العشرين سنة، حيث يتم استدعائي في مثل هذه القضايا من قبل الأطباء، لأني مختصة بالهيكل العظمي البشري، حيث أقوم بفحص الجثث بعد الوفاة.
خرجت من المحكمة فوجدت الظلام الدامس يخيم على المدينة. تنقّلتْ أفكاري ما بين موضوع وموضوع. شهادتي أمام المحكمة. الهياكل الموجودة في قبو مطعم البيتزا. إبنتي كاتي. الأمسية التي تنتظرني. فتحت جهاز الراديو كي أبعد تفكيري عن هذه المواضيع.
وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى مركز الشرطة حيث سأبدأ تحاليلي على عظام مطعم البيتزا اليوم، حيث أعطيتْ العظامُ أرقام 38426 ، و38427، و38428 . اعتدتُ أن أبدأ العمل بطريقة تسلسلية، إذ كنت أنتهي من تفحص كل حالة بالكامل قبل الإنتقال إلى الحالة الثانية، ولكني اليوم قررت أن أجري تقييماً سريعاً للعمر والجنس لكل مجموعة من البقايا. بدأت بالحالة 38426 . تبين لي أنها أنثى، وأن هذه الفتاة كانت في أواسط أو أواخر سنوات مراهقتها. انتقلت بعدها إلى الحالة 38427 وبعدها انتقلت إلى 38428 . بعدها جاء التحري كلوديل إلى مكتبي. سألني إن كنت قد انتهيت من فحوصاتي. فقلت: لا. بالكاد بدأت بالفحص، ولكنني كونت بعض الملاحظات الدقيقة. فالحالة الأولى لأنثى في منتصف أو أواخر مراهقتها وأستطيع القول إنها توفيت بين السادسة عشر والثامنة عشر من عمرها. والحالات الثانية والثالثة أيضاً لإناث صغيرات السن. أما سبب الوفاة فسيتطلب هذا فحصاً مدققاً لكل هيكل عظمي. ولا أعتقد بأن الوفيات قد حدثت في الماضي السحيق، ولكن هذا يتطلب دراسة أعمق.
رن هاتفي وأنا منهمكة في العمل على العظام. كانت سيدة تقول: لقد رأيت صورتك في الصحيفة البارحة، ورأيت مقالاً بشأن العظام التي قمت باستخراجها. فقلت: ماذا بشأنها؟ فقالت: أشعر إنه من ضمن مسؤوليتي الأخلاقية أن أقول لك إني عشت في مونتريال لوقت طويل، وأعرف ماذا جرى في ذلك المبنى. فقلت: أتقصدين مطعم البيتزا؟ فقالت: هذا ما أصبح عليه الآن. فقلت لها: أجل، تابعي. وفجأة لعلع في الطرف الآخر، صوت جرس مماثل لصوت أجراس المدارس القديمة الطراز. وانتهت المكالمة فجأة.
تملكتني مشاعر متناقض. خشيت أن أكون قد فقدت هذه المرأة إلى الأبد. حاولت أن أتذكر اسمها. هل كان غالانت؟ أم بالانت؟ أم تالنت؟ ولكني لم أستطع الرجوع والإتصال بتلك المرأة مرة ثانية، لذا عملت على العظام مرة أخرى وأكملت على الحالة 38427 . تبين لي أنها أنثى بيضاء، يتراوح عمرها ما بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة. لقد وُضع هذا الهيكل عارياً في الحفرة في وضع جنيني. تركت العظام لأني شعرت بصداع وذهبت إلى منزلي.
قررتْ صديقتي آن أن تزورني هنا في مونتريال. خرجتُ إلى المطار لأصطحبها. لم أستطع أن أستنتج من ملامحها أي شيء عن سبب زيارتها. وبعد نصف ساعة بدأت آن بالتلميح عن سبب زيارتها. قالت: أبلغ من العمر السادسة والأربعين. إنني أبحث عن السلام الداخلي. إن أولادي يمضون بحياتهم، وأنا بقيت وحدي، أبيع العقارات وأزرع نباتات الأزاليا اللعينة. أريد أن آخذ إجازة وأرتحل لبعض الوقت. أشعر أن زوجي طوم لا يهتم بي كما في السابق. قلت: أليس من المبكر قليلاً أن تدمري زواجك؟ قالت: لقد اتخذت فلسفة جديدة، وهي: إقطعي علاقتك مع الماضي وابتعدي راكضة.
أخذتُ آن وذهبنا إلى منزلي. وعندما وصلنا الشقة، لاحظت أن باب شقتي مفتوح! وفجأة سمعنا وقع أقدامٍ متجهة نحونا من خلفنا. كان صديقي التحري رايان. شعرت بارتياح. فقلت: ماذا تفعل هنا ؟ فقال لي: أنا رجل مغرم، ولا أستطيع البقاء بعيداً. فقلت له: أعتقد أن شخصاً ما قد اقتحم منزلي. تناول رايان مسدسه، وتوجه نحو الباب. طرق على الباب وقال: الشرطة! لم يكن هناك أي جواب أو حركة. دخل رايان إلى البيت وتقدمتُ أنا من ورائه، ولكن لم يكن هناك أحد في المنزل. أشعلتُ الأنوار في المنزل فرأيت الفوضى التي عمت بالمكان. كانت وسائد السرير ممزقة، والأدراج خارج أماكنها. بدا أن كل موجودات الخزائن قد تعرضت للتفتيش. اتصل رايان برجال مكافحة السرقات، وانصرفت وآن لتقييم الأضرار.
ولكن لماذا لم يسرق اللص كيس المجوهرات؟ ولماذا لم يسرق التلفزيون؟ أو جهاز الكمبيوتر المحمول؟ هل كان القصد من هذا العمل توجيه تهديد لي؟ أم توجيه إنذار يا ترى؟
في اليوم التالي، وصلتني رسالة صوتية على بريد تليفوني. كانت من المرأة التي اتصلت بالأمس، وقالت فيها: دكتورة برينان. أشعر أنه يتوجب عليّ القيام بمحاولة أخيرة، وإلا فلن أكون قادرة على التعايش مع ذاتي. اتصلت قبل يومين لأحدثك بشأن المقالة المنشورة في صحيفة لو جورنال. أعتقد أنني أعرف من الذي مات، وأعرف كذلك سبب موته. أنت تعرفين إسمي، لذا تستطيعين الإتصال بي على الرقم 514937 . حينها اتصلت على الفور بالرقم ولم أتلقَ أي جواب! ذهبت وآن إلى قصر العدل للإستعلام عن أسماء الذين امتلكوا مبنى مطعم البيتزا. تركتني آن هناك وذهبت للتسوق. اكتشفت في سياق بحثي هذا أن ملكية المبنى تغيرت عدة مرات، ولكن هناك اسم استوقفني. إنني أعرف هذا الإسم، هل هو سياسي محلي؟ هل هو مطرب؟ حدقت بالإسم، وحاولت أن أتذكر ما يعنيه لي. لاحظت أن تاريخ نقل الملكية يعود إلى ما قبل قدومي إلى مونتريال، إذاً لماذا يقرع هذا الإسم ناقوساً في ذاكرتي؟ وأخيراً تعرفت على الإسم، لذا تناولت سترتي وانطلقت خارجة لألتقي بآن.
التقيت بآن في أحد المطاعم، وهناك قلت لها: هذا المبنى انتقل إلى ملكية نيكولو كاتانيو عام 1970 . نيك كاتانيو الملقب بالسكين. اتسعت عينا آن الخضراوين نتيجة الدهشة، وقالت: أتعنين رجل المافيا؟ فأومأتُ رأسي مؤكدة. حافظ هذا الرجل على ملكية المبنى لمدة عشر سنوات، وبعدها انتقلت الملكية إلى ريتشارد ساير في 1980 ، وما زال ساير يمتلك المبنى بحسب السجلات الرسمية. أما السيد ساير فيعيش الآن في نوتردام دي غرايس.
اقترحت آن أن نذهب لمقابلة السيد ساير. وصلنا بعد عشرين دقيقة إلى حيث يعيش السيد ساير. لفت نظري وجود شرفة أمامية للمنزل تظللها ستائر باهتة اللون. ضغطت زر الجرس. وبعد دقيقة فُتح الباب بغتة وظهر أمامي رجل من خلال زجاج باب الألومنيوم الخارجي. لم نلحظ علامات الإرتياح على الرجل، ولم تكن ملامحه هي التي أقلقتنا. بدأنا، أنا وآن بالتراجع عن الشرفة.
وقف الرجل القصير والنحيل، ذو الشعر الأبيض المائل إلى الصفرة، والشاربين الرماديين الكثيفين أمامنا. لم يكن الرجل يرتدي شيئاً، فقال معتذراً: أنا كاثوليكي. فقلت له: إني أقوم بجزء من تحقيقٍ يتعلق بالمبنى الذي تملكه، ويتعين عليّ طرح بعض الأسئلة بشأن عمارتك. ففتح لنا الرجل الباب، فدخلنا. وغاب ليرتدي ملابسه. وبعد أن رجع قلت له: هل اشتريت مبناك من نيكولو كاتانيو؟ فقال: أجل. فقلت: منذ متى افتتح مطعم لو بيتزا باراديز إكسبرس؟ فقال: إنه يعمل منذ العام 2001 . سألته: هل تعرف أسماء المستأجرين السابقين. قال: نعم. أتذكرهم واحداً واحداً. ثم مد لي السيد ساير ملفاً بتاريخ المبنى وكل ما مر عليه من مستأجرين. ثم قال: لقد أخبرني ذلك المحقق عن الجثث في القبو. فقلت لنفسي: "ذلك السافل كلوديل يبعدني عن دائرة التحقيق". سألته: ولكن سيد ساير، ما الذي حدث بحسب اعتقادك كي يدفن ثلاثة أشخاص في قبوك؟ فقال: لا بد أن شراً ما قد حدث قبل أن أمتلك المكان. فقلت: كيف يمكنك أن تكون متأكداً إلى هذه الدرجة؟ فقال الرجل: هل التقيتِ بنيكولو كاتانيو ذات يوم؟ فهززت رأسي بالنفي. فقال: إذاً انتبهي على حياتك. ودّعناه، وغادرنا المكان.
في اليوم التالي، صبيحة يوم الإثنين، تركتُ آن تغط في نوم عميق، وذهبت إلى مركز الشرطة. وهناك وجدت مفاجأة اليوم الأولى بانتظاري. ذهبت إلى مكتب المحقق شاربونيو وقال لي هناك: إنه تحقق من مكان المرأة غالانيت أو بالانت أو تالنت بعد تتبعها من مركز الشرطة. وأعطاني عنوانها. ولكن لم تكن هذه مفاجأتي، فعندما ذهبت إلى الإجتماع اليومي لفريق العمل المختص في قسم الطب الشرعي، والذي يرأسه بيار لامانش. وجدت أن من بين الضحايا امرأة تدعى لويز بايرنت. حيث وجدتْ مقتولة في سريرها. انتقلتُ ببصري إلى السطر التالي، ولكنني شعرت بهبوط في قلبي أشبه بهبوط صخرة. فلقد تطابق العنوان الذي ظهر نتيجة تتبع مصدر المكالمة الهاتفية مع العنوان الموجود في ملف القضية. وهذا يعني أن غالانت، أو تالنت، أو بالانت هي لويز بايرنت. ولقد قتلت.
عندما رأيت لويز بايرنت على الطاولة شعرت بوخزة الأسى تخترقني. لكنني حاولت التغلب عليها. انحنيتُ لأتفحص بايرنت من جميع الجهات. بدت الأسنان نظيفة بالرغم من بعض البلى، ولكن هناك شيء لفت انتباهي شيء ما يتواجد بين القاطعة الجانبية اليمنى وبين الناب. اقتربت أكثر، وتأكدت من وجود شيء هناك. تناولت العدسة المكبرة فبدت لي التفاصيل أوضح تحت التكبير، فناديت على لامانش.
قال لامانش: إنها ريشة. ثم لاحظ لامانش وجود بثرات على العينين، ونقاط حمراء دقيقية، بالإضافة إلى لطخات تدل على التصلب على الملتحمة. فقلت: تبدو مثل البثور التي تظهر في حالة الإختناق، لذا يُحتمل أن تكون قد خنقت بوسادة فيها ريش.
بعد ذلك بدأت بإلقاء نظرة على الحالة 38428 . تبين لي أنها لأنثى بيضاء، ويرجح أنها ماتت بعمر يتراوح ما بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين.
أخبرني لامانش بأنه وجد فائضاً من الهيموغلوبين الخالي من الأوكسجين في الدم الوريدي لجثة لويز بايرنت، الأمر الذي يدل على تعرضها للإختناق.
مضت عدة أيام ولم تظهر أية حالة وفاة تتطلب فحصاً من عالم أنثروبولوجيا متخصص. كانت آن تقضي معظم وقتها في النوم، وتقول بأنها تعبانة. وجدت في بريدي الإلكتروني صباح يوم الخميس نتائج اختبارات الكربون 14 للهياكل العظمية الثلاثة. نقرت زر التحميل، وكان الجواب بديهياً جداً. ذهبت على الفور إلى مكتب المحقق لامانش فقرعت عليه الباب فقال لي: وجدتْ هيئة المحلفين أن السيد بيتيت مذنب بكل الأحوال. كانت شهادتك حاسمة في المحكمة، ولكن ما سبب وجودك هنا؟ فقلت: حصلت على نتائج اختبارات الكربون 14. وُجدتْ النسبة المئوية للكربون 14 في الحالة رقم38426 عالية، وهذا يعني أن الفتاة توفيت بعد العام 1950 ، في أواخر الخمسينيات أو في أواسط أو نهاية الثمانينيات. أما الفتاتان ذواتا الأرقام 38426 و 38427 ، فإن نسبة الكربون عالية جداً، مما يعني أن تاريخ وفاتهما يعود إلى أوائل الخمسينيات أو إلى أوائل التسعينيات. فقال لامانش: إذا كانت الفتيات قد اختفين خلال السنوات العشرين الماضية، فمن الممكن أن تكون أسماؤهن قد دخلت في ملفات جهاز الكمبيوتر. اتصلتُ بالمحقق كلوديل وأخبرته بالنتائج. فقال: إننا نضيع وقتنا إذا تبين لنا أن وفاة الفتيات قد حدثت في الخمسينيات. فقلت: يحتمل أن لا توافقك عائلات الضحايا على هذا الرأي. فقال كلوديل: إذا كانت الفتيات مرتبطات مع كاتانيو، فلربما كن مومسات. فقلت: من المحتمل، ولكن أعتقد يا سيد كلوديل إنهن يستاهلن شيئاً أفضل من قبر منسي تفوح منه رائحة العفن، وذلك بغض النظر عن طبيعتهن. لم نستطع أن نمد العون للفتيات عند موتهن، ولكن ربما نستطيع حماية فتيات أخريات من تلقي المصير نفسه في المستقبل.
ذهبتُ إلى المختبر وبدأت بالعمل على الهياكل الثلاث. جاء طبيب الأسنان الشرعي بيرغيرون. سألني عن الهياكل. فقلت له إنا وجدناهم في قبو مطعم البيتزا، وإنهم ماتوا بعد العام 1950. قلت له: هل لديك اقتراح ما؟ أخذ الطبيب يفحص الأسنان للضحايا. أخذ أولاً أسنان الهيكل رقم 38428 وأخذ يتفحصه، ثم قال وهو يصوب المصباح نحو الأسنان السفلى: يكفي هذا لينزع شكوكك بشأن تواريخ الوفاة. أنظري إلى هنا هل ترين لمعاناً بين طبقة الميناء؟ فلاحظت لمعاناً خفيفاً. فقال: إن الطواحين قد عولجت بالحفر، ووضعت بعد ذلك مادة لسد الفجوات. وهذه المادة قدمت لأطباء الأسنان في أوائل السبعينيات. وانتشرت بشكل واسع منذ الثمانينيات. ومن أسنان هذه الفتاة أقدر عمرها بين الثامنة عشر والحادية والعشرين.
بعدها جاءني اتصال من الطبيب آرت هوليدي الذي يقوم بتحليل قيم السترونتيوم. قال لي: الفتاتان اللتان تحملان رقمي 38426 و 38427 معدلات قيم السترونتيوم عندهما متقاربة أما الفتاة رقم 38428 فمعدلات القيم عندها مختلفة وهذا يعني أنها لم تولد في نفس المنطقة التي ولدت فيها الفتاتين الأخريين. وبحسب القيم العالمية نجد القيم للفتاة 38428 مماثلة لقيم شمال ووسط كاليفورنيا أما الفتاتين الأخريين فنتائجهما مطابقة لنتائج منطقة فيرمونت ومنطقة مونتريال. أما بالنسبة للعظام فقيم السترنتيوم للفتاتين في العظام مماثلة لتلك التي في الأسنان، وهذا يعني أن الفتاتين بقوا في منطقتهما، أما الفتاة 38428 ،بحسب نتائج عظامها، فقد تكون تلك الفتاة نشأت في مكان معين ولكنها أمضت الأعوام القليلة من حياتها في مكان آخر.
أغمضت عيني وبدأت أفكر في الهياكل. وعندما فتحت عيني، رأيت رايان أمامي. فقال لي: أعرف. ستقولين ماذا تفعل هنا ؟ صحيح ؟ فقاطعني رايان قبل أن أبدأ في الكلام، وقال: إنني رجل شرطة. فقلت له: ما أخبار لويز بايرنت، وهل هناك أخبار عن اختها التي ترعاها روز فيشر؟ فقال: لا أخبار. ولكن اليوم سأذهب إلى منزل فيشر. فكرت أنك ربما ترغبين بمرافقتي. وبالفعل رغبت بمرافقته.
انتقلت أنا ورايان إلى منزل لويز. شاهدنا الستائر مسدلة ولكننا لاحظنا أن ضوءاً أصفر يتسلل من وراء إحدى الستائر. خرج رايان لوحده من السيارة وقال لي أن أنتظر مكاني. انتظرت بضع لحظات قبل أن أتبعه. قرع رايان جرس الباب. وبعد قرع الباب عدة مرات أضيء نور في غرفة المعيشة. ثم انفتح الباب قليلاً، وتسلّل وجه من فتحته. كان آخر وجه توقعت رؤيته.
قالت: من أنتما؟ فأبرز رايان شارته. فقالت: هل أنتما الشرطة؟ فقال: هل نستطيع الدخول سيدة فيشر؟ فقالت: أين لويز؟ أين أختي؟ حينها دخلنا أنا ورايان إلى البيت. فقال رايان: أنا آسف لإبلاغك أن شقيقتك قد توفيت. بدأت بالبكاء. حينها أحطت المرأة بذراعي، وكررت قولي: أنا آسفة ! فقالت: ما كان يجدر بي أن أترك لويز وحدها في أوقات كآبتها. ثم انهارت على مقعدها. سألتها: هل تعوّدت شقيقتك أن تنام على وسادة من الريش؟ قالت: لا. عانت لويز من حساسية مفرطة. فقلت: هل تنامين أنت على وسادة من ريش؟ فتجهم وجه فيشر، وقالت: يا إلهي. لماذا؟ هل كانت وسادتي على سرير لويز؟ حينها التقت عيناي بعيني رايان.
أمضيتُ معظم هذه الليلة وأنا أعاني من الأرق، ومن انخفاض معنوياتي. وفي الصباح اتصل عليّ كلوديل فقلت له: أود الحصول على تقرير مطبوع عن كل أنثى اختفت في كيبيك على مدى العشرين سنة الماضية، من اللواتي تراوحت أعمارهن ما بين الخامسة عشرة والثانية والعشرين. وبعد الظهر انطلقنا أنا ورايان إلى بيت روز فيشر مرة أخرى. فتحت لنا الباب ابنتها كلوديا باستيلو. لم تتحرك فيشر عندما دخلنا إلى غرفة المعيشة. فقلت لها: لقد كلمتني لويز في الأسبوع الذي سبق موتها. تحدثت عن مبنى يقع في شارع القديسة كاترين. قالت إنها قلقة بشأن بعض الحوادث التي جرت هناك. قالت إنها تشعر بمسؤولية أخلاقية تدفعها إلى تزويد السلطات ببعض المعلومات. تطلعت فيشر إلى الأعلى ثم أخذت نفساً عميقاً، وقالت: أقامت لويز في شارع القديسة كاترين لمدة سبعة عشرة سنة تقريباً. أقنعتها أن تمكث عندي عندما توفي زوحي في العام أربعة وتسعين. أحبت لويز المكان الذي كانت تعيش فيه، والنظر من النافذة. ولطالما لقّبتْ نفسها بمتطفلة الحي. إلى أن فتح ذلك الرجل مكتباً للرهنيات. لم تُحبّه لويز في الواقع. كان اسمه مينارد. لقد رأتْه مرة يحمل فتاة نائمة بين ذراعيه. وكانت تلك الفتاة مراهقة. وحدث ذات مرة أن رأت شقيقتي فتاة تهرب من مكتب الرهنيات، ورأت مينارد وهو يلحق بالفتاة ويجرها إلى داخل محله. كان ذلك في وقت متأخر من الليل. ومن وقتها، ظلت لويز تتعذب بشأن ضرورة إبلاغ الشرطة. اتصلتُ بكلوديل أطلب منه تزويدي بمعلومات عن مينارد.
اتصل بي كلوديل ليخبرني بعض المعلومات عن مينارد. إنه ستيفان مينارد، من سكان فيرمونت. يملك جنسية مزدوجة: أمريكية وكندية. سكن في كندا بصفة دائمة سنة تسعة وثمانين. وهو حاصل على درجة البكالوريوس في علم الإنسان الأنثروبولوجيا. وبعدها زرعَ الرجل الخضار واعتمد على الممتلكات التي ورثها. هذا رجل ورد اسمه في قائمة ساير. أنه الرجل الذي استأجر محلاً في عمارة ساير من العام تسعة وثمانين حتى العام ثمانية وتسعين .
توصلنا إلى عنوان مينارد من الشرطة. وقفنا أمام العنوان الصحيح لبيت مينارد. ضغط رايان على الجرس. فُتح لنا الباب، فأخرج رايان شارته وقال: هل أنت ستيفن مينارد؟ فقال الرجل بلكنة أمريكية: ماذا تريد؟ فقال رايان: نرغب في التحدث إليك. فقال الرجل: اتركوني وشأني. فقال رايان: لن نرحل إلى أي مكان يا سيد مينارد. إذا تعاونت معنا فلن تأخذ أسئلتنا أكثر من دقائق قليلة من وقتك. دخلنا وراءه إلى البيت. قال رايان: ما الذي دفعك إلى إقفال مكتب الرهنيات؟ قال مينارد: لقد تاجرت بالمقتنيات الثمينة. ولكن العمل بدأ بالتراجع. وفجأة ظهرت امرأة في أواخر العشرينيات. صمت مينارد قليلاً ثم قال : ألديك مذكرة استجواب لي؟ فقال رايان: لا يا سيدي. فقال مينارد: إذاً لن أجيب عن أية أسئلة إضافية، وعليكم مغادرة منزلي. خرجنا من منزله. وفي طريقي للخروج أخذت معي فتاحة الرسائل التي تخص مينارد.
رجعت إلى مكتبي ووجدت عليه قائمة بأسماء الفتيات المفقودات كما طلبتُها من كلوديل، بينما وعد رايان بأخذ فتاحة الرسائل إلى قسم التحقيقات القضائية لفحص البصمات التي عليها. بدأت بمقارنة مواصفات الفتيات المفقودات مع الهياكل التي وجدناها في مطعم البيتزا. ولكني أصبت بالإحباط. فلم أجد حالات تتوافق مع المواصفات التي نبحث عنها. فرجعت إلى بيتي ولم تكن آن هناك. لقيت رسالة متروكة على الطاولة فأسرعت لفتح الورقة. كان فيها: عزيزتي تمب، لا أستطيع التعبير عن مدى تقديري للطفك وصبرك تجاهي. إننا متشابهتان بطرق عديدة. لست ماهرة بالتعبير عن مشاعري، ولست حتى ماهرة بالتفكير في هذه المشاعر. إنك مثالية بالنسبة لي. حان وقت إسدال الستار على صداقتنا. أعرف أنني أحبك جداً جداً، مع أنني لا أستطيع قول هذه الكلمة وجهاً لوجه. أرجوك لا تغضبي مني لأنني فعلت ذلك بهذه الطريقة .. آن .
سيطرتْ عليّ مجموعة من الإنفعالات. حاولت الإتصال بها، ولكنها لا ترد على مكالماتي. يا إلهي القدير! أريد أن تكون بخير. ماذا أفعل؟ وفجأة رن الهاتف في يدي. كان رايان، فقال لي: تمكن مكتب التحقيقات الجنائية من رفع البصمات عن فتاحة الرسائل. وجدوا مجموعتين من البصمات. فقلت: هل وجدوا بصمات مينارد، وبصمات المرأة ؟ فقال: حزرت نصف الحقيقة. لقد تبين لنا أن الرجل ليس مينارد. فقلت: إن لم يكن ذلك الرجل مينارد فمن يكون إذاً؟! فقال رايان: أما المرأة التي معه تدعى آنيغ بومرليو. وهذه الفتاة اختفت في العام 1990 عندما كانت تبلغ من العمر 15 سنة. هذه الليلة بقيت أبحث في الإنترنت. بحثت عن جميع قصص الفتيات المختطفات. وفي الصباح اتصلت برايان وأخبرته بما توصلتُ إليه من خلال بحثي في الإنترنت. وطلبت منه أن يجمع المحققين لأخبرهم بما توصلت. وأمام المحققين قلت: خرجتْ فتاة اسمها كولين ستان، وهي شابة في العشرين من عمرها، في عام 1977 ، من منزلها في يوجين، وكانت تقصد كاليفورنيا، واعتمدت طريقة التنقلات المجانية. وفي طريقها إلى هناك استقلت سيارة "كاميرون هووكر" وزوجته جان. أخذاها إلى الغابة وهناك قيّدا يديها، وعصبا عينيها، وأخذاها إلى منزلهما. حبس هووكر ستان في صناديق، وكان يخرجها كلما اراد. كان يعذبها، ويغتصبها، ويرعبها. استمر هذا الوضع لمدة سبع سنوات. وفي النهاية أطلقت الزوجة سراح ستان. اعتقل هووكر سنة 1984، وأدين بتهمة الإختطاف، والإعتداء، وعدد من التهم الأخرى. وقامت وسائل الإعلام بتغطية هذه القضية بشكل هجومي. وقعت محنة كولين ستان في "رد بلوف"، كاليفورنيا. و"رد بلوف" تقع على بعد أربعين ميلاً من شيكو. وفي سنة 1985، كان ستيفن مينارد طالباً في السنة النهائية في جامعة شيكو. وفي العام نفسه اختفت فتاة تدعى آنجي روبنسون. اختفت في منطقة تسمى كورنينغ، ما بين شيكو ورد بلوف... ولديّ ما يكفي من الأسباب التي تدفعني للإعتقاد أن أحد هياكل فتيات قبو مطعم البيتزا يعود لآنجي روبنسون. إنها الفتاة ذات المعصم المكسور. أعتقد أن مينارد قرأ قصة ستان في الصحف، وقلدّها على ضحيته آنجي. والآن أعتقد أن مينارد يحجز آنيغ بومرليو عنده عنوة، وأن آنجي روبنسون، والفتيات الأخريات اللاتي جرى دفنهن في القبو، كانوا من أسراه.
الإثنين، الإثنين .. استخرجت في يوم الإثنين قبل الماضي عظام ثلاث فتيات صغيرات السن. وانتزعت يوم الإثنين الماضي ريشتين من فم لويز بايرنت. وغداً الإثنين ماذا يمكن توقع ما قد يحدث ؟ ارتعدت خوفاً بسبب التفكير بما يمكن أن يحمله لي يوم الإثنين التالي. استحصل كلوديل على أمر تفتيش لمنزل مينارد. ذهبنا إلى بيت مينارد، اليوم سنفهم منه القصة. ذهبت مجموعة من رجال الشرطة خلفنا، وتقدمت أنا ورايان وكلوديل المجموعة. ضغط رايان جرس باب بيت مينارد. لم يفتح أحد لنا الباب. ضغط رايان على جرس المنزل مرة أخرى، ولكن لم يظهر لنا أي شخص. فجأة سمعنا صوت إطلاق رصاصة، فكسر رايان وكلوديل الباب. ولما دخلنا، وجدنا مينارد مستلقٍ على الأريكة، ومال جسده إلى الجهة اليسرى، بينما استند رأسه بطريقة غريبة على خلفية الأريكة. كان هناك مسدس في يده اليمنى. حينها اقترب رايان منه وقال: لقد انتحر.
لم أعد قادرة على التفكير. ارتحت إلى واقع أن مينارد لن يكون قادراً بعد اليوم على إيذاء شخص آخر. ولكني شعرت بالقلق على آنيغ بومرليو. قلقت كثيراً لأننا لم نمتلك الأجوبة على الألغاز التي بين أيدينا. لم يكن هذا الرجل مينارد. من هو إذاً؟ وأين هو مينارد؟ فتش الرجال البيت. لاحظت أن أحد الجدران في القبو غبر مُثبّت. أزاح الرجال الحائط فرأينا غرفة معزولة تماماً عن الأصوات. بدا الأثاث في تلك الغرفة مزرياً. ظهرت هناك منصة خشبية، وعلى المنصة جلست امرأتان وأحنتا رأسيهما. وقد وضع على رقبتيهما طوقان جلديان شديدا الإحكام. وفجأة ارتفع رأس امرأة منهما. إنها آنيغ. أما المرأة الثانية فقد بقيت ساكنة ومحنية الرأس. فقلت: كل شيء على ما يرام، إننا هنا لمساعدتكما.
أخذنا الفتاتين إلى المشفى على الفور. وعندما فحصتهما الطبيبة قالت: إن آنيغ تعاني من جروح بسيطة، وهي تبدو بحال جيدة، ولا تعاني من أية علامات اعتداءات جنسية. أما الحال غير ذلك عند الفتاة الأصغر إنها تبلغ 15 أو 16 سنة من عمرها. أعتقد أن الرجل استخدم هذه الفتاة ككيس ملاكمة. فالفتاة تعاني من كسور في عدة أضلاع. هناك حروق على ثدييها وأطرافها. أعتقد أنها تعاني نوع من الفصام في الشخصية، وهي ليست سريعة الإستجابة، وحالتها الذهنية ليست سليمة مطلقاً.
من الأشياء التي تم أخذها من بيت مينارد العديد من الأقراص التي عليها أفلام إباحية. جلسنا أنا ورايان وشاربونيو نشاهد الأقراص. هناك فيلم يحتوي على الكثير من الفتيات المعلقات من أذرعهن. وكانوا مستسلمات له بالكامل، ورؤوسهن مغطاة. جاء كلوديل، وقال: إن إسم الفتاة الأخرى (دي) هو تاوني ماك جي. فتاة أبلغ والداها أنها فقدت في عام 1990.
عانيتُ من ليلة أرق أخرى، استيقظت فيها مرة بعد مرة. رن تليفوني في الساعة الخامسة. ولكنه توقف عن الرنين قبل أن أفتحه. تبين لي أن المتصل هو آن. اتصلت بها ولكن لم يرد عليّ أحد. أرسلت لها رسالة أطلب فيها منها أن تتصل بي. استحممت، ثم غادرت إلى المختبر. جاءني رايان، وقال: تبين أن بصمات مينارد المزيف تعود لشخص تافه يدعى نيل ويسلي كاتس. إنه متشرد ومجرم. وفجأة رن تليفون رايان. نظر إلى الشاشة، وقال : آسف. وأسرع بالخروج. بدأت أتصفح الجرائد عندما جاء كلوديل. قال كلوديل إن نيل ويسلي كاتس اختفى عن الأنظار في أواسط الثمانينيات. وأن مينارد الحقيقي وكاتس أصدقاء حميمين. خرج كلوديل من مكتبي، وزارني لامانش الذي قال: لم أجد أي أثر للبارود في يدي كاتس. وفجأة اتصل رايان، وقال: اختفتا؟ فقلت: من الذي اختفى؟ فقال: آنيغ بومرليو وتاوني ماك جي.
تردد صوت إطلاق النار في كافة أرجاء الطابق السفلي ذووالمساحة الضيقة . رفعت بصري نحو الأعلى، بينما كانت أجزاء من العضلات، والعظام، والأحشاء الداخلية، تتطاير على الجدار الحجري، على مسافة ثلاثة أقدام مني فقط. استدرت وقلت: كفى! تقوس حاجبا الرقيب في التحري، لوك كلوديل، وقال: جرذان! لا بد أنها من نسل الشيطان. فصرخت: يمكنك أن تقذفها بالحجارة.
أتعبتني الساعات التي جلست فيها القرفصاء في مونتريال، في يوم الإثنين البارد والرطب من شهر ديسمبر. سألته: أين شاربونيو؟ فقال: إنه يستجوب مالك المطعم. فقلت مشيرة إلى أرض الغرفة: ومن اكتشف هذه العظام؟ فقال: إنه السمكري. عثر عليها بينما كان يعمل على أنابيب الصرف الصحي. يقول إنه تعثر بها، فأخرَجَها وأخذها للمالك.
حدقتُ بالصندوق الموجود في الغرفة، إنه يحتوي على عظام. شاهدت عظمة ترقوة، وعظام حوض، ولمحت جمجمة بشرية. اللعنة ! سأكرر القول للمرة السادسة. بكّرت يوماً واحداً بالمجيء من "شارلوت" إلى "مونتريال" كي أستعد للمثول أمام المحكمة يوم الثلاثاء. اتهم رجل بقتل زوجته وتقطيع أوصالها. وأنا سأقدم شهادتي بخصوص تحليل آثار المنشار التي أجرَيتها على جمجمة المرأة المسكينة. بدت القضية معقدة، لذلك رغبت بمراجعة ملفها الذي أعددته. وجدتُ نفسي، بدلاً من ذلك، أحفر في الطابق السفلي لمطعم يقدم البيتزا.
لقد علمت من رئيسي في العمل، بيار لامانش، أن عظاماً وُجدت في قبو مطعم البيتزا. استَدعى المالك رجال الشرطة على الفور، وأسرعت الشرطة لاستدعاء الطبيب الشرعي، وتم استدعائي لأتفحص العظام. يعمل لوك كلوديل، وميشال شاربونيو بصفتهما تحريين في قسم الجرائم الكبرى التابع لمركز شرطة مونتريال. أما أنا فأعمل بصفة مختصة بعلوم الإنسان الشرعية التابعة لمقاطعة كيبيك. عملت مع هذين الشخصين على مدى السنوات الماضية. اكتشفنا أن هناك ثلاثة هياكل عظمية لثلاث نساء أكبر قليلاً من فتيات.
جئت إلى مونتريال للإدلاء برأيي بقضية ماري رايت بيتيت، التي تبلغ الثانية والأربعين من عمرها، أماً لثلاثة أولاد. عملتْ هذه المرأة في محلٍ لبيع الخبز، لكنها اختفت قبل سنتين. ومضت أربعة أشهر قبل اكتشاف جذع ماري راين المتحلل في كيس هوكي خلف منزلها. وبعد فحص العظام اكتشف أنه تم تقطيع الجثة بمنشار الحديد الذي يستخدمه زوجها والذي سيمثل اليوم أمام المحكمة بتهمة قتل زوجته.
في طريقي إلى المحكمة، فكرت بماري رايت، وشعرت بالأسى على حياة جرى اختصارها بحقد عميق. فكرت أيضاً بأولادها الذي سجن والدهم لأنه قتل والدتهم. هل يستطع هؤلاء الأولاد أن ينسوا ما حدث لهم؟ أقسمت اليمين بمساعدة كاتب المحكمة. سألتني المدعية العامة: عرّفي نفسك ؟ فقلت: تمبرانس ديسي برينان، مختصة بعلم الإنسان الشرعي، أستاذة جامعية بجامعة كارولينا الشمالية في مدينة شارلوت. وأنا عالمة بعلم الإنسان الشرعي لمقاطعة كيبيك، في مختبرات العلوم القضائية والطب الشرعي في مونتريال، وأمارس مهنتي منذ ما يقارب العشرين سنة، حيث يتم استدعائي في مثل هذه القضايا من قبل الأطباء، لأني مختصة بالهيكل العظمي البشري، حيث أقوم بفحص الجثث بعد الوفاة.
خرجت من المحكمة فوجدت الظلام الدامس يخيم على المدينة. تنقّلتْ أفكاري ما بين موضوع وموضوع. شهادتي أمام المحكمة. الهياكل الموجودة في قبو مطعم البيتزا. إبنتي كاتي. الأمسية التي تنتظرني. فتحت جهاز الراديو كي أبعد تفكيري عن هذه المواضيع.
وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى مركز الشرطة حيث سأبدأ تحاليلي على عظام مطعم البيتزا اليوم، حيث أعطيتْ العظامُ أرقام 38426 ، و38427، و38428 . اعتدتُ أن أبدأ العمل بطريقة تسلسلية، إذ كنت أنتهي من تفحص كل حالة بالكامل قبل الإنتقال إلى الحالة الثانية، ولكني اليوم قررت أن أجري تقييماً سريعاً للعمر والجنس لكل مجموعة من البقايا. بدأت بالحالة 38426 . تبين لي أنها أنثى، وأن هذه الفتاة كانت في أواسط أو أواخر سنوات مراهقتها. انتقلت بعدها إلى الحالة 38427 وبعدها انتقلت إلى 38428 . بعدها جاء التحري كلوديل إلى مكتبي. سألني إن كنت قد انتهيت من فحوصاتي. فقلت: لا. بالكاد بدأت بالفحص، ولكنني كونت بعض الملاحظات الدقيقة. فالحالة الأولى لأنثى في منتصف أو أواخر مراهقتها وأستطيع القول إنها توفيت بين السادسة عشر والثامنة عشر من عمرها. والحالات الثانية والثالثة أيضاً لإناث صغيرات السن. أما سبب الوفاة فسيتطلب هذا فحصاً مدققاً لكل هيكل عظمي. ولا أعتقد بأن الوفيات قد حدثت في الماضي السحيق، ولكن هذا يتطلب دراسة أعمق.
رن هاتفي وأنا منهمكة في العمل على العظام. كانت سيدة تقول: لقد رأيت صورتك في الصحيفة البارحة، ورأيت مقالاً بشأن العظام التي قمت باستخراجها. فقلت: ماذا بشأنها؟ فقالت: أشعر إنه من ضمن مسؤوليتي الأخلاقية أن أقول لك إني عشت في مونتريال لوقت طويل، وأعرف ماذا جرى في ذلك المبنى. فقلت: أتقصدين مطعم البيتزا؟ فقالت: هذا ما أصبح عليه الآن. فقلت لها: أجل، تابعي. وفجأة لعلع في الطرف الآخر، صوت جرس مماثل لصوت أجراس المدارس القديمة الطراز. وانتهت المكالمة فجأة.
تملكتني مشاعر متناقض. خشيت أن أكون قد فقدت هذه المرأة إلى الأبد. حاولت أن أتذكر اسمها. هل كان غالانت؟ أم بالانت؟ أم تالنت؟ ولكني لم أستطع الرجوع والإتصال بتلك المرأة مرة ثانية، لذا عملت على العظام مرة أخرى وأكملت على الحالة 38427 . تبين لي أنها أنثى بيضاء، يتراوح عمرها ما بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة. لقد وُضع هذا الهيكل عارياً في الحفرة في وضع جنيني. تركت العظام لأني شعرت بصداع وذهبت إلى منزلي.
قررتْ صديقتي آن أن تزورني هنا في مونتريال. خرجتُ إلى المطار لأصطحبها. لم أستطع أن أستنتج من ملامحها أي شيء عن سبب زيارتها. وبعد نصف ساعة بدأت آن بالتلميح عن سبب زيارتها. قالت: أبلغ من العمر السادسة والأربعين. إنني أبحث عن السلام الداخلي. إن أولادي يمضون بحياتهم، وأنا بقيت وحدي، أبيع العقارات وأزرع نباتات الأزاليا اللعينة. أريد أن آخذ إجازة وأرتحل لبعض الوقت. أشعر أن زوجي طوم لا يهتم بي كما في السابق. قلت: أليس من المبكر قليلاً أن تدمري زواجك؟ قالت: لقد اتخذت فلسفة جديدة، وهي: إقطعي علاقتك مع الماضي وابتعدي راكضة.
أخذتُ آن وذهبنا إلى منزلي. وعندما وصلنا الشقة، لاحظت أن باب شقتي مفتوح! وفجأة سمعنا وقع أقدامٍ متجهة نحونا من خلفنا. كان صديقي التحري رايان. شعرت بارتياح. فقلت: ماذا تفعل هنا ؟ فقال لي: أنا رجل مغرم، ولا أستطيع البقاء بعيداً. فقلت له: أعتقد أن شخصاً ما قد اقتحم منزلي. تناول رايان مسدسه، وتوجه نحو الباب. طرق على الباب وقال: الشرطة! لم يكن هناك أي جواب أو حركة. دخل رايان إلى البيت وتقدمتُ أنا من ورائه، ولكن لم يكن هناك أحد في المنزل. أشعلتُ الأنوار في المنزل فرأيت الفوضى التي عمت بالمكان. كانت وسائد السرير ممزقة، والأدراج خارج أماكنها. بدا أن كل موجودات الخزائن قد تعرضت للتفتيش. اتصل رايان برجال مكافحة السرقات، وانصرفت وآن لتقييم الأضرار.
ولكن لماذا لم يسرق اللص كيس المجوهرات؟ ولماذا لم يسرق التلفزيون؟ أو جهاز الكمبيوتر المحمول؟ هل كان القصد من هذا العمل توجيه تهديد لي؟ أم توجيه إنذار يا ترى؟
في اليوم التالي، وصلتني رسالة صوتية على بريد تليفوني. كانت من المرأة التي اتصلت بالأمس، وقالت فيها: دكتورة برينان. أشعر أنه يتوجب عليّ القيام بمحاولة أخيرة، وإلا فلن أكون قادرة على التعايش مع ذاتي. اتصلت قبل يومين لأحدثك بشأن المقالة المنشورة في صحيفة لو جورنال. أعتقد أنني أعرف من الذي مات، وأعرف كذلك سبب موته. أنت تعرفين إسمي، لذا تستطيعين الإتصال بي على الرقم 514937 . حينها اتصلت على الفور بالرقم ولم أتلقَ أي جواب! ذهبت وآن إلى قصر العدل للإستعلام عن أسماء الذين امتلكوا مبنى مطعم البيتزا. تركتني آن هناك وذهبت للتسوق. اكتشفت في سياق بحثي هذا أن ملكية المبنى تغيرت عدة مرات، ولكن هناك اسم استوقفني. إنني أعرف هذا الإسم، هل هو سياسي محلي؟ هل هو مطرب؟ حدقت بالإسم، وحاولت أن أتذكر ما يعنيه لي. لاحظت أن تاريخ نقل الملكية يعود إلى ما قبل قدومي إلى مونتريال، إذاً لماذا يقرع هذا الإسم ناقوساً في ذاكرتي؟ وأخيراً تعرفت على الإسم، لذا تناولت سترتي وانطلقت خارجة لألتقي بآن.
التقيت بآن في أحد المطاعم، وهناك قلت لها: هذا المبنى انتقل إلى ملكية نيكولو كاتانيو عام 1970 . نيك كاتانيو الملقب بالسكين. اتسعت عينا آن الخضراوين نتيجة الدهشة، وقالت: أتعنين رجل المافيا؟ فأومأتُ رأسي مؤكدة. حافظ هذا الرجل على ملكية المبنى لمدة عشر سنوات، وبعدها انتقلت الملكية إلى ريتشارد ساير في 1980 ، وما زال ساير يمتلك المبنى بحسب السجلات الرسمية. أما السيد ساير فيعيش الآن في نوتردام دي غرايس.
اقترحت آن أن نذهب لمقابلة السيد ساير. وصلنا بعد عشرين دقيقة إلى حيث يعيش السيد ساير. لفت نظري وجود شرفة أمامية للمنزل تظللها ستائر باهتة اللون. ضغطت زر الجرس. وبعد دقيقة فُتح الباب بغتة وظهر أمامي رجل من خلال زجاج باب الألومنيوم الخارجي. لم نلحظ علامات الإرتياح على الرجل، ولم تكن ملامحه هي التي أقلقتنا. بدأنا، أنا وآن بالتراجع عن الشرفة.
وقف الرجل القصير والنحيل، ذو الشعر الأبيض المائل إلى الصفرة، والشاربين الرماديين الكثيفين أمامنا. لم يكن الرجل يرتدي شيئاً، فقال معتذراً: أنا كاثوليكي. فقلت له: إني أقوم بجزء من تحقيقٍ يتعلق بالمبنى الذي تملكه، ويتعين عليّ طرح بعض الأسئلة بشأن عمارتك. ففتح لنا الرجل الباب، فدخلنا. وغاب ليرتدي ملابسه. وبعد أن رجع قلت له: هل اشتريت مبناك من نيكولو كاتانيو؟ فقال: أجل. فقلت: منذ متى افتتح مطعم لو بيتزا باراديز إكسبرس؟ فقال: إنه يعمل منذ العام 2001 . سألته: هل تعرف أسماء المستأجرين السابقين. قال: نعم. أتذكرهم واحداً واحداً. ثم مد لي السيد ساير ملفاً بتاريخ المبنى وكل ما مر عليه من مستأجرين. ثم قال: لقد أخبرني ذلك المحقق عن الجثث في القبو. فقلت لنفسي: "ذلك السافل كلوديل يبعدني عن دائرة التحقيق". سألته: ولكن سيد ساير، ما الذي حدث بحسب اعتقادك كي يدفن ثلاثة أشخاص في قبوك؟ فقال: لا بد أن شراً ما قد حدث قبل أن أمتلك المكان. فقلت: كيف يمكنك أن تكون متأكداً إلى هذه الدرجة؟ فقال الرجل: هل التقيتِ بنيكولو كاتانيو ذات يوم؟ فهززت رأسي بالنفي. فقال: إذاً انتبهي على حياتك. ودّعناه، وغادرنا المكان.
في اليوم التالي، صبيحة يوم الإثنين، تركتُ آن تغط في نوم عميق، وذهبت إلى مركز الشرطة. وهناك وجدت مفاجأة اليوم الأولى بانتظاري. ذهبت إلى مكتب المحقق شاربونيو وقال لي هناك: إنه تحقق من مكان المرأة غالانيت أو بالانت أو تالنت بعد تتبعها من مركز الشرطة. وأعطاني عنوانها. ولكن لم تكن هذه مفاجأتي، فعندما ذهبت إلى الإجتماع اليومي لفريق العمل المختص في قسم الطب الشرعي، والذي يرأسه بيار لامانش. وجدت أن من بين الضحايا امرأة تدعى لويز بايرنت. حيث وجدتْ مقتولة في سريرها. انتقلتُ ببصري إلى السطر التالي، ولكنني شعرت بهبوط في قلبي أشبه بهبوط صخرة. فلقد تطابق العنوان الذي ظهر نتيجة تتبع مصدر المكالمة الهاتفية مع العنوان الموجود في ملف القضية. وهذا يعني أن غالانت، أو تالنت، أو بالانت هي لويز بايرنت. ولقد قتلت.
عندما رأيت لويز بايرنت على الطاولة شعرت بوخزة الأسى تخترقني. لكنني حاولت التغلب عليها. انحنيتُ لأتفحص بايرنت من جميع الجهات. بدت الأسنان نظيفة بالرغم من بعض البلى، ولكن هناك شيء لفت انتباهي شيء ما يتواجد بين القاطعة الجانبية اليمنى وبين الناب. اقتربت أكثر، وتأكدت من وجود شيء هناك. تناولت العدسة المكبرة فبدت لي التفاصيل أوضح تحت التكبير، فناديت على لامانش.
قال لامانش: إنها ريشة. ثم لاحظ لامانش وجود بثرات على العينين، ونقاط حمراء دقيقية، بالإضافة إلى لطخات تدل على التصلب على الملتحمة. فقلت: تبدو مثل البثور التي تظهر في حالة الإختناق، لذا يُحتمل أن تكون قد خنقت بوسادة فيها ريش.
بعد ذلك بدأت بإلقاء نظرة على الحالة 38428 . تبين لي أنها لأنثى بيضاء، ويرجح أنها ماتت بعمر يتراوح ما بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين.
أخبرني لامانش بأنه وجد فائضاً من الهيموغلوبين الخالي من الأوكسجين في الدم الوريدي لجثة لويز بايرنت، الأمر الذي يدل على تعرضها للإختناق.
مضت عدة أيام ولم تظهر أية حالة وفاة تتطلب فحصاً من عالم أنثروبولوجيا متخصص. كانت آن تقضي معظم وقتها في النوم، وتقول بأنها تعبانة. وجدت في بريدي الإلكتروني صباح يوم الخميس نتائج اختبارات الكربون 14 للهياكل العظمية الثلاثة. نقرت زر التحميل، وكان الجواب بديهياً جداً. ذهبت على الفور إلى مكتب المحقق لامانش فقرعت عليه الباب فقال لي: وجدتْ هيئة المحلفين أن السيد بيتيت مذنب بكل الأحوال. كانت شهادتك حاسمة في المحكمة، ولكن ما سبب وجودك هنا؟ فقلت: حصلت على نتائج اختبارات الكربون 14. وُجدتْ النسبة المئوية للكربون 14 في الحالة رقم38426 عالية، وهذا يعني أن الفتاة توفيت بعد العام 1950 ، في أواخر الخمسينيات أو في أواسط أو نهاية الثمانينيات. أما الفتاتان ذواتا الأرقام 38426 و 38427 ، فإن نسبة الكربون عالية جداً، مما يعني أن تاريخ وفاتهما يعود إلى أوائل الخمسينيات أو إلى أوائل التسعينيات. فقال لامانش: إذا كانت الفتيات قد اختفين خلال السنوات العشرين الماضية، فمن الممكن أن تكون أسماؤهن قد دخلت في ملفات جهاز الكمبيوتر. اتصلتُ بالمحقق كلوديل وأخبرته بالنتائج. فقال: إننا نضيع وقتنا إذا تبين لنا أن وفاة الفتيات قد حدثت في الخمسينيات. فقلت: يحتمل أن لا توافقك عائلات الضحايا على هذا الرأي. فقال كلوديل: إذا كانت الفتيات مرتبطات مع كاتانيو، فلربما كن مومسات. فقلت: من المحتمل، ولكن أعتقد يا سيد كلوديل إنهن يستاهلن شيئاً أفضل من قبر منسي تفوح منه رائحة العفن، وذلك بغض النظر عن طبيعتهن. لم نستطع أن نمد العون للفتيات عند موتهن، ولكن ربما نستطيع حماية فتيات أخريات من تلقي المصير نفسه في المستقبل.
ذهبتُ إلى المختبر وبدأت بالعمل على الهياكل الثلاث. جاء طبيب الأسنان الشرعي بيرغيرون. سألني عن الهياكل. فقلت له إنا وجدناهم في قبو مطعم البيتزا، وإنهم ماتوا بعد العام 1950. قلت له: هل لديك اقتراح ما؟ أخذ الطبيب يفحص الأسنان للضحايا. أخذ أولاً أسنان الهيكل رقم 38428 وأخذ يتفحصه، ثم قال وهو يصوب المصباح نحو الأسنان السفلى: يكفي هذا لينزع شكوكك بشأن تواريخ الوفاة. أنظري إلى هنا هل ترين لمعاناً بين طبقة الميناء؟ فلاحظت لمعاناً خفيفاً. فقال: إن الطواحين قد عولجت بالحفر، ووضعت بعد ذلك مادة لسد الفجوات. وهذه المادة قدمت لأطباء الأسنان في أوائل السبعينيات. وانتشرت بشكل واسع منذ الثمانينيات. ومن أسنان هذه الفتاة أقدر عمرها بين الثامنة عشر والحادية والعشرين.
بعدها جاءني اتصال من الطبيب آرت هوليدي الذي يقوم بتحليل قيم السترونتيوم. قال لي: الفتاتان اللتان تحملان رقمي 38426 و 38427 معدلات قيم السترونتيوم عندهما متقاربة أما الفتاة رقم 38428 فمعدلات القيم عندها مختلفة وهذا يعني أنها لم تولد في نفس المنطقة التي ولدت فيها الفتاتين الأخريين. وبحسب القيم العالمية نجد القيم للفتاة 38428 مماثلة لقيم شمال ووسط كاليفورنيا أما الفتاتين الأخريين فنتائجهما مطابقة لنتائج منطقة فيرمونت ومنطقة مونتريال. أما بالنسبة للعظام فقيم السترنتيوم للفتاتين في العظام مماثلة لتلك التي في الأسنان، وهذا يعني أن الفتاتين بقوا في منطقتهما، أما الفتاة 38428 ،بحسب نتائج عظامها، فقد تكون تلك الفتاة نشأت في مكان معين ولكنها أمضت الأعوام القليلة من حياتها في مكان آخر.
أغمضت عيني وبدأت أفكر في الهياكل. وعندما فتحت عيني، رأيت رايان أمامي. فقال لي: أعرف. ستقولين ماذا تفعل هنا ؟ صحيح ؟ فقاطعني رايان قبل أن أبدأ في الكلام، وقال: إنني رجل شرطة. فقلت له: ما أخبار لويز بايرنت، وهل هناك أخبار عن اختها التي ترعاها روز فيشر؟ فقال: لا أخبار. ولكن اليوم سأذهب إلى منزل فيشر. فكرت أنك ربما ترغبين بمرافقتي. وبالفعل رغبت بمرافقته.
انتقلت أنا ورايان إلى منزل لويز. شاهدنا الستائر مسدلة ولكننا لاحظنا أن ضوءاً أصفر يتسلل من وراء إحدى الستائر. خرج رايان لوحده من السيارة وقال لي أن أنتظر مكاني. انتظرت بضع لحظات قبل أن أتبعه. قرع رايان جرس الباب. وبعد قرع الباب عدة مرات أضيء نور في غرفة المعيشة. ثم انفتح الباب قليلاً، وتسلّل وجه من فتحته. كان آخر وجه توقعت رؤيته.
قالت: من أنتما؟ فأبرز رايان شارته. فقالت: هل أنتما الشرطة؟ فقال: هل نستطيع الدخول سيدة فيشر؟ فقالت: أين لويز؟ أين أختي؟ حينها دخلنا أنا ورايان إلى البيت. فقال رايان: أنا آسف لإبلاغك أن شقيقتك قد توفيت. بدأت بالبكاء. حينها أحطت المرأة بذراعي، وكررت قولي: أنا آسفة ! فقالت: ما كان يجدر بي أن أترك لويز وحدها في أوقات كآبتها. ثم انهارت على مقعدها. سألتها: هل تعوّدت شقيقتك أن تنام على وسادة من الريش؟ قالت: لا. عانت لويز من حساسية مفرطة. فقلت: هل تنامين أنت على وسادة من ريش؟ فتجهم وجه فيشر، وقالت: يا إلهي. لماذا؟ هل كانت وسادتي على سرير لويز؟ حينها التقت عيناي بعيني رايان.
أمضيتُ معظم هذه الليلة وأنا أعاني من الأرق، ومن انخفاض معنوياتي. وفي الصباح اتصل عليّ كلوديل فقلت له: أود الحصول على تقرير مطبوع عن كل أنثى اختفت في كيبيك على مدى العشرين سنة الماضية، من اللواتي تراوحت أعمارهن ما بين الخامسة عشرة والثانية والعشرين. وبعد الظهر انطلقنا أنا ورايان إلى بيت روز فيشر مرة أخرى. فتحت لنا الباب ابنتها كلوديا باستيلو. لم تتحرك فيشر عندما دخلنا إلى غرفة المعيشة. فقلت لها: لقد كلمتني لويز في الأسبوع الذي سبق موتها. تحدثت عن مبنى يقع في شارع القديسة كاترين. قالت إنها قلقة بشأن بعض الحوادث التي جرت هناك. قالت إنها تشعر بمسؤولية أخلاقية تدفعها إلى تزويد السلطات ببعض المعلومات. تطلعت فيشر إلى الأعلى ثم أخذت نفساً عميقاً، وقالت: أقامت لويز في شارع القديسة كاترين لمدة سبعة عشرة سنة تقريباً. أقنعتها أن تمكث عندي عندما توفي زوحي في العام أربعة وتسعين. أحبت لويز المكان الذي كانت تعيش فيه، والنظر من النافذة. ولطالما لقّبتْ نفسها بمتطفلة الحي. إلى أن فتح ذلك الرجل مكتباً للرهنيات. لم تُحبّه لويز في الواقع. كان اسمه مينارد. لقد رأتْه مرة يحمل فتاة نائمة بين ذراعيه. وكانت تلك الفتاة مراهقة. وحدث ذات مرة أن رأت شقيقتي فتاة تهرب من مكتب الرهنيات، ورأت مينارد وهو يلحق بالفتاة ويجرها إلى داخل محله. كان ذلك في وقت متأخر من الليل. ومن وقتها، ظلت لويز تتعذب بشأن ضرورة إبلاغ الشرطة. اتصلتُ بكلوديل أطلب منه تزويدي بمعلومات عن مينارد.
اتصل بي كلوديل ليخبرني بعض المعلومات عن مينارد. إنه ستيفان مينارد، من سكان فيرمونت. يملك جنسية مزدوجة: أمريكية وكندية. سكن في كندا بصفة دائمة سنة تسعة وثمانين. وهو حاصل على درجة البكالوريوس في علم الإنسان الأنثروبولوجيا. وبعدها زرعَ الرجل الخضار واعتمد على الممتلكات التي ورثها. هذا رجل ورد اسمه في قائمة ساير. أنه الرجل الذي استأجر محلاً في عمارة ساير من العام تسعة وثمانين حتى العام ثمانية وتسعين .
توصلنا إلى عنوان مينارد من الشرطة. وقفنا أمام العنوان الصحيح لبيت مينارد. ضغط رايان على الجرس. فُتح لنا الباب، فأخرج رايان شارته وقال: هل أنت ستيفن مينارد؟ فقال الرجل بلكنة أمريكية: ماذا تريد؟ فقال رايان: نرغب في التحدث إليك. فقال الرجل: اتركوني وشأني. فقال رايان: لن نرحل إلى أي مكان يا سيد مينارد. إذا تعاونت معنا فلن تأخذ أسئلتنا أكثر من دقائق قليلة من وقتك. دخلنا وراءه إلى البيت. قال رايان: ما الذي دفعك إلى إقفال مكتب الرهنيات؟ قال مينارد: لقد تاجرت بالمقتنيات الثمينة. ولكن العمل بدأ بالتراجع. وفجأة ظهرت امرأة في أواخر العشرينيات. صمت مينارد قليلاً ثم قال : ألديك مذكرة استجواب لي؟ فقال رايان: لا يا سيدي. فقال مينارد: إذاً لن أجيب عن أية أسئلة إضافية، وعليكم مغادرة منزلي. خرجنا من منزله. وفي طريقي للخروج أخذت معي فتاحة الرسائل التي تخص مينارد.
رجعت إلى مكتبي ووجدت عليه قائمة بأسماء الفتيات المفقودات كما طلبتُها من كلوديل، بينما وعد رايان بأخذ فتاحة الرسائل إلى قسم التحقيقات القضائية لفحص البصمات التي عليها. بدأت بمقارنة مواصفات الفتيات المفقودات مع الهياكل التي وجدناها في مطعم البيتزا. ولكني أصبت بالإحباط. فلم أجد حالات تتوافق مع المواصفات التي نبحث عنها. فرجعت إلى بيتي ولم تكن آن هناك. لقيت رسالة متروكة على الطاولة فأسرعت لفتح الورقة. كان فيها: عزيزتي تمب، لا أستطيع التعبير عن مدى تقديري للطفك وصبرك تجاهي. إننا متشابهتان بطرق عديدة. لست ماهرة بالتعبير عن مشاعري، ولست حتى ماهرة بالتفكير في هذه المشاعر. إنك مثالية بالنسبة لي. حان وقت إسدال الستار على صداقتنا. أعرف أنني أحبك جداً جداً، مع أنني لا أستطيع قول هذه الكلمة وجهاً لوجه. أرجوك لا تغضبي مني لأنني فعلت ذلك بهذه الطريقة .. آن .
سيطرتْ عليّ مجموعة من الإنفعالات. حاولت الإتصال بها، ولكنها لا ترد على مكالماتي. يا إلهي القدير! أريد أن تكون بخير. ماذا أفعل؟ وفجأة رن الهاتف في يدي. كان رايان، فقال لي: تمكن مكتب التحقيقات الجنائية من رفع البصمات عن فتاحة الرسائل. وجدوا مجموعتين من البصمات. فقلت: هل وجدوا بصمات مينارد، وبصمات المرأة ؟ فقال: حزرت نصف الحقيقة. لقد تبين لنا أن الرجل ليس مينارد. فقلت: إن لم يكن ذلك الرجل مينارد فمن يكون إذاً؟! فقال رايان: أما المرأة التي معه تدعى آنيغ بومرليو. وهذه الفتاة اختفت في العام 1990 عندما كانت تبلغ من العمر 15 سنة. هذه الليلة بقيت أبحث في الإنترنت. بحثت عن جميع قصص الفتيات المختطفات. وفي الصباح اتصلت برايان وأخبرته بما توصلتُ إليه من خلال بحثي في الإنترنت. وطلبت منه أن يجمع المحققين لأخبرهم بما توصلت. وأمام المحققين قلت: خرجتْ فتاة اسمها كولين ستان، وهي شابة في العشرين من عمرها، في عام 1977 ، من منزلها في يوجين، وكانت تقصد كاليفورنيا، واعتمدت طريقة التنقلات المجانية. وفي طريقها إلى هناك استقلت سيارة "كاميرون هووكر" وزوجته جان. أخذاها إلى الغابة وهناك قيّدا يديها، وعصبا عينيها، وأخذاها إلى منزلهما. حبس هووكر ستان في صناديق، وكان يخرجها كلما اراد. كان يعذبها، ويغتصبها، ويرعبها. استمر هذا الوضع لمدة سبع سنوات. وفي النهاية أطلقت الزوجة سراح ستان. اعتقل هووكر سنة 1984، وأدين بتهمة الإختطاف، والإعتداء، وعدد من التهم الأخرى. وقامت وسائل الإعلام بتغطية هذه القضية بشكل هجومي. وقعت محنة كولين ستان في "رد بلوف"، كاليفورنيا. و"رد بلوف" تقع على بعد أربعين ميلاً من شيكو. وفي سنة 1985، كان ستيفن مينارد طالباً في السنة النهائية في جامعة شيكو. وفي العام نفسه اختفت فتاة تدعى آنجي روبنسون. اختفت في منطقة تسمى كورنينغ، ما بين شيكو ورد بلوف... ولديّ ما يكفي من الأسباب التي تدفعني للإعتقاد أن أحد هياكل فتيات قبو مطعم البيتزا يعود لآنجي روبنسون. إنها الفتاة ذات المعصم المكسور. أعتقد أن مينارد قرأ قصة ستان في الصحف، وقلدّها على ضحيته آنجي. والآن أعتقد أن مينارد يحجز آنيغ بومرليو عنده عنوة، وأن آنجي روبنسون، والفتيات الأخريات اللاتي جرى دفنهن في القبو، كانوا من أسراه.
الإثنين، الإثنين .. استخرجت في يوم الإثنين قبل الماضي عظام ثلاث فتيات صغيرات السن. وانتزعت يوم الإثنين الماضي ريشتين من فم لويز بايرنت. وغداً الإثنين ماذا يمكن توقع ما قد يحدث ؟ ارتعدت خوفاً بسبب التفكير بما يمكن أن يحمله لي يوم الإثنين التالي. استحصل كلوديل على أمر تفتيش لمنزل مينارد. ذهبنا إلى بيت مينارد، اليوم سنفهم منه القصة. ذهبت مجموعة من رجال الشرطة خلفنا، وتقدمت أنا ورايان وكلوديل المجموعة. ضغط رايان جرس باب بيت مينارد. لم يفتح أحد لنا الباب. ضغط رايان على جرس المنزل مرة أخرى، ولكن لم يظهر لنا أي شخص. فجأة سمعنا صوت إطلاق رصاصة، فكسر رايان وكلوديل الباب. ولما دخلنا، وجدنا مينارد مستلقٍ على الأريكة، ومال جسده إلى الجهة اليسرى، بينما استند رأسه بطريقة غريبة على خلفية الأريكة. كان هناك مسدس في يده اليمنى. حينها اقترب رايان منه وقال: لقد انتحر.
لم أعد قادرة على التفكير. ارتحت إلى واقع أن مينارد لن يكون قادراً بعد اليوم على إيذاء شخص آخر. ولكني شعرت بالقلق على آنيغ بومرليو. قلقت كثيراً لأننا لم نمتلك الأجوبة على الألغاز التي بين أيدينا. لم يكن هذا الرجل مينارد. من هو إذاً؟ وأين هو مينارد؟ فتش الرجال البيت. لاحظت أن أحد الجدران في القبو غبر مُثبّت. أزاح الرجال الحائط فرأينا غرفة معزولة تماماً عن الأصوات. بدا الأثاث في تلك الغرفة مزرياً. ظهرت هناك منصة خشبية، وعلى المنصة جلست امرأتان وأحنتا رأسيهما. وقد وضع على رقبتيهما طوقان جلديان شديدا الإحكام. وفجأة ارتفع رأس امرأة منهما. إنها آنيغ. أما المرأة الثانية فقد بقيت ساكنة ومحنية الرأس. فقلت: كل شيء على ما يرام، إننا هنا لمساعدتكما.
أخذنا الفتاتين إلى المشفى على الفور. وعندما فحصتهما الطبيبة قالت: إن آنيغ تعاني من جروح بسيطة، وهي تبدو بحال جيدة، ولا تعاني من أية علامات اعتداءات جنسية. أما الحال غير ذلك عند الفتاة الأصغر إنها تبلغ 15 أو 16 سنة من عمرها. أعتقد أن الرجل استخدم هذه الفتاة ككيس ملاكمة. فالفتاة تعاني من كسور في عدة أضلاع. هناك حروق على ثدييها وأطرافها. أعتقد أنها تعاني نوع من الفصام في الشخصية، وهي ليست سريعة الإستجابة، وحالتها الذهنية ليست سليمة مطلقاً.
من الأشياء التي تم أخذها من بيت مينارد العديد من الأقراص التي عليها أفلام إباحية. جلسنا أنا ورايان وشاربونيو نشاهد الأقراص. هناك فيلم يحتوي على الكثير من الفتيات المعلقات من أذرعهن. وكانوا مستسلمات له بالكامل، ورؤوسهن مغطاة. جاء كلوديل، وقال: إن إسم الفتاة الأخرى (دي) هو تاوني ماك جي. فتاة أبلغ والداها أنها فقدت في عام 1990.
عانيتُ من ليلة أرق أخرى، استيقظت فيها مرة بعد مرة. رن تليفوني في الساعة الخامسة. ولكنه توقف عن الرنين قبل أن أفتحه. تبين لي أن المتصل هو آن. اتصلت بها ولكن لم يرد عليّ أحد. أرسلت لها رسالة أطلب فيها منها أن تتصل بي. استحممت، ثم غادرت إلى المختبر. جاءني رايان، وقال: تبين أن بصمات مينارد المزيف تعود لشخص تافه يدعى نيل ويسلي كاتس. إنه متشرد ومجرم. وفجأة رن تليفون رايان. نظر إلى الشاشة، وقال : آسف. وأسرع بالخروج. بدأت أتصفح الجرائد عندما جاء كلوديل. قال كلوديل إن نيل ويسلي كاتس اختفى عن الأنظار في أواسط الثمانينيات. وأن مينارد الحقيقي وكاتس أصدقاء حميمين. خرج كلوديل من مكتبي، وزارني لامانش الذي قال: لم أجد أي أثر للبارود في يدي كاتس. وفجأة اتصل رايان، وقال: اختفتا؟ فقلت: من الذي اختفى؟ فقال: آنيغ بومرليو وتاوني ماك جي.
أحسست بسريان الأدرينالين في شراييني. أيعقل أن يكون مينارد قد فعل ذلك؟ تذكرت شرائط الفيديو. ذهبت إلى قاعة الإجتماعات لمشاهدتها مرة أخرى. شعرت بالإشمئزاز والمرض. يفترض أن تنشغل هذه الفتيات بالدراسة، وبالوقوع في الحب، وبانتقاء الأواني المنزلية، بدل أن يُعلّقن بمعاصمهن في قبو يفوح برائحة نتنة. أدركت فجأة شيئاً، إذا كان كاتس يظهر في أفلام الفيديو يعذب الفتيات، فمن هو الشخص الذي يقوم بالتصوير إذاً؟ هل هو مينارد؟ قمت بإعادة مشاهدة أفلام الفيديو. وفجأة، في إحدى اللقطات، ظهر المصور أمام مرآة في اللقطة. إنها آنيغ بومرليو! يا له من مهووس. هل يجبر إحدى الضحايا على التصوير بينما يعذب الأخرى؟ رن هاتفي عند الساعة السادسة والنصف. وتسبب الصوت الذي سمعته بهبوط في قلبي. سمعت صوت آنيغ تقول: تريد "دي" أن تراكِ. إنها بحاجة للمساعدة. فقلت: أنا مسرورة لأنك اتصلت بي. إننا قلقون عليكما. فقالت آنيغ: إننا في المنزل في سيباستوبول. فقلت: سآتي مع التحري رايان. فقالت آنيغ: لا أريد رجالاً. فقلت: أنا في طريقي إليكِ. لم يكن من المنطق أن أذهب هناك بدون إخبار أحد من المحققين بمكان ذهابي. اتصلت بشاربونيو، إلا أن تليفونه كان غير متوفر. فاتصلت على مركز الشرطة وتركت رسالة إلى شاربونيو بالمكان الذي سأذهب إليه. وفجأة رن هاتفي. وسرعان ما تلقيت صدمة أخرى: إنها آن تقدم إليّ اعتذاراتها. ومن دون مقدمات قلت لها: أين أنت؟ فقالت: أنا عند راهبات العناية الإلهية في الدير. فقلت لها: سأمر لاصطحابك.
خرجت آن من الدير وهي ترتعش من البرد. فأخبرتها بما حدث لي أثناء غيابها، وما جرى مع الفتيات. فأصغت إليّ دون مقاطعة، وبان التوتر على قسمات وجهها. قالت لي أخيراً: أريد المشاركة معك في هذه العملية. سأذهب معك. فأخذتها معي إلى منزل آنيغ. أوقفت السيارة أمام بيت الفتيات، وقلت لآن : إبقي هاتفي معك. سأتصل بك من الداخل أو سأؤشر لك خلال عشر دقائق، وإذا لم أفعل هذا اتصلي برايان. ستجدين رقمه موجود على لائحة الإتصالات السريعة، أو اتصلي ب 911 إن لم يرد. =نزلت إلى البيت لوحدي. ودخلت إلى المنزل بعدما فتحت آنيغ لي الباب. مشيت إلى الرواق حيث تجلس تاوني هناك، وجلست إلى جانبها. قلت: ستكونين بخير يا تاوني. وفجأة سمعت طرقة قوية على الباب. وسرعان ما انفتح الباب، ونادتْ آن: مرحباً! فقالت آنيغ: لقد كذبتِ عليّ. فقلت لآن: ماذا تفعلين هنا ؟ فقالت: تلقيت اتصالاً ظننت أنك مهتمة بمعرفة مضمونه: كان شاربونيو قد ترك لي رسالة تقول إن ستيفن مينارد مات منذ سنوات عدة، وكاتس هو الذي قتله. أدركتْ آن أنها ارتكبت خطأً كبيراً، فقالت: سأعود إلى السيارة.
اقتربت بعدها من تاوني وقلت لها: ستكونين بأمان يا تاوني. وفجأة رفعت تاوني رأسها، ورأيت حبلاً ملفوفاً على معصميها. وبعدها سمعت صوت الباب الأمامي وهو ينفتح، وامتلأت عينا تاوني بالرعب. نظرتُ حيث تنظر فتوقف قلبي عن النبض. أحسست بالدم يكاد يتفجر بوجهي. تذكرت الوجه الموجود وراء آلة تصوير الفيديو. ثم رأيت آنيغ وهي تسرع إلى آخر القاعة. ثم سمعت صوت ارتطام ما. ركضت نحو الرواق، فوجدت الباب مفتوحاً، وآن راقدة قرب الباب، وجهها نحو الأسفل، وساقاها منبسطتان فوق مشمع الأرضية. جثمت نحوها لكي أتحسس رقبتها بحثاً عن نبضات القلب، ولكن سمعت حركة ورائي. وفجأة وقعت في ظلمة دامسة.
عاد إليّ وعيي بعد فترة. ولكن أين أنا؟ نعم إنني في رواق كاتس على سجادة وسخة جداً. وفجأة شممت رائحة بنزين! ورأيت آنيغ وهي تبلل الغرفة بسائل، ورأيت تاوني جالسة على الكرسي. صعقني الخوف، إن آنيغ تنوي إحراق البيت. كافحت بكل طاقتي كي أحرر نفسي، ولكنني كنت مقيدة بإحكام. اقتربت أنيغ مني فاجتاحني الخوف. صرخت فيها: لم يقتل كاتس تلك الفتيات. أنت من قام بالقتل !! قالت: قتل؟ ما هي اللذة في ذلك؟ فقلت: أنت من أقدم على قتل فتيات صغيرات. فقط أعطني أسمائهن. لعائلاتهن الحق بمعرفة ما جرى لهن. فقالت: فلتذهب عائلاتهن إلى الجحيم، وأنت لن تستطيعي إخبار عائلاتهن أيتها الحمقاء! لن تستطيعي قول أي شيء لأي شخص. فقلت لها بنبرة مستعطفة: أهلك بحثوا عنك كثيراً. وهم مشتاقون إليك. يريدون أن تعودي إليهم! فقالت: لا أريد العودة! فقلت: ما الذي جرى لآنجي روبنسون؟ فقالت: إنها مجرد فتاة ضائعة أخرى. فقلت: آنيغ، أعرف أن كاتس ألحق بك الأذى، ثم حملك على إنزال الأذى بالآخرين. فقالت: من هو كاتس؟ فقلت: مينارد. لقد قتل كاتس مينارد ثم استخدم اسمه. قالت: مينارد، كاتس، إنهما هاويان. أنا من حكمت هنا، وأنا كنت الملكة! أنا من قتل كاتس، ومن خنق لويز بايرنت. فقلت لها: أنت عاهرة وقاسية القلب! سيجدك رجال الشرطة، ولن تتمكني من الهرب. حينها سكبت آنيغ البنزين على ثيابي. شعرت أن معدتي قد تحركت من مكانها، وأن قلبي طار إلى حنجرتي. أشعلت آنيغ عود ثقاب، ثم خرجت تاركة الغرفة ورائها تحترق بي، وبتاوني.
بدأت النار بالتزايد. لم أستطع النهوض على قدمي، فقد شدتني الحبال إلى الخلف. فصرخت على تاوني. طلبت من تاوني أن تنبطح على الأرض. استجابت لكلامي وانبطحت على الأرض. اقتربت منها. لاحظتُ أن يديها ورجليها غير مقيدتين. فقلت: تاوني، عليكِ أن تساعديني. تستطيعين أن تنقذينا نحو الإثنتين. فِكي قيودي يا تاوني. استجابت تاوني لكلامي أيضاً وقامت بفك وثاقي. زحفنا إلى مدخل البيت، وخرجنا إلى الخارج. سألت تاوني إن كانت رأت امرأة أخرى في البيت. فقالت: نعم. في الخلف. دخلتُ مرة أخرى إلى المنزل واستطعتُ إخراج آن. وفجأة سمعت صوت صافرات الإنذار.
نهضت من سريري بعد مضي عشر ساعات على وصولي إلى المشفى بسيارة الإسعاف. إنني أعاني من بعض الحروق، بينما تعاني آن من بعض الإرتجاج وستخرج غداً من المشفى، بينما انتقلت تاوني إلى المشفى العام. لم تمسك الشرطة إلى الآن بآنيغ . ثم غادرتُ المشفى إلى البيت.
ذهبت إلى مركز الشرطة لأفهم القصة منهم. اجتمعت مع المحققين كلوديل وشاربونيو، فقالا لي: لقد تقرب كاتس من مينارد ثم قتله. وخدع بشكله المشابه من مينارد بعد ذلك أقارب مينارد بشخصيته المنتحلة، فتظاهر أنه ستيفان مينارد، واستأجر محلاً من عند ساير. وهناك دفن آنجي روبنسون. ثم خطف بعدها آنيغ وعذبها، فحاولت آنيغ أن تسترضيه، ويحتمل أن تكون قد اقترحت عليه الحصول على ضحية أخرى. وأصبحت بعد ذلك هي المتحكمة بالأمر، أو نستطيع القول إنهما اتحدا سوية. وبعد ذلك اتخذوا أسيرتين إضافيتين. وهذا يعني أن آنيغ تعرف هوية الفتيات في القبو.
في اليوم التالي زارتني في مكتبي الطبيبة النفسية التي تعالج تاوني برفقة تاوني. قلت لتاوني: أنا سعيدة لرؤيتك. أود أن أشكرك لإنقاذك حياتي. قالت تاوني لي: أنتِ أنقذتِ حياتي. لقد طلبتُ زيارتكِ لأنني أردتك أن تريني. أردتك أن تري أنني كائن بشري، ولست كائناً موضوعاً في قفص. تقدمت نحوها. عانقتها وشرعت بالبكاء، وقلت لها: لم أفكر بك إلا كإنسانة يا تاوني، وهذه هي حال الأشخاص الذين يساعدوك الآن. إنني متأكدة من أن عائلتك تريد بشدة أن تعودي إليهم. نظرتْ إليّ، تراجعت تاوني إلى الخلف، وقالت: وداعاً يا دكتورة. فقلت: وداعاً تاوني.
أتت فترة الأعياد، ورحلت. أشرقت الشمس وغربت على مدى شتاء كامل من أيام الإثنين. وجد المحققون مفكرة في قبو دي سيباستوبول. تضمنت المفكرة أسماء العديد من الفتيات. تعرف المحققون على الهيكل العظمي الأول على أنه يعود إلى ماري باستيان، والهيكل الثاني لفتاة تدعى مانون فيوليت، والهيكل الثالث لآنجي روبنسون.
عادت آن إلى زوجها طوم، وانخرطا في دورة استشارية سريعة. لم أتصل بتاوني ماك جي ثانية، لكنني علمت أنها خضعت لبرنامج علاجي مكثف. علمت أنها انتقلت إلى بلدتها، والأطباء كانوا متفائلين بشأنها. عممت دائرة الشرطة صورة آنيغ بومرليو عبر القارة بأكملها. وعرفت أن دائرة شرطة مونتريال تلقت عشرات الإخباريات عن مشاهدات لآنيغ في أماكن عديدة. ويستمر البحث عن آنيغ بومرليو. وعن كل الفتيات المفقودات ..
النهاية.