القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: قاطف الفراولة: مونيكا فيث. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.


لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجوشو ...الرابط التالي :

https://www.youtube.com/channel/UChQ8cuMtdK57I-YRZ_qtHPg?view_as=subscriber


"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب


تلخيص رواية: 

 قاطف الفراولة: مونيكا فيث. 

إعداد وإشراف: رجاء حمدان.   



 



هذا اليوم هويوم مشمس وحار تكاد تشم رائحة الحرارة في الهواء، وتخال جلدك يحترق. كان الشاب قاطف الفراولة يشعر بالعرق يتقطر من جسده مع كل حركة يقوم بها، الأمر الذي زاد الطين بلة على مزاجه المتعكر، والمتحضر للإنفجار.

 بعد ساعة من الآن، سوف يحين وقت راحة الغداء التي تمر بسرعة، قبل أن يعود الى العمل مجدداً. يدرك قاطف الفراولة خطورة ما يحدث عندما يحس بارتجاف أصابعه وينتابه التوتروالقلق . ولذلك، يجب عليه أن يشغل نفسه بالعمل باستمرار. رفع برأسه إلى الشمس الساطعة وقال راجياً: أرجوكِ أن تحرقي أفكاري، أرجوكِ أن تحرقي مشاعري. 

 كنت أقود سيارتي بهدوء على طريق القرية والنسائم الحارة تلفح وجهي و تحمل إليّ عطر الفراولة الطازجة من خلال النوافذ المفتوحة. فكّرتُ في الطقس الحار الذي وصلنا باكراً في هذ العام ، فيما كنت أشعر بالتصاق تنورتي على أعلى ساقيّ، وبقطرات العرق تتصبب من فوق شفتي العليا.

 تابعتُ القيادة من فوق الطريق الطويلة والمتعرجة نحو البيت، وكما في كل مرة أزورفيها بيت والدتي، أخال نفسي وكأنني أمثل في فيلم سينمائي ولا أعيش الحقيقة. إذ أن كل ما في هذا المكان رائع إلى درجة خيالية لاتوصف . دخلت المنزل واتجهت فوراً إلى حجرة أمي في الطابق الأول. كان باب الحجرة مغلقاً والسكون مخيم، اعتقدت أن أمي نائمة فدخلت بحذر وبهدوء فشاهدتها تجلس إلى مكتبها وأمامها كومة من الأوراق. التفتتْ نحوى وقالت: جنّا ! كم قدومك جميل!

 أمي كاتبة معروفة ذات شهرة واسعة إكتسبتها من خلال كتابتها لعدد من القصص البوليسية الناجحة. ولكن أبي لم يأخذ عملها هذا على محمل الجد، وكان يسميه ضرباً من الخربشة. 

 ومع مرور الأيام ، صرنا أغنياء بفضل أمي وكتاباتها. فقام أبي بشراء طاحونة المياه التاريخية والبناء الملحق بها، وما حولهما من مروج خضراء. وقامت أمي بتحويل البناء البسيط إلى منزل واسع وجميل. ووظف أبي عنده سكرتيرة جميلة نحيلة إسمها آنجي. وبعد مرور عامين على شراء المنزل ، وضع والديّ نهايةً لزواجهما واتفقا على الطلاق. 

نزلنا أنا وأمي إلى الطابق الأرضي. سألتها: ما وأخبار نشاطك في القصة الجديدة ؟ فقالت: أظن أنها ستكلفني عدة سنوات من حياتي. كنت ياعزيزتي أكتب بطريقة أفضل قبل أن تتركي البيت. أشتاق لروتين حياتنا في تلك الأيام. شربنا القهوة بهدوء وصمت. ثم سألتني: ولكن ما سبب قدومك الى هنا اليوم؟ كان سؤالها مهماً، ولكنه لن يلقى جواباً مني لأني ربما كنت أعلم السبب عندما وصلت، أما في تلك اللحظة، فكنت قد نسيت. 

وُجدت الفتاة المقتولة بين العشب الأخضر الكثيف مُمددة على ظهرها وعارية. ومن الواضح أن المجرم قد قام بقص شعرها. وعيناها مفتوحتان نحو السماء؛ فكأنّ آخر ما أحست به تلك المسكينة قبل الموت هو المفاجأة. عُرف، فيما بعد، أن الجثة تعود لفتاة في الثامنة عشرة من عمرها. اغتُصبت أولاً، ثم قُتلت بطعنة مباشرة قاتلة في القلب. إسم الفتاة سيمونا ريدلف. شارك في مراسم دفنها معظم أهالي البلدة، وسالت بغزارة عليها الدموع. قال المفتش العام بيرت ملزيغ عن حادثة مقتل الفتاة سيمونا ريدلف، إنها تشبه إلى حد كبير الجريمتين اللتين حصلتا منذ سنة مضت، ولم تستطع الشرطة أن تصل إلى حل بشأنهما بعد. 

 كان منهكاً خائر القوى من شدة التعب، ولم ينم بعد. ما يزال طعم الإثارة تحت أسنانه. تحدث في نفسه: "لماذا خذلتِني يا فتاة؟". لأنها عن قرب لم تكن تبدو مثل جنيّة، فجنيّته يجب أن تشبه تلك الموجودة في كتب الأطفال. كانت من المدخنات، قدمت إليه سيجارة ذات مرة. ولم تدرك أنها، في تلك اللحظة، قد وقّعتْ على قرار موتها. 

ما زلتُ تلميذةٌ في المدرسة في المرحلة الثانوية. أعيش في شقة سكنية مع كارو وميرلي. في البداية، اندهشتا من أني لست عائمة بالمال كما كانتا تعتقدان، لأنني ابنة الكاتبة الشهيرة إيمكي ثالهايم. واكتشفتا لاحقاً أن كبريائي وثقتي بنفسي لا يسمحان لي أن أطلب من والديّ مالاً أكثر من الحد الازم والضروري الكافي لمصاريفي البسيطة. 

تمر الأيام على قاطف الفراولة ببطئ ورتابة؛ كلها متشابهة. ولكن الرتابة تُؤمّن نوعاً ما شعوراً بالإستقرار يساعده على تهدئة فورانه ولو إلى حين. تلك الرغبة الجامحة التي تقضّ مضجعه كانت أشبه بالوحش الذي لا يشبع. كان يملك القليل من الكتب مثل كتاب الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، ، وكتاب فرانكنشتاين لماري شيللي. وكتاب العطر لباتريك سوسكند 




 صباحاً استيقظتْ كارو من نومها ولم تجده إلى جانبها. لا بد أنه قد غادر الشقة في منتصف الليل. إنه يصر الى عدم التعرف إلى ميرلي او جنا . بحسب قوله ،لم يحن الوقت بعد . لم تقع كارومن قبل في عشق رجل من أول نظرة كما فعلت هذه المرة. كانت تظن أن الأمر يحدث في القصص فقط . ففي النظر إلى عينيه تقرأ عن جوعٍ إلى الحياة. ما زال وحشياً، كأن الأيام لم تنجح بعد في ترويضه . إنها تشعر وكأنها وقعت في الحب. الحب أولاً، وبعد ذلك تأتي الخطوبة، ثم الزواج. 

خرج من غرفة التليفون الزجاجية مسرعاً عندما بدأ بالإرتجاف على صوت أمه وهي تقول له: ناثانيال! أين أنت؟ أرجوك أن تخبرني كيف أصل إلى مكانك؟ فهو لا يتحمل بكاء أمه، كما أنه لا يريد أن يخبرها بمكانه. أمه هي الوحيدة التي لا تزال تناديه بإسمه، فقد نسي هذا الأسم، الذي يُذكّره بطفولته. تلك الطفولة التي قام بدفنها في أكفان الماضي. عليه التوقف عن الإتصال بأمه، بات الهروب الآن سهلاً بالنسبة إليه. يكفي أن لا يبقى في مكان واحد وقتاً طويلاً، وأن لا يترك أي أثر وراءه يدل عليه. سمع صديقه مالي ينادي عليه: نات !! وخرج الإثنان معاً لتناول وجبة الغداء في مطعم العمال الموجود في مزرعة الفراولة.

  بدأت أنا وميرلي في تحضير الطعام. فقالت ميرلي: لا أعلم لما تُبقي كارو أمر صديقها الجديد طي الكتمان إلى هذه الدرجة. إنها بالعادة لا تفعل ذلك ، يمكنها أن تعطينا فرصة أن نلمحه من بعيد على الأقل. هل تعلمين ؟!!! تلك الجريمة التي حدثت قبل إسبوعين إنها لا تفارق ذهني. كنت أعرف تلك الفتاة. كانت لطيفة والإبتسامة لا تفارق محياها . لا أستطيع تخيلها ميتة. تخيلي أنك تتعرفين إلى شاب، وتثقين به. ثم يقوم بقتلك. إن هذا أمر مرعب. لقد توصلت الشرطة إلى الإستنتاج بأن سيمونا قد تكون دعت القاتل للركوب معها في السيارة. وأنها على الأغلب كانت تعرفه من قبل. 

أبدى افراد شرطة المباحث في الشمال اهتمامهم بالمفتش العام بيرت ملزيغ الذي قام بجولة استطلاع على آخر أحداث الجريمتين في الشمال. لقد انقضى الآن أربعة عشر شهراً على الجريمة الأولى، وإثنا عشر شهراً على الثانية، وقد توارى ذكرهما عن أذهان الناس، وأيضاً عن الصحافة. لقد أخفقت الشرطة إلى غاية الآن في التوصل إلى أي خيط أو نتيجة تنير الطريق في تحقيقاتهم بالرغم من أنها طرقت جميع السبل الممكنة في البحث. من المحتمل أننا نواجه الآن مجرم حاد الذكاء لا يكتفي فقط بعدم ترك أي أثر يدل عليه، بل إنه يخطط إلى انتهاج طريق جديد مخالف لما تدل عليه المعلومات المحفوظة عن أساليب الجرائم السابقة. كانت الضحايا في الجريمتين الأولتين في الشمال فتاتين، واحدة في السابعة عشر من عمرها، والثانية في العشرين من عمرها. الإثنتان كانتا تتشابهان بانهما ذات شعر أشقر طويل، وكلتاهما كانتا تضعان عقداً حول العنق اختفى بعد الجريمة. وكلتا الفتاتين قتلتا بسبع طعنات. كان إسم إحدى الفتيات ماريلا، والأخرى نيكول. 



قاطفو الفراولة كانوا يملئون ثلاث شاحنات بصناديق الفراولة، والمزارع كان منشغل بتعبئة الرابعة. رأيت ذلك بلمحة بصر خاطفة قبل أن أقود السيارة في المنعطف المؤدي إلى منزل أمي. وجدت جدتي تجلس في الفناء. جلست بجانبها نتحدث. ثم أتت أمي إلى الفناء، ووأخذنا نتحدث في أمور دراستي ورواياتها . وبعد تناولنا القهوة، اسأذنتُ منهما وقلت: سوف أذهب إلى القرية وأشتري بعض الفراولة إلى ميرلي وكارو. 

كان جده يقول: لا تقع في حب أحد، لأنك سوف تبقى عبداً لمن وقعت في حبه حتى بعد نهوضك من وقعتك. أحس بموجة كبيرة من الحرارة تجتاح جسمه ، وسمع صدى نبضه يتردد في أذنيه. كانت والدة ناثانيال قد وضعت طفلها في سريره وغادرت البيت في اليوم التالي. غادرتْ من دون طفلها ناثانيال. لم تعد أمه إلى البيت إلا بعد وفاة جده. عادت متزوجة من رجل ضعيف سقيم، يعاقر الخمرة طوال الوقت . 

كنا نجلس لوحدنا في الشقة عندما قالت لي كارو: هل صادف وعشت في حياتك علاقة حب مع حبيب لا يريد شيئاً منك ؟ قلت: ماذا تعنين؟ قالت كارو: لقد طلب مني أن لا أخبرعن علاقتنا أحداً . قال إنه يريد التأكد أولاً من صحة حبنا؟ قلت: وما السبيل إلى ذلك على حد رأيه؟ قالت : الإنتظار. إنه لا يلمسني. حتى إنني لا أعرف إسمه. قلت: وكيف تناديه؟ قالت كارو: في كا مرة اخترع إسماً جديداً له . قلت لها: نصيحتي لك أن تقطعي فوراً علاقتك به. لدي إحساس غير مطمئن من ناحيته. قالت: هذا غير ممكن. فأنا واقعة في حبه.

 قضيتُ ليلة عند والدتي. وعندما عدت إلى سكني مع ميرلي وكارو، قالت لي ميرلي: لم تعد كارو إلى البيت. لقد أمضتْ الليل بأكمله في الخارج. فسريرها لا يزال مُرتّباً. احساس غريب يساورني ويجعلني قلقة. فقلت: أي إحساس غريب تتحدثين عنه ؟ فقالت ميرلي: لا تقلقي يا جنّا، ولكن أتمنى لو أرى كارو في باب المطبخ الآن. 

فوجيء بالدموع الغزيرة المنهمرة على خديه؛ فهو لم يبك منذ وقت طويل. ومنذ وقت طويل لم يكن يشعر بألم مثل هذا! كان وجهها صبوحاً منيراً كوجه السيدة العذراء؛ وشعرها كشعر طفل صغير؛ والبراءة كانت ظاهرة في عينيها. كانت مستلقية هناك مثل الفتيات الأخريات. وجسدها مطعوناً سبع طعنات. عيناها الواسعتان موجهتان نحو السماء. نظرة تنم عن الشعور بالمفاجأة. ما زالت الشرطة تجهل هوية الضحية. كان بيرت ملزيغ يشعر بأن هناك رابطاً مشتركاً بين الفتيات الأربع، ولكنه غلى الآن يجهل ماهية هذا الرابط. 

بعد نقاش طويل بيني وبين ميرلي قررنا، تبليغ الشرطة عن اختفاء كارو. فقام الشرطي الذي قابلناه باتصال هاتفي؛ وطلب منا الإنتظار ريثما يقابلنا ضابط المباحث. إصطحبنا الشرطي إلى حجرة لا تحتوي إلا على طاولة وبعض الكراسي. دخل علينا الضابط بيرت ملزيغ، وبدأ يطرح علينا أسئلة كثيرة و من كل نوع. انتابني شعور خفي وغير مفهوم ينذر بحدوث فاجعة، فتقطعت أنفاسي وتقلصت معدتي . لم تكن حالة ميرلي أفضل من حالتي. أخبرنا الضابط إنهم قد وجدوا فتاة ميتة هذا الصباح، وسألنا إن كنا على استعداد للتعرف عليها. حينها تجمدت في مكاني وأحسست بضعف في أوصالي . 

أخذنا الضابط إلى مبنى قديم. كانت الفتاة الميتة مغطاة بشرشف أخضر؛ أحسست بدمي يتدفق في أذني وحنجرتي. ولأول مرة منذ زمن طويل أحسست بحاجتي إلى أمي. نظر إلينا الضابط بتمعن وكأنه يقيس قدرتنا على الإحتمال. ثم قال الضابط: هل أنتما جاهزتان لرؤية الفتاة؟ هزت ميرلي رأسها بالإيجاب . حينها ظهر أمامنا رجل يلبس سترة خضراء؛ وسحب الشرشف الأخضر نزولاً بعض الشيء فتكشف وجهه الفتاة . تركت ميرلي يدي ونظرت إلى الجثة، ثم رجعت بسرعة إلى الوراء. ثم سمعت صوت تقيئها قرب باب الغرفة. 

كانت كارو مغمضة العينين، وبيضاء الوجه كأنها تمثال من رخام. التعبير الظاهر على ملامح وجهها أخافني. نزلت الدموع من عينيّ. انحنيتُ وطبعت قبلة على جبينها. ثم بكيت بشدة وقلت لصاحب السترة الخضراء: رجاءاً ضعوا فوقها غطاءاً آخراً لكي لا تشعر بالبرد. فهز رأسه. لم يقل لي أن الأموات لا يشعرون بالبرد.

 كانتْ مستغرقة لأذنيها في عملها عندما دق جرس الهاتف. عرفتْ من الرقم الوارد امامها أنها جنّا فقالت: حبيبتي، ليس هذا وقتاً مناسباً للإتصال. بطل القصة سوف يتحدى جميع معطيات المنطق و.. أوه ما بك جنّا؟ لماذا تبكين ؟ أرجوكِ اهدئي قليلاً. فقالت جنّا: كارو.. إنها .. كارو يا أمي ماتت ! سيطر على إيمكي شعور بالصدمة. قالت: كيف؟ هل هي حادثة سيارة؟ فقالت جنّا: ماتت قتلاً. كادت سماعة الهاتف تقع من يد إيمكي، وإذا بنظرها يشرد من النافذة إلى البعيد، ولم تعد تسمع شيئاً.أحست بفراغ فكري مخيف. فقالت إيمكي في نفسها: "أنا أكتب كل يوم عن الجريمة ، وها إنا أصاب بما يشبه الشلل لدى حدوثها في الواقع، وفي محيط حياتي الشخصية!" 

بعد نصف ساعة وصلت أمي إلى شقتنا . ركضنا نحن الإثنتان للقائها. غمرتنا أمي بذراعيها، وراحت تجهش معنا بالبكاء. وسال الكحل عن أجفانها واختلط بدموعها. قامتْ بالتخفيف عنا وبتهدئتنا. وتناولنا البيتزا معاً ثم غادرتنا إلى منزلها . وما إن دخلتْ سيارتها حتى اتصلتْ برجل المباحث ملزيغ. قالت له: معك أيمكي ثالهايم. كيف تضع الفتاتين في مثل هذا الموقف؟ فقال: أنا جداً آسف. كيف حالهما الآن ؟ فقالت: وكيف تتوقع أن يكونا ؟ إنهما منهارتان تماماً . لو طلب أحد الناس من أولادك التعرف إلى جثة صديق، فهل سيسلمون من ردة الفعل الصعبة ؟ أنت بإمكانك أن تتكلم بارتياح، فأولادك ليسوا في خطر. فقال: ماذا تعنين بهذا القول؟ فقالت: أعني أن قاتل كارو ربما قد يكون زار شقة الفتيات مراراً. هل هذه فرضية خاطئة؟ فقال: كلا، على العكس إنه أمر محتمل. قالت: إذاً ما هي الإجراءات التي قمتم بها لحماية وسلامة الفتاتين؟ فقال: أصدقك القول يا سيدة ثالهايم. في الوقت الذي يصبح فيه أمر حماية الفتاتين ضرورياً، سوف نقوم بذلك. 




خرجت ميرلي وذهبت إلى المدرسة لأنها لم تعد تطيق البقاء في الشقة. أما أنا، فعلى عكسها، اختبأتُ في إحدى زوايا الشقة كالقطة المريضة، لكي أداوي جراحي. كنت أشعربفراغ و بفقدان كارو في كل لحظة وفي كل زاوية من المكان. أشياؤها لا تزال في كل مكان:أحذيتها ، مشطها، فرشاة أسنانها، ومجلاتها المبعثرة هنا وهناك ، وأكواب اللبن التي في البراد. لا ميرلي ولا أنا، كنا قد تجرأنا على الدخول إلى غرفتها بعد. لقد أقفلنا الغرفة وابتعدنا عنها. 

 رأها في حلمه. كانت لا تزال حية نضرة وتضج شباباً. وكانت تضحك. أكثر ما أحبه فيها حيويتها وضحكتها . كانت الحيوية والحماس يفوران منها ويطبعان في شخصيتها. لقد ذكّرته بالفرح وبالسعادة . شعروهوبجانبها في بعض الأحيان بالفرح . استيقظ من النوم وبكى. لقد اشتاق إليها. يا إلهي. كم أشتاق إليها! 

حضر رجل المباحث إلى شقتنا. قال: لقد أتيت إلى هنا لكي أطرح عليكما بعض الأسئلة، ثم أتفحص غرفة كارو. تفحص بدقة جميع محتويات غرفة كارو دون استثناء. قالت ميرلي: ماذا ستفعلون بالقاتل عندما تقبضون عليه ، هل سترمونه بالرصاص ؟ فقال رجل المباحث: لن نقتله بالرصاص، ولكننا بالتاكيد سوف نجعله ينال العقاب الذي يستحقه. فقالت ميرلي: هل ستجعلونه يمضي عقوبة خمسة عشر عاماً في سجنٍ مريح. يشاهد الأفلام، ويقرأ الكتب ، ويتناول المأكولات المغذية والعناية الطبية اللائقة. ثم يُطلق سراحه بوقت مبكر مكافأة على سلوكه الحسن؟ وربما لن تتعدى عقوبته أكثر من ثلاث سنوات يمضيها في العلاج النفسي، بحجة أنه يعاني من خلل عقلي، وعقوبته تكون مُخففة !! فقال الضابط: لن تكون حياته في السجن بمثل هذه السهولة التى تتحدثين عنها . حينها نهضت ميرلي وخرجتْ من الغرفة. وبقيت أنا جالسة فقال الضابط: أخبريني تفاصيل عن حياتها وعلاقاتها، وهل لاحظتم أي تغيرات عليها في الآونة الأخيرة ؟ فقلت: لم تكن سعيدة في الفترة الأخيرة على الرغم من أنها كانت تعيش علاقة حب قوية . كان هناك ثمة شئ ما يقلقها في تلك العلاقة. ثم أخبرته عن غرابة أطباع صديق كارو، وعن عدم معرفتها لإسمه. كما أنه كان يمنع كارو من الإفصاح أمام أحد عن علاقتها به، وأنه طلب منها الإنتظار . فقال الضابط: انتظار ماذا؟ فقلت: إنه لم يلمسها. قال الضابط: هل صدف ورأيتموه ؟ فقلت: لم نره أنا وميرلي قط، مع أنه كان يأتي إلى هنا مرارا. قال الضابط: أين يمكنني أن ألتقي بهذا الرجل؟ فقلت: لا أدري. ليتني أعلم. 

خرج رجل المباحث وأعصابه متوتره ومشدودة. وأخذ يفكر بطريقة ارتباك ميرلي، هل عساها تخفي تلك الفتاة شيء ما ؟ في جميع الأحوال عليه أن يراقبها جيدأ 

كان يقوم بعمله بجهد كبير ويحاول تخدير مشاعره. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة. فبإمكانه السيطرة على مشاعره في حالات الرضى فقط، ولكنها قليلة! نجحت كارو في حمله ومساعدته على النسيان، عندما كانت تدخله معها إلى شرنقتها الخرافية، فأحبها وضعف أمامها. كانت كارو بمثابة الوحي السمائي بالنسبة له . وكانت في غاية الجمال وبريئة كالأطفال. كان يحلو له سماع صوتها ويستمتع بالإصغاء إليها . وعندما كانت تصمت كان أيضاً يشاركها الصمت. بين شتلات الفراولة المتوازية بدقة، وفي فوح عطرها الطيب، كان ناثانيال يعمل بصمت من غير أن يشاركه أحد صمته. 

 تمت مراسم دفن كارولا. لم تستطع أن تستوعب الكنيسة الأعدادالكثيرة من الناس الذين حضروا للمشاركة في وداعها. ألقت جنّا كلمة وداع مؤثرة جداً لصديقتها ضمّنته وعداً قوياً لها بالبحث عن القاتل وتهديداً له بأنها لن تستسلم حتى ينال عقابه أمام العدالة. 




 بدأ القلق يساور إيمكي، ولكنها كانت تحاول كتم وإسكات مخاوفها بشأن ابنتها. كانت قد عادت بعد انتهاء مراسم الدفن إلى منزلها . أطعمت القطتين ، وأعدت فنجاناً كبيراً من الأعشاب الخاص بها وحملته معها إلى الفناء الخارجي علها تستعيد مزاجها للكتابة. ولكنها لم تستطع أن تفلح في استعادة هدوئها وتركيزها . كيف لجنّا أن تعرض نفسها لمثل هذا الخطر؟ لقد هددت القاتل وتحدته بشكل مباشر. ربما كان القاتل موجوداً في الكنيسة، وربما سمع تهديد جنّا وقرر مواجهتها؟ 




 وفي اليوم التالي، رن جرس الباب، فذهبت إيمكي لتجيب، فاذا بها تجد "تايلو" صديقها ينظر اليها بابتسامته المعهودة. قال لها: اشتقتُ إليكِ. فقالت: ألم تكن في أمستردام ؟ هل انتهى المؤتمر؟ فقال: لا، ولكني فضلت المغادرة قبل انتهاء المؤتمر بيوم واحد. لقد قرأت في الجريدة عن خبرمقتل صديقة جنّا كارو، وكُتب في المقال أن صديقة الضحية تهدد القاتل. وطبعاً لن تفوت الصحافة أحداث هذه القصة المثيرة، خصوصاً وأن بطلتها هي ابنة الكاتبة الشهيرة إيمكي ثالهايم. فتوقعتُ أن تكوني في غاية التوتروالقلق. فقالت إيمكي وهي تزفر : قل لي ماذا عسانا أن نفعل؟ ثم حاولت أن تستنشق بعض الأنفاس العميقة كي تسيطر على نوبة الإرتجاف التي سيطرت عليها. 

كان حقاً بوده أن يضب أغراضه ويرحل. لم يعد يطيق المكان ولا زملاءه في العمل ولا حرارة الشمس الشديدة ، كل شيء أصبح يشعره بالغثيان. تداهمه هذه المشاعر عينها في كل مرة بعد حدوث ذلك الأمر. المشاعر السلبية ضد محيطه تزداد، ونفوره من الناس بات يتخطى كل الحدود. كان بحاجة إلى الإبتعاد كي يلملم نفسه. ما زال يشعر بالشوق والحنين إلى كارو، ولكن غضبه منها يخالطه حزنه عليها. غاضبٌ جداً لأنها خيّبت آماله. كان يحلم بحياة مثالية يعيشها مع زوجة وأولاد في منزل نظيف وفي مدينة نظيفة. 

جلس مساءاً ناثانيال ومالي والعمال في المقهى بعدما استلموا رواتبهم الأسبوعية. كان مالي يتحدث عن آخر جريمة حدثت بينما كان ناثانيال شارداً. في كل مرة كان يتحدث أمامه أحدهم عن المجرم الذي يهوى القلادات ، يجده لا يفهم على الفور أن المقصود هو نفسه. لم يكن يشعر بنفسه أنه مجرماً ، فهو لا يمتلك غرائز شيطانية لئيمة، بل هو يُعلّق الكثير من الآمال على الدنيا وعلى المرأة. أخذ ناثانيال يسمع لما حدث في مأتم كارو بعد أن قرأه مالي من الصحيفة، وسمع عن جنّا وتهديداتها للقاتل. فقال في نفسه: من هي تلك الفتاة التي تتجرأ على الوقوف في وجهي؟ كان اسم جنّا قد وثب وثبت في دماغه. واللعبة الآن قد بدأت. فالفتاة تتحداه. قال في نفسه: "حسناً، هل هذا ما تريدينه يا فتاتي"؟ وأحس ناثانيال بالسعادة . فهذا ما كان يريده بالضبط! هدف جديد يسعى وراءه ويعيد حياته إلى السكة من جديد. 

توقف بسيارته ناثانيال أمام المبنى التي تسكن فيه ميرلي وجنّا. لا بد أنهما ستخرجان من الشقة؛ إنه المساء ولديه الوقت الكافي للإنتظار. لم يكن من الصعب على ناثانيال معرفة أي من هما الفتاتين جنّا وأيهما ميرلي. أخيراً خرجت الفتاتان ، بسرعة نزل ناثانيال من السيارة وتبعهما. وأحس بومضة ألم تخترق صدره؛ لقد تذكرلحظتها كارو، ولا يشعر بالسيطرة الكامله على حزنه بعد. تبِع الفتاتين إلى أن توقفتا أمام باب السينما واختارتا فيلماً كوميدياً. تبعهما بحذر ناثانيال وجلس خلفهما في الظلمة. كان قريباً جداً منهما إلى درجة أنه لو مد ذراعه للمس كتف جنّا. 

قرارنا في الذهاب إلى السينما كان بمثابة المكافأة. كنا قد أمضينا فترة بعد الظهر في تفتيش غرفة كارو. أخيراً وجدنا وشاحاً صغيراً أسود مربع الشكل، وزهرة بيضاء مجففة بين صفحات الكتاب المفضل لدى كارو . وبعد ذلك ذهبنا إلى السينما وضحكنا؛ واكتشفنا أن من قال لنا بعد موت كارو بأن الحياة آخذه بالإستمرار، كان على حق. فعلى الرغم من قسوة هذا الواقع، فهو حقيقي. 

تمنى ناثانيال لو يستطيع أن يتحدث إلى الفتاتين ويعرّفهما بنفسه، ويصارحهما عن مدى شوقه وافتقاده إلى كارو، وعن خيبة الأمل التي سبَّبَتْها له، وعن اكتشافه في النهاية أن حبها له لم يكن حقيقياً. لقد دخلت كارو كيانه ولم يعد بإمكانه أن يتخلص منها. إنها تعيش معه في كل لحظة، فكأنها اخترقت جسمه بالكامل . ولكن شيء من الفضول انتابه بشأن الفتاة التي إسمها جنّا التي تحدته وتجرأت وأعلنت الحرب عليه. 

 بدأت العطلة الصيفية، وإتفقت مع ميرلي على الإستفادة من الوقت بصورة صحيحة. ففي كل يوم صباحاً سنتناول فطورنا ونرتدي ثيابنا وننطلق لتنفيذ خطتنا الهادفة إلى إيجاد قاتل كارو. اتصل أبي يدعوني لقضاء عطلة في الخارج بصحبته وصحبة زوجته وأخي الصغير. شكرته على دعوته، وقلت له: تأكد يا أبي بأني قادرة على حماية نفسي، وسوف أكون بخير. ذهبتُ أنا وميرلي إلى العديد من الحانات والحانات ومعنا صورة كارو، لعل أحد يتعرف لصورتها ويتذكر مع من كانت تجلس.




 تساءل في نفسه إن كان يشعر بأي عاطفة نحو تلك الفتاة جنّا، فلم يجد جواباً. قد يسمي شعوره نحوها فضولاً من نوع ما . نعم إنه إلى حدٍّ ما نوع من الفضول. فمنذ خسارته لكارو، شيء ما قد انطفأ في داخله . إنه ضائع ومتعب وبلا هدف. ويوماً بعد يوم، يشعر أنه يحيا خارج ذاته. التحدي الذي أطلقته جنّا قد أثاره وحرك عجلة تفكيره ونشاطه من جديد. ماذا لو أنه تمكن من السيطرة عليها وإخضاعها؟ مجرد فكرة إخضاع الفتاة أحيت في نفسه أحاسيس القوة الإعتزاز. يا لها من لعبة ممتعة ! أن تستجلب الفتاة التي تكرهك إلى الوقوع في حبك. بالإضافة إلى أن جنّا صديقة كارو المفضلة، فإن أحبته، فهذا يعني أن جزءاً من كارو قد عاد إليه. وابتسم وهو يحدث نفسه بذ لك فيما دمعت عيناه. فربما لم يخسر كارو بعد كلياً. 

وصلت ميرلي وجنّا إلى إحدى المطاعم التي كانت كارو تتردد عليها. سألوا النادلة عن الرجل الذي كان يأتي بصحبة كارو. فقالت النادلة: جاء رجل معها ربما مرتين أو ثلاث. سألتها: كيف كان شكله ؟ وهل تعرفين ذلك الرجل؟ فقالت النادلة: لم أره من قبل. كان قوي البنية وطويل القامة ، إلا أنه نحيل، ويبدو وكأنه في الثلاثين من عمره . لون شعره غامق ووجهه يميل إلى الوسامة. 

إن المطاردة بالسيارة على ما يبدو ليست سهلة كما قد تبدو في الأفلام البوليسية. لاحقَ ناثانيال الفتاتين في سيارته وتابعهن وهن يتنقلن من مطعم إلى آخر. وعندما نزلن إلى مطعم لم يكن قد زاره مع كارو نزل ورائهن. جلس إلى إحدى الطاولات الجانبيات ، بينما كانت الفتاتان تعرضان صورة كارو على الزبائن. جلس ناثانيال بهدوء منتظراً دوره في وصول الفتيات إلى طاولته. أخرج كتاباً من جيبه وراح يتظاهر بالقراءة. أتت الفتاتان إلى طاولته، وقالت جنّا: هل تسمح لنا أن نأخذ من وقتك دقيقة؟ نريد أن نطرح عليك سؤالاً؟ حينها نظر ناثانيال إلى جنّا بتمعن وأحب عينيها. قال: بكل تأكيد. عرضتْ ميرلي عليه صورة كارو وسألته هل تعرف هذه الفتاة؟ فقال: كلا ،أعتذر. 

في اليوم التالي، خرجت جنّا هذه المرة من المبنى بمفردها. كان ناثانيال يراقبها. انتظر حتى مشت مسافة قصيرة ثم تبعها. أصبح يميل إلى مراقبة هذه الفتاة في كل لحظة فراغ لديه، وكأن الأمر بدأ يتحول إلى نوعٍ من الهوس. عليه أن يتعرف إلى جنّا، وبعد ذلك بإستطاعته اتخاذ القرار حول ما سيفعله. دخلت جنّا إلى إحدى المكتبات، ودخل هو وراءها.

 تصفحتُ بعض الكتب في المكتبة، فأعجبني كتاب عن القطط، فاسترسلتُ في القراءة. ولكني فجأة شعرت وكأن هناك عيناً تراقبني، فرفعت رأسي فإذا برجل ينظر إليّ. إنه الرجل الذي تكلمنا معه يوم البارحة عن كارو في أحد المطاعم. ذهبت كي أدفع ثمن الكتاب. فتحت حقيبتي ، تنبهت حينها إلى أني نسيت محفظتي في البيت. أحسست بالخجل وبالإرتباك ، فسمعت صوتاً لطيفاً يقول: كم تحتاجين ؟ التفتُ إلى الوراء ونظرت إلى عينيه للمرة الثالثة. فتأكدت أنه هو نفس الرجل الذي قابلناه في الحانة بالأمس. ودفع عني ثمن الكتاب. فقلت له بكل فتور: شكراً. 

سار ناثانيال إلى جانب جنّا وهو يشعر بغرابة ما يحدث. ولاحظ أنها ترمقه بنظرات متتالية سريعة، فأحس ببهجة كانت قد فارقته منذ فراق كارو، وكاد يُغنّي من فرط السعاده. اصطحب ناثانيال جنّا إلى المقهى الكبير في قلب السوق. كانت جنّا تلتزم الصمت، وبدت مرتاحة في صمتها. 

أعجبني هدوءه. إنه مثلي يميل إلى الصمت والتحفظ. أحسست بالطمأنينة إلى جانبه؛ تلك الطمأنينة االتي كنت أشعر بها وأنا طفلة عندما كنت أجلس قبالة أمي في المطبخ؛ أو عندما كان يأخذني أبي في سيارته للنزهة في الظلام. إنه في الثلاثين تقريباً. وهذا يعني أنه يكبرني بسنوات عديدة. سألني: هل توصلتما إلى نتيجة في البحث عن صديقتكما؟ قلت: كلا، للأسف. قال: هل تودين التحدث عن هذا الموضوع؟ فهززت رأسي نفياً. 

كان يتمنى أن يقضي كل وقته في النظر إليها. إنها بداية لمرحلة جديدة. وكان حدوثها عفوياً وليس بقصد منه. فكر بالإنصراف الآن ، ولكنه تابع النظر إليها، وعرف أن مثل هذه الفرصة بالنسبة اليه لن تتكرر.




 عدت إلى البيت وأخبرتُ ميرلي بكل ما حدث معي. قلتُ لها: شعرت بالبهجة لمجرد التحدث إليه. سألتْ ميرلي: عن ماذا تحدثتما ؟ قلت: أخبرني عن طفولته، وانه قد ترعرع في بيت جده. وكان جده يلجأ إلى العنف في تربيته. وأنا حدثته عن كارو. تكلمت عنها أكثر مما تكلمت عن أي أمر آخر. فتأثرَ بقصتها ورأيت دموعاً في عينيه. هل رأيت رجلاً يبكي من قبل، يا ميرلي؟ فهزت ميرلي نفياً برأسها. فأكملتُ حديثي قائلة: إسمه نات، في الثلاثين أو أقل، عاش طفولة قاسية جداً ، وهو رجل بكل معنى الكلمة. 

لم يستطع ناثانيال النوم. ما زال صوت جنّا يتردد في رأسه. صوتها رقيق وعميق ، يا له من صوت جميل! عندما كانت تكلّمَه عن كارو، بقي مُركزاً على ملامحها. هناك نقرة جميلة في ذقنها؛ وهناك شامة على صدغها ومن فوق جبينها تتدلى خصلة شعر بشكل لولبي إلى أسفل خدها. ملامحها ليست في غاية الجمال؛ ولكنها فتاة جذابة جميلة. لديها جمال خاص بها، ومعظم النساء العظيمات في العالم يتمتعن بمثله. يأسركَ هذا النوع من الجمال من النظرة الأولى؛ ثم يتغلل فيك ولا يفارق ذاكرتك. لقد أخبرها حقائق، وأخبرها أكاذيب أيضاً . سيأتي يوم يتمكّن فيه من مصارحتها بكل شيء؛ وسوف تتفهم ظروفه ولن تنفر منه. هو قاتل صديقتها! ولكن يتوجب عليه الآن أن يكون متيقظاً وألا يقترف أي هفوة. فقد خلقت تلك الفتاة كي تكون حبيبة ورفيقة عمره. وبات الآن يرى أمامه المستقبل هادئاً وواعداً كما كان يحلم به. مستقبله مع جنّا، أجمل الفتيات ! 




خرجت جنّا لملاقاة ذلك الرجل. إنه اليوم الثالث على التوالي الذي تخرج فيه مع هذا الرجل . أكثر ما كان يهوى القيام به هذا الرجل عندما نكون معاً، هو اصطحابي في نزهات طويلة بالسيارة إلى مناطق ريفية يحبها. عرفتُ أنه أحد قاطفي الفراولة الذين كنت أراهم من بعيد عندما أذهب لزيارة أمي. وكان يعرف بيتنا ، وسبق له أن مر بجانبه وأعجب بروعة وجمال البيت، حتى أنه قد قرأ إحدى روايات أمي. كان يكلمني بصوت عميق هاديء. وكان كلما امتدت يده لتلمس يدي، أنفاسي تتلاحق ويوشك قلبي على الخروج من قفصه. وقلت في نفسي: إنه حلمي.


 ها هو قد كشف عن هويته أمام جنّا. لقد فعل ذلك تأكيداً على مدى ثقته بها. ذهب ناثانيال إلى حجرته ونظر إلى خصلات شعر ضحاياه وقلاداتهن التي جمعها كتذكارات عزيزة عليه . ولكنه الآن قرر التخلص منها جميعها. سوف يذهب ليدفنها في منطقة ريفية بعيدة. قاد سيارته إلى ذلك المكان البعيد. سوف يدفن الماضي الآن إلى الأبد، ويصبح حُرّاً. أخيراً، سوف يصبح حرّاً. 

جلستْ جنّا بجانب ناثانيال بصمت وعيناها تنظران على الطريق. عرفت تلقائياً أن نات يبدو عليه أنه غير راغب في الكلام. كانت أعصابه مشدودة جداً. لقد باتت همومه ثقيلة، والوقت ليس ملائماً للوقوع في حب جديد. ولكن الحب لا ينتظر توقيتاً ولاإذناً. يشعر بالضغط الشديد والتشوش لأنه يفكر في ما يمكن أن يفصح عنه لجنّا. إنه لا يولي جنّا كل ثقته. أنه بحاجة إلى المزيد من الوقت. الوقت هو محور المسألة. سوف ينتهي قريباً موسم الفراولة ويحين موعد الإنتقال إلى مكان آخر جديد. ولكن لا تزال جنّا طالبة ومرتبطة بالمدرسة. فكيف سيتمكّن من فراقها. ولأول مرة في حياته، شعر برغبة كبيره إلى الإستقرار. قال لنفسه: "يا إلهي كم أحب جنّا!. إنها قادرة على تطهيري من جميع مساوئي وخطاياي وتحويلي إلى إنسان آخر. وأهم ما في الأمر، هو أنها ستبقى معي طيلة العمر."

 بدأت المباحث وضابط التحري التحقيق مع الرجال في مزارع الفراولة، لأن أول جريمتين كانتا قد حدثتا في الغابة المقابلة لمزارع الفراولة. فبدأ الضابط ملزيغ التحقيق مع قاطفي الفراولة واحداً تلو الآخر. وعندما وصل التحقيق مع ناثانيال لاحظ ملزيغ أن الرجل بدا متحفظاً ، كما أن صوته هادئ وعميق يخفي تحته حالة عميقة من الخداع والتوتر . قال ناثانيال إن اسم كارو ستايغر لا يعني له شيئاً، فهو لم يسمع به قبل وقوع الجريمة. حينها قال الضابط: هل قتلت الفتيات ؟!!! خرج السؤال من فم ملزيغ كضرب الرصاص، ومن غير حساب مسبق. فقال ناثانيال: أنا لست بقاتل. ولكن لسبب ما، شعر بيرت ملزيغ أن ناثانيال كان كاذباً.  

ذهبتْ ميرلي إلى مزارع الفراولة كي تشتري بعض الفراولة للمطعم الذي تعمل به. وهناك تبين لها أن أزهار الفراولة بيضاء اللون ، وأن قاطفي الفراولة يستخدمون وشاحاً على رؤوسهم لحمايتهم من أشعة الشمس. ففكرت وإستنتجت من ذلك أن صديق كارو هو قاطف فراولة. حيث وُجدت زهرة بيضاء بين طيات كتاب كارو، وكذلك قطعة قماش سوداء في حجرتها . وبدأت ميرلي تستنتج وتفهم ما قصدت كارو عندما كتبت في مذكراتها: على شفتيكَ .. تلك الإبتسامة .. الحمراء المريعة وحلوة المذاق . 

صرخت ميرلي: لقد كانت شفاه صديق كارو حمراء لشدة ما كان يأكله من الفراولة. اللعنة كيف لم نتنبّه إلى هذا ؟ حينها نظرت ميرلي إلى الطاولة فوجدت رسالة من جنّا: عزيزتي ميرلي .. أرجو أن لا تغضبي مني. لم أقصد أن أخفي الأمور عنك. تكلمنا أنا ونات عن أمور كثيرة. أشعربنفسي وكأني أعرفه منذ وقت طويل. ولا يوجد عندي فرق إن كان طبيباً أو محاسباً أو قاطف فراولة؟ إني أحبه جداً !! إليك حبي وقبلاتي .. ملاحظة : سوف نذهب اليوم إلى واحدى القرى التاريخية لنزور بعض الأبنية القديمة. تصوري كم كنت سأشعر بالضجر أمام تلك الجدران العتيقة لولا وجودي مع من أحب. كم نتصرف نحن الفتيات بغرابة عندما نقع في الحب! 

 قرأتْ ميرلي الرسالة لأكثر من مرة، وفي كل مرة كانت تتوقف عند الجملة: لا يوجد فرق عندي إن كان طبيباً أو محاسباً أو قاطف فراولة !!! هل من الممكن والمعقول أن جنّا وقعت أيضاً في حب قاطف فراولة مثل كارو؟ فكرتْ ميرلي في الأمر ، أنه ربما من المرجح أن يكون هو نفسه! لحظتها أخرجت ميرلي بطاقة ضابط المباحث واتصلت برقم هاتفه. ولكن بيرت لم يكن في مكتبه، ويبدو أن هاتفه المحمول مقفلاً. 


مررنا في الطريق بمناظر طبيعية خلابة من غابات وحقول مزروعة ومروج . فقلت لنات: هل تستطيع أن تتحمل السكن في مدينة كبيرة ؟ فقال: أتحمل السكن في أي مكان بشرط أن نكون معاً. وكل ما عدا وجودنا لا يهمني. قلت: ولكن يهمني ألا أظل بعيدة عن أمي وجدتي وميرلي. لم يعلق على قولي هذا؛ ولاحظت أنه شد فجأة بقوة بقبضته على مقود السيارة. 

 رن جرس هاتف إيمكي. وحين ردت انفجرت ميرلي بالبكاء، بينما راحت ترجو وتدعو الله في قلبها أن لا يكون قد حدث أي مكروه لجنّا. أخبرت ميرلي إيمكي عن تخوفها من أن يكون صديق جنّا الجديد هو نفسه صديق كارو الأخير. وشرحت لها كيف توصلت إلى هذا الإستنتاج. فجأة أحست إيمكي بجفاف في حلقها، فقالت لميرلي: انتظريني. سأكون عندك بعد عشر دقائق. 

الجو منعش وجميل في هذه القرية الصغيرة الهادئة. أعجبتني البيوت القديمة ذات التصميم المميزالخاص والساحة المرصوفة بالحصى في وسطها. جلسنا أنا ونات في أحد المقاهي وتناولنا فنجاناً من القهوة. وتأملت في وجه نات ووجدته مطمئاً وهادئاً ، فانحنيت نحوه وقبلته على خده. وقلت في نفسي: أعدك أن أفعل كل ما بإمكاني لإسعادك. 

كان يوجد هناك العديد من القرى التاريخية في هذه المنطقة فكيف السبيل لإيمكي وميرلي إلى معرفة إلى أيٍّ من القرى ذهبت جنّا مع ذلك الرجل؟ أخبرتْ ميرلي إيمكي أن اسمه هو نات. رن جرس الهاتف وكان الضابط بيرت ملزيغ. وعندما وصل الضابط، أخبرته ميرلي بالقصة واستنتاجاتها وشكوكها ، وقالت له إن إسم الرجل هو نات. فقال الضابط: هناك من بين قاطفي الفراولة رجل يدعى ناثانيال تابان، وصديقه يدعوه نات. وقد كنت اليوم قد ذهبتُ لاستجوابه ، ولكنه لم يكن موجوداً وقيل لي إنه ذهب للطبيب. أعطى الضابط الأمر للشرطة بمطاردة ناثانيال، على الرغم من عدم وجود دلائل قوية ضده. 

كان ناثانيال عقله يتخبط في جميع الإحتمالات.كان يشعر بأنهم سوف يلقون القبض عليه إن آجلاً أو عاجلاً، على الرغم من عدم حدوث أي شيء ينذر بذلك. ولا يبدو على جنّا أنها تشعر بشئ من القلق. قال لها: لنعد إلى "برول". قالت جنّا: ولكن لم يمض وقت طويل على وصولنا. ولكن لابأس، إن كنت تصر على ذلك. كانتا يدا ناثانيال ترتجفان على المقود. قلتُ له: هل من الضروري أن نعود مباشرة إلى برول. ليتنا نتمشى في الغابة قليلاً . فقال:حسناً سوف أتحول عن الطريق الرئيس عند وصولنا إلى المخرج التالي. 

 توقف نات عند مشارف الغابة. ونزلنا من السيارة. ركضت على الجانب المتفيء بظل الأشجار. اقتربَ مني من الخلف وضمني وطبع قبلة على عنقي. ثم قبلني بحرارة. ثم قال لي: لو كنت جاسوساً وكان عليّ مغادرة البلاد، ماذا تفعلين حينها ؟ هل تغادرين معي؟ فقلت بنبرة ضاحكة: كنتُ دائماً أحلم بالسفر والإبحار الى الجنوب. لا مانع لديّ. بشرط أن نعيش في منزل صغير على الشاطيء. وننجب بنتان وولدان. ويرث الأولاد أنفك وعينيك. قال: وسترث الفتاتان إبتسامتك وشفتيكِ وشعركِ. قلت: وسيكون لدينا كلب ذو وبر، ولكنه غير شرس. فقال لي: أنا جاد، أجيبيني. فقلت: لا تقل شيئاً. قبلته وأدخلت يدي تحت قميصه. قلت هامسة: دعني أظهِر لك حبي. 

لم يكن يرغب لذلك يحدث. وليس بهذه الطريقة. لم يكن يريده ليحدث قط. لم يكن بعد جاهزاً. إنها تشبه غيرها. كان الدمع يجرى فوق خديه، ولم يمسحه. ومع الحزن، كان الغضب عنيفاً. غرست الفتاة أصابعها في شعره، وكانت تتمتم بكلمات رقيقة لم يسمعها. لقد أحبها، فكيف تُخيّب آماله وتلوث أفكاره ومشاعره وجسده . حينها قال بهمس: لماذا يا جنّا ؟ 

أطلق ناثانيال صيحة غضب ويأس. تجمدت ولم أتحرك، وبقيتُ في مكاني والتزمتُ الجمود التام لكي لا أستفزه أكثر. ثم أخذ نات يجهش بالبكاء فوق عنقي. ثم أخذ يطلق عليّ أسوأ النعوت ويستمر في البكاء. راح يهزني بعنف ، ثم يدفعني بعيداً عنه، ثم يشدني إليه ويعانقني. غامرتُ ونظرت إلى وجهه، وتمنيت لو لم أفعل. كان يريد قتلي. لم أدرك السبب، ولكنه كان يريد قتلي. 

مجدداً عادت واتصلت إيمكي برقم هاتف ابنتها ولم تلق سوى الإجابة المسجلة التي تدعوها لترك رسالة. ولكنها تركت أكثر من دستة رسائل حتى الآن من دون أن تلقى جواباً. 

تحسستُ العشب الرطب من حولي فلم أعثر على أي حجر أو قضيب. ثم وقعت يدي على هاتفي المحمول. كان صامتاً في تلك اللحظة. حملتُ الهاتف وصوبته إلى جبينه بأقصى ما اوتيت به من قوة. صرخ ووضع يده على جبينه. استدرت شمالاً ولذت بالفرار. دخلت بين الأشجار كي لا يراني. كنت أبكي وأهمس كارو. بت أعلم من قتلها الآن. وها أنا بدوري أركض هرباً منه.

 يكاد رأسه ينفجر من شدة الألم والدماء ما زالت تتساقط من جبينه المجروح. ركض نات عبر الغابة وراء الفتاة ، وعلى الرغم غضبه وألمه ، لكنه ما زال يفكر بوضوح. سوف يركز على إمساكها أولاً، وبعد ذلك سيؤدبها. 

سأل هاينز كالباش زوجته: ترى ما هذا الصوت ؟ كان الزوجان المتقاعدان يعيشان لوحدهما في منزل منفرد على مشارف الغابة. خرج هاينز مع الكلب كي يرى ما مصدر الصوت. وخرجت ريتا كالباش وتبعت زوجها. نظرتْ إلى الغابة، لم تلاحظ شيئاً. سمعت جنّا صوت الكلب. فقالت في نفسها: "إن وجود كلب يدل على وجود أناس". اتجهتْ نحو صوت الكلب. وفجأة شاهد هاينز وزوجته فتاة في حالة يرثي لها حافية القدمين وبثياب ممزقة. بدت مرهقة جداً ومرعوبه ، ووجهها مغطى بالغبار والدموع. قالت جنّا: دعنا أولاً ندخل إلى البيت. فدخلوا البيت وأقفل هاينز باب البيت وراءهم من الداخل بإحكام ، وأحكم إغلاق جميع النوافذ؛ ثم توجه إلى الهاتف واستدعى الشرطة. 




وصل ناثانيال إلى بيت العجوزين. أحس بأن جنّا موجودة في الداخل. كانت الأبواب والنوافذ مغلقة. أمسك بحجر كبير وكسر زجاج الباب الأمامي. تصدى هاينز والكلب لناثانيال. وفي هذه اللحظة وصل رجال الشرطة وأمسكوا به. 

كتبت الصحف في اليوم التالي: إلقاء القبض على القاتل الذي يهوى جمع القلادات. لقد قامت الشرطة عصر أمس بالقبض على القاتل التسلسلي المعروف بهاوي القلادات. اعترف ناثانيال تابان العامل الموسمي بأنه قاتل سيمونا ريدلف، وكارو ستايغر كما اعترف أنه قتل ماريلا نوبر ونيكول برغمان. وما زالت أسباب ناثانيال في القتل مجهولة.         
          
                                             النهاية. 
تفاعل :

تعليقات