القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: حبيبتي بكماء: محمد سالم. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.




تلخيص رواية: 
حبيبتي بكماء: محمد سالم.
 إعداد وإشراف: رجاء حمدان.  


 ها أنا عدت أكتب إليكِ من جديد. ها أنا أسطرُ لكِ أنيناً من حنين. ها أنا العاشق البسيط أدوّن لكِ كلمات عشقٍ عظيم وأرسم لك فضاءً في مجرة الأدب. وأفضح سري بإرادتي، وأحفر قبراً متواضعاً يتسع لي في مقبرة كتاباتي وأوراقي.



 عشرات الدفاتر بل مئات الدفاتر مُزقت، ومئات الكلمات شُطبت، كي أجعل منكِ أميرة الحكايا وسيدة القصص والروايات . فأنت إمرأة تتوه بكِ البداية وتتشتتُ بذكراك تفاصيل الحكايات. فأنتِ أنثى غيرُ عاديةفي هذا الكون ،تتحدين بجمال عينيك، جمال نساء الأندلس وجنوب الأرض. 

 كنتِ ولا زلتِ سيدتي، سيدتي اللطيفة الجميلة الساحرة التي تأسر قلبي بخجلها الكبير وعبق رائحتها الأنثوى وببراءة تعابير وجهها. .. 

أربعُ سنين مرت، أربع سنين مضت عشتها في ألم وحزن وعذاب وشقاء، أربع سنين يا حبيبتي منذ أن إبتعدت ورحلت ومنذ أن عشعشتْ عناكيب الحزن والألم في صدري. فقلبي بات من بعدك يخاف كل نبضات الحب، يخاف التورط بحكايات أخرى لا تمحي من وجدانه حكايتك.. فأنتِ وحدك قصة خياليه لا تتكرر أبداً في الحياة ولن تُرى حتى في أجمل الأحلام! 

  حين أكتب لكِ أناقض نفسي، ولكني لا أكرهك أنتِ بل أكره غيابك الطويل ورحيلك عن عشقي.. حين ابتعدتِ دون سابق إنذار. ليتكِ متِّ! ليتكِ في قبر وُضعت، لأصبحت ذكراك أهون علي ولاطمئننت بأنك رحلتي لربٍّ أكرم مني ويحبك أكثر بكثيرٍ مني. كان سهلاً عليكِ أن ترحلي، وكان صعباً مراً عليّ الزواج من غيرك رغم إلحاح أمي العظيم. وحينما فاتحت أمي في الزواج منك قالت لي: والله ثم والله يا هتان لن أرضى وأسمح لكَ بالزواج من هذه المريضة وأنا على قيد الحياة، إنْ أردت موتي قهراً فاذهب وتزوجها واخرج عن أمري، ولن أرضى عنك حتى في موتي. 

 قبل نحو ما يقارب الخمس سنوات، عاد أبي فرحاً للمنزل، يحمل معه أخباراً وبشرى سارة. قال: لقد جاءتني ترقية جديدة في العمل وعلينا الإنتقال إلى الرياض. كان هذا الخبر كفيلاً بإدخال السروروالسعادة إلى قلوبنا. ولم أكن أدري وأنا أعدّ حقائبي بأنني راحلٌ لمصائب الحب. 

 وعلى عتبة باب منزل جدتي الكبيرة، كان لقاءنا الأول حاضراً بيننا. وكانت نظرات الإعجاب الأولى واضحة في أعيننا، وكان صدى نبضة العشق الأولى يُسمع في أرجاء صدورنا. حينما طرقتِ باب البيت واتجهتُ لأجيبَ طرقكِ، ففتحتُ الباب لأجدكِ واقفة حاملة باقة من الورد وكأن وردة تحمل ورداً. كنت تقفين بخجل كبير يُبانُ في عينيك دون أن تتفوهي بأي كلمة أو تسألي عن سكان هذا المنزل.. وقعتُ من حينها صريع جمال عينيك وأربكني وقوفك على الباب.. فجاء صوت أمي منادياً لي من الخلف: هتان.. من طارق الباب؟ أجبتها بارتباك : لا أعلم ولكن هناك امرأةً تقف عند الباب.. تعالي وتحدّثي معها. فاقتربتْ أمي من الباب وحين رأت الزائرة . قالت لي أمي: هتان، إذهب واجلس في الطابق العلوي فإن لدينا ضيفة عزيزة. وعندما شاهدت أختي جمانة تمشي في طريقها لغرفتها التي تتشاركها مع عمتي بعدما أتينا فجأة للرياض واضطررنا للمكوث في بيت جدتي، فأوقفتها وسألتها عن تلك التي راق لقلبي جمال عينيها. قالت جمانة: هذه حنين.. ألم تعرفها يا مغفل؟ إنها ابنة عمي.. البكماء! هل نسيتها؟ 

 حينها بدأت أسترجع ذكرياتي التي جمعتني بك في طفولتنا البريئة، كيف كنت تجلسين حزينة بجوار أمك في الوقت الذي كنا فيه نلعب جميعنا في فناء منزل جدتي، كنت تتألمين من عدم قدرتك على التحدث معنا ومن مضايقات أبناء عمي لك عندما يحاولون جعلك ترددين الكلماتِ خلفهم ويظنون أنهم هم من سيجعلونك تنطقين ، ولا زلت أذكر أيضا دميتك الصغيرة تلك التي تأخذينها معك الى كل مكان تذهبين إليه فهى هي فوحدها من تستطيع سماع صوتك ومن تستطيعين أنت التحدث معها دون الحاجة لصوت مسموع! 

 ورحت أيضاً أتساءل ، هل تذكرتني؟ أم أنني تغيرت كثيراً ولم تعرفني؟ هل نسيتيني كما نسيتك أنا؟ أخذني التفكير لذكرياتٍ بعيدة وعميقة جمعتنا، ولم أكن أدري أن هناك ذكريات جديدة ستجمعنا مجدداً ثم ستقسمنا لنصفين حزينين! 

 قطع حبل ذكرياتي صوتُ جدتي وهي تودعكِ، وعندما سمعت صوت الباب يُغلق نزلت الي الاسفل .. وجدت جدتي لا تزال تدعي لك بالخير وبالنصيب الذي بات يزعجها تأخره عليكِ وبات يزعجها وأنتِ أصبحت على مشارف العمر السادس والعشرون من عمرك .. جلست بجوارها وقطعت دعائها بلطفٍ قائلاً: جدتي، إمنحينا القليل من هذه الدعوات الطيبة. ابتسمت إلي والتفتت وقالت: يا هتان دعني أدعو لهذه المسكينة التي قلبي ينفطر كلما رأيتها. هل تصدق يا هتان أن أجمل بنات أبنائي لم تتزوج بعد؟ واللواتي أصغرمنها تزوجن وأنجبن، ولكن هذه الفتاة المسكينة لا زالت تنتظر حظها ونصيبها الذي تأخر بسبب قدر الله الذي جعلها بكماء.. 

إنتهي حديثي مع جدتي بدعائنا لكِ بالخير سوياً قبل أن أخرج لصديقي خالد الذي كان ينتظرني في الخارج... 

  قصدنا أنا وخالد أحد المقاهي المنتشرة في أرجاء الرياض وهناك تحدثت معه عنكِ يا حبيبتي، فمنذ أن وقعت عليك عيني لم أستطع أن أخرجك من عقلي. فألقيتُ عليه بسؤال مفاجئ أزعجه وأقلقه: حسناً يا صديقي، تقول أنك تُحب الفتيات بشتى أنواعهن وهيئاتهن وعيوبهن، ولكن قل لي يا خالد ماذا لو أعجبت بفتاة بكماء! قال خالد بإندهاش : بكماء! قلت: نعم بكماء جميلة وفيها كل ما تتمنى تقبيله! قال: أمم، لا أعتقد بأنني قد أعجب بفتاة مثلها! لأنني لا أريد أن أظلم نفسي معها. قلت: لا تريد أن تظلم نفسك معها؟! ولماذا قد تظلم نفسك حين تحب فتاة بكماء! قد تكون يا صديقي العزيزهذه الفتاة أطهر وأنقى من كل تلك الأجساد الناعمة التي تتغزل وتتغنى بها في كل ليلة وفي كل جلسة. صمت خالد وصمت أيضاً معه وأنا وفي داخلي دماء تهتف بالنصر. 

 رن هاتفي بحماس وهو يومض بإسم أمي على شاشته وأنا غارق في أوراق "البلوت" التي بيدي وشارد الفكر في طريقة كي أكسب بها هذه الجولة، وأحطم رأس ملك اللعبة خالد،. أجبت: أهلا أماه. أجابت أمي: أهلا هتان،إن حنين إبنت عمك هنا وتريد أحداً يقوم بإيصالها للبيت وعمك منشغل بعمل آخر. قلت بحماس : بضعة دقائق وسأكون عندكم . قذفت من يدي أوراق اللعب وهممت بالخروج، وخالد يضحك ويقول: إذن هكذا الجبناء يهربون . وليته كان يعلم أنني كنت أهرب منه لأربح جولة أخرى، جولة تحتاج لمكر من نوع آخر أمام رقةِ رمشيكِ. 

 وصلت لعتبة باب منزل جدتي، واتصلتُ بأمي وأخبرتها بأنني أنتظرك في الخارج . وبعد أقل من خمس دقائق مرتْ علي ببطءٍ شديد فُتح باب المنزل وظهرتِ كقمر سقط من السماء. ظهرتِ وبدأ حينها القلب يرتبك ويتعالى صوت نبضه. ياااه ما أجملكِ وما أجمل هذا اللثام الذي لا يُظهر إلا عينيك الجميلتين ورمشيهما الناعمين. أحببت لثامكِ كثيراً رغم أنه يحرمني من التمتع بالنظر لوجهٍ ملائكي بديع الخلق. ركبتْ أميرة الأشعارسيارتي ، وبدأت دماء قلبي بالغليان. ما أجملها من لحظة حين تقود سيارتك والقمر يرافقك، تشعر أنك في جولة استثنائية، لا تريدها أن تنتهي، لا ترغب أن تصل لوجهتك، وتتمنى أن تتوه بين الطرقات والشوارع وأن تطول المسافات، فقط لكي تكسب مزيداً من اللحظات.. مزيداً من نبضات الحب الجميل. 

 انطلقنا وانطلقتْ في داخلي أمنيات كثيرة لاحدود لها ، وأحلام كبيرة كنتِ أنت سيدتها وأميرتها. لم يكن هناك حديث او كلمات تحكى بيننا، فكما يقولون يا جميلتي: "الصمت في حرم الجمال.. جمال!". وما إن إنتهتْ حالة هذياني اللذيذة، حتى وجدت أننا قد وصلنا البيت . وبابتسامةٍ ناعمة نزلتِ، إبتسامة لم أرها بشكلها المعروف، بل رأيتها تخرج من عينيك، ولم تستطيعي أن تقولي وداعاً، ولكنها عينيك كانت تلوح ب "إلى لقاءٍ آخر!". 

 عدت إلى منزلي صعدتُ مسرعاً إلى غرفتي و قلبي مزدحم بك.. وفي تلك الليلة نمت هنيئاً مبتسماً.. وصحوت وأنا كذلك.. وكانت عيناك هي آخر ما حلمت به.. وأول ما تذكرته حين استيقظت. أصبحت رؤية عينيك تنزع ابتسامة جميلة على ثغري. 

 منذ تلك الجولة وأنا أبحث عن طريقة أصل بها إليك، أريد أن أخبرك بأنني تجاوزت مرحلة الإعجاب، وما أراه في نفسي لهي علامات الحب والهيام. أريد أن أخبرك بأنني أحب كثيراً عينيك وأن عينيك رائعتان وأريد أن أخبرك بانني أريدك . أريد أن أكتب لك قصيدة غزل وألقيها على مسمعك. حتى أرى سنك الضاحك الخجول، وأستمتع برؤية لون الورد الأحمر على خديك. ما أكثر ما أريده معك، ولكن كيف السبيل للوصول إليك؟. 

ها هي الليلة العاشرة من بعد ذلك اللقاء.. ليلة الفجيعةٍ الكبرى، ليلة دموعٍ وآهات عظمى، وأنين طويل، ونُحاب ليس بقليل.. الساعة تشير إلى السابعة قبل البكاءالمرير، وأنا غارق في كتابة رسالة الماجستير. رقمٌ يتصل بي غريب ، رفعت هاتفي بهدوء وأجبت على تلك المكالمة المشؤومة... قال المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أنت هتان؟ قلت: نعم، من معي؟ قال: معك الدكتور سعود من مستشفى الملك فيصل التخصصي. نريد منك الحضور حالاً هنا. قلت: لماذا؟ من هو المصاب؟ قال: تعال الآن يا أخ هتان وسوف تعرف كل شيء. ثم أنهى المكالمة وأنا أحمل قلبي بين يدي. "يا الله يا رحيم ألطف بنا يارحيم ، يا كريم يا عزيز ألطف بحالنا ولا تُرنا مكروهاً في أحد من أحبابنا.". هكذا كنت أردد وأدعو الرب بأن لا يُحزن قلوبنا وكأنني كنت على درايةٍ بأنني سوف أواجه أصعب وأمر موقف قد يمر به الإنسان في حياته. بسرعة البرق لبست ملابسي وانطلقت أركض للسيارة. لمحتني أمي وأنا أركض والخوف في عينيّ، فأخذت أمي تركض ورائي وهي تنادي: هتان، هتان.. توقف أرجوك.. هتان لا تتعبني توقف. 

 ركنت سيارتي أمام باب المشفى وتوجهت مسرعاً لمكتب الإستقبال. وهناك طلبوا مني الجلوس والإنتظار في غرفة الإنتظار حتى يأتي الطبيب. ولما جاء الطبيب قام بمصافحتي وأخذني إلى مكتبه. هناك في مكتبه الكئيب، أمرني بالجلوس.. ثم قال: هتان، علي أن أخبرك بأمر، ولكن أريد منك أن تكون شجاعاً وقوياً. قبل ساعتين يا هتان، وقع حادثُ دهسٍ في إحدى الشوارع ، وحين أحضرتْ سيارة الإسعاف المصاب لدينا، كان ينزف بغزارة ، ولم نستطع إنقاذه للأسف، وعندما تفحصنا جيوب ملابسه وجدنا بعضاً من البطاقات الرسمية التي تدل على اسمه.. محمد هتان الخالد. .... 

أبي، والروح تملأ الكون صراخاً ألماً على فراقك، والجسد ضعيف هزيل من دون استقامتك.. أبي يا من لا تقسو أبداً، كيف قسيت على قلبي، ورحلت عني بعيداً.. أبي يا حبيبي، وشمعتي ،وقدوتي، وأجمل وأطهر وأكمل الرجال في حياتي.. من أين آتي بأبٍ آخر، حتى أكبر على يديه وأتعلم من جميل صنعه. 

 صار بكائي بدون دموع، نضبت أنهار عيني فلم يتبقّ منها شيئاً ليسقط.. أخرجت هاتفي من جيبي وبحثت في قائمة الأسماء على اسم قريب يستطيع احتوائي بحالتي هذه، ولكن لم أجد غير صديقي خالد أهلاً لهذه المهمة الحزينة. 

 دخل خالد يلهث للمشفى باحثاً عني، فوجدني جالساً متقوقعاًعلى الأرض، فحضنني وقال: ما بك.. ما بك يا هتان.. لماذا حالك هكذا ..لماذا تبكي؟ فقلت: أبي.. آه يا خالد، أبي مات.. رحل. ولم يملك خالد في حينها إلا الصمت، ساعدني على النهوض، وجعلني أتكيء على كتفيه واتجهنا لخارج المشفى.. حاول خالد كثيراً التخفيف عني بقوله: يا هتان، يا صديقي، إنه قدر الله، وهو مقدر علينا جميعاً، أباك ليس بحاجة لهذا الانين ولدموعك الآن،.. هو بحاجة لدعائك، فإنْ كنت تحبه حقا أدع له، فهذا الشيء الوحيد الذي سينفعه. يا هتان، أنت الآن رجل المنزل مكان أبيك .. أنت الآن الأب الحنون على أفراد عائلته.. أمك وأخوتك وكل أفراد عائلتك سيكونون أقوياء إن كنت أنت قوياً أمامهم.. تحدث مع أمك أولاً وأخبرها عما جرى، وبمجرد معرفتها بالأمر سيعرفه الكل. 

 وفعلاً كان خالداً صادقاً كثيراً في هذا الجانب.. فبعدما دخلتُ المنزل وجدت أمي تنتظر عودتي وهي تبكي وتصيح في فناء المنزل، وهي تسأل: أين أباك يا هتان، أخبرني أين هو، فقد حاولت الإتصال به كثيراً ولكنه لا يجيب.. أسألك بالله يا ولدي، طمئن قلبي.. قل لي إنه بخير. لم أتمالك نفسي، فسقطت على قدميها وبصوت هزيل ضعيف مزقتُ قلبها. قلت: رحل أبي.. رحل أبي يا أمي... 

لا شيء يبقى على حاله .... لا شيء من الأفراح يبقى، ولا شيء من الأحزان يرحل.. أحس بأنني لا زلت على قيد الحياة، ولكن رحيل أبي جعل حياتي سوداء.. سوداء قاتمة قاتلة. ووقعت على عاتقي مسؤولية كبيرة جداً ، حتى شعرت بأنني لست لنفسي.. ففي ليلة وضحاها، بت أباً بديلاً لطفلتين كنت سابقاً أخاهما الكبير فقط.. أما الآن فأنا من يجب عليه توفير طلباتهما وإحتياجاتهما والسهر على راحتهما، وقضاء باقي العمر بجانبهما إلى أن يأتي يوم محزن ومفرح أسلمهما فيه لأزواجهما... 

 تلك المسؤولية الكبيرة التي وقعت علي فجأة جعلتني أنسى ما كنت أبنيه لنفسي وما كنت أطمح لتحقيقه.. يترتب عليّ الآن ترك أوراق دراستي التي أعددتها في نطاق التنمية الإجتماعية، أملاً في الحصول على درجة الماجستير التي كانت أقل طموحاتي وأجمل أمنياتي أبي.. يجب عليّ الآن البحث عن عمل نافع يدر دخلاً جيداً كي أستطيع تنمية هذه الأسرة الحزينة، وتأمين مصدر رزق كريم لها... 

 كنت أستيقظ صباحاً متفائلاً ، وأعود خائباً في المساء.. أعود مطأطأ الرأس، خالي اليدين.. عودتي بتلك الهيئة كانت تشعرعائلتي بأننا قد نمر بمرحلة يجب علينا فيها أن نقتصد كثيراً، وأن نتعاون إلى أن يأتي فرج الرزّاق الكريم.. الأيام تمر وتجري، وفرصة العمل لا تأتي.. أصبحتُ أعيش في قلق مستمر ليل نهار وخوف من المستقبل ومما قد يأتي به.. حتى وضعتْ أمي حداً لهذا القلق، فبمكالمة لشقيقها الأكبر استطاعتْ أن تؤمن لي وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبيرة التي كان يديرها خالي. 

 وفي اليوم التالي صباحاً، تهندمتُ ، وخرجت مبكراً جدا لعل وعسى أن أنال إعجاب وتقدير مدير الشركة الذي أدعوه بخالي وأضمن تلك الوظيفة. وصلت للشركة وتوجهت للطابق رقم ثلاثة عشر حيث هناك يقبع مكتب خالي، واستأذنتُ بالدخول ودخلت عليه.. ويا ليتني لم أكن أدخل لذلك الرجل اللئيم،فلم أجد منه إلا كلماتٍ مبطنة، كلمات بها معاني قصد بها التقليل من شأن أبي الذي رفض أن يضع جهده معه لينشئا هذه الشركة معاً وفضّل أن يحيا حراً وقريباً من أبنائه وعائلته ويكتفي بالعمل البسيط الذي يوفر لهم لقمة عيش كريمة. أنهى كلماته اللئيمة ثم أمرني بأن أباشر بالعمل غداً.. 

  كانت أمي تنتظر عودتي الى البيت بشوق كي ترى ابتسامة السعادة على ثغري. أقبلتْ علي وبادرتني الحديث: أعطني البشرى يا ولدي. أجبت: حصلت على الوظيفة يا أمي.. غداً يكون أول أيام عملي بإذن الله.. 

 صعدت لحجرتي .. ألقيت بجسدي على السرير، وراح ذهني يحلق في سماء الأسئلة، لما يحدث هذا كله لي؟ أي بلاء هذا الذي يجعلني أخفض كبريائي لرجل أحمق؟ وأين سيأخذني المستقبل؟ أبَقِي فرح لأيامي ؟ وفي غمرة غرقي في بحر الأسئلة االمكتظة في ذهني ، جاء رنة هاتفي حاملة معها تهنئة قصيرة على شكل رسالة قصيرة. قرأت تلك الرسالة ببرود من دون أن أعير لها أي اهتمام، فهي جاءت من رقم مجهول لا أعرف صاحبه فاعتقدت أن أحد الأقارب قد عرف بحصولي على تلك الوظيفة بطريقة ما.. 

أفقت على صوت الأذان. غادرتُ سريري، ونزلت نحو الطابق السفلي حيث وجدت جدتي كعادتها تستمع لإذاعة القرآن .. جلست بجوارها فأطفأتْ مسجلتها، وبدأت تلومني على نومي والصلوات التي فاتتني وأنا نائم، فنظرتُ إليها بعينين حزينتين وقلت: جدتي.. هتان ابنك وحبيبك سيبدأ أول أيام عمله غداً وأنت لا تهنئيه وتعاتبينه أيضاً! فتغيرتْ نبرة صوتها حتى امتلأت بالحنان وأجابتني: والله أنا في غاية السعادة من أجلك يا هتان، ولم يكن قصدي أن أكدرك بكلامي، ولكن تأكد يا بني بأن الرزق يأتي من الله لا من العمل، فاحرص على صلاتك أولاً. استأذنتُ منها وهممت بالخروج وقبل أن أترك مكاني همستْ جدتي في أذني قائلة: هتان.. إنّ حنين إبنة عمك ترسل لك سلامها، وقد طلبت مني رقم هاتفك وأظن أنها رغبت أن ترسل لك تهنئتها. أمسكت بهاتفي لاشعورياً، وبدأت أبحث عن تلك الرسالة ذات الرقم المجهول .. وجدتها. لا شك أنها منك يا حنيني، ولكني أريد التأكد أكثر.. فقلت لجدتي ببرود مصطنع: سلمها الله وعافاها.. هل تعلمين بما ينتهي رقمها يا أمي الكبيرة.. قالت: لا أعلم يا هتان، ولكن أنظر هناك لدفتر الأرقام وسوف تجد اسمها مدون مع رقم هاتفها .. تجده هناك بقرب الهاتف.. أحسست بكلمات رسالتك، رغم أنها كانت عادية جداً، ولكن كاتبها لم يكن بالشخص العادي في قلبي.. قرأتها وقرأتها مراراً وتكراراً، وفي كل قراءة أتخيل ملامح وجهكِ وأنت تكتبينها.. "مبارك لك حصولك على هذه الوظيفة ياأخي .. سررت بسماع هذا الخبر، وفقك الله دائماً". كانت رسالة جميلة جداً، وتبعث في جسمي الراحة، إلا أن هناك كلمة واحدة فقط لم تعجبني إطلاقاً وعكرت علي مزاجي ، وأفسدتْ عليّ استمتاعي... 

"يا أخي!". أنا أحبك وأنت تدعوني ب "أخي!" كم كنتِ قاسية في تلك الرسالة، فكيف سأقول لك أحبك وأنا الآن أخاك! .....ومنذ أن علمتُ بأنّ تلك الرسالة جاءت منك وأنا أعيش حائراً ومشغول البال في البحث عن طريقة منطقية ومناسبة للرد على رسالتك فأنا لا أريدها أن تعبر كأي رسالة لطيفة، بل أريدها أن تكون بداية لرسائل طويلة تجمع بيننا وتقرّبني من قلبك. 

كتبتُ لكِ: " إنني سعيدٌ بسعادتك لي يا حنين على الرغم من أنني لم أشعر بالسعادة أبداً حين قبلت بهذه الوظيفة التي جاءت على شكل صدقة". وانتظرتُ بفارغ الصبر رداً منك، رداً يسعد قلبي حقاً، إلى أنّ انتظاري طال كثيراً حتى فقدت الأمل بوصول رسالة أخرى منك.. وأخيراً أتى الرد. رسالة واردة: "أعتذر على تأخري بالرد، كنت نائمة.. ولكن لماذا لا تفرح وتسعد بهذه الفرصة يا هتان أخبرني عن أسباب حزنك. ألم تكن تريد فرصة العمل هذه وتبحث عنها بشدة؟ ماذا تغير الآن؟". رسالة صادرة: "لم يتغير شيء يا حنين، غير أني لم أنال هذه الفرصة لكفاءتي وامتيازي.. بل حصلت عليها كمعونة من قريب لن يحب حتى رؤية وجهي أمامه في كل صباح". رسالة واردة: "أنت تُحزن وتتعس نفسك بنفسك يا هتان! لا تنظر للأمور بطريقة سوداء، إجعل من هذه الفرصة فرصة أخرى تعيد من خلالها بناء علاقتك بخالك من جديد فتكسبه في صفك وتبني من خلاله مستقبلك". رسالة صادرة: "لم أعلم أنك مستشارة اجتماعية من قبل! ههههه!". رسالة واردة: "ولم أعلم أنك صغير العقل هكذا! ههههه!". رسالة صادرة: "لست بصغير عقل يا حكيمة ولكن الحزن واليأس هو من يسلب قوتي ويقذفني بأمواجه على شواطيء اليأس". رسالة واردة: "هيا يا هتان، لا تقل هكذا.. أعرف أنك رجل، والرجال لا ييأسوا ويستسلموا بسهولة، أطرد هذا الشيطان من عقلك وكُن كما أنت، كما عرفت عنك". 

 وبعد قراءة هذه الرسالة، اعتراني إندهاش كبير، وكمية تساؤلات كثيرة: "كما عرفت عنك!" وماذا تعرفين عني يا حنيني؟ هل كنت تبحثين عن أخباري وتفاصيلي كما كنت أبحث عن أخبارك وتفاصيلك؟ وهل كنت مهتمة للأمري كما أنا مهتم بأمرك؟. كان لا بد أن أسألك عما تعرفينه عني، ولكن رسالة وداعك أتت سريعة تطلب مني النوم وإراحة بالي من هذه الأفكار والتساؤلات، فأجبت طلبك الصغير، وودّعنا بعضنا البعض ب "تصبح على خير" و"أنتِ من أهله". 

 صدقي أو لا تصدقي، لا أملك سبباً مقنعاً لأكتب لك، فلا شيء سيعيدك إلى حدود مملكتي، ولا شيء سيغير من تعرجات القدر التي أخذتك بعيداً عن طريقي. صدقي أو لا تصدقي، فمنذ أن أحببتك وأنت كل أفراحي وأجمل ابتسامتي.. كنتِ الوحيدة القادرة على إضحاكي بلا صوت وبلا كلمات.. قربك كان مصدر السعادة لأيامي، ورسائلك كانت أجمل رسائل الحب والزمان... 

 أبحرنا سويتنا لحدودٍ خارجةٍ عن وطن الصداقة، حتى تحدثنا عن الحب وآلامه وعن آهاته وأحلامه ووعوده الكاذبة البيضاء، وقلتِ أنكِ لم تحبي يوماً، وأنك لا تريدين أن تحبي يوماً، ونسيتِ أننا في الحب مسيّرين لا مخيّرين، وأن الحب لا يعرف آداب الإستئذان. وقلتُ لكِ إن الحب أشبه بالمعركة إلى حدٍّ ما، يحتاج لأن تُعِد له خططاً استراتيجية تجعلك تتفوق على منافسك.. هوحقيقة معركة ولكن بلا عدو ومنافسك هو حبيبك، وهو من تريد أن تنتصر عليه ليقع في أسر قلبك دون أن يطالب يوماً بحريته.. وفي معركة حبك كنتُ أنا الغازي على أرض قلبك، اقتحمتها بكلامات والقليل القليل فقط من الأشعار. لم تكوني سهلة الإيقاع والأسر، بل كنت شامخة عالية كراية حرب لم تذل يوماً بالهزيمة. فبعد أن نفذ صبري منك ومن الليالي التي أهيم فيها بك، لم أجد أمامي غير أسلوب المفاجأة منهجاً كي أعترف لكِ بحبكِ الذي ينموسريعاً في قلبي كشريانٍ رئيسي يضخ دماء السعادة في بدني.. 

"أحبك".. هكذا أرسلتُ لك أول طيور حبي على شكل رسالة قصيرة هبطت على عُشّ قلبك النائم. رسالة قصيرة مختصرة حملت معها أمنياتي الطويلة المختصرة في أعمق وأصدق كلمات الحب وأقصر كتابات العشق.. فأتى ردك بطيء كسلحفاة لا تعلم إلى أين هي ذاهبة، ولكن أخيراً جاء ردك رغم الخوف العظيم الذي كان يحمله بين كلماته: "هتان! أظن أن رسالتك وصلت لي بالخطأ!". أجبتك: "لا يا حنين، لم أخطئ رسالتي وصلت للشخص المقصود!". مرت ساعة كاملة ، ولا جاء رد منك ليريح قلبي القلق. بدأتُ بكتابتة رسالة أخرى بعد أن طال انتظاري، رسالة جديدة أصف لك فيها حبي لعينيك، وأخبرك فيها كم من نبضةٍ أطلقها قلبي حين كنتُ منفرداً بك في تلك الجولة الرقيقة.. وكم كانت تلك الرسالة أقصر من أن تحتوي حبي لك، فتبعتها ثانية تحمل وعوداً كثيرة. ثم رسالة ثالثة تلتها رابعة، إلى أن وصلتُ إلى الخامسة فوضعت فيها آخر آمالي، وآخر محاولاتي.. 

رسالة واردة: لماذا ؟ "كيف؟ ولما أنا! أنت تُرعب قلبي يا هتان بهذا الحب المفاجيء وتزلزل كياني بهذه الكلمات الثملة حباً!". رسالة صادرة: "يا حنين، كيف أحببتك.. أمممم لا أعلم حقاً كيف ! ولكن عينيك كانتا أجمل كمين وقعتُ فيه.. ولماذا؟ أممم، لا أعلم أيضاً! ولكني تعبت بشدة من الإبحار وأريد الوقوف والرسو على مرسى شاطئك.. لما أنتِ؟.. لا أعلم والله.. ولكني أحبك، ويفعل الله ما يشاء!". رسالة واردة: "هتان أنا لا أستوعب ما تقوله! لا أفهم كيف تريد أن تحب بكماء!". رسالة صادرة: " أنا راضٍ ومتيقن من قلبي حين أحبك دون أن يلتفت لعيب خلقك!". رسالة واردة: "تريدني أن أصدقك؟ أن أفرح بهذا الحب كأي فتاة عادية أخرى؟ حسناً أنا لست بفتاة عادية.. أنا حنين البكماء التي لا تعرف أبداً كيف تنطق كلمة (أحبك)!". رسالة صادرة: "أنا لا أريدك أن تصدقيني فقط، أنا أريدك أن تؤمني بهذا الحب الذي ينمو ويكبر في داخلي يوماً بعد يوم، أريدك أن تشعري به وأن تمنحيه فرصة لينتقل من قمة قلبي إلى مدينة قلبكِ ويتحول من حالة الحب من طرف واحد إلى حالة التبادل".. 

لا زالت موشومة في ذاكرتي تفاصيل لقائنا الحقيقي الأول ، لا زلت أذكر خجلك الذي كان يفضحنا، ودهشتي التي كانت تصرخ بداخلي ب "يا الله يا الله.. يا لجمالك.. يا لروعتك". فقد أتت رسالتك حاملة مفاجأة لم تخطر ببالي لحظة واحدة. قالت رسالتك: "في مثل هذا اليوم، ولد الرجل الذي أحبه كثيراً، ولد الحب الذي لم يولد إلا ليحبني.. في مثل هذا اليوم، أحبكَ أنا وتحبكَ سنيني.. كل عام وأنتَ حبيبي". نسيتُ يوم ميلادي.. فأرسلتُ لكِ: "ياه يا حبيبتي.. كيف عرفت بيوم مولدي؟ لا أذكر بأنني أخبرتك مسبقاً بميعاده؟!". وبكبرياءٍ أجبتِ: "أعرف تفاصيلك، الصغيرة منها قبل الكبيرة، فلا تظن أنني غافلة عنك".قلتُ: "هههههه داهية أنتِ ..حسناً، أين هديتي؟". أجبتِ: "هاه!.. أمم، لا تستعجل عليها كثيراً، أحتاج لأن أعد لك هدية تليق بمقامك.. يا أميري". 

 وبشغف انتظرت هديتك. كنتُ شديد الإلحاح، كنت أريد تذكاراً أحتفظ به لسنين طويلة، حتى يأتي يومٌ أنفث الغبار عنه، وأقول لأطفالي: "اقتربوا وشاهدوا أولى هدايا أمكم". 

انتظرتُ وانتظرت.. حتى أتت أجمل هدايا الله وأرق هبة من واهب السماء. رسالة واردة: "هتان.. هل تريد هديتك؟" وبشوق عظيم قلت: طبعاً "أكيد!". أجبتِ: "إذاً لا تنم هذه الظهيرة.. سأترك لك الهدية في غرفة الغسيل الخارجية.. تعرفها صحيح ؟". قلت: "نعم أعرفها.. ولكن كيف ستضعينها هناك!". أجبتِ: "لا تسأل الآن كيف.. ولكن ضع هاتفك بجانبك وانتظر رسالتي... بالمناسبة، لا تذهب لأخْذها إلا وأنت متأنق واحذر من أن يراك أحد!".  

وكما تسير السلحفاة على مضمار السباق انقضى صباحي، وعدتُ متشوقاً إلى المنزل.. فتحت الباب وإذا بجدتي تقول لي: انتظر لحظة ، انتظر يا هتان.. حنين هيا ارتدي عباءتكِ يا ابنتي. آه .. أنتِ هنا! متى جئتِ ولِمَ لمْ تقولي أنكِ جئتِ؟! آه منك لوعلمتُ أنك هنا لما انتظرت لأن ينتهي وقت عملي.. تباً لقد أضعتِ عليّ فرصة استراق النظر إليك.. ارتديتِ عباءتك وسمحتْ لي جدتي بالعبور أمامك.. عبرتُ بابتسامةٍ واسعة على ثغري، إبتسامة مكرٍ وحب لتلك الناعمة التي تنظر لجسدي، وما إن دخلتُ غرفتي حتى جاءت كلمة "أحبك" سريعاً منك. رددت عليها ب "أموت في حبك". ولم أكن أدرك وقتها أنني أحيا بحبك، فحبك أجمل حياة، وما دونه موت أسود.. 

رسالة واردة: "حبيبي، إذهب لأخذ هديتك الآن، ولكن كن حذراً من أن يراك أحد وانت في طريقك". رميت هاتفي، ولبست ثوبي، وبدأت أمشي بسرعة لكي لا يراني أحد وأنا أخرج. متشوقٌ لرؤية ما وضعتهِ لي. أسابق خطواتي نحو تلك الحجرة المظلمة الصغيرة حتى وصلت إليها فكان بابها مفتوحاً قليلاً، فحشرت نفسي في تلك الفتحة الصغيرة وأغلقت الباب خلفي. 

 أما زلت تذكرين؟ ماذا وجدت في تلك الغرفة؟ تعالي أذكّرك بتلك اللحظة التي دخلتُ فيها تلك الغرفة، وأغلقتُ الباب ثم استدرت كي أبحث عن علبة أو صندوق ما، فما وجدت أمامي غير عينيك، تحدق بي بخوف، بشوقٍ، وبخجل. 

وجدتكِ أنتِ يا أجمل هدايا القدر، وجدتك تختبئين بين سلال الغسيل كلؤلؤة مفقودة. أربع خطوات تفصلني عنك، لا حواجز بيننا، وحيدان وقلبانا يترقبان. عيناي تحدقان مباشرة في عينيك الجميلتين ، وعيناك تحدقان في بلاط الأرض حتى رفعْتِ رأسك وبرقتْ مُقلتاك.. نظرةٌ بنظرة.. والباديء أظلم! فابتسمتُ واقتربتُ منك أكثر. "حبيبتي، آهٍ منك.. ماذا فعلت بي، أترميني في هاوية الغواية ببساطة هكذا.. أحبك يا مجنونة.. أحبك يا شقية.. أح" وما ردعني عن إتمام ثالثة الحب إلا عناقٌ اقتحمْتِ به صدري وشددت يديكِ حول ظهري. 

 ولا أتذكر حقاً ماذا حصل بعدها، ما أذكره هو أن عقارب ساعتي جُنَّ جنونها وراحت تدور بسرعة عجيبة حتى سمعت رنين هاتفك ليبلغك بوصول السائق. أشرتِ لي بإشارات معينة لم أفهمها ولكنها كانت تدل على أنك سترحلين الآن فعانقتك مرة أخرى، عناقاً يسألك البقاء. رحلتِ وبقيتُ وحدي أطالع زوايا الغرفة. 

 بعد ذلك اللقاء.. أو بعد ذلك العناق كان لا بد من أن أتعلم لغة جديدة، لغة من خلالها أستطيع أن أفهمكِ أكثر ، أن أفهم تلك الإشارات التي صنعتيها بيديك يوم اللقاء دون أن أستطيع أدراك معناها، ولم أجد غيرك يا أجمل معلمة في حياتي. وكم كنتِ سعيدة وفرِحة حين أخبرتكِ بأنني أريد أن أتعلم لغة الإشارة وسألتيني: "حبيبي .. لِمَ تريد أن تتعلمها؟". فأجبتك بحب: "لكي أفهم غضبك وخجلك وكلمة أحبك التي تصنعينها بيديك". أجبتِ: "لا تقلق، فغضبي وخجلي ستراهما على وجهي قبل يديّ، وحينما أريد أن أقول (أحبك) سأشير بأصبعي نحوك ثم سأغرسه بوسط صدري". قلتُ: "هيا أريد أن أراكِ وأنت تفعلينها". أجبتِ: "يا مجنون، كيف ستراني؟". قلتُ: "الأمر بسيط جداً.. لديك (سكايب)؟". 

 وجلست أمام شاشة حاسوبي أنتظر تلك العلامة الخضراء التي تبشر بحضورك. وعلى الرغم من أنه لقاء افتراضي في عالم افتراضي إلا أنني شعرت بأنك تمثلين حقيقة أمامي وكأنني أراكِ للمرة الأولى. كان جمالك مربكاً، يأكل صوتي ويجعلني أتكلم بلا كلمات.. وتجمدت أمام شاشتي، وانا أنظر إليك.. أنظر ، لعينيك ، لشفتيك .. جميلة جميلة أنت! ولا أستطيع فعل أي شيء في حضرتك ! 

 كنتِ تخجلين من بث نظراتي تجاهكِ، تخجلين برؤية الدهشة في بؤرة عينيّ، فتهربين مني لأنني فقط أذوب حينما أراكِ! وبدأ أول فصول التعليم.. كنت تشيرين بيديكِ بطريقة ما ثم تكتبين ماذا تقصدين بهذه الإشارات، فعلمتيني كيف أصنع حروف الهجاء بيداي، وكيف أمسح على صدري لأقول لك إني بخير. وكنت تلميذاً فذاً نجيباً. 

 استمرت لقاءاتنا الإفتراضية على هذا النحو لأيام كثيرة. كانت كل الامور تمهد الطريق لي لكي أطرق باب بيتها، كان كل شي يقول لي هيا إذهب وطوّق أصبعها بخاتم وعهد بينكَ وبين أبيها. لم أكن أحتاج لشيء يكلمني كي أتقدم لها، فقط كنت بحاجة لأكمل نصف ديني بها، ولأكمل سعادتي حينما أكون أباً لطفلها. كنت حين أتخيل أنها ستكون زوجة لي، أشعر بدغدغة ناعمة في شرايين قلبي، دغدغة تضحكني كثيراً كطفل في المهد. كنت أشعر بأنني سأقبِلُ على أيام مليئة بالفرح وبالحب ، وأحس بأنني سوف أقبل على صباحات رقيقة ناعمة تشرق من عينيها، وأمسيات حمراء تختبيء في أحضانها. 

مشيت بخطوات نحو أمي.. أمي التي أفنت نفسها في سبيل سعادتي وسعادة أختاي، اليوم هي وبكل قسوة تمزق قلبي إرباً إرباً وتلقي بأجزائه في بحر الحزن العميق .. أمي التي أحبها جداً جداً ولم أظن يوماً أنني سأكره قولها ، كرهت اليوم قولها وتفكيرها ولم يشفع لها في قلبي إلا أنها حملتني تسعة أشهر في بطنها وأن جنة ربي تحت قدميها. كيف لك يا أمي أن تمنعيني وتبعديني عن سعادتي، وأن ترفضي أجمل قدر كان سيكتب لي.. كيف لك أن تقولي"لا" في وجه ابتهالاتي وأنا طفلك المدلل الذي لم يسمع من قبل لاءك! لم يكن رفضك للأمر مقنعاً أبداً يا أمي.. لم يكن عادلاً.. لم يكن منصفاً أبداً ...وكان قرار رفضٍ لا استئناف فيه، كان قراراً عنصرياً قاتلاً... هل لأنها بكماء.. خرساء؟ لا تستطيع النطق؟ لا تستطيع إجابة الصوت؟ ألم تعلمي يا أمي أني رضيت صمتها الجميل وفضلته على ألف وألف شفاه كاذبة؟ وها أنا أقسو على أمي الآن من أجلك.. من أجل حب وضعني على هاوية الجحيم دون أن تعلمي أنت يا حبيبتي بثورتي على حكم أمي.. 

لم أخبرها أبداً بما حدث معي، بما قالته أمي، بت أمثل السعادة عليها، أكذب وأخبرها بأن يوم اللقاء الحقيقي سوف يأتي في القريب وسوف نفرح سوياً وسنبكي من الفرحة معاً.. صرت أشعر بالتعاسة حين أقرأ رسائلها.. قلّت رسائلي لها، وكذلك كلمات الحب التي أكتبها لها قلت . بدأت أهملها كثيراً، ولا أهتم بحاجتها لي ونداءها.. كنت أختم محادثتنا بقول: "لا حرمني الله منك يا حلوتي". وها أنا الآن أحرم نفسي منك، أحرم قلبك من قربي دون أن تدرى وتعلمي لما هذا الحرمان ولما هذا البعد القاسي. 

 قلتُ: صباح الخير يا جدتي... ما خطبك يا أمي؟ أرى دمعاً محبوساً في عينيك! فقالت جدتي: صباح الخير يا هتان. لقد شاخ القلب وهرم يا بني وقرب موعد الرحيل.. أسمع دقاته.. أسمع في داخلي نداء الموت.. أحس أن قلبي لم يعد يحتمل نبضاته .. قلت: لا تقولي هكذا يا جدتي، إنها وساويس شيطان وسيهرب منك حين تذكرين الله.. أعلم أنكِ لا تحبين المستشفيات ولكن كوني مستعدة اليوم حين أعود من عملي سوف نذهب للمشفى ونطمئن أكثر على صحتك.. 

 أنهيت عملي وتوجهتُ عائداً للمنزل لكي أقِلَّ جدتي وأذهب بها للمشفى.. وأنا في الطريق اتصلت على جدتي لتكون مستعدة للخروج. أجابتني وقالت إنها ستذهب فقط من أجلي، وأخبرتني أيضاً أن طفلتها البارة بها سترافقنا أيضاً.. حنين طفلتها التي لا تتركها أبداً لوحدها! لقاء آخر سيجمعني بها، لقاء غير متوقع ولكني أجزم بأنها هي من صممت على القدوم حينما علمتْ أن جدتي ستذهب لوحدها معي.. ترى أي لقاء هذا سيكون: لقاء حب أم لقاء عتاب على إهمال العاشق لمحبوبته.. هل أبتسمُ لها حين أراها؟ ولكن كيف سأبتسم في وجه أوجعته بغيابي عنه، كيف أبتسم أمام قلب خذلته بابتعادي عنه.. لقاء لم أتمناه، لقاء دقائق من وجع وخذلان.. 

 وكم كانت نظراتها الحزينة نحوي تؤلمني بل وتقتلني . تلك النظرات الحائرة والباردة بين الحبيبين هي أقسى من أي عتاب بل هي وسيلة تعذيب مؤلمة.ماذا حل بنا ، لماذا تغيرنا هكذا، فجأة تغيرنا أو تغيرتُ أنا فقط. لماذا لم أعد ذلك الرجل الذي يحترق شوقاً لرؤيتها، لماذا لم أعد ذلك الرجل الذي أقسم أن لا يُبكي أبداً عينيها . وصلنا للمشفى. توجهت لركن الإستقبال وطلبت موعداً عاجلاً مع طبيبة لتقوم بفحص جدتي. انتظرنا حتى صاحت إحدى الممرضات بإسم جدتي فدخلنا لغرفة الطبيبة. التقينا هناك بطبيبة عربية يوحي منظرها بأنها شابة صغيرة، بدأتْ بالتحدث مع جدتي وسألتها عن أوجاعها وبماذا تشعر به، وفي حينها كنت أنا من يتالم قلبه برؤية حنين أمامي دون أن أستطيع أن اقدم لها اعتذاراً على غيابي، على دقائق الإنتظار التي سهِرَتها راجية وصالي. في تلك اللحظة، تمنيت لو كان لكِ صوت يُسمع. تمنيت أن أسمع منك عتاباً فمهما كانت كلماته قاسية أو مؤلمه فإنه أهون من هذا الصمت البارد. آه لو كنتِ تتحدثين فقط لما وصلنا لهذا الحال الموجع . انتهتْ فحوصات جدتي وأخبرتنا الطبيبة بحال حسن وأنها بخير ولكنها تحتاج للراحة وعدم بذل أي مجهود قد يرهق قلبها. خرجنا مسرورين بهذه النتيجة، وقبل خروجنا من المشفى جاء صوت الطبيبة منادياً: أستاذ هتان.. أستاذ هتان.. نسيت إعطائكم وصفة لبعض الأدوية التي تحتاجها جدتكم.. لو سمحت اتبعني للمكتب لأكتبها لك.. لحقت بالطبيبة بينما جلستْ جدتي وحنين على المقاعد القريبة من باب الخروج تنتظران عودتي. وفي حجرة الطبيبة كانت الطبيية تكتب الوصفة وهي تبتسم وكأنها خجلى من أمر ما. 

أعطتني الطبيبة رقم تليفونها وطلبت مني أن أتصل بها لأطمئنها عن أحوال جدتي.في اليوم التالي اتصلتُ بالطبيبة وطمئنتها على جدتي. وبعد حوالي الساعتين من اتصالي بها اتصلتْ الطبيبة بي وطلبت مني أن نصبح أصدقاء فلم أمانع، وطلبت مني أن أناديها باسمها ديالا. 

 أرسلتْ حنين لي رسالة عتاب ختمتها بقولها: "أرجوك يا حبيبي، عُد لي ورُدَّ لي دَيْني.. سأنتظرك.. وسآكل بأناملي في كل دقيقة لا تقترب فيها مني. أكرهك يا هتان لأنك جعلتني أكتب لك هذه الرسالة، وسأكرهك أكثر وأكثر ياهتان حين تقرأها ولا تأتي راكضاً محطماً لباب عزلتي.. لا زلت أحبك.. * ملاحظة: هناك أمر هام قد حدث.. أرجوك لا تجعلني أيأس منك، لا تجعلني أبحث عن طريقٍ لنسيانك.. حنينك..". قرأت الرسالة.. وبحزن أرسلتها إلى سلة المهملات.  

عندما سمعت ديالا تغني أحسست بصوتها يصرخ داخلي يوقظني من غفلتي، ويحرك قلبي من جديد، ويركل بحنين المسكينة إلى آخر الأزقة في قلبي، ويجعل لها في صدرى شريكة أخرى.. علمتني ديالا الكثير والكثير.. علمتني أن الحب ضيف لطيف يستقرويتمكن في أجسادنا متى ما أكرمناه، ويرحل عنا بعيداً متى ما بدأنا نشتكي منه.. وعلمتني أيضاً معنى أن أنسى حباً بحب آخر.. أن أستبدل الحب الذي يستعصي عليَّ نيله بجسد آخر يغدق علي بالحنان والإهتمام، لا يربطني به أمنيات ووعود أخاف منها وأخاف عليها غدر الزمان والقدر. 

صارحتني مرة ديالا بقولها إنها امرأة نصف متزوجة.. سألتها وكيف يكون هذا؟ أجابتني: يحدث هذا عندما يكون هناك امرأة نصف متزوجة عندما تتزوج نصف زوج.. زوج لا يريد منها سوى جسدها، يريده أن يكون متأهباً له متى ما اعتلت شهوته بعد منتصف الليل. 

 باحت ديالا لي بسرها، وأخبرتني بتفاصيل ليلة هروبها من بيتها وأصدقائها وأهلها ووطنها.. قالت إنها أرادت الهرب، أرادت أن تحيا كما تحيا هي الآن، واعترفت لي أنها لم تكره هذا الرجل الذي هربت معه، فقد كان كريماً معها وأغدقها بأمواله ومهد طريق علمٍ تعلم أنها لن تجده في بلدها مهما تعبت وصبرت.. أمضت حياتها في ترفٍ لم تعرفه من قبل، وأرادت أن تصنع في حياتها فرقاً واضحاً لا يجعلها تندم على الهروب من عشها.. فقضت خمس عشرة عاماً تتعلم وتدرس حتى ارتدت عباءة التخرج السوداء.. ارتدتها ولكن لم يكن هناك أحد يُصفق لها حينما اعتلت منصة التتويج، ولم يرها أحداً عليها أبداً.. 

 أحببتُ ديالا، وأحببتُ وجودها.. اقتربنا من بعضنا أكثر وأكثر .. أصبحنا نتبادل الرسائل صباحاً ونثمل بالحكي مساءاً.. نتحدث طويلاً ولا شيء يقاطعنا. سافرت أنا وديالا إلى بيروت.. ومكثنا في شقة صغيرة في أحد الفنادق البيروتية المطلة على البحر. احتضنتنا بيروت واحتضننت جنوننا وأشعلتنا كعودي كبريت ملتهبين . تلطخنا بطين الرذيلة دون أن نبالي بالعواقب الوخيمة التي قد يحملها لنا القدر.. كان حبنا إجازة وانتهت بعد ملل وأسف.. 

 عدت إلى الرياض خائباً ومنكسراً ، عدت بعد صحوتي من سكَر الحب المزيف.... ظننت نفسي بأني سوف أنسى حنين مع أول قبلة تجمعني بديالا.. ولكن ظني خاب حينما صرخ قلبي باسم حنين، معلناً عن حسرته واشتياقه لها .. 

 وصلت إلى بيتي في الرياض منهكاً تعباً من صراخ قلبي ومن صداع ذاكرتي. وقبل أن أنام كتبت رسالة لحنين: "يا من اشتقتُ لها كثيراً.. يا من يفتقدها قلبي كثيراً.. لك أسفي يا حنيني على كل ليالي الغياب الطويلة ، على ندائك المتواصل الذي لم تسمعه أذناي ولا قلبي.. سامحيني.. سامحيني يا طيبة القلب واقتربي فإن في صدري جرحاً لن يبرأ إلا بقربك.. وعلى وجنتي دمع لن يجف إلا بمنديلك.. أعلم أنني عذبتك و آلمتك بما يكفي لتعودي، وأعرف أنني أبكيتك بما يكفي لتشتاقي لي.. وأعرف أنك لا تعلمين عن سبب هجراني وصدي المميت. ولكن الدنيا يا دنياي تآمرت علينا ولم تشأ أن تجمع شملنا.. أيتها البريئة كطفلة عمرها دقيقة.... لا تحزني..ولا تبكي ... أنا هنا الآن أنتظرك... وسوف أنتظرك إلى أن أنام وحيداً في غرفة صغيرة في باطن الأرض.. أحبك.. هتان ". ثم راحت عيناي في سبات كم تمنيت ألا أفيق بعده.. 

 نسيت نفسي... ونسيت ياحنين أنك وطني.. أنك انتمائي والأرض التي تتفتح على تربتها أزهاري بنقاء وبطهر، وأنك ومهما ابتعدت عنك سوف تبقين دائماً مستقرة في قلبي.. ولكني منذ أن خُلقت وأنا آتي متأخراً جداً.. كنت الأخير في دفعتي حينما أنهيت المرحلة الثانوية، وفهمت متأخراً أن لا شيء يبقى للدوام.. وكنت كذلك الأخير الذي علم بموعد زواجك! قالتها جدتي وهي تخبرني عما حدث في غيابي.. قالتها وهي تطير في سماء الفرح: أخيراً.. أخيراً يا هتان، جاء النصيب المنتظر لابنة عمك.. حنين!.. قالتها جدتي وهي تبشرني بموعد هلاكي.. قالتها ولم تدرِ أنها في تلك اللحظة قتلت ابنها ببشارةٍ مُرّة.. 

 هكذا إذن.. هكذا أعلنتِ الرحيل وطويتي صحف الحب كلها.. هكذا اخترتي طريقة الرد لثأرك من غيابي وردِّ دينِ حبك من وجداني.. عيناي التي دهشتا من لونِ بؤرتي عينيكِ لم تستطيعا تصديق هذا القول.. لم تذرفا دموعاً.وتبكيان . ولكنها كادتا تخرجان من مكانهما من شدة دهشتهما! 

"سترحلين هكذا؟ صبراً أيتها الأنثى الماكرة.. صبراً أيتها الأنثى المسكينة والحزينة.. لا ترحلي عني.. لا تتركيني وحدي هنا .. وربُّ الحب الحزن والبكاء، وربي وربك لا حياة لي دونك.. أنا أخطأتُ.. وعقابك أقسى من خطئي.. أيتها الشقية لا تشقيني ولا تدمريني.. 

 آه يا حنين.. آه يا حبيبتي.. أتقتليني وتذبحيني بصكٍّ شرعي يبيح قلبك لرجل آخر غيري على سنة الله ورسوله! أتقتليني باسم الدين وتحرمين حبي لك وتحرمين حبي لك وترحلين للطهارة وأبقى أنا هنا ألطخ وجهي بالطين ألماً ووجعاً على رحيلك؟ أخبريني ماذا عساي أن أصنع كي ترجعي عن قرارك وتركضين باكية لصدري.. 

 يا من بدأ عمري معها.. يا من أنجبتني من رحم عينيها.. ترفقي بصاحبك.. ترفقي بعزيز قوم ذل! أقف الآن وحيداً على حدودك.. أرجوك افتحي بوابة قلبك ودعيني أعود لوطني وعرشي الذي سيضيع برضاك مني.. هتان.." 

وانتظرت جواباً منكِ، انتظرته بشوق وبشغفٍ مثلما انتظرت جواب الحب منك في أول ليلة جمعتنا على مائدة العشق.. كنتُ مشتتاً تائهاً لا أدري ماذا أفعل بحالي.. أأبكيكِ أم أنتظر علَّ الإنتظار يقضي برجوعك.. 

 يحزنني ويؤلمني أني أحاول الآن كتابة نهاية تليق بك.. يوجعني أني أكتب نهاية قصة عشقنا المؤلمه وأني بعدما أنتهي من كتابتها سأعود لأكتبك مجدداً فمنذ أن رحلتِ وأنا لا أعرف طريقاً غير الكتابة أستقله لأهوّن على نفسى من وطأة الحزن.. قرار رحيلك كان قاسياً وظالماً ، قرارٌ لا استئناف فيه..وعودتك أصبحت شئ مستحيل.. فكيف تعودين وأنت الآن أصبحت أمٌ أرضعت طفلين، وأنا أبٌ أنجب حنيناً! 

هكذا هي دنيانا يا حنيني، لم تعطنا ما نريد، ولم تحاول كسب ودنا بلقاء آخر غير ذلك الذي جمعني في ليلة زفافك.. في ليلة اعتكافي على رصيف مغادرتي النهائية من حياتك.. هل تذكرين ما حدث تلك الليلة؟..لقد كنتِ تسيرين متأبطة ذراع ذلك الأبكم.. فرِحة به وكأنه ذاك الفارس الذي حلمتِ به كثيراً.. وأنا كنت أتأمل مشهد ضياعي من على بعد مسافة خمسة أقدام ومئة دمعة وألف آه.. ها أنا أنظر إليكِ من بعيد، أراك تسيرين ووراءك فستانك الأبيض. ولحقتُ بكما إلى هناك، إلى ذلك المكان الذي سيعلن رسمياً بأنكما زوجان.. وبقيت هناك وحدي في عتمة الليل أسترق النظر لنافذتكِ. 

 لا أزال أذكرك ، أربع سنين من الفراق ولا أزال أذكرك.. أربع سنين من الفراق، لم أمت فيها، بل عشت بقلب ميت وخالي من معاني الحب.. وأنت سارت حياتك على أكمل وجه جيد، فقد أخبروني أنك أنجبت طفلتين وأن طفلتيك ولدتا بصوتك الضائع، وأنهما ألغتا الهدوء الذي يسكن زوايا منزلك بصوتيهما العذبين.. أخبروني أني أهلِكُ نفسي بالوقوف على أطلالك، ويجب علي أن أنساك وأن أطرق أبواب الفرح دونك.. ولم يعلموا أنكِ فتاة لا يمكن أن تُنسى.. وأن ما كان بيننا أطهر من أن يُنسى.. 

 يشتد حزني وجزعي كلما تذكرت أن مجتمعنا كله وقع ضدنا صارخاً: "لا يليق برجل سليم أن يرتبط بأنثى ناقصة". وكأنه يضع لنا معاييراً للحب لا يجدر أن نُخلَّ بها لننال تبريكاته بهذا الحب.. يُحزنني أن امرأة مثلك طاغية الجمال وحسنة الصفاتِ لا تملك فرصاً كثيرة لتحيا كما تريد ومع من تريد، وتُجبر على أن تكون لمن هم على شاكلتها.. أجرموا في حقنا يا حبيبتي، أبعدونا عن بعضنا ببند (لا يصلح) أو (لا يليق) وتجاهلوا أننا معاً نستطيع أن نتخطى عقبة الصوت لأكون لك صوتك وتكونين لي صمتي.. 

ستبقى هذه الأوراق غير مكتملةٍ، ينقصها الجزء الآخر.. ينقصها أوراقكِ يا حنيني.. ولا أدري ماذا سيحل بهذه الأوراق.. لا اعلم أين سأخبئها ومتى سأظهرها ومن سيقرأها.. لا يهمني مصير هذه الأوراق، ولكن إذا مرَّ يوم ووصلت أوراقي ليديكِ، فأرجوك لا تقرأيها.. لا تقرأي حزني لكي لا تحزن عيناك.. 



                               النهاية.
تفاعل :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. رائعون حقيقةً، تلخصون الروايات دون إفقاد الرواية روحها..التعليق الوحيد أنه أحيانًا يكون الإلقاء بوتيرة سريعة .. أحيانًا فقط ..كل الشكر

    ردحذف

إرسال تعليق