القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: الحب في زمن الكوليرا: غابرييل ماركيز. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.

<br />



لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجوشو ..الرابط التالي :



"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """












تلخيص رواية:
 الحب في زمن الكوليرا: غابرييل ماركيز. 
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.




 






لا مناص: إن رائحة اللوز المر كانت وما تزال تُذكره دوماً بمصير الغراميات غير المواتية. هذا ما أدركه الدكتور خوفينال اوربينو عند دخوله البيت الذي ما زال يقبع غارقاً في الظلام، إذ حضر مسرعاً وعلى عجل للإهتمام بحالة لم تعد مستعجلة بالنسبة له منذ عدة سنوات ، فجيرميا دي سانت ـ آمور، مشوه الحرب، ومصور الأطفال، قد تخلص من عذابات الذكرى التى تلاحقه باستنشاقه أبخرة سيانور الذهب. وجد الجثة مغطاة بشرشف خفيف فوق السرير الضيق، حيث كان ينام. 

كان الميت بارداً ومتيبساً، وساقاه بدتا نحيفتان كساقي يتيم. تأمله الدكتور خوفينال اوربينو للحظة بقلب حزين يعاني ألماً، وقال له: أيها الضعيف الجبان. الأسوأ كان قد انقضى. ثم عاد وغطاه بالشرشف واستعاد وقاره وإتزانه الأكاديمي. 

كان في العام الماضي قد إحتفل بعيد ميلاده الثمانين في احتفال رسمي بهيج إستمر لثلاثة أيام. لم يكن هو أكبر الأطباء عمراً وأكثرهم شهره في المدينة وحسب، بل وكان الرجل الأكثر تجملاً فيها. كان الدكتور خوفينال اوربينو له نمطٌ بسيط خاص من العادات يتبعه منذ أن انقضت سنوات السلاح المضطربة الأولى، وقد أحرز مكانة عالية لنفسه وسمعة لا مثيل لهما في كل المقاطعة التى يقطنها . كان يستيقظ مع صياح الديوك الأولى، ويبدأ ساعته الاولى بتناول أدويته السرية لبعث النشاط في جسمه . عندما يصل الى مكتبه يبقى لمدة ساعة، لتحضير محاضرته لدرس الطب العام الذي واظب بإنتظام على إلقائه في مدرسة الطب كل يوم من أيام الأسبوع. وبعد الإنتهاء من تحضير الدرس ، يبدأ يمارس تمرينات التنفس العميق لمدة ربع ساعة في الحمام، مقابل النافذة المفتوحة. وفي الساعة الرابعة تماماً يخرج لعيادة مرضاه في منازلهم . 

كان يقوم بجولة منهجية منتظمة ودقيقة لدرجة أن زوجته كانت تعلم إلى أين ترسل في طلبه إذا ما طرأ شيء ما مستعجل. كان يقع منزل الدكتور خوفينال في حي لامانغا السكني، على الخليج. إنه بيت واسع فسيح وبارد، يتألف من طابق واحد. كانت توجد في كل أنحاء البيت أصص وتماثيل من الرخام المعرق ومزهريات . أما فيرمينا داثا، زوجة الدكتور، والتي تبلغ من العمر اثنتان وسبعون عاما ً، كانت مولعة وشغوفة لحد العبادة بالأزهار الإستوائية والحيوانات الداجنة، ولقد استغلت منذ بدء الزواج كل وسائلها كي تقنع زوجها وتقتني منها في البيت أكثر بكثير مما ينصح به العقل السليم. ارتدت فيرمينا داثا فستاناً حريرياً، فضفاضاً ومفلتاً، خصره عند الوركين. كان هذا الفستان يناسب تماماً جسدها ذي العظام الطويلة، والذي ما زال يحتفظ به قوامها الممشوق النحيل ، وكان ملائماً لشعرها الفولاذي الأزرق، والذى كان ينزل بشكل مائل على مستوى الخد. 

عاد زوجها إلى البيت وبيده رسالة، قال: لم يكن جيرميا دي سانت إلا شخص هارب من كايينا، ومحكوم عليه بالسجن المؤبد على جريمة قام باقترفها هناك. ثم أعطى الدكتور اوربينو الرسالة التي وجدها في بيت جيرميا إلى زوجته، ولكنها أخذتها وخبأتها دون أن تقرأها،ووضعتها في الدرج وأقفلت عليها بالمفتاح، ثم قالت وهي تعدل له عقدة ربطة العنق: أسرع سنصل متأخرين. كانت أمينتا ديتشامباس، زوجة الدكتور لايثدس اوليفييا، وبناتها السبع المتحمسات، واللواتي قمن بإعداد كل شيء من أجل أن يكون بوفيه غداء اليوبيل الفضي هو حدث السنة الإجتماعي. وصل الدكتور اوربينو إلى المنزل مع زوجته. حينها بدأت بالعزف فرقة مدرسة الفنون الجميلة الوترية وسط صمت وسكون استمر حتى النغمات الأولى من معزوفة لاتشاس لموزارت. نظرت فيرمينا إلى زوجها وقالت: لا تفكر في الأمر.

 تشارك الدكتور اوليفييا في نقاش مع استاذه الدكتور اوربينو. وقال له: من المؤسف لنا أن نلتقي بمنتحر كان دافعه للإنتحار ليس الحب. فقال اوربينو: بل الأسوء من ذلك كله أن انتحاره تم بسيانور الذهب. حينها بدأت أمينتا دي أوليفييا، المتألقة بهجة وسعادة ، بتقديم الحلوى للضيوف على الشرفات، إلا أن الدكتور اوربينو وزوجته انصرفا قبل تذوقها، بسبب ضيق الوقت المتبقي والذي يكاد لايكفيه لنوم قيلولته المقدسة قبل أن يذهب إلى الجنازة. استيقظ الدكتورأوربينو من قيلولته ، لبس حذائه ، ودس يديه في حمالتي البنطال، وصعد على السلم ليستطيع أن يصل إلى الببغاء، التي هربت من القفص واستقرت على أحد أغصان شجرة المانجو، شعر انه أساء تقدير ارتفاع الغصن، فتشبثت يده اليسرى بالسلم وحاولت اليد اليمنى الإمساك بالببغاء. حينها جاءت الخادمة العجوز لتنبيهه إلى موعد الجنازة الذى اوشك أن يتأخر عنه ، فرأته وهو على السلم غير ثابت ويكاد السلم ان ينزلق به فصرخت: يا الله سوف يقتل نفسه! وفجأة وقبل ان تكمل عبارتها انزلق السلم من تحت قدمي الدكتور.

 سمعت فيرمينا من مكانها صرخة الرعب التي أطلقتها الخادمة، فركضت كالمجنونة إلى الفناء ، وقفز قلبها من مكانه عندما رأت زوجها في الوحل مطروحاً ارضاً على ظهره ، بين الحياة والموت ، ولكنه بقي يقاوم ضربة الموت الأخيرة ريثما تصل هي. واستطاع أن يقول لها مع النفس الأخير وبصوت ضعيف : يعلم الله وحده كم أحببتك. منذ بدء اللحظة الأولى في حياة فيرمينا كأرملة، بدا أنها ليست بائسة كما كان يخشي زوجها. 

اتخذت موقفاً حازماً وأصرت على عدم السماح باستخدام الجثة في سبيل أي قضية، وأغلقت الأبواب بعد الدفن، ولم تعد تفتحها إلا لبعض الزيارات الحميمة القليلة . لم يكن سهلاً عليها أن تتماسك مذ اللحظة التي سمعت بها صوت الخادمة في الفناء، ورأت رجل حياتها وهو يحتضر في الوحل، أمام عناد الموت إستسلمت ، وتحول ألمها إلى سخط أعمى ضد العالم، بل وضد نفسها بالذات. 
شعرت بشيء من التأثرالبالغ عندما حملوا التابوت، وقبل أن يغلقوا عليه التابوت، نزعت فيرمينا من يدها خاتم الزواج ووضعته في يد زوجها الميت، ثم ربتت على يده بيدها. وقالت له: سنلتقي قريباً جداً! شعر فلورينتينو أريثا، المختفي بين جموع المعزيين ، بحربة حادة تخترق خاصرته، فلم تكن فيرمينا قد ميّزته وعرفته وسط صخب التعزيات الأولى. كان يبدو كشيخ كبير هرم. كان يملك قامه معتدله ، وبشره بنية، وله شارب رومنسي. أنفق اموالاً طائلة كي لا تظهر عليه آثار السنوات الست والسبعين. وعند إنتهاء العزاء في اليوم الأخير ودعت فيرمينا معظم المعزين ، ورافقتهم حتى الباب الخارجي، هناك رأت فلورينتينو، فأحست بنوع من البهجة لأنها كانت قد محته من حياتها منذ سنوات طويلة. 
اقترب منها وقال: فيرمينا.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى حبي الدائم و قسم وفائي الأبدي. حينها كان رد فعلها عنيفا ولعَنته لانتهاكه حرمة البيت بينما جثة زوجها ما زالت ساخنة في القبر. قالت له: إنصرف، ولا أريد أن أراك ثانية. ثم صعدت إلى غرفتها وأخذت تنتحب وتبكى للمرة لأولي منذ مصيبتها. وفيما هي تحاول أن تنام منتحبة كانت تفكر بفلورينتينو أكثر من تفكيرها بزوجها الميت. لم يتوقف فلورينتينو عن التفكير بفيرمينا للحظة واحدة منذ أن رفضته بلا استئناف إثر غراميات لسنين طويلة متناقضة، وقد انقضى منذ ذلك الوقت إحدى وخمسون سنة وتسعة شهور وأربعة أيام.
 لم يكن ليمر يوم إلا ويذكّرها. كان يعيش مع أمه وحيداً. عندما مات والده كان في العاشرة من عمره. إشتغل في وكالة البريد، وتعلم على عزف الكمان. 

وعندما تعرّف على فيرمينا داثا، كان في الثامنة عشرة من عمره، وكان أكثر الشبان نشاطاً وشهرة في وسطه الإجتماعي. أول مرة شاهدها بها عندما ذهب إلى منزلهم لإيصال برقية لوالدها. كانت نظرة عابرة، ولكنها كانت تكفي لصنع كارثة حب لم تنته بعد مرور نصف قرن من الزمان. كان فلورينتينو يجلس كل صباح في الحديقة ، ينتظر مرورتلك الفتاة المستحيلة بزيها المدرسي. وأخذ هذيانه يزداد بها يوماً بعد يوم. وبعد أن سلمها أول رسالة ، فقد شهيته للاكل وراح يقضي الليالي مُسهداً قلقاً يتقلب في فراشه وينتظر الرد على رسالته.

 حينها تأكد فلورينتينو أن أعراض الحب هي نفسها أعراض الكوليرا. لم تكن فيرمينا داثا تعلم إلا القليل الشحيح عن معدن العاشق الصامت الذي ظهر في حياتها فجأة مثل سنونوة شتوية، والذي لم تكن لتعرف اسمه لولا توقيعه على الرسالة. وعندما استقصت عنه في حينها علمت أنه ابن بلا أب لامرأة عزباء، وعرفت أنه مساعد، جيد التأهيل، ويعمل في قسم التلغراف وذو مستقبل جيد واعد. 
أصبح الأثنان يتبادلان الرسائل بشكل شبه يومي، وفي لقاءات عرضية في الأزقة. وفي هذه السنه في شهر آب ، نشبت حرب أهلية جديدة من ضمن تلك الحروب الكثيرة، أما فلورينتينو فقد بقي في غيبوبته غير عابيء بما يحدث بحال الدنيا، وفي فجر أحد الأيام فاجأته دورية عسكرية ، ولقد نجا بمعجزة كبرى من تحقيقات أوليه بتهمة أنه جاسوس يبعث بالأخبار عن طريق إشارات ضوئية إلى السفن. 
فقال فلورنتينيو: أي جاسوس هذا الذي تقولون عنه وأي لعنة. أنا لست سوى عاشق بائس! وبعد مرور ثلاثة أيام خرج من الزنزانة وأطلقوا سراحه.

 وبعدها عرض فلورينتينو في إحدى رسائله الزواج رسمياً على فيرمينا. وحيث ان والدتها متوفاة ، وبناءاً على نصيحة عمتها، ، وافقت فيرمينا على عرض الزواج. أخبرفلورينتينو أمه بأمر الزواج، رحبت وإبتهجت بذلك ولكنها اشترطت أن تطول فترة الخطوبة حتى يتم التعارف بين الخاطبان بشكل أفضل ، وأن يبقي أمر الخطبة في طي الكتمان إلى أن يتأكد كلاهما من مشاعرهما عواطفهما تجاه الآخر . اقترحت عليه فيرمينا أن يطلبها من والدها عندما تنتهي من المدرسة الثانوية. وحتى ذلك الوقت ، تابعا التواصل بينهما وتبادل الرسائل بنفس الحماس ونفس الكثرة، ولكن من دون خوف كالسابق. وأخذت رسائلهما في نمطها وكأنها رسائل زوجين. ولم يكن هناك يوجد ما يعكر صفو أحلامهما.

 وفي أحد الأيام، جاء والد فيرمينا فجأة الى مكتب التلغراف وسأل عنه. وعندما تعرّف عليه، أمسكه من ذراعه وقال له: تعال معي أيها الشاب. أريد ان أتحدث معك حديث رجل لرجل. فما حدث يومها هو أن الراهبة في مدرسة فيرمينا أبصرتها وهي تكتب رسالة حب. وكانت هذه الخطيئة تعد سبباً كافياً للطرد من المدرسة. وتم استدعاء والد فيرمينا، اعترفت فيرمينا أمام والدها بخطيئة الرسالة، إلا أنها رفضت أن تكشف عن هوية حبيبها السري. قام والدها بتفتيش غرفة نومها، ووجد رسائل فلورينتينو. وتبين له أن ابنته لا تعلم عن خطيبها سوى انه يعمل في التلغراف وان هوايته المفضلة هى عزف الكمان. حاول الاب نصحها وإفهامها أن الحب في مثل سنها ما هو إلا سراب، ووعدها أنه سوف يساعدها لتكون سعيدة وهنية مع خطيب محترم. ولكن كان كلامه كمن يُحدّث ميتاً. 

جلس فلورينتينو ولورينثو في مقهى الباروكية. كان فلورينتينو قد شاهد لورينثو مرات كثيرة وهو يشرب النبيذ ويلعب في السوق العام. وكان فلورينتينو يعي ويعلم بقدرية الحب، بأنه سيلتقي بهذا الرجل عاجلاً أم آجلاً. فقال لورينثو: أنصحك بالابتعاد عن طريقنا. فقال فلورينتينو: أرى إنها هي التي عليها أن تقررهذا الأمر. فقال لورينثو: القضية قضية رجال وحسب ويجب تسويتها بين الرجال. فلا تجبرني بإطلاق النار عليك وقتلك . 
فقال فلورينتينو: فليكن ،أطلق! لم يمضي وقتاً طويلاً على ذلك ففي ذلك الأسبوع عمد لورينثو على حمل ابنته إلى رحلة النسيان. فمن دون اية مقدما ت او أي تفسير، اقتحم غرفتها وأمرها أن تسرع في تجهيز أمتعة السفر. فوضعت جميع ملابسها في صندوقين، فقد باتت متأكدة من أنها رحلة بلا عودة. وقبل أن تلبس ثيابها، حبست نفسها في الحمام وكتبت رسالة وداع قصيرة إلى فلورينتينو على ورقة من الورق الصحي. ثم قامت بقص ضفيرتها بالكامل من مستوى الرقبة ، ووضعتها في علبة من المخمل والصقت بها الرسالة. ومضت مخدرة و بلا حول ولاقوة مع أبيها. 

غابت عن بلدتها لمدة عام ونصف، ثم عادت وقد كبرت وبدت أكثر نضوجاً. قابلها فلورينتينو وتحدث معها، إلا أنها لم تكن تشعربالحماس و بهيجان الحب كما في المرات السابقة. قالت له: أرجوك، إنس كل شيء كان بيننا . وحينها عرف فلورينتينو أنها النهاية فيما بينهما. ولم تتح بعدها الفرصة لفلورينتينو لرؤية فيرمينا على انفراد، أو التحدث إليها، إلا بعد إنقضاء إحدى وخمسين سنة وتسعة شهور وأربعة ايام، عندما كرر على سمعها يمين الوفاء الأبدي والحب الدائم في ليلتها الأولى كأرملة. 

كان خوفينال اوربينو، وهو في الثامنة والعشرين العازب المرغوب ، قد عاد من رحلته بعد إقامة طويلة في باريس، حيث درس هناك دراسات عليا في الطب والجراحة. وكانت الصبايا في وسطه الإجتماعي في ذلك الوقت مفتونات بوسامته و بمحاسنه الشخصية، وكانوا يقترعن سراً ليلعبن أيهن التي سوف تبقى معه، وكان هو بدوره يلعب كذلك للبقاء معهن، إلا أنه إستطاع وتمكن من الحفاظ على نفسه في حالة الرزانه والاتزان المقبول وظل ، صحيحاً ومغرياً، إلى أن سقط فجأة و دون أية مقاومة أمام مفاتن فيرمينا العاميّة. 
كان هاجسه الدائم هو وضع المدينة الصحي ، وخاصة داء الكوليرا. فمنذ أن مات والده بداء الكوليرا تعلّم كل ما يمكن أن يستطيع طبيب ان يتعلمه حول مختلف أشكال الكوليرا. وفي ذلك االحين كانت قد أصبحت الكوليرا داءاً مستوطناً ومستفحلاً ليس في المدينة فحسب وإنما في ساحل الكاريبي كله، ولكن المرض لم يتفاقم بشكل كبير وتم حصره ، فقد طبقت السلطات العامة تنبيهات وأوامر الدكتور خوفينال أوربينو. وفرضت السلطات شعبة إجبارية خاصة بالكوليرا والحمى الصفراء في مدرسة الطب، وتم الإسراع في ردم المجاري والمصارف وبناء سوق جديدة بعيداً عن المزبلة.  
لم يكن حينها يعبأ الدكتور أوربينو بإعلان انتصاره كما أنه لم يكن متحمساً للإستمرار في مهماته الإجتماعية، لانه في ذلك الحين، كان مذهولاً ومشتتاً، ومستعداً لتغيير أي شئ ونسيان كل شيء في الحياة من أجل إشراق وبارقة حب فيرمينا داثا.

 لقد كان بالفعل ذلك الحب ثمرة تشخيص طبي خاطيء. إذ أن طبيباً صديقاً ظن أنه لمح على مريضة في الثامنة عشرة أعراض الكوليرا الأولية ، وطلب من الدكتور اوربينو الذهاب لمعاينتها . وحين ذهب الدكتور اوربينو لبيتها ورآها هناك، انبهر من محاسن الفتاة المراهقة الكثيرة التي تمتلكها ،. 
وتم تشخيص فيرمينا على أنها تعاني من التهاب معوي حاد وليس أعراض الكوليرا. وفي إحدى الليالي، وجد لورينثو داثا رسالة مختومة بالشمع في مدخل بيته، وقد طبعت على الشمع حروف: خ . أو. ك.وكانت موجهة الى إبنته فدسها من تحت باب غرفة نوم فيرمينا. قرأت فيرمينا الرسالة. كانت قصيرة للغاية ومهذبة، وكان الشيء الوحيد الذي يطلبه ويرجوه خوفينال أوربينو منها هو السماح له بأن يطلب من أبيها الإذن بزيارتها. 

تأثرت ببساطته وجديته وأدبه ، ولكنها قامت بحرق الرسالة بلهب المصباح. وبعدها وصلتها ثلاث رسائل أخرى على فترات متقطعه ، بعث لها مع الرسالة الأولى علبة أقراص بنفسج من دير فلافيغني. والرسالتين الأخريتين كانتا مختومتين بنفس الحروف على الشمع الأحمر، ومكتوبتين بخط رديء عرفته فيرمينا: خط الطبيب وكان محتواهما نفس مضمون ما احتوت أول رسالة وصلت. وبعد عدة أيام، كتبت فيرمينا رسالة، وطوتها، ووضعتها في مغلف، وبعثت بها إلى الدكتور خوفينال أوربينو. و كتبت فيها : أجل يا دكتور، كلم أبي . 

حين علم من الناس فلورينتينو أن فيرمينا داثا سوف تتزوج من طبيب ثري ونبيل ،. فقد النطق ولم يعد يتكلم مع أحد وفقد شهيته للطعام وكل ملذات الحياة ،وبات يقضى الليل يبكى مسهداً دون راحة. ولم تعد هناك قوة ممكنه قادرة على إخراجه من هوانه وشعوره بالهزيمه ،أقلقت حالة فلورينتينو والدته، فتحدثت مع عمه الذي استطاع أن يحصّل له على وظيفة عامل تلغراف في "فييا دي ليفييا"، والتي تبعد أكثر من عشرين الف كيلو عن مدينته . سافر فلورينتينو، ووما زالت ذكرى فيرمينا تكمن في ذاكرته وقلبه . 

كان يعلم أن يوم السبت القادم سوف تتزوج ، في حفل زفاف بهيج صاخب ، وكونه أحبها الى أبعد حد ممكن ان يصل اليه العشق ، وكذلك سوف يبقى يحبها إلى الأبد أكثر من أي كان. أصبح الحسد ملك روحه و سيده. وأخذ يدعوويتضرع الى الله أن ينزل صاعقة العدل الإلهية لتصعق فيرمينا داثا حين تهم لتقسم يمين الحب والولاء. إلا إنه وما إن رست السفينة في الميناء ، حتى قرر العودة أدراجه مرة أخرى إلى بلده على متن السفينة نفسها، حيث وجد نفسه أنه لن يتمكن من العيش بعيداً عن مدينة فيرمينا. وبعد ثمانية شهور من الغراميات مع النساء، أقنع فلورينتينو نفسه بأنه قد اجتاز عذاب حب فيرمينا داثا. ولكن فجأة عندما رآها بالصدفة ،ومن دون أي إيحاء سابق من قلبه، في يوم من أيام نجمه المنحوس، وهي خارجة من قداس الاحد ممسكة بذراع زوجها، لقد أضحت امرأة أخرى: رصانة الشخصية وإتزانها ، ، القبعة الرقيقة المزينة بريشة طائر،الحذاء العالي كل شيء فيها بدا فيها مختلفاً وبسيطاً. بدت أكثر شباباً وجمالاً من أي وقت مضى. أبصر انتفاخ بطنها، فقد كانت حاملاً في شهرها السادس. لكن أكثر ما أثر فيه وآلم نفسه هو أنها كانت تشكل مع زوجها ثنائياً نبيلاً محترماً. 

شعر فلورينتينوحينها باحتقار شديد لذاته. وشعر بأنه غير جدير بها،لا وبل غير جدير بأي امرأة أخرى على وجه الأرض. منذ اليوم الذي رأى فيه فلورينتينو اريثا فيرمينا داثا عند مدخل الكاتدارئية، وهي حامل في شهرها السادس ومتمكنة بالتمام من مكانتها الجديدة كامرأة عالية المقام ،اتخذ في نفسه قراره الصارم بالحصول على لقب مرموق وثروة ليصبح جديراً بها. حتى أنه لم يكن ليفكر ويتروَّ بالعائق الحائل في كونها متزوجة وأنها قريباً ستصبح اماً لطفل ليس هو اباه ، لأنه قرر في ذات الوقت ، وكأن الأمر بيده، أن الدكتور أوربينو لن يعيش طويلاًوانه سيموت قريباً. لم يكن يعرف كيف وأين ، ولكنه طرح الأمروالحدث على نفسه وكأنه أمر محتم، وانه لا يحتاج سوى الإنتظاروالتمهل دون التسرع. 
وهكذا بدأ يخطو فلورينتينو خطواته الأولى في شركة الكاريبي للملاحة النهرية.واضعاً في راسه هدفه الوحيد وهو إستعادة فيرمينا ،وقد كان على يقين من أنه سوف يصل الى هدفه هذا عاجلاً أم آجلاً. 
 لم يكن وضع فلورينتينو في حال حسن ، فالعمل المتزايد يوماً بعد يوم أثقل عليه، ثم أضيف الى تعبه أزمة أمه الصحية ، حيث فقدت ذاكرتها واصبحعقلها كصفحة بيضاء تقريباً. فقد كانت تلتفت إليه في كل مرة وتسأله متفاجئة: من أكون وأنا ؟ وإبن من انت ؟ فكان يضطر فلورينتينو للبقاء في البيت ملازماً لها من بعد خروجه من المكتب إلى أن يتمكن من تنويم أمه.

 بعد وفاة أمه عاد فلورينتينو إلى عالمه السابق: المكتب، ولعب الدومينو في مبنى النادي التجاري، وقراءة روايات الحب، وزيارة المقبرة في أيام الآحاد. وما كاد فلورينتينو يتم أربعين عاماً من عمره حتى شرع يشعر بعوارض وآلالام في عدة مواضع من جسمه ،هرع على أثرها الى الطبيب . وبعد فحوصات عدة ، قال له الطبيب: إنها أمورتقدم السن.

 وفي مجمل خضم حياة فيرمينا الجديدة، رأت فلورينتينو في عدة مناسبات عامة ، وكلما ترقى في عمله اكثر كانت تزداد مناسبات اللقاء به ، إلا انها تعلمت أن تراه بشكل طبيعي جداً وكانه اي شخص عادى . كانت الأشياء الوحيدة التي مازالت باقية فيه متحدية الزمن والموضة هي ملابسه القاتمة، ستراته كانت موضة منذ زمن مضى، وقبعتة الوحيدة، وربطة عنق الشاعر ، والمظلة المشؤومة. 

لقد اعتادت فيرمينا على رؤيته بطريقة مختلفة، إلى أنها لم تعد تربط بينه وبين المراهق الهزيل الذي كان يجلس حالماً ومتنهداً ينتظر قدومها بشوق تحت الأوراق الصفراء المتطايرة في حديقة البشارة. ولكنها كانت تفرح عند سماع أخباره الطيبة. كما أنها تشبثت بزوجها أكثر واكثر وخصوصاً عندما بدأ يمشي وحده متعثراً في ضباب الشيخوخة، فهو يكبرها بعشر سنوات، ولكن بعد مضي ثلاثين عاماً على زواجهما أصبحا وكأنهما كائن واحد مشطور إلى نصفين. 

في أحدى الأيام، أعد برنامج بمناسبة الإحتفال بمطلع القرن الجديد حافل بالنشاطات العامة . شاهد فلورينتينو فيرمينا تركب المنطاد هي وزوجها، ليحملا أول بريد جوي إلى "سان خوان"، كما رآها في الإستعراض الكبير للدراجات، الذي أقيم تحت رعاية زوجها. كل هذه الصورالتى تمركزت فى مخيلته ، كانت تخلف أثراً حاداً في حياته، إذ أنه لم يكن ليتعرف على قسوة الزمن وهوانه من خلال مظهره هو بالذات بقدر ما كان يتعرف عليه من خلال التبدلات العليا التي يلاحظها على فيرمينا كلما رآها. وفي كثيرٍمن الأحيان ما كان يرى فيرمينا وهي تمسك بذراع زوجها في ودٍ وانسجام تام، ينطلقون في جو خاص بهما، بانسياب مذهل.

 وبعد مدة بدأت فيرمينا تلاحظ بعض التغيرات على زوجها وتكتشف مدفوعة بأوهامها، التبدلات التي بدأت تطرأ على زوجها. أصبحت تراه مراوغاً غائباً قليل الشهية على المائدة وفي الفراش، ميالاً إلى السخط والغضب السريع وردوده متهكمة، ولم يعد ذلك الرجل الهاديء، وإنما أصبح أشبه بأسد مفترس محبوس.
 بدأت فيرمينا لأول مرة منذ زواجها تراقب تأخرة، وترصد أوقاته بالدقيقة. وهنا شعرت فيرمينا أن زوجها قد وقع في الخطيئة المهلكة. قبل خمسة أشهر ،كان الدكتور خوفينال اوربينو قد تعرّف على الآنسة باربرا لينش ، بينما كانت تراجع في العيادات الخارجية في مشفى الرحمة. كانت باربرا خلاسية (زنجية) ممشوقة القامة طويلة ، أنيقة، لبشرتها لون العسل الأسود. بعد أن قام بمعاينتها وفحصها، استطاع أن يتعرّف على عنوان منزلها ،وقرر في نفس اليوم مساءأً أن يمر من أمام منزلها . كانت باربرا تجلس في الشرفة عندما مر الدكتور اوربينو، فحيته بحماس ودعته لتناولَ فنجان قهوة معها ، وبكل سرور تناوله . ومن بعدها أصبحت زيارته للآنسة باربرا بشكل يومي، يقضي معها وقتاً ممتعاً في السرير.

 خلال أكثر من ثلاثين سنة من السلام الزوجي،لم تكن الغيرة لتعرف طريقها للبيت ، كان الدكتور اوربينو يفاخرويتباهى في الأماكن العامة بأنه مثل عود الثقاب السويدي، لايمكن إشعاله إلا من علبته. كان يجهل كيف يمكن أن يكون رد فعل زوجته باعتزازها الشديد بنفسها وبطبعها الحاد وكبريائها ، أمام خيانته لها . لذا صمم على أن يقطع علاقته بالآنسة باربرا. ولكنه يوماً سمع فيرمينا وهي تبكي وتنتحب في الظلام، وحين استيقظ صباحاً قالت له: أريد ان أعرف ..لي الحق أن أعرف من هي. عندئذ لم يجد مفر من أن يروى لها كل شيء، وشعر وكأنه يرفع عن كاهله ثقل العالم، لأنه كان متأكداً ومقتنعاً أنها تعلم كل شيء ولا ينقصها سوى التأكد من التفاصيل. حينها كانت بالنسبة إلى فيرمينا النهاية . فقد باتت متأكدة بأن شرفها صار يحكى على كل لسان قبل أن ينتهي زوجها من الإعتراف لها بخيانته مع خلاسية. 

بعد تفكير طويل ، قررت فيرمينا أن تبتعد وتذهب إلى مزرعة إبنة خالها، في بلدة فلوريس، كي تفكر جيداً وبشكل عقلاني قبل أن تتخذ قرارها النهائي بالإنفصال. لم تمكث فيرمينا طويلاً في المدينة التي تقطنها ابنة خالها حتى غطت فيرمينا نصف وجهها بالطرحة، لانتشار داء الكوليرا هناك. 
 بعد عدة أيام عادت فيرمينا بحنين وشوق إلى بيتها ، بنظرتها البراقة،ورأسها المرفوع ، وأنفها الحربي، شاكرة لله الطمأنينة العظيمة بالرجوع إلى البيت . فعادت مرةً أخرى سعيدة، ولكنها كانت مصممة على جعل الدكتور يدفع ثمن الآلام المريرة التي عانتها وحطمت حياتها. 

حين بلغ عم فلورينتينو الثانية والتسعين من العمر، إعترف بابن أخيه بأنه وريثه الوحيد ، وتقاعد من الشركة. وبعدها بأربعة شهور، وبإجماع وموافقة المساهمين، عُين فلورينتينو رئيساً لمجلس الإدارة لشركة الملاحة ومديراً عاماً لها . 
وبعدها بأيام عدة ، في يوم أحد ، في الساعة الرابعة بعد الظهر، سمع صوت النواقيس، فقال في نفسه : لا تقرع أجراس كهذا إلا من أجل حاكم فما فوق. وعندما سأل سائقه: لماذا تُقرع الأجراس الآن ؟ قال السائق: إنها من أجل ذلك الطبيب المعروف. لقد توفي إثر تهشم نخاعه الشوكي، عن إحدى وثمانين عاما ، أثناء سقوطه وهو يحاول الإمساك ببغاء.

 كل ما كان يفعله فلورينتينو منذ زواج فيرمينا، كان يرتكز على أمل سماع هذا الخبر. ولكنه الآن لم يشعر برعشة الإنتصار التي كان يتصورها في أوقات أرقه وبؤسه . كان فلورينتينو قد تخيل تلك اللحظة وتفاصيلها منذ أيام شبابه، حين كرّس كليتاً نفسه لقضية هذا الحب المجنون المتهور. 
فمن أجلها جاهد حياته ليحرز لقباً وثروة، ومن أجلها إعتني بصحته ومظهره الشخصي، وأخذ ينتظر ذلك اليوم دون ان يتقاعس أويمل لحظة واحدة. وأخيراً أيقن أن الموت قد تدخل لصالحه،وهذه المشاعر كلها بثَّت فيه الشجاعة التي كان يحتاجها كي يعود ويكرر أمام فيرمينا، قسم الولاء الأبدي وحبه الدائم.في ليلتها الأولى كأرملة لم ينكر أمام نفسه بأن ما قام بفعله كان عملاً طائشاً، ليس له معنى في هذا الوقت بالذات وهذه الطريقة، وأنه قد كان مرتجلاً ومتسرّعاً لخوفه من أن لا تسنح له الفرصة ثانية. فخرج من بيت العزاء محتاراً تاركاً فيرمينا تتخبط في إضطرابها ، ولكنه إعتقد فى نفسه أن تلك الليلة الهمجية كان لابد منها فهي مكتوبة منذ الأزل في قدرهما معاً.

 لم يكن سبيل للنوم خلال الأيام القادمة ولو ليلة واحدة. كان يأكل طعامه بشكل سيء وينام بطريقة أسوأ، ويحاول أن يتعقب ويتحسس أية إشارات مبهمة قد تهديه إلى سبيل الخلاص. لكن طمأنينة بدأت تداهمه منذ يوم الجمعة بلا أي مبررات. في يوم الإثنين ، اصطدم برسالة مبللة بالماء وراء الباب بيته، ولدى روؤيته المغلف تعرف فوراً على الخط المتسلط الذي لم تستطع تبديله كل تقلبات الحياة، بل إنه إشتم رائحة العطر الليلي لأزهار الياسمين لقد حدثه قلبه أنها الرسالة التي انتظرها لأكثر من نصف قرن.

 إحتوت رسالة فيرمينا كل الغضب والسخط الذي إستطاعته، مستخدمة أقسى ما امكنها من عبارات الإهانة والتجريح. كان كل ما يمتلكه زوجها من أشياء تدفعها للبكاء.. كانت تعلم أن استيقاظها كل صباح وحيدة سيكون صعباً، ولكنه سيصبح أقل وطاة يوماً بعد يوم. فاتخذت قراراً حاسماً بإخراج كل ما يمكن أن يُذكّرها بالزوج الميت من البيت. فكانت عملية استئصال كبيره . وافق الإبن على أخذ الكتب، وأخذت الإبنة بعض الأثاث، ثم قامت وأحرقت جميع ملابسه، وأشياء أخرى كثيرة كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحياته. مرت الأسابيع التالية على فلورينتينو أسابيع إحتضار. ففي نفس الليلة ذاتها التي كرر فيها قسم حبه على فيرمينا هام في الشوارع على غير هدى وهو يتسائل داخل نفسه بفزع ما الذي سيحدث.
 لم يشعر أنه محتاج إلى أمه كما شعر ساعتها ، كان بحاجة الى نصيحتها الثميتة والحكيمة. عندما جاءت الرسالة من فيرمينا، قرأها وهو مستسلم للهجتها العنيفة أكثر من تمعنه بمضمونها، كانت هناك شتائم توقع أن يتلقاها. إلا ان تلك الشتائم لم تكن لتسبب له الألم، إنما الشيء الوحيد الذي كان يهمه هو الرسالة بذاتها. أرسل لها رسالة اعتذاروتأسف ، ثم أتبعها برسائل أخرى. عاد فلورينتينو لمتابعة حياته المعتادة. وهيئ نفسه لتلقي رد إيجابي.

 بدأ بأعمال صيانة و ترميم للبيت كي يكون جديراً بمن يمكن اعتبارها سيدته وصاحبته. كان غارقاً في أموره وشؤونه تلك . وحين لم يتلق أية إشارة أو رسالة من فيرمينا بعد مرور ستة أشهر، وجد نفسه يتقلب لايستطيع النوم في سريره حتى الفجر، تائهاً في صحراء الأرق حائراً. ولبعد مرور ستة أشهر أخرى، كان فلورينتينو قد أرسل بمئة واثنين وثلاثين رسالة لفرمينا دون أن يتلقى أي رد، وهذا ما دفعه إلى الذهاب لحضور صلاة الذكرى الأولى لموت خوفينال اوربينو على الرغم من أنه لم يكن مدعواً. لقد كان حدثاً اجتماعياً كبيراً وباذخاً أكثر من كونه ذكرى مؤثرة لشخص مات .

 وصل فلورينتينو مع أول الضيوف كي يتمكن من الجلوس في مكان لا يمكن لفيرمينا أن تمر دون أن تراه. ومن مكانه شاهد فيرمينا وهي تدخل ممسكة بذراع ابنها. كانت ترتدي ثوباً أسوداً مخملياً طويلاً. وحين رأته، فجأة ..تركت فيرمينا ذراع إبنها، ومدت يدها لفلورنتينو ، وقالت بإبتسامة غاية في الرقة : شكراً لحضورك .
 ذهب فلورينتينو لزيارة فيرمينا كي يشكرها على استقبالها له في ذكرى وفاة زوجها. جلس الإثنان معاً يحتسيان القهوة. قالت له: لقد كانت الرسائل التى أرسلتها ذات نفع كبير لي. فقال وقد برقت عيناه ببريق النجوم : لا يمكنك أن تتخيلي مدي سعادتي لمعرفة ذلك. ثم سألها وهو يغادر إن كان بإمكانه زيارتها في يوم آخر. فقالت: عد متى شئت. وصارت زيارته لها كل يوم ثلاثاء روتيناً تعودا عليه. 

وفي أحدى الأيام، سقط فلورينتينو عن درج بيته مما أدى إلى لوي كاحله الأيسر. وأدى هذا الأمر إلى انقطاعه عن زيارة فيرمينا. أحست فيرمينا بمدى الفراغ الكبير الذي تركته زيارات فلورينتينو. وعندما تعافى فلورينتينو، كان أول عمل قام به هو الذهاب الى فيرمينا وزيارتها . لاحظ آثار السنين على بشرتها، بينما كان إبنها الدكتور أوربينوسعيداً مبتهجاً لعودة فلورينتينو لزيارة أمه، لأن تلك الزيارت كانت ترفع من معنويات امه بشكل كبير ، على نقيض اخته أوفيليا التي رفضت وعارضت موضوع الزيارات وعلّقت بقولها : إن الحب في عمركما هذا قذارة خنازير. حينها قالت فيرمينا: أريد أن أبتعد وأهجر هذا المنزل وأنطلق قدماً. فقال فلورينتينو: يمكننا الذهاب في سفينة نهرية. انطلقت السفينة النهرية ،في عام 1924من شهر تموز تحمل فيرمينا داثا وفلورينتينواريثا برحلة نهرية. 

جلس إثنانهما في الشرفة التابعة لقمرة فيرمينا. أمسك بيدها فلم تمانع. تحدثا قليلاً ، ثم بدأت فيرمينا بالتكلم عن زوجها الميت، وكأنه ما يزال حياً، فعرف فلورينتينو أنه ما يزال لديها رغبة في الحياة. وفي الأيام التالية، كانا العاشقان يُقبّلان بعضهما البعض، وينامان معاً في نفس السرير. وفي الصباح كانوا يبحرون ببطء شديد في نهر بلا ضفاف يتبدد بين كثبان رملية قاحلة حتى الأفق، ثم أخذا يتحدثا أكثر عن نفسيهما وعن حياتيهما المختلفة . حينها جاء القبطان وقال: إلى متى سنستمر في الإبحار؟ وكان الجواب جاهزاً لدى فلورينتينو منذ ثلاث وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوماً بلياليها. فقال: مدى الحياة ... 


                                         النهاية.
تفاعل :

تعليقات