لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجو شو... الرابط التالي :
يافا تعد قهوة
الصباح: أنور حامد
إعداد وإشراف:
رجاء حمدان
هذا زمن آخر بلا شك, زمن اختصر فيه الزمن, لكل زمن ملوكه,
وملوك هذا الزمن هم شباب وفتيات بعمر الورود. أنا أنتمي إلى جيل آخر وزمن آخر, ومع
ذلك أحاول جاهداً أن أبقى على اتصال حثيث مع الواقع الجديد, فأنا روائي ولا بد أن أكون
قريباً من عوالم شخصيات رواياتي. نعم لدي حساب على فيسبوك أستخدمه لأغراض مهنية وشخصية,
وها أنا أضع قدمي على بداية الطريق, فقد تلقيت الكثير من الرسائل بعضها يبدو واعداً.
إحدى الرسائل وردتني من شاب يقول إنني تأخرت قليلاً, فقد توفي جده قبل بضعة شهور,
ولكنه وجد بين أوراقه شيئاً قد يكون مفيداً لي كروائي, فقد عثر بها على ما يبدو
على يوميات كان جده يكتبها في السنوات الأخيرة من إقامته في يافا, قبل اندلاع
الحرب ورحيل العائلة إلى الضفة الغربية, ومن ثم إلى الأردن ...،
إلتقيت ببهاء الذي سألني : أستاذ منير؟؟ فوقفت لأحييه,
ودعوته للجلوس فقال بهاء : *أنا قرأت مذكرات جدي بتتضمن قصة حب مثيرة, والمفاجأة أني
وصلت لصاحبة وبطلة الرواية إسمها بهية, وإزا
بيتحب بنزورها بكرة عنوانها معي. لقد كان جدى طبيباً تخرج بعد النكبة بسنة. تفضل هذه هي
يومياته* إلتقطت اليوميات وعزمت أن أقرأها قبل أن ألتقي بهية. صحيح إنها الآن عجوز
تقترب من الثمانين, والمذكرات كتبت حين كانت دون العشرين, إلا أن فضولي لا حدود له,
وسأقابل بهية وأنا مسلح بما يكفي من المعلومات عن سني صباها.
تناولت في اليوم التالي عبوة المياه التي أحضرتها خصيصاً
من بحر برايتون وتوجهت إلى مطعم الفندق. كان موعدي مع بهاء في الثامنة والنصف حيث
سنتوجه لزيارة بهية. قال بهاء : *شايفك ما نسيت عبوة المي, بهية مغرمة بالبحر, وهو
الشي الوحيد اللي بيثيرها. هي بتحكيش مع حدا حتى مع أفراد عائلتها, لكن عشقها
للبحر بكْسر الحواجز معها*. في الطريق إلى بيت بهية حاولت أن أهدأ لكن أعصابي بقيت
مشدودة طوال الرحلة. وعندما وصلنا أذهلني أن بهية هي أم فؤاد, كانت جريئة لتطلق إسم
فؤاد على ابنها البكر. وعندما قادنا حفيدها سامر إلى غرفتها وقال لها : *الأستاذ
منير من بلاد الإنجليز جايب لك مية بحر* . حينها نظرتُ إليها فلمحت شعاع فرح طفولي
يطل من عينيها, وقالت : *هات يا بنيي, ريتك سالم* . تناولت العبوة مني وفتحتها وبدأت
تشم ما بداخلها, وأنا أراقب تعابير وجهها التي اكتست بملامح غريبة, كأنها عادت
صبية في العشرين, كأنها تخلصت فجأة من عبء السنوات التي تثقل كاهلها وعادت بريئة,
منفتحة على الحياة, بطاقاتٍ لا متناهية .
يافا أجوبها شارعاً شارعاً أحاول استنطاق مبانيها
القديمة, يرافقني صديق إسرائيلي من سكان تل ابيب. دخلنا إلى المقبرة التي تقع خلف
الفندق, والتي استولت السلطات الإسرائيلية على جزء منها بواسطة العميل شريف
الشنطي, وسمحت باقامة الفندق على هذا الجزء. وتحادثنا مع ماجد القابع هناك, ثم
رجعنا إلى شقة يائيل, والصور تتصارع في مخيلتي, عائلة بهية والبيارة التي في نهايتها
منزل العائلة, عائلة فؤاد وبيتها الضخم الذي يشبه القصر, والذي فشلت كل محاولاتي ويائيل
للعثور على مكانه. وفي أول الليل عدت إلى المقبرة بعد أن أخبرت يائيل بذلك. سمعت أصواتاً
لأشخاص يتسامرون هناك, وصلت إليهم وعرّفني ماجد إلى رفاقه مهيب وأبو رزق, ثم سكب
لي ماجد شاياً في كاسة بلاستيكية, ثم مد لي بسيجارة وقال لي : *هذا مش دخان خد جربه*
فقلت : *حشيش ؟* فضحك مهيب وبعد إلحاحهم تناولت السيجارة وأخذت رشفة, ثم أحسست بالإسترخاء.
بدا لي أن أشخاصاً آخرين انضموا إلينا, تبعتهم وخرجنا من المقبرة, بدأت أركز على
ملامح أصدقائي الجدد, واكتشفت أنهم شاب وفتاتان, كانت إحداهما شعرها طويل ومفلفل.
خرجنا من المقبرة, لكني لم أجد نفسي في أي من الشوارع المجاورة التي تجولت فيها
بعد الظهر مع يائيل, ركضنا وتبدد الظلام وكأننا نقترب من منطقة زمنية مختلفة, بل
من زمن مختلف, بل أننا دخلنا زمن آخر
!!!! وهاهي معالم بلدي قبل ستين عام, أنا
في يافا أشم عبيرها, وأتمشى فى بياراتها, وأتحسس بوابات بيوتها ......
الشمس تتسلل بخفر من خلف شجرة التين, وأبو ابراهيم انتهى
من إفطاره. عليه التوجه في ساعة مبكرة إلى بيارة البيك أبو سليم فهو ناطورها. أيقظ
زوجته وابنتيه بهية وهنية قبل أن يعتمر الكوفية. اليوم الجمعة, وعلى أم إبراهيم أن
تخبز عشرين رغيفاً وترسلها مع إبراهيم إلى أم سليم, فالبيك يقيم وليمة لأصدقائه. تناولت
العائلة الصغيرة وجبة إفطار قروية مكونة من قدوح البيض واللبن الرائب الغارق في زيت
الزيتون والشاي. وعندما فرغت بهية من غسل الأطباق تسللت من المنزل, وكانت تسير
باتجاهٍ مقررٍ مسبقاً وكأن قوة خفية تشدها إليه, لون مياهه في منتصف الصيف يعكس
زرقة سماء صافية لا تشوبها غيمة واحدة, والأمواج التي تفقد عزمها وتتكسر قبل
بلوغها الشاطيء مُصْدرة صوتاً هو أقرب إلى الوشوشة منه إلى الهدير, فتبادلها بهية
الوشوشة, تبثها شكاواها وأسرارها, تتحدث إليها وهي مقتنعة أن الأمواج تجيبها, تعلق
على ما تقوله لها, بل وتبثها شكواها هي الأخرى, وتبادلها أسراراً بأسرار ..
سلم إبراهيم الأرغفة لإم سليم التي نفحته ربع جنيه. أم
سليم هذه طيبة, ألمح في ابتسامتها شيئاً من الحزن. هي زوجة البيك, ولكنها تقضي أيامها
في العمل المنزلي, تخدم البيك وضيوفه, وهي لطيفة معنا, بعكس سليم ابنها الذي لا
يكلف نفسه حتى عناء رد السلام. أمي تخدم عائلتها في كوخ وأم سليم تفعل الشيء نفسه
في قصر, ما الفرق ؟ ..
يوم الجمعة هو اليوم الذي يحضر فيه أصدقاء البيك للغداء
ولعب الورق, أبو الياس صاحب مكتب التصدير, والخواجة اسحق مدير شركة النقل البحري,
والضابط البريطاني الذي يتولى تموين الجلسة بالويسكي. يقضي ثلاثتهم يوم الجمعة
بمعية البيك. وبعد وليمة الإفطار يدخنون النارجيلة معاُ, ويتبادلون الأحاديث التي
تهم أربعتهم والمرتبطة أولاً وأخيراً بمصالحهم المشتركة بلغة إنجليزية فصيحة
يتحدثها الجميع. في سياق الحديث قال الخواجة اسحق : بنتي سارة, تَصور قبل يومين
فاجأتها تدخل سينما الحمرا مع شاب فلاح من بيت دجن, حينها انتفض البيك : شاب فلاح
!! هذا شيء فظيع, والله لو حصل هذا في عائلتي لهدمت البيت على رؤوسهم, فضحك
الميجور جيفري وقال : أنت دمك حامي يا أبو سليم, الدبلوماسية مطلوبة ولها حدود أيضاً,
لا تظن أننا لا نعرف بعلاقاتك المشبوهة !! وضج الجميع بالضحك .
في الصالة الكبيرة تجلس أم سليم عصر كل يوم تشرب القهوة,
وتتجاذب أطراف الحديث مع بناتها: هالة, وهي كبراهن, التي تجاوزت العشرين ببضع
سنوات. أنهت دراستها الثانوية, ثم لزمت البيت بعد أن رفض والدها وأخوها سليم فكرة
سفرها إلى بيروت رفضاً قاطعاً للدراسة في إحدى جامعاتها. ومها التي يسميها والدها
الشقراء. كذلك تشاركهن طقوس القهوة والسمر أم رضا وابنتها سعيدة, وهم من أصول
إفريقية, التحقوا بخدمة والد البيك. والجميع مُسخر لخدمة البيك وضيوفه وأبنائه
الثلاثة : سليم, بكري العائلة الذي ينوب عن والده في إدراة شؤون الأملاك, وهو ساعد
والده الأيمن, وورث عن أبيه حزمه وقسوته. الولد الثاني هو فؤاد, الذي التحق
بالجامعة الاميركية في بيروت لدراسة الطب بعد أن أنهى دراسته الثانوية بتفوق. فؤاد
هو النقيض التام لسليم مظهراً وجوهراً, فهو رقيقٌ يحب الموسيقى الكلاسيكية. هو الأقرب
لشقيقاته والأكثر حنواً عليهن, يمارس رياضات عدة منها ركوب الخيل, وله حصان مفضل إسمه
جن في إسطبل الخيول الذي هو أيضاً في عهدة أبو ابراهيم. ومن بين أفراد عائلة أبو إبراهيم
تختص بهية بالعناية بالخيول, وتولي جن رعاية خاصة, تشاركه خواطرها كما البحر. أما آخر
العنقود فى عائلة البيك فهو بسام الذي يحظى بدلال الجميع. وهو في السنة النهائية
من المرحلة الثانوية, ويعول عليه والده آمالاً خاصة, حيث ينوي إرساله للدراسة في أمريكا
.
الإستعدادات على أشدها في بيت أبو ابراهيم, فالجميع
مدعوون إلى قرية بيت دجن المجاورة لحضور زفاف إبن العم طارق. أفاقت هنية وبهية في
الفجر, وأعدتا العقيدة لإزالة الشعر الزائد. وبينما دخلت هنية الحمام أخذت بهية تتأمل
وترسم لفارسها ملامح غير مألوفة لدى الفتيات في سنها, دائماً تتخيله إما بحاراً أو
فتى يهيم في البراري, لا يستقر في مكان معين, لا يعمل في بيارة أبو سليم ولا حتى
في الميناء, لا يشبه الشبان الذين سيرقصون الدبكة في عرس إبن عمها طارق, يدقون
الارض بكعابهم.
وبعدما انتهى الجميع من استعداداتهم ولبسوا أفضل ما
لديهم, ركبوا عربة الحنطور وتوجه بهم السائق إلى بيت دجن. ولما وصلوا صافح أبو
ابراهيم شقيقه أبوطارق وقبّل وجنته, ثم صافح طارق مباركاً. وصافحت البنات عمهن
وصافحن طارق وتمنين له السعادة, كذلك فعل إبراهيم. وانطلقت الأهازيج والزغاريد
بينما اصطف رجال ونساء وأطفال حول المائدة, وبدأوا بتناول وجبة غداء العرس. وبعد
الغداء انعقدت بين الرجال حلقة الدبكة, وتحلقت الصبايا على الشرفات بعيون ظمأى,
يحدقن بأجساد ممشوقة تتمايل على ألحان الشبابة، وفجأة سمع الجميع بوق السيارة
مؤذناً بوصول العروس, فخفّت نساء العائلة لاستقبالها بالأهازيج والزغاريد, وسلمها
والدها لأبو طارق الذي قادها إلى الصالون حيث كان عريسها ينتظر, فأمسك بيدها
وأجلسها على كرسيها بجانبه. وبلغ جو الفرح أوجه في الصالة عندما دخلت فتاة ترتدي
بذلة رقص, وبدأت تهز وسطها على أنغام الفرقة. عند منتصف الليل بدأ الحضور بالإنصراف,
وحين انصرف آخرهم أمسك طارق بيد عروسه, وتوجه بها إلى الغرفة التي ستشهد ما تبقى
من طقوس الليلة .
لم يبق على الشهر الفضيل سوى أيام. ازدانت المدينة بالأنوار
والفوانيس الملونة, واكتظت المتاجر بالسلع الرمضانية الخاصة, كقمر الدين والجوز
والبندق والتين المجفف والتمر. بدأت الإستعدادات بشراء التموين الرمضاني, فالوجبات
الرمضانية لها طابع مختلف عن وجبات باقي السنة: تبدأ بالمشروبات الخاصة كالتمر
هندي والعرقسوس, وذلك عقب الأذان مباشرة. ثم تليها حساء الدجاج والشعيرية أو العدس,
ثم المقبلات. يلي ذلك الوجبة الرئيسية, التي لا بد أن تتبعها الحلوى الرمضانية
الخاصة كالقطايف والعوامات. وفي بيت أبو سليم وفي رمضان يخلو البيت من الكحول مع أن
البيك وسليم لا يصومان.
ومع اقتراب انتهاء شهر رمضان يبدأ سوق المنشية يعج
بالحركة. رضا يجول في السوق في مهمة لشراء الجوز والتمر والفستق الحلبي, من أجل
استعدادات العيد في بيت البيك أبو سليم. قبل
العيد بأيام تبدأ الإستعدادات في المطبخ لتحضير كمية كبيرة من الكعك بأنواعه,
فزوار العائلة كثيرون. في مطبخ الدار القديمة تجلس أم سليم وأم رضا تعدان عجينة
الكعك, وهالة ومها وفتحية يساعدن بإحضار هذا أو ذاك من الأغراض من مخزن المؤن. سألت
هالة : *فؤاد جاي السنة عالعيد ؟*, فأجابت الوالدة : *إن شالله. هو دايما بيحب
يقضي العيد الصغير معنا, والسنة جايب معه ضيوف. زملائه أميركان* . أما في منزل أبو
ابراهيم في أطراف البيارة يتكرر المشهد: أم ابراهيم وهنية وبهية يفترشن أرض المطبخ
ويعددن الكعك. بقي ثلاثة أيام على العيد وأجواؤه تغمر المدينة منذ الآن. العائلات
تشتري ملابس جديدة لأطفالها, ودور السينما تعلن عن عروض خاصة, والمطاعم تضاعف
استعداداتها .
لو عرف الوالد لأصيب بالسكتة القلبية. هو يريدني بعيداً
عن السياسة, أتفرغ لدراستي في كلية الطب, وإن كان لا بد من نشاط آخر بين امتحانين
فليكن نشاطاً ترفيهياً. حضرت اجتماع الحزب السوري القومي الإجتماعي قبل إجازة
العيد بأيام, وأبديت آرائي في الإجتماع, ولم يعبر الرفيق قائد الخلية عن أي استياء
من أسئلتي, بل أجاب عليها بكل رحابة صدر.
توجهت إلى يافا لقضاء إجازة العيد, وأنا أحس بالنشوة, وكأني
ولدت من جديد, كنت أحتقر نمط الحياة التي يعيشها والدي وشقيقي سليم, فمستقبل البلد
في مهب الريح, وهما يلهوان ويعبثان ويبذران الأموال التي يحصلان عليها من عرق
الفلاحين. حين كتبت للوالد أنني سأصطحب اثنين من زملائي الأمريكيين في إجازة العيد
رحب بنا وأضاف: بإمكانك أن تصطحب زميلاتك الأميركيات أيضاً. طبعاً لا يمكن أن أفعل
ذلك, لن أمارس التحرر الإجتماعي في منزل العائلة الذي تعيش فيه الإناث في عبودية.
وصلنا إلى يافا قبل العيد بيومين, احتضنتني أمي وبكت
كالعادة, ثم صافحت روبرت وجيم, وتناولنا العشاء في منزل صديق والدي أبو الياس,
وشاركتنا المجلس أم إلياس وابنتها تيريز. كلما زرت أصدقاء والدي أحس بالغبن, بسبب
حياة الرق التي تعيشها والدتي وأختاي. طلب مني جيم التعرف على حياة عائلة يافاوية
بسيطة, فوعدته بزيارة عائلة الناطور أبو ابراهيم. وفي اليوم التالي طرقنا باب
بيتهم دون سابق موعد, فاستقبلتنا أم ابراهيم وقادتنا إلى إحدى الغرف, حيث كانت
ابنتاها منهمكتين في أعمال منزلية. وحين دخلنا وقفت إحدى الفتاتين فجأة وانسلت من
الغرفة, بينما بقيت الأخرى مكانها, قالت أم ابراهيم : * تفضلوا. بهية, روحي جيبي
كراسي* بينما كانت الفتاة تنظر إلي نظرات فيها شيء من الضيق, فقلت : *مش رايحين
نطول بس بدنا نشرب كاسة شاي ونمشي. أصحابي أميركان وحبوا يتعرفوا على حياة
الفلاحين في بلادنا*. فجأة نظرتْ إليّ الفتاة وقالت بغضب : *إحنا حياتنا مش فرجة,
وبيتنا مش سيرك *. نهرتها والدتها, أما أنا فأصبت حينها بمس, وانتبهت أني بمواجهة
شخصية قوية, ولأول مرة انتبهت إلى ذكاء يشع من عينيها. وكذلك لفت انتباهي أنها لا
تغطّي رأسها كأختها, بل تركت شعرها الطويل المفلفل ينسدل بحرية على كتفيها.
شعرت بالخجل ولم أترجم لصديقي اللذين كانا يتأملان
محتويات الغرفة, ويقارنان بؤسها بالبذخ
الذي شاهداه في منزل والدي وقصر أبو الياس. فسألت الفتاة :*بأي صف انتي* فردت عليّ
بالإنجليزية أنها تعد للثانوية العامة. لا يمكن. بنت الناطور الذي تنظر إليه
عائلتي على أنه أحد الخدم لها شخصية قوية, وتتحدث الإنجليزية بطلاقة, وهي جميلة.
لم تنظر إليّ مرة واحدة وكأنها تعمدت أن تتجاهلني, بعكسي تماماً, فمنذ أن نطقتْ
سيطر حضورها عليّ ولم أعد أحس بوجود غيرها. بقيت عيناي مسمرتين عليها تلتهم كل
حركة تأتي بها, وكل كلمة تنطقها.
كان الفقر يشع من كل أرجاء الغرفة ولم يفاجئني ذلك, ما
فاجأني هو أن العائلة سمحت للفتاة بالدراسة حتى نهاية المرحلة الثانوية, وهو شيء
ليس شائعاً في أوساط الفلاحين. شكرت أم ابراهيم والفتاة التي عرفت أن اسمها بهية. قبل
أن أخرج استرقت نظرة أخيرة من بهية فلاحظتُ ارتباكها. أسعدني ذلك, فهو ينم عن
اهتمام من نوع ما .
يوم الوقفة الكبيرة توجهت عائلة أبو ابراهيم إلى منزل أبو
طارق في بيت دجن لقضاء العيد هناك. وأحياناً يحضر الشقيقان الآخران أبو فلاح وأبو
زهدي, وتبادل الجميع التهاني ...
وفي يافا أفاق البيك وإبنه سليم مبكراً وانطلقا إلى
المسجد, كنوع من المراسم الإجتماعية المرتبطة بمركزه. أفاق فؤاد وصديقاه مبكرين لأنه
أراد أن يصحبهما في جولة في المدينة ليشاهدا أجواء العيد. كانت محطتهم الأولى سوق
اسكندر, صبية وشبان صغار بوجوه فرحة يملأون المكان, والكبار يتبادلون عبارات التهنئة,
والصغار يأكلون الحلوى في الشوارع, وبين الفترة والأخرى ينفخون في أبواق وزمّارات
اشتروها لتوهم إبتهاجاً بالعيد, ثم تمشوا باتجاه كنيسة القديس بطرس المطلة على
البحر .
استيقظ رضا على
صوت طرقٍ شديد على باب البيت, توجه إلى المدخل وسأل : *مين* فجاء الرد : *أبو
الفوز إفتح بسرعة*, فتح الباب فانسل إلى الداخل ثلاثة رجال ملثمين, وقالوا: *وصحّي
أبو سليم ضروري* . إقتادهم رضا إلى الصالة في الطابق الثاني. نهض أبو سليم حينها ودخل
الصالة دون أن يبدو عليه أنه تفاجأ من طرق الرجال الثلاثة باب منزله قبيل الفجر.
فقال أبو الفوز : *إحنا مُطاردين يا أبو سليم, محتاجين نختفي عندكم أكم يوم*
فاقتادهم رضا إلى مخزن الغلال واختبأ الثلاثة رجال هناك. أيقظت أم سليم ابنتها
هالة لتساعدها بإعداد الإفطار الخاص بالضيوف. قفزت هالة من الفراش بحماسة لا علاقة
لها بسلوكها المعتاد, وحضّرن الفطور, وأخذه رضا إلى الضيوف .
كانت بهية تحدّث الحصان الأسود جن وهي تدلكْ له ظهره وتكشط
جلده بفرشاة خاصة. كانت تقوم بذلك أمام الإسطبل, وبعد أن انتهت مسحت عينيه ومنخريه
بالماء الفاتر. أدخلت الحصان إلى الإسطبل, وبينما هي تقوم هي بربطه سمعت أصواتاً
في الخارج, واستطاعت أن تميز أن أشخاصاً في الخارج يتحدثون الإنجليزية. بدأت دقات
قلبها تتسارع, وصعد الدم إلى وجنتيها فتشربتا بالحمرة, وأرادت أن تلوذ بالفرار, لكن
دخول فؤاد وصديقيه فجأة إلى الإسطبل حال دون ذلك. إرتبك فؤاد بدوره, وقال : *جينا
نوخد شوط على جن إذا ما فيه مانع* . إستغربت من اللهجة, وكأن الشاب يطلب إذنها
ليمتطي حصانه. قالت دون أن تنظر في عيني فؤاد: *تفضلوا الحصان جاهز*. انتهزت بهية
انخراطهم في الحديث وانسلّت بهدوء, ولكنها لم تستطع أن تتجنب لفت انتباه فؤاد الذي
تابعها بنظراته حتى اختفت, فقال روبرت لفؤاد : *ما بالك ؟ واضح أن الفتاة راقتك,
هي جميلة والحق يقال*. فالتزم فؤاد الصمت .
الميجور جيفري وثلاثة من كبار الضباط الإنجليز يحتسون
القهوة التركية, ويتذوقون كعك العيد بمعية أبو سليم في الدور الثاني بينما أبو
الفوز ورفيقاه يتناولان طعام الإفطار في القبو الذي يقع جزء منه تحت غرفة الغلال,
ويمتد جزء آخر إلى الشارع. فالبيك يحرص على إقامة علاقات جيدة مع الجميع, فهو يخفي
الثوار ويدعو كبار الضباط الإنجليز إلى ولائم باذخة, كما يقيم علاقات طيبة مع أثرياء
اليهود في المدينة. مصالحه تقتضي هذا, لذلك فهو مقبول من الجميع. همّت هالة أكثر
من مرة بمغافلة والدتها والنزول إلى القبو, بحجة إحضار صينية الإفطار بعد أن انتهى
الضيوف من تناوله, ولكنها غيّرت رأيها في اللحظة الأخيرة. كانت تريد أن ترى أبو
الفوز الذي طالما راودت أحلامها صورته المتخيلة, وأثارت أخبار صولاته وجولاته في
القرى القريبة خيالها. تصورته بطلاً أسطورياً يتحدى إمبراطورية بأكملها, فهي تتحرق
شوقاً لرؤيته, فحضوره الطاغي يملأ عليها كيانها, تود أن تكون هناك في ظلمة القبو
وسكونه تستمع إلى حكايات مثيرة عن مطاردات, وغارات ليلية, عن جبال وقرى وفلاحين,
عن بنات آوى وطيور الحجل. أبو الفوز يرتشف ما تبقى من الشاي في كوبه, وهالة تجتر أحلامها
وخيالاتها الجامحة, هو تحت في القبو, وهي فوق في القصر, تفصل بينهما أمتار قليلة وجدران
سميكة .
في آخر أيام العيد كان فؤاد يحضّر لوالدته وأختيه هالة ومها
وشقيقه الأصغر بسام مفاجأة, فقد نظم رحلة للعائلة إلى حمامات طبريا. فقد كان صديقاه
قد غادرا في رحلة إلى القدس, وقرر هو قضاء اليوم مع عائلته في طبريا. واجتمع
الجميع في حديقة على شاطيء البحيرة التي اكتظت بالعائلات التي حضرت في رحلات من أنحاء
البلاد المختلفة: عائلات يهودية ومسلمة ومسيحية, ملامحها متشابهة, ولا يميزها عن
بعضها حتى أزياؤها, فالجميع يرتدون ملابس متشابهة, ويأكلون الطعام نفسه تقريباً.
عادت هالة بعد قليل ومعها سارة إبنة الخواجة اسحق ترتدي زي الإستحمام (المايوه),
وسلمت على الجميع وقبلتهم. قبل مغيب الشمس بدأت العائلة تحزم أغراضها وتضعها في
صناديق السيارات, ثم ركبوا ومعهم سارة التي كانت قد حضرت إلى طبريا بالمواصلات
العامة, وتوجهوا إلى يافا .
*شو يا بحر؟ ما بعرف شو بده مني ولا شو بدي منه. شفتو
مرتين وفي المرتين كان هو السيد وأنا الخدامة, مرة جاب أصحابه يتفرجوا على حياتنا وبؤسنا,
ومرة جابهم يخيّلوا على جن, اللي أنا بخدم عليه. يعني شو بده يكون شاف فيي غير بنت
الناطور, بس ليش كان مرتبك وهو يحكي معي ..هاي أوهام. حياتنا فيها حدود, مش زيك يا
بحر, عالمك بدون حدود, أمواجك بتلعب مع الزوابع, إحنا الزوابع بتقلع شجرنا, بتخربط
حياتنا. أنا أهلي ما بحبو الزوابع, ناس بدهم الستر ورضى البيك, أنا كيف طلعت هيك
يا بحر مثلك ؟ ما بعرف ! الله يعين أبوي وأمي, الله يعينهم *.
سأعود بعد غد لبيروت, سبقني جيم وروبرت صباح اليوم. أردت
أن أبقى يومين إضافيين مع عائلتي, دون أن أكون مرتبطاً بأعباء استضافة صديقيّ.
والدتي سعيدة بوجودي. أثرُ رحلتنا إلى طبريا على نفسيتها كانت كالمعجزة. آه يا أمي
ما أبسط متطلباتك, وآه يا أبي كم أنت ظالم ! أتألم من بعيد, أبي لا يريد أن يتكيف
مع الحياة في يافا, رغم أننا نعيش هنا منذ عشرين سنة. ولاحظ هذا صديقاي الأميركيان,
رغم أنهما لم يقيما معنا أكثر من بضعة أيام, وأكثر ما صدمهما هو البون الشاسع بين
حياة عائلتي وعائلة أبو الياس من جهة, وحياة الفلاحين من جهة أخرى. مظاهر البؤس في
بيت أبو ابراهيم الناطور تجعلني أحس بالإحراج أمام نفسي لا أمام أصدقائي. لكن ما
هذا الشعور الذي ينتابني كلما ذكرت أمامي عائلة أبو ابراهيم ؟ شعور عصي على الفهم,
مزيج من الفضول وحب الإستطلاع, والرغبة في التقرب من هذه العائلة, وشيء من الحنين
.
بدأ موسم البرتقال, وبيارة البيك في أطراف يافا تحولت إلى
ورشة لا تهدأ. وبدأت تصدح أغاني العمل الخاصة بالموسم * برتقانك يا يافا .. أطيب
من الكنافا .. جسمي منه بتعافا .. لأنه صحة للأبدان *. في هذا الموسم الممتد على
مدى ثلاثة شهور تنتعش عائلة أبو ابراهيم, فيلتحق الجميع بالعمل. أما بهية فالتحقت
بمكاتب شركة أبو الياس بعد أن طلب أبو ابراهيم من البيك أن يحدث صديقه بالأمر,
خاصة وأنها تجيد الطباعة على الآلة الكاتبة. ففي الشهور الممتدة من تشرين الثاني
حتى نهاية شباط يعم الرخاء بيوت العائلات في قرى يافا أيضاً. وفي نهاية الموسم
يعمل العشرات في تنظيف الميناء مستخدمين الجرافات .
سأفاجيء العائلة بزيارة غير متوقعة. لم أعتد أن أسافر في
عطلة أعياد الميلاد, ولكني هذه المرة حرصت على حجز تذكرة إلى يافا منذ أكثر من أسبوعين.
أريد أن أقطف البرتقال بيدي وأشم رائحته. للبرتقال على الشجر عبق مختلف, رائحته
تسكرني أي والله تسكرني. ولا بد أن أزور أبو الياس لتهنئة العائلة بأعياد الميلاد.
ولا بد أن أزور أبو ابراهيم وسأشرب الشاي عندهم, وسترى ابنته أنني لا أتردد على
منزلهم حتى أتفرج على حياتهم البائسة, كما تعتقد. ولكن ما بالي أعيرها كل هذا الإهتمام
؟ هل سأراها يا ترى ؟ ولماذا أريد أن أراها ؟ لم تكن ودية معي في تعاملها! ومع ذلك
أسرني لسانها الحاد بدل أن ينفرني. لم أرها سوى مرتين لكن أثرها بقي يلازمني حتى
الآن. لن أقول إن قراري بالسفر إلى يافا في عطلة أعياد الميلاد له علاقة بتلك
الفتاة الغامضة, ولكني لا أستطيع أن أنفي ذلك تماماً, فلزيارتي هذه المرة مذاق
مختلف .
لقهوة الصباح هذا اليوم مذاق مختلف, تحس بالمتعة مع كل
رشفة, وقلبها تسكنه طمأنينة غريبة, هي المسكونة بالقلق والخوف من المجهول. تخدم
الزوج وضيوفه, وتتحمل كل نزواته, ولا تسمح لدموعها أن تفضح انكسار قلبها. الله
يسامحك يا أبي, لم تكن تجهل ما ينتظرني. تزوج قبلي ثلاثاً ولم تعمر أي منهما في
معيته أكثر من سنتين, من يحتمل هذه الحياة غيري ؟ لا خيار أمامي. كان زواجي تسوية
لخلاف على أملاك بين العائلتين. كان والدي يستأجر قطعة أرض من والد أبو سليم (البيك
الكبير), ويزرعها قمحاً وشعيراً, وحين توفي جاء البيك الصغير ليفض العقد. شبح
الجوع القادم سلب والدي النوم ليالي طويلة. وفي أحد الأيام لمحني, سأل عني والدي
الذي لم يصدق أن القدر فتح له كوة أمل. تم الإتفاق في لحظات. بقي والدي في الأرض وأنا
أصبحت زوجة البيك ..
إبتسمت الأم
لتحية فؤاد, فهو أكثر أبنائها إحساساً بكربها, وأكثرهم حنواً عليها, قال لها :
*بدي اليوم كبة بلبن*, فقالت : *حاضر قول لرضا يجيب لنا لحمة عجل, ولبن من دار أبو
ابراهيم*. تلقف فؤاد الفرصة وقال : *أنا بجيب لبن يمّا, ومنها بسلم على أبو
ابراهيم* . عجيب أمري, ماذا أريد من هذه الفتاة المسكينة ؟ أم ترى المسكين أنا ؟. إخترق
البيارة بخطى حثيثة, يُحيي العمال, ويهرع ليسلم على أبو ابراهيم في عمله, ثم حث
الخطى إلى أن اقترب من البيت الصغير. بدأت دقات قلبه تتسابق. وطرق الباب بتهيب.
حين فتحته ورأت الوجه الذي طالعها من ورائه شهقت. قال متلعثماً: صباح الخير, فلم ترد وركضت إلى الداخل,
أما هو فتسمّر في مكانه والإرتباك يسيطر عليه. وبعد أن طلب اللبن من أم ابراهيم, طلبت
أم ابراهيم من بهية أن تضع مغاطيس اللبن في سلة وتأتي بهم. أتت بهية والسلة بيدها,
يمد يده لتَناولها فيرتجف أكثر, تمد يدها لتُناوله فترتجف أكثر, فيلتقط السلة
بارتباك, تلاحظه أم ابراهيم, ويهرب إلى حيرته .
إجتمع أفراد العائلة حول الطاولة, وتلفتت الوالدة ولم
تجد أثراً لفؤاد. بدأت أم سليم تحس بالقلق, فذهبت هالة لتناديه فوجدته مستلق على
سريره, وعيونه شاخصة إلى السقف, فقال لها : *إتغدوا انتو وأنا بوكل بعدين*. عادت
هالة إلى والدتها والقلق يعتمل في داخلها, وأخبرت أمها التي ذهبت إليه وقادته معها
إلى الغداء. حاول فؤاد إيهام العائلة أنه يأكل بشهية, ولكنه كان يبتلع الطعام دون أن
يحس له بأي طعم. كان يستعجل الإنتهاء من شعائر وحركات لا معنى لها حتى يخلو إلى
نفسه في غرفته .
يا بحر لا أفهم حياتي التعيسة, قوانين الطبيعة بقسوتها أهون
من قوانين البشر, وقابلة للفهم أكثر. لماذا خُلقت بوعي يرفض واقعي ؟ الفجوة بيني وبين
حياتي تتسع يوماً عن يوم. أنا لا أملك حق الكلام! أنا بنت الناطور, هل نسيت ؟ قد أصلح
حبيبة الأمير في حكاية رومانسية, لكني لن أصلح لدور الأميرة. قد يقع الأمير في حبي,
فهذا شأنه, وما أنا سوى أداة درامية لاكتمال روايته. هكذا بنات النواطير في
الحكايات الرومانسية, لسن مركز الحكاية بل أحد تفاصيلها. بودي لو أدفن نفسي بين أمواجك
وأستريح, أن تجرفني إلى مصير آخر, حياة أخرى, لكني لن أستطيع, عليّ أن أسرع
بالعودة, عائلة البيك طلبت صواني بالتنور وعليّ أن أعدها. نحن في خدمة البيك وعائلته,
هل يا ترى سيأتي بنفسه ليأخذ الصواني ؟ هذه المرة سأقذفه بها ليكتوي بنارها, أنا أكتوي
بنيران عدة, كل يوم !.
عدت قبل موعدي, هربت من مأزقي إلى مأزقي. كانت ساعاتي الأخيرة
في يافا هرباً متواصلاً, أهرب من عالم الوصايا إلى عالم المشاعر, أهرب من كل ما
يذكرني بها إلى كل شيء يستحضر عينيها المتمردتين, ونبرة صوتها المتهكمة. هربت إلى
بيروت, وفي بيروت تفاقم عذابي. لا مشاغلي الدراسية ولا اجتماعاتي الحزبية ولا
سهرات الأصدقاء نجحت في حجب حضورها. وأقدمتُ على فعل جنوني بعد ليلة لم يغمض لي
فيها جفن. أردت أن أقتل بهية في وجداني, ذهبت إلى ساحة البرج, أردت أن أستحضر الحيوان
في داخلي. دخلت إلى أحد البيوت والإرتباك باد على كل حركة من حركاتي, وأطلّت فتاة
في وجهها مسحة جمال طفولي, وأخذتني إلى غرفتها. وفجأة, وقفتُ ومددت يدي إلى جيبي وأخرجت
كل الأوراق المالية التي وجدتها, وضعتها في يدها وأطلقت ساقي للريح. حين وصلت شقتي
إنفجرت بالبكاء .
فوجيء أبو سليم بزيارة سارة التي قالت : *بابا مشغول بأشياء
ما رح تعجبك, وأنا جاية خصوصي عشان أقول لك*. نظر إليها أبو سليم مستغرباً وقال: *خير*,
قالت: *بابا بينقل مهاجرين من أوروبا لفلسطين*. نظر إليها غير مصدق: *شو بتقولي؟
إنتي متأكدة؟*, قالت: *متأكدة عمو. نفس السفن اللي بتنقل البرتقال على بريطانيا, في
طريق الرجعة بتحمل لاجئين يهود من قبرص
واليونان* فقال أبو سليم : أصيلة يا سارة ! وبعدما رحلت سارة استدعى أبو سليم "فزاع"
وأرسله في مهمة للقاء أبو الفوز .
جلست أم زهدي تجس النبض حين التقت أم ابراهيم في عرس
طارق, ولم تدرِ أم ابراهيم بم تجيبها,
وقالت إنها ستشاور أبو ابرهيم, هو لن يمانع من حيث المبدأ ،إلا أن أبو ابراهيم لم
يفاتح بهية بالموضوع, ولم يرسل جواباً لشقيقه أبو زهدي رغم مرور أشهر على الموضوع.
وفي صباح هذا اليوم وصل أبو زهدي وأم زهدي إلى يافا في سيارة "فلاح"
الصغير لقضاء بعض الأشغال المهمة, وبعد أن انتهيا فاجئا عائلة أبو ابراهيم بزيارة,
فسألت أم زهدي : *وين عروستنا* فقالت أم ابراهيم : *في المدرسة*, وحين عاد إبراهيم
وبهية من المدرسة كان الضيوف والغداء بانتظارهما : صينية دجاج وأرانب بالبطاطا والبصل.
يا بحر لم أعد أحتمل أكثر, لن أنتظر سكاكينهم حتى تجز
عنقي! هذا ما كان ينقصني, أن يزوجوني زهدي إبن عمي! أن يحبسوني في بيت بلا شرفة,
في بلد بلا بحر! لن أتزوج ابن عمي زهدي مع أني أعرف أن ذلك الأمير لن يخطفني على
حصانه الأسود. كيف لي أن أقبل الأمير ووالدي معتاد على تقبيل يده ؟ كيف لي أن أصبح
أميرة القصر وأهلي هم عبيده ؟ آه يا بحر لو تصالحت مع حياتي !! آه يا بحر كم أنت
قاس !!.
فوجيء الجميع بوصوله. لم يحدث أن قضى إجازة عيد الفصح في
يافا, فهي أقل من أسبوع. أحست الوالدة بالقلق, خاصة بعد أن خيل لها أن وجهه شاحب.
سلم على والده وشقيقه اللذين أبديا استغراباً لحضوره المفاجيء لكنهما لم يفصحا
عنه. حين اختلى إلى نفسه هجمت صورتها على خياله. كيف سيراها ؟ ماذا سيقول لها ؟.
عندها تحدثت والدته إلى شقيقه سليم وطلبت منه أن يحضر له طبيباً, فطمأنها سليم بأن
شقيقه ليس مريضاً, وأنه يعرف علته وسيداويها بنفسه. فعينا سليم تحيطان بكل ما يجري
في محيطه, وإن غفل عن شيء فهناك "فزاع" الذي يتقاضى أجراً لكي يبقي
عينيه مفتوحتين. لم يخف عليه حال شقيقه, غريب أمر هذا الفتى! الأمور أبسط مما
يتصور, سأعد له مفاجأة وأفك محنته !!.
بهية ! حَكم علينا التاريخ قبل سنوات طويلة, ولا نملك
سوى أن نئِد أحلامنا المجنونة! سامحيني على غوايتي اللامسؤولة, ما كان يجب أن أجرّك
إلى أوهامي. بقيت أيام ثلاثة من إجازتي وسأعود إلى بيروت لأنعم بحرية ممارسة طقوس
حزني. في هذا البيت أنا محروم منها, فوالدي وأخي سليم يتوقعان مني أن أكون رجلاً,
والحزن في نظرهما سمة ضعف لا تليق بالرجال. فغضب والدي وسليم لا حدود له, ما كانا
يتخيلان أن أجلب العار للعائلة بدلاً من شهادة الطب من الجامعة الأميركية. أنا إبن
أبو سليم بجلالة قدره, تخطف قلبي بنت ناطور بيارتنا ؟! وليت الأمر يتوقف عند هذا
الحد, فعُرف العائلة وعُرف الطبقة يمنح أي فرد من أفراد العائلة الذكور إنتزاع أي
فلاحة تروقه حتى من سرير زوجها, ولا يملك أي أحد أن يعترض على ذلك.
والدتي تقول إن عيناً أصابتني, آه يا أمي لو تعرفين سحر
تلك العين التي أصابتني, وعذوبة تلك الإبتسامة! ولو تعرفين كيف بهرتني تلك الجرأة!
ولكن هذا السحر لا علاج له, لا التعاويذ تجدي ولا قلب الهدهد الذي طلبه ذلك النصاب
سيحرر قلبي .
*وينو التيس
وينو ؟ فضحنا الله يفضحه!* سليم متجه إلى غرفتي تسبقه جلبته المعهودة, رجوت الوالد
أن ينهره, إتركوني بحالي لهذه الأيام المتبقية من إجازتي. *إفتح الباب, بكفينا
فضايح. خزيتنا الله يخزيك! وإنتي يا ست الحسن إخرسي! بكفي العمايل اللي عملتيها! *.
إلى من يتحدث سليم؟ يبدو أنه يوجه كلامه لفتاة أو امرأة. *إفتح, هاي هي اللي لوعتك
؟ وعلى إيش؟ لو كنت قلت لي كنت زمان جبتها لغرفتك * كنت قد سمعت نهنهة أنثوية, والآن
النهنهة تتحول إلى نحيب, ثم إلى صراخ جريح, وأنا أقفز من فراشي كالمجنون وأنا أصرخ
: *اتركها يا كللللب* , هي بهية, بكبريائها الجريح أسيرة جبروت القوانين الجائرة,
والعضلات المفتولة. تجنبتُ النظر إليها وهجمت على فزاع بكل قوتي: *إتركوها يا
كلاب!! * وبدأت انتحب بهستيريا. هرعت أمي باكية وكذلك أخواتي. حينها صرخت أمي : *الله
ينتقم منكم, الله يغضب عليك, رجعوها لأهلها, خافوا من الله*! "فزاع" لم
يقاوم ضرباتي, أما سليم فقد زأر: *اذا ما بدك إياها باخذها أنا, أنا أولى فيها*. وجلجل
صراخ بهية ليغرس في قلبي سكاكين, فأحضرت أول سكين وقعت في يدي من المطبخ وعدت لأجد
والدي الذي وصل الصراخ إلى مسامعه. صرخ في فزاع طالباً منه إعادة بهية إلى أهلها.
حين رآني والسكين في يدي صرخ بصوت مخيف : *يا مجنون شو بدك تعمل ؟ يا غضيب
الوالدين هات السكين*. وانتزعها من يدي بعنف ثم وجّه صفعة مدوية إلى فزاع, الذي
كان ما يزال يمسك بذراع بهية بقسوة. *وأنت يا سليم الكلب إسبقني عالصالون, وإنتي
يا أم سليم خذي البنت عندك وطيبي خاطرها ونادي أمها توخدها*. إحتضنت والدتي بهية
التي ألقت برأسها على كتفها, أما أنا فدخلت إلى غرفتي, إنهرت على السرير وأسلمت
نفسي لنشيج لم أفق منه إلا إلى غيبوبة .
بيت الناطور مسكون بالفاجعة. الأم تلطم خديها بعد أن
مزقت ثوبها, وصراخ هنية يشق سكون الليل. إبراهيم يبكي, والوالد غرق في صمت أخاف
الجميع. لم ينبس بكلمة واحدة, منذ أن توقفت سيارة أبو سليم أمام بيتهم, ونزلت منه زوجته
تمسك بيد بهية ورأساهما مطأطآن في ذل. بهية تبكي بهستيريا, وكلما استعادت ما حصل
لها تطلق صرخة حادة ثم تلطم خدها حتى تدميه. وفجأة هب أبو ابراهيم واقفاً وغادر
المنزل. في "باقا" فوجيء أبو
زهدي بزيارة مفاجئة من أبو ابراهيم لإتمام الزواج .... فجأة هبّت بهية وانسلت كالسهم خارجة من
البيت. ذعرت الوالدة, وصرخت: *هنية, إلحقي أختك يما, شوفيها وين رايحة*. بهية سمعت
صوته لأول مرة, دائماً كانت تتحدث إليه وجوابه الصمت, والآن سمعت نداءه, واضحاً لا
لبس فيه, يدعوها إليه, أمواجه نطقت أخيراً. تصل الشاطيء, تبدأ بخلع ثيابها قطعة
قطعة, يفتح البحر أحضانه, ويحتويها, وتصغي لصوته .
منير...رأيتني أجري بسرعة
عجيبة, لكني كنت وحدي هذه المرة. غريب! أين ذهبت تلك الفتاة وأفراد عائلتها ؟
أحاول الإبطاء من سرعتي, ولكن لا سيطرة لي على خطواتي. ولكن أين أنا الآن؟ لم أعد
أجري, أحس بحالة سكون. أحاول أن أفتح عيني, أرى صديقي يائيل يحدق بي : *أين أنا ؟*,
إبتسم يائيل : *يا رجل أقلقتني عليك, الحمدلله على سلامتك سأدعو الطبيب لأخبره* . بدأت
أعي أنني في مستشفى, وأنني كنت في غيبوبة, فقال الطبيب : *وجدنا في جيوبك علبة "بروزاك",
منذ متى تتناوله ؟* فقلت : *منذ سنوات, أنا أعاني من الإكتئاب* , قال الطبيب : *هل
استهلكت مادة مخدرة قبل دخولك في الغيبوبة ؟* حينها بدأت أتذكر ماجد , أبو رزق ,
المواويل الحزينة, التدخين .. أحسست بالحرج. قال الطبيب : *ما حصل معك نادر الوقوع,
حين تدخن الحشيش إلى جانب تناول البروزاك يمكن أن يحدث تفاعل ويؤدي بك إلى غيبوبة
مؤقتة, وهذا ما حصل معك*. شرح لي يائيل ما حدث. إنتظر عودتي ذلك المساء, ثم أخذته
إغفاءة. حين أفاق في الصباح لم يجدني, فهرع مذعوراً إلى المقبرة ووجدني ملقى على
الأرض غائباً عن الوعي. غادرنا المستشفى وأنا في حالة غريبة. صحيح أنني أفقت من
غيبوبتي, لكن حضوراً قوياً كان يستحوذ على كياني. حضور لعالم آخر, لزمن آخر بقي
يجثم على وعيي ولا سبيل للتخفيف منه إلا بأن أنفث فيه أنفاس الحياة .....
النهاية
تعليقات
إرسال تعليق