القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية آلالم فيرثير:يوهان جوثه ا- عداد واشراف - رجاء حمدان



تلخيص رواية
رواية آلالم فيرثير يوهان جوثه 
إعداد وإشراف - رجاء حمدان











ما أسعدني بالإبتعاد, ما أعجب فؤاد المرء أيتها الصديقة العزيزة !, فأنا ابتعد عنك ومع هذا احس لفراقك بالسعادة !, وإني لعلى معرفة أنك ستعفين عني لامحالة !, ومع هذا فاللوم لا ينصب على عاتقي, فهل كان الذنب ذنبي أن حبي تولّد في قلبها اللطيف في الوقت الذي كانت فيه شقيقتها تسري عني بكل حال !, وهل معنى هذا أنني أخلو من الوجع كل الخلو!, ولكن هل يحق للانسان أن يتهم نفسه !. 

أعدك يا صديقتي العزيزة أن أصلح من حالي وأستمتع بالحاضر واقلب صفحة الماضي. ولا شك أنكَ على كل الحق يا خير صديق إذ تقول أنه من الخير للناس لو كفّوا من تذكر ذكريات الأوجاع والأحزان الماضية بخيالهم المشتعل، بدلا من تحمل حاضرهم بطمأنينة وصبر، ولكن الله وحده يعرف لماذا جُبل الناس على هذا. اتوسل اليك أن تخبر امي أني سأدبر مسألتها الخاصة على أحكم وجه أستطيعه ، وسأبلغها النتيجة في أقرب وقت استطيعه. 

لقد زرت عمتي إنها ليس كما يقال عنها من الشكاسة والغطرسة ، فهي امرأة صالحة مرحة ذات نشاط وهي أطيب الناس قلباً. وقد ذكرتُ لها ما أضر بأمي من ذلك النصيب من ورثتها والذي حيل بينها وبينه، فأدلت لي بالاسباب و الدوافع التي أملت عليها تصرفاتها، وبالشروط التي ترضى على أساسها التسليم لامي بحقها كله، بل إنها مستعدة أن تعمل لها عندئذ أكثر مما اردناه منها . ويكفي أن تقول لامي أن كل شيء سيمضي على احسن وجه, وأنني قد رايت أيتها الأم العزيزة أن سوء الفهم والإهمال نتج عنهما تلك المساويء..... وفيما عدا هذا اراني بخير حال هنا. الوحدة في هذا الفردوس الأرضي بلسم لقلبي، والربيع الرائع يشرح صدري، والبلدة في حد ذاتها غير مستحبة ولكن كل ما تحويه من المناظر الطبيعية جميل ورائع, وهذا ما جعل المرحوم الكونت من أن يغرس روضة على وادي أحد التلال في تباين ساحر.
 وهذه الحديقة بسيطة جدا , وعن قريبٍ عاجل سأغدو مالك هذه الروضة. 10مايو . لقد استولتْ على ذاتي بأسرها طمأنينة هادئة على نحو ما يجري لي في بواكير أيام الربيع الرائعة التي افرح بها من أعماق فؤادي، فأنا هنا وحيد شاعر بكل السحر الواقع في هذه البقعة التي جُعلت كي تفرح بها أرواحٌ مثل روحي، وإني لفرح جداً أيها الصديق القريب و مستمتع ومستغرق كل الإستغراق في الشعور بهذه المعيشة الساكنة الهادئة حتى أنني أهملت مواهبي وملكاتي، ومع هذا احس أنني لم أكن فناناً أقدرُ ولا احسن مما أنا عليه الآن !, فعندما اشاهد الابخرة تحفّ على جانبى الوادي الرائع أنطرح أرضاً بين الأعشاب الكثيفة على حافة الجدول الرائع، وتتكشف لي عوالم لا حصر لها من الاشجار والمزروعات التي تنبثق من التراب التي افتَرشها جسمي. وعندئذ اشعر أنني في حضرة القدير العليِّ وأشعر بأنفاس ذلك الحب الكوني الذي يعطينا القوة والقدرة على الحياة وقد أخذ يلتف من حولي في سعادة أبدية، و يصور لي أن الأرض قد سكنت واستقرت في قلبي واستولت عليه كأنها عشيقة لازمت روحى ، عندئذ أتمنى لو استطعت أن أصف كل هذه التخيلات لتكون صورة مرآة روحي، كما اصبحت روحي مرآة الإله اللامتناهي ! ولكن ذلك يتجاوز مواهبي أيها الصديق العزيز، ولذا تلاقيني أرزح مستمتعا تحت عبء هذه الرؤى و جمالها!. 

١٥مايو. 
لقد أصبح معظم عامة أهل هذا المكان يعرفونني ويحبونني ولاسيما الاولاد منهم، فعندما تكلمت معهم في البداية واستفهمت عن ظروفهم وأحوالهم ظن فريق منهم أني أريد الضحك عليهم وانصرفوا عني في سخط وغضب كبير، ولكني لم أدع ذلك يغضبني بل زداد ذلك شعوري دفعا للدنو إليهم أكثرواكثر . 
ومنذ أيام خرجت إلى نافورة الماء فوجدت هناك فتاة شابة خادمة كانت قد وضعت جرتها على الدرجة السفلى و انتصبت لترى هل إحدى صويحباتها قادمة لتضع لها الجرة على رأسها، فركضت ونظرت إليها وسألتها :"هل تحتاجين الى العون أيتها الصبية الحسناء؟" فاحمر وجهها من شدة الخجل وهتفت: "أوه يا سيدي!", فقلت لها: "لا غلبة في الأمر!"، فعدلت بيدها غطاء رأسها و عاونتها فشكرتني ثم صَعَدت الدرج. ١٧مايو. 
نجحت في عقد علاقات تعارف كبيرة ولكني لم أستطع أن أجد حتى الآن مجتمعاً بما تعنيه الكلمة، ولست اعلم ما سر جاذبيتي بالنسبة للبشر، فالكثيرون منهم يسألونني ويربطون ذواتهم بي، وعندئذ أشعر بالندم عندما يكون الطريق الذي نمشي فيه سوية قصير المدى. وإن سألتني عن البشر هنا أجيبك أنهم كسائر البشر في كل موقع ومكان، فالجنس البشري شديد التشابه في روتينه, ومعظمهم يعملون معظم الوقت للحصول على ما يبقيهم قيد الحياة ، أما القسط القليل من الحرية المتاح لهم فيضايقهم بحيث يجتهدون بالكثير من الطرق كي يتخلصوا منه، وهكذا هو قدر البشر! بيد أنهم قوم على ما يرام. 
وحينما أنسى ذاتي وأسهم في المسرات البريئة التي لم تمنع بعد على المزارعين, أمتع نفسي بحرية وإخلاص حقيقين حول مائدة أو أرتب حفلاً راقصاً أو رحلة فإن ذلك يجدي مزاجي افضل الجدوى، وكل ما هنالك أنه عليّ أن أنسى أن ذكريات أخرى كثيرة هاجمة في داخلي لا تجد لها نشاطاً ولا بد أن لا اظهرها لهم! آه ! لكم يؤثر في ذاتي هذا الأمر بصورة غريبة, ولكن إساءة الفهم قدر أمثالنا !. واأسفاه ! لقد رحلت صاحبة شبابي ! ليتني لم ألاقيها قط ! وإني لأقول لذاتي: "إنك لحالم شاذ إذ تنشد ما لم تراه في هذه الدنيا", ولكنها كانت لي ولقد تملكت يوماً تلك النفس النبيلة وذاك القلب ، وكنت أبدو في مقابلها أكثر مما أنا في الحقيقة, لأني وقتها كنت كامل الكينونة.
 وهل كانت ملكة من ملكاتي تبقى تماماً دون نشاطها وأنا في حضرة يديها! بل كانت العواطف العاصفة التي يجيش بها فؤادي تنطلق بحرية.
 أو لم تكن رابطتنا نسيجاً أبدياً من العواطف والبديهة المتوقدة الحاضرة ، حتى أنها لتحمل طابع الذكاء في بداياتها المسرفة؟ ولكن واأسفاه! إن الاعوام القلائل التي كانت تكبرني بها قد عجلت بها إلى الموت من قبلي. ولن أنسى أبداً عقلها الكبير وتأثيرها الطويل. ومنذ بضعة أيام رايت شاب يافعا إسمه ف. فيه صراحة وتفتح وشكله ودود إلى أقصى حد، خرج من الجامعة لتوه، ولما عرف أني احب وأكثر من الرسم وأنى اعلم اليونانية القديمة (وهما أمران غريبان في هذه البقعة ) جاءني ليقول لي كل مخزونه من العلم والدرس، وقال لي إنه قرأ الجزء الأول من نظرية سولنزير وأن لديه كتابا من تأليف هيني عن الآثار القديمة، تركته يتحدث ما قال.
 وتعرفت أيضاً على شخص شريف جداً وهو قاضي الناحية الطيب القلب الصريح , وقد دعاني لزيارته وفي نيتي أن أزوره في أول فرصة تمكني ، وهو يعيش في أحد أكواخ الصيد الملكية، و على مسافة ساعة ونصف على الأقدام, وقد حصل على إذن للعيش في ذلك الكوخ على إثر موت زوجته لأنه من العسير المؤلم له أن يبقى بعد فقدها قاطناً في البلدة بمبنى المحكمة. وقد تعرفت أيضاً على بعض الأشخاص العجيبين ووجدت عشرتهم غير محببة ، ووجدت طريقتهم في إظهار الصداقة لا يطاق. والآن الى اللقاء. 

22 مايو 

 يطاردني الشعور بأن حياة الانسان ما هى إلا حلم قصير ، وأن كل ما ناخذه من السرور لا يفضي إلا إلى إستسلام سيء بينما نحن نسلي ذواتنا بتزيين جدران سجننا بالأشكال السعيدة والمناظر الخلابة. ابقى صامتا وأفحص وجودي فأجد ثمة عالماً ولكنه على وجه الدقة عالم من الأخيلة والرغبات الغريبة ، وليس عالم من الوضوح وقوة الحياة والتميز ، وحينئذ يعوم كل شيء أمام حواسي و افرح وأحلم وأنا أشق طريقي في الحياة.. 

 26 مايو 
 عرفت من القدم وعلى طريقتي في العيش بأي مكان، كيف أختار بيتا صغيراً في بقعة هادئة ساكنة أذهب إليها مهما كانت الازعاجات. وهنا أيضاً اكتشفت مكاناً هادئاً مريحاً يتميز في نظري بسحر خلاب عجيب. فعلى مسافة قريبة من البلدة مكان إسمه "فالهايم" موجود على جانب تل، وإذا مشيت في أحد الدروب المتفرقة من البلدة تكشّف لك منظر الوادي بأكمله وتعيش ها هنا امرأة عجوز طيبة تدير خاناً صغيراً وتبيع فيه النبيذ والقهوة والعجة ، وهي لطيفة مرحة برغم تقدمها في السن. وأهم ميزات وصفات هذه البقعة وجود شجرة زيزفون تفرد أغصانها الهائلة فوق المرج الصغير الموجود أمام الكنسية، وتحيط به بيوت الفلاحين. 
وقلما وقع نظري على مكان بمثل هذه السكينة و العزلة. وكثيراً ما جعلتهم ينقلون إليه مقعدي و مائدتي من داخل الخان، وهناك احتسي قهوتي وأطالع هوميروس. وقد ساقتني الصدفة إلى ذلك المكان ذات عصر بديع فوجدته خالياً من اي شخص , لأن الجميع كانوا في البساتين اللهم إلا صبي صغير في نحو عمر الرابعة كان جالساً على الأرض وقد اسند بين ركبتيه طفلاً في الشهر السادس من عمره وجعل يضمه إلى صدره بكلتا يديه ، وبرغم الحيوية التي كانت تخرج من عينيه السوداوين بقي ساكنا في موضعه تمام السكينة. سحرني هذا المنظر فقعدت على محراثٍ كان قبالته ورسمت هذه اللوحة الصغيرة للحنان الأخوي, و زدت عليها سور النبات القريب وبعض عجلات العربات المحطمة وباب مخزن القمح. 
وفي ما يقارب ال ساعة وجدتني قد أنجزت رسماً صحيحاً جميلا جدا مثيراً للإهتمام من غير أن أضيف إليه شيئاً من فكري ابدا ، الأمر الذي دعاني لتخصيص كل وقتي مستقبلاً للطبيعة، فهي وحدها المساعد الذي لا ينضب أبدا والكفيل بتكوين اكبر أساتذة (الفن). 

 27 مايو.

 لقد اخذتني النشوة في سرد التشبيهات ونسيت أن اقول لك فيما كان من أمر الولدين. لقد بقيت جالسا على المحراث ما يقارب ال ساعتين اوأكثر من الزمان. وقبيل المساء جاءت امرأة شابة وقد علقت بيديها سلة تركض نحو الولدين اللذين لم يكونوا قد تحركوا من مكانهم طيلة ذلك الزمن. صاحت الشابة عن بعد :" يالك من ولد طيب يا فيليب". نهضت و دنوت منها وسألتها أهي ام الطفلين الجميلين قالت: اجل، وأعطت أكبرهما كسرة خبز ثم اخذت الأصغر بين ذراعيها وقبلته بحنان الأم وقالت: " لقد جعلت طفلي في رعاية فيليب بينما خرجت إلى البلدة لاشترى شيئاً من خبز القمح وقِدراً من الفخار وشيئاً من السكر، " , ورأيت كل تلك الأشياء في سلتها التي كان الغطاء قد نزل عنها، و اكملت هي :"فإني أريد أن أصنع هذا المساء شيئاً من المرق لابني الصغير هاتز, لأن إبني الأكبر كسر لي وعائي أمس وهو يتشاجر مع فيليب على ما تبقى من محتواها". وسألتها عن إبنها الكبير هذا حين رأيته اتيا يعدو، وأعطى فيليب غصنا من الصفصاف وتحدث لفترة قصيرة مع المرأة ... عرفت أنها إبنة استاذ المدرسة وأن زوجها ذاهب إلى سويسرا لتحصيل مبلغ من النقود تركه له أحد ذوي قرابة, وقالت في شان هذا الامر : " لقد أرادوا أن يغشوه ولم يجيبوا على خطاباته فانتقل إلى هناك بنفسه, وأتمنى ألا يكون قد أصابه مكروه لأني لم أتلقَ منه منذ سفره أى رسالة ". 
وفارقتها أسفاً بعد أن أعطيت كل واحد من اولادها " كرويتزرا". وأؤكد لك يا صاحبي العزيز أن مرأى مثل هذه المخلوقة يُهديء ذاتي القلقة عندما تكون خواطري في قوة جيشانها. لقد أكثرت من الخروج إلى هناك بعد ذلك مرات عديدة وألفني الأطفال، وكنت امنح كلاً منهم قطعة من السكر عندما احتسي قهوتي، ويشاركونني الخبز و اللبن ويحظون بكرويتزرا على الدوام يوم الأحد.
 كان ذلك يمتعني كثيراً وأنا أرقب حالتهم المزاجية و سذاجة سلوكهم عندما يجتمع معهم اخرين من أطفال القرية. 

 30 مايو

 إن ما كتبته لك أخيراً عن الرسم يصدق أيضاً على الشعر، فإنه من المهم لنا أن نعلم فحسب ما هو الممتاز بالفعل ونحاول التعبير عنه. وقد رأيت اليوم مشهداً لو قيل بأسلوب أدبي كان اروع قصيدة رعاية. ولئن توقعتَ شيئاً بدعياً رائعاً من هذه المقدمة فأنت مخطيء، فهي لا تتعلق إلا بفتى فلاح أثار في نفسي اهتماماً كبيرا، وسأروي لك حكايتي في سرد سيء كالعادة مولعاً بالمبالغة ، ولكنها"فالهايم".
 كانت هناك جماعة جالسة خارج المنزل تحت شجرة الزيزفون لاحتساء القهوة، ولم تعجبني مصادقتهم لذا تأخرت عنهم قليلاً متعللا بحجج ، وخرج مزارع من بيت مجاور بدا يعمل في إصلاح المحراب الذي رسمته أخيراً، و اسعدني مظهره فتكلمت معه وسألته عن احواله، فقال إنه في خدمة أرملة شابة تعتز بمساعدته كثيراً, وأطال في الحديث عن الارملة وقال : " إنها لم تعد شابة الان وكان زوجها فى الماضي يسيء معاملتها ويذلها، لذا قررت ألا تتزوج مرة ثانية". ولكن لهجته جعلتني اتصور أنها فاتنة أيما فتنة، وأنه يتمنى من كل قلبه لو اختارته لانهاء ذكرى سوء معاملة زوجها الماضي. ومن خلال سرد ألفاظه بحروفها قدرت أن أستشعر عمق حب هذا المسكين وصدق تولعه بها.
 والواقع أن كلامه ذلك اقتضي مواهب شاعر كبير كي ينقل تعبير شكله واتقاد نظراته والتناغم في صوته. وما من ألفاظ يمكن أن تصور الحنان الفائض من كل لمحة من لمحاته و كل حركة من حركاته. وعبثاً أجتهد في نقل هذا المشهد لك بما يعطيه قدره, وإني لأدع هذا لخيالك.

 16يونيو. 

" لماذا لا أكتب إليك ؟", من حقك أن تعلم وأن توجه إليّ هذا السؤال. ولكن كان من الواجب عليك أن تخمن أنني بخير، أي أنني قد لاقيت شخص قدر أن يستحوذ على قلبي...وقد جرى هذا ولا اعلم كيف, فمن العسير أن أقدم لك بياناً وافيا عن الطريقة التي بها لاقيت ألطف النساء و اجملهن. فأنا امرؤ قرير العين سعيد. ملاك هي ! ولكن هذا القول سخافة! فكل امرء يصف عشيقته هذا الوصف،ومع هذا أجد من الصعب عليّ أن أخبرك كم هي كاملة الصفات أو لماذا هي مثالية إلى هذا الحد الكبير، ولكن اقدر أن أقول أنها أسرت كل حواسي وتملكتني . 
والحقيقة أنني أوشكت منذ استهللت هذا الخطاب أن اترك القلم من يدي وآمر بإسراج فرسي لأنطلق به , بيد أني لا اتوقف عن الإندفاع إلى الشباك لأرى أين وصلت الشمس من الإرتفاع في قبة السماء. لم اقدر أن أكبح جماح ذاتي ولم يكن لي بدٌ من الذهاب إليها , فلو تعلم يا فلهام ما كان أبهج روحي وسط اولادها الأعزاء الحسان : ثمانية من الأخوات و الأخوة ؟ سأحاول أن أحمل ذاتي على تزويدك بتفصيلات. لقد ذكرت لك منذ عدة أيام أنني كنت قد لاقيت السيد س ... قاضي الناحية، وأنه دعاني للذهاب لملاقاته في معتكفه الخاص غير أني لم اكترث في تلبية هذه الدعوة، ولعلي ما كنت لازوره ابدا لولا أن الصدفة كشفت لي عن الجوهر الذى يكمن مختفيا في هذه البقعة المنعزلة. 
ذلك أن بعض الشباب هنا اقترحوا إقامة حفل راقص في البلدة وقبلت الإشتراك فيه, واخترت لمرافقتي في تلك الأمسية فتاة من بنات ديرتي فيها ملاحة وظرف ولكنها على كل حال عادية ، واستقر الرأي على أن اخذ عربة وأمر على شارلوت أنا وشريكتي وخالتها كي اذهب بهن الثلاثة إلى الحفل الراقص.
 وقالت لي مرافقتي إنني سالاقي سيدة أشبه بالفاتنة جدا, و قالت خالتها: " خذ حذرك حتى لا يفتن بها قلبك !" فسألتها : ولم هذا التحذيركله , فقالت : لأنها بالفعل انسانة مرتبطة لرجل فاضل جداً، ذهب لتسوية أحواله المالية بعد موت ابيه الذي ترك له ميراثاً كبيرا جداً, ولم يثر هذا الخبر شيئاً ذا بال في نفسي. وعندما بلغنا البوابة كانت الشمس قد مالت إلى الغروب وراء قمم الجبال. جاءت الخادمة عند الباب و طلبت منا أن ننتظر سيدتها للحظة ، ثم فُتح الباب فرأيت امامي أفتن منظر رأيته طول عمري، ستة أطفال تتراوح أعمارهم بين إحدى عشرة عاما و عامين متواجدين في الاستقبال من حول سيدة ذات قامة بديعة متوسطة الطول ترتدي ثوبا أبيضاً بسيطاً مزيناً بشرائط زهرية اللون, وكانت تحمل في يدها رغيفاً من دقيق الجردار تعطي منه للصغار من حولها وفق أعمارهم و جوعهم, في حين خرج آخرون إلى الفناء لرؤية الضيوف ومشاهدة العربة التي ستاخذها عزيزتهم شارلوت والتي بادرت بالقول : أرجو أن تعذرني أني حملتك مشقة المجيء إلي وانتظار قدومي، فإن مشاغل الثياب وبعض الواجبات البيتية قبل انصرافي قد أنستني عشاء الأطفال، وهم لا يحبون أن ياكلوه من يد أحد غيري. وتفوهتُ بعبارة مجاملة جميلة ، ولكن روحي وعقلى كله كان يتامل في منظرها وحركتها وصوتها وطريقة كلامها ، ولم أكد أسترجع رباطة جأشي حتى اندفعتْ مسرعة تركض إلى حجرتها لإحضار قفازها ومروحتها. وأخذ الصغار ينظروا الي بنظرات مستفسرة عن بعد، فدنوت من أصغرهم وهو مخلوق صغير لذيذ للغاية فتراجع إلى الخلف ، وقالت شارلوت التي رجعت في هذه الحظة : لويس! سلم على إبن عمك !. أطاع الصغير الأمر، وقلت لشارلوت وأنا امسك بيدها لتهبط السلم : يا ابنت العم ! أتراني حقاً جديرا بسعادة الإنتماء إلى قرابتك؟. فقالت مبتسمة : لدي عدد هائل من أبناء العمومه بحيث يحزنني ألا تكون في عدادهم. وعندما ودعت شقيقاتها طلبت من أختها التالية لها في السن وإسمها صوفي والتي تبلغ من العمر إحدى عشرة عاما أن ترعى الأطفال، وأن تبلغ تحيتها لابوها عندما يعود من نزهة على صهوة فرسه, وأوصت الصغار أن يطيعوا صوفي كطاعتهم لامهم ووعدها بعضهم بهذا، بيد أن فتاة شقراء الشعر في نحو السادسة من عمرها ظهر عليها عدم الإقتناع وقالت : ولكن نحن نحبك أنت و صوفي ليست أنت يا شارلوت . 
ثم انطلقت بنا العربة وسألت خالة صاحبتي شارلوت هل انتهيت من الكتاب الذي بعثته إليك أخيراً, فقالت شارلوت: كلا ! فأنا لم أحببه وفي وسعك أن تاخذيه, وكذلك الكتاب الذي من قبله لم يكن احسن منه كثيراً, وأردفت شارلوت تقول : عندما كنت في عمر إصغر لم أكن أحب شيئاً قدر حبي للروايات الرومانسية ، ولست أنكر أن ذلك لم يزل يجذبني إلى الآن إلى حد ما, ولكنني بت قلما أقرأ الآن. 
و تكلمنا عن مناهج الرقص فقالت شارلوت: إنْ كان حب الرقص شئ خاطئ فأنا على استعداد للافصاح بأني أعلِي متعته على باقي المتع لدينا ، فإذا ما واجهتنى وحيرنى أمر ما توجهت إلى البيانو وعزفت لحن موسيقى مما كنت قد رقصت على أنغامها قبل ذلك، فيذهب عني شعور ما أكابده فوراً.
 و تقدر ان تتصور بأي إصرار نظرت عينيها السوداوين الثريتي السواد وهي تقول هذه الملاحظات، وهِمت وعزفت في المعاني الرائعة التي عبرت عنها بحديثها...وقد بلغ من حالي هذا أنني لم اعد انصت الى ألفاظها الفعلية. وقصارى الحديث أنني نزلت من العربة شخص فى عالم آخر أشبه بشخص في غيبوبة حلم، وقد رانا السيدان اندران و ن .ن .( ولا أريد أن اجهد نفسي بذكر الأسماء) وهما رفيقا الخالة وشارلوت عند باب العربة، وأخد كل منهما رفيقته و لحقتهما أنا مع شريكتي. وبدأنا برقصة المنيوبت الرزينة البطيئة ، وبدأت شارلوت مع شريكها رقصة إنجليزية ريفية, وقد أكدتْ لي بكل صراحتها اللطيفة أنها مغرمة جداً برقصة الفالس وقالت: ان العادات هنا أن يرقص الفالس شريكا الرقصة السابقة عليها, فإذا رغبت في أن تراقصني الفالس أرجوك أن تقول ذلك ل شريكي وسأقترح أنا مثل ذلك على شريكتك. 
ووافقتها على ذلك و بدانا في الفالس, ولما بدأ الفالس وراح الراقصون يلف كل منهما حول الآخر في المتاهة الكبيرة للدوار, ساد شيء من التوتر والقلق لأن بعض الراقصين لم يكونواعلى مستوى المهارة المطلوبة. ظللنا ثابتين في موقعنا وصمدنا حتى النهاية نحن وراقصان ثانيان هما أندران وشريكته. ولم أرقص في حياتي كلها بمثل هذه الرشاقة والخفة التي رقصت بها تلك اللحظة, وكنا ثاني راقصين في الرقصة الريفية الثالثة، وفيما نحن ذاهبان إلى الحلبة تلاقينا بسيدة كنت قد لاحظت نظرتها حيث رفعت في الهواء يدها وحرَّكتها في إيماءة تحذير، وكررت بطريقة ذات مغزى إسم "ألبرت" فقلت لشارلوت: ومن ألبرت, فقالت وهي تمد لي كفها لمرافقة خطواتي : ولماذا أخفي عنك هذا الموضوع؟, ألبرت رجل فاضل وأنا مخطوبة له. ولم يكن هذا الخبر جديدا أو غير معروفا لدي (لأن السيدتين كانتا قد أخبرتاني به ونحن متوجهين في الطريق إلى بيتها), ومع هذا بدا الخبر وكأنه جديد علي تماماً، فأنا لم أفكر فيه من قبل على أنه مرتبط بتلك التي أمسيتُ شديد الإعزاز والتقدير لها. واستولى عليَّ الإضطراب وخرجت على ترتيب الرقصة و نظامها، فنجم عن ذلك قلق عام فيها بحيث اقتضى الموضوع حضور كل عقل شارلوت كي تصحح لي سياق خطواتي بدفعي و جذبي إلى مكاني الصحيح. ولم تكن الرقصة قد وصلت الى نهايتها بعد عندما اشتدت قوة البرق الذي كان منذ برهة قد بدأ يظهر عند خط الأفق ثم سُمع الرعد، فارتفع حدة صوته فوق صوت الموسيقى. 
ومن شأن الخوف أو الكدر عندما يفاجئنا وسط فرحنا بمسراتنا أن يكون أشد خوفا على نفوسنا من أي وقت ثاني, وتكون حساسيتنا به اكبر واعمق ، مما جعل الصدمة أقوى و اعنف. وأصاب الرعد السيدات بالخوف وصدر عنهن صرخات وأدى بإحداهن أن تقعد في أحد الأركان وقد جعلت ظهرها إلى الشباك ووضعت أصبعيها في أذنيها، وأصرت بعضهن على الرجوع الى منازلهن وغدت غيرهن غير مدركات لأفعالهن. أما الرجال فقد خرج بعض منهم ليدخنوا سيجاراً في هدوء، في حين استجاب فريق آخر بكل سرور إلى اقتراح المضيفة بالخروج إلى حجرة أخرى ذات ستائر و مصاريع خشبية. واقترحتْ شارلوت لعبة المقاعد وأجاب من كان هناك دعوتها للعب هذه اللعبة .
 وكم كان جميلا أن يرى المرء المرح والسعادة تكتنفان الجميع. وانطلقت شارلوت تدور حول حلقة المقاعد بذراع مرفوعة, وقال الأول " واحد" والتالي له" إثنان" والثالث" ثلاثة"، وهكذا تابعوا اللعب بمرح إلى أن توقفت العاصفة . ثم قمت ولحقت ب شارلوت إلى قاعة الرقص, وفي طريقي إلى هناك قالت: لقد بددت اللعبة ما فعلته العاصفة من الخوف. توجهنا إلى الشباك وكان الرعد لم يزل ظاهرا عن بعد والمطر الخفيف يهطل و يترس الهواء من حولنا بعبير الريف. 

19 يونية 

 لم أعد أتذكر أين توقفت في قصتي, كل الذي اعلمه أن الساعة كانت الثانية صباحاً حينما ذهبت الى سريري, وأعتقد أنني لم احكي لك بعد ما جرى عندما ركبنا راجعين أدراجنا من المرقص, وليس عندي لهذا الآن الكثير من الوقت. لقد كان بزوغ الشمس جميلا وقد انتعش الريف كله, والمطر ينزل قطرة قطرة على أشجار الغابة. 
كان اصحابنا في المركبة نياماً، سألتني شارلوت أفلا ترغب انت فى النوم أيضاً ، فنظرت إليها نظرة ضائعة وأجبتها: ما دمت أرى عينيك مفتحتين فلا سبيل للنوم إلى عيني. وهكذا ظللنا يقظين إلى أن وصلنا باب منزلها الذي فتحته الخادمة بخفوت و هدوء ، وأكدتْ لها أن والداها و الابناء جميعاً بخير وما زالوا راقدين. 
غادرت منزلها بعد أن استأذنتها في أن الاقيها في غضون النهار، فأذنت لى و عدت الى بيتي. ومنذ هذه اللحظة والشمس والنجوم والقمر تمضي في مداراتها، أما أنا فلم أعد أميز النهار من الليل لأن العالم كله أصبح في نظري عدماً. 

21 يونية

 أيامي أصبحت حافلة بالفرح والسرور كتلك التي اختارها الله ، وأيا كانت أيامى وحياتي بعد ذلك فلن أقول أني لم أذق طعم السعادة. أنت تعلم أين موقع فالهايم فأنا الآن مستقر هناك بالضبط, ففي هذه البقعة أجد ذاتي على مسافة نصف مرحلة من شارلوت، وهناك أجد المتعة والتذوق لكل مباهج الحياة التي يمكن أن تكون من نصيب الناس. وما كنت اتصور وأنا أختار فالهايم لرحلتي ماشيا على قدمي أن السماء كلها تقع على مقربة منها, وكم مرة وقعت عيني على بيت الصيد هذا الذي يضم تحت سقفه كل مباهج وسعادة قلبي, وكم من مرة- ياعزيزتي فالهايم- تفكرين في حماس البشر على التجوال والوقع على اكتشافات اخرى ، وفي الدافع الخفي الذي يجعلهم بعد ذلك للرجوع إلى دائرتهم غير معنيين أنفسهم بما يجري من حولهم. 
 إنه ليس من الغريب أنني عندما جئت أول مرة إلى هنا, و تطلعت إلى الوادي الجميل بالقرب من التل شعرت بالانجذاب بكل ذلك المنظر المحدق بي...كانت الغابة الصغيرة مقابلي وما كان أجمل أن يجلس المرء تحت ظلالها !, وما كان اجمل المنظر من هذا الموقع الصخري!, ثم هناك سلسلة التلال وتلك الوديان الجاثمة عند أقدامها البديعة, ليتني أجوبها وأنسى ذاتي بينها . وما أسعدني أن يكون لقلبي الإحساس بعين تلك اللذة البيئية السطحية البسيطة التي يحسها الفلاح والذي يحفل طعام مائدته بأغذية من نتاج زراعته وتربيته ، فلا يفرح بطعامه فحسب، بل يتذكر بتلذذ في الأمسيات السعيدة و الوقت الذي امضاه في سقيه واستنباته. 

 ٢٩ يونية 

أمس الأول جاء الدكتور من البلدة ليزور القاضي، فلاقاني على الأرض ألاعب ابناء شارلوت، وكان بعضهم قد هجموا عليّ والآخرون يلعبون معي وأنا أمسكهم وأدغدغهم فتصدر عنهم صياح و ضجة عالية. كان هذا الدكتور شخص من المتمسكين بالرسميات بشكل صارم ، فهو يكون مهتما بتسوية طيات ثيابه وأهدابها وهو يتكلم إليك. ولكني لم انتبه لهذا ......بل سمحت له أن يواصل كلامه بينما أنا مشغول ببناء بيوت الأطفال التي يبنونها من الورق كلما دمروها. 
وقد انطلق هذا الدكتور في أرجاء القرية بعد ذلك مردداً أن ابناء القاضي كانوا مدللين بما فيه الكفاية قبل ذلك، أما الآن فها هو فيرتر يفسدهم كل الإفساد. أجل يا عزيزي فلهام، ما من شيء على وجه هذه الارض يؤثر في قلبي مثلما يؤثر فيه الأطفال, فعندما ألمح فيهم المرح و الخفة اللذين يساعدان على تحمل مصاعب الحياة، وعندما احس بصفاء طبيعتهم البسيطة و العذبة..... عندئذ أتذكر القول الحكيم الذي أرسله معلم البشرية الكبير : "ما لم تصيروا مثل واحد من هؤلاء.." . أول يوليو. خرجت شارلوت في زيارة لقضاء بضعة أيام في القرية إلى امرأة فاضلة جداً مسح الأطباء أيديهم منها، فتمنت هذه المراة أن تكون شارلوت بقربها في انفاسها الأخيرة. إن قلبي يتالم ويتوجع من بعادها وغيبتها أكثر من المريض الذي يتألم فى سرير المرض.
 لقد صحبتها في الأسبوع الفائت في زيارة لقس قرية س. , وهي بلدة صغيرة في الجبل ، وقد اخذت شارلوت أختها الصغيرة. ولما ولجنا الى فناء بيت القس وجدنا الرجل العجوز الطيب جالساً على كرسي خشبي أمام الباب في ظل شجرة لوز ضخمة، وما أن أبصر شارلوت تغدو اليه حتى بدا وكأنما دبت فيه حياة اخرى فنهض وغامر بالمشي إليها، فركضت نحوه وحملته على القعود كما كان، ثم جلست بقربه وأبلغته رسائل من والدها ، ثم لمحت أصغر ابناءه فقبلته. 
وأتمنى لو تسنى لك أن تشاهد اعتنائها بهذا الشيخ وتادبها فى الحديث معه ه، وكيف بقيت تحدثه عن الشباب الاقوياء الذين طالهم الموت فجاة، وكيف أكدتْ له أنه يظهر أفضل وأقوى من المرة الفائتة. وكنت أنا في تلك الاثناء أوجه اهتمامي إلى زوجته الطيبة . وبدأ الشيخ بحالة صحية جيدة وطيبة، ولم أتمالك ذاتي من الإعجاب بجمال سحر شجرة اللوز وبظلها المستحب اللطيف فوق رؤوسنا. 
شرع يخبرنا عن تاريخها ، ولا يسعني أن اقول لك كم كان شغوفاً بهذه الشجرة فقال : إن لها عندي مبلغ كبير من الحب, ففي ظل هذه الشجرة نفسها فوق كتلة من الخشب كانت زوجتي تقعد تحيك الصوف عندما ولجت الى هذا الفناء وأنا طالب معدم للمرة الاولى ، منذ سبعة وعشرين عاما بالضبط. وضحكنا كلنا بما فينا القسيس إلى أن اوصله ذلك إلى نوبة سعال قطعت سياق كلامنا برهة. ثم رجع الهرشميدت وفتح موضوعاً قائلاً : إنك تسمي قوة الطبع جريمة، ولكني اظن أنك هاهنا تستخدم لفظاً مبالغا في الشدة. فأجبته: كلا بل حدة الطبع تنشأ عن احساس عميق بافتقارنا إلى الفضل أو الصفات المتميزة ، وعن سخط يقترن دائماً بالغيرة أو الحسد التي يولدها الغرور السخيف، إذ نرى أناساً فرحين لسنا نحن مصدر فرحهم فلا نطيق هذا المشهد. فحدقت شارلوت نحوي وعلى وجهها ابتسامة ولاحظت ردة الفعل التي تصطبغ بها حديثي، و حمستني دمعة من فردريكا أن استمر في كلامي فقلت: أولئك الذين يستعملون سلطانهم على قلب بشري لهدم تلك المباهج البسيطة التي نَعم بها هذا الفؤاد! فأي شيء بعد ذلك من ألوان الرعاية و التلطف لا يمكن أن يعوض هذا القلب من تلك السعادة التي سلبها ذلك الطغيان القاسي!. كان قلبي متحمسا وأنا أتدفق بهذا الكلام، فقد جاءت على خاطري ذكرى أمور عدة جرت فيما سبق ملأت عيني بالدموع، وهتفت: ينبغي أن نكرر لذواتنا كل يوم أننا ينبغي ألا نتدخل في امور أصدقائنا , أما إذا تناوشت أقدامهم أنواعاً من العذاب و الأحزان ، أفلا ينبغي علينا أن نبسط إليهم يد المساعدة ولو بأيسر العزاء؟ . 
فقالت شارلوت : إنه ليفرحني أن أسمع بعلاج من هذا القبيل، فأنا على الأقل اظن أن الكثير يتوقف علينا كاشخاص، فعندما يحزنني أو يزعجني شيء ما، أسرع إلى الحديقة و اغني بنغمتين من أهازيج الرقص الريفي فينقسم حال دماغي على الفور, فقلت: فهذا ما قصدته أنا.
 وكانت فردريكا تستمع لهذا الكلام بانتباه شديد، أما الفتى الهرشميدت فإعترض بأننا لسنا سادة ذواتنا والسلطان لطباعنا، ومن باب أولى أن نسيطرعلى عواطفنا. فقلت له : إن الأمر هنا متعلق بعواطف غير مستحبة للنفس على كل منا أن يتخلص منها، ثم أنه ما من أحد يعلم مدى سلطاته على نفسه و عواطفه إلا بالمحاولة. ولاحظت أن الشيخ الكبير كان يقضي برأسه ويجهد ذاته في الإصغاء لحديثنا، ووجهت كلامي مباشرة إليه : إننا نندد بالعديد من الجرائم في عظاتنا ولكنني لا أذكر موعظة واحدة وجهت ضد اعتلال المزاج أو حدة الطبع. فقال القسيس الشيخ : قد يكون هذا منطقيا جداً لمهنة المدن عندكم، أما أهل هذه البلدة فلا يعانون مطلقاً من حدة الطباع، وإن كان ذلك قد يفيد في بعض الاوقات كما حالة زوجتي وفي حالة القاضي، مثلاً.. 

6 يوليو

 إنها لا تزال مع صاحبتها التي تنتظر...ولم تزل أيضاً هي بعينيها ذلك المخلوق الجميل المشرق الذي يخفف حدة الآلام ويفيض بالفرح فيما حوله أينما ذهب. وقد خرجت البارحة مع شقيقاتها الصغيرات، عرفت هذا و ذهبت لملاقتهن ومشينا سوية، ثم عدنا إلى القرية بعد نحو ساعة ونصف. ووقفنا عند النهر الذي بت مولعا به والذي صار الآن أحب إلي بمرات كثيرة من ذي قبل, وجلستْ شارلوت فوق الحائط المنخفض واجتمعنا كلنا جانبها , ونظرتُ حولي وتذكرت الوقت الذي كان فؤادي فيه فارغا ليس فيه من يشغله، وقلت: أيها النبع الغالي العزيز: منذ ذلك الحين لم أعد ألم بك، ولم اجيء لأستمتع بالراحة العذبة بقرب جدولك الصافي، بل كنت أمر بك في خطوات غير مستقرة ، وقلما أعرتك نظرة. ونظرتُ إلى الأسفل فرايت شقيقة شارلوت الصغيرة "جان" اتية تصعد الدرجات المتبقية إلينا وفي يدها كوب ماء، و رغبت أختها "ماريان" في أن تأخذه منها فصرخت الطفلة بأعذب تعبير: كلا ! بل يجب أن تشرب شارلوت أولاً !. وسحرني البساطة و الاعتزاز اللذين نطقت بهما هذه العبارات، حتى حاولت أن أعبر عن عاطفتي بالإمساك بالطفلة و اخذها إليّ وتقبيلها بحرارة، فخافت مني وارتعبت وأخذت تبكي, وقالت شارلوت: يجب ألا تصنع هذا.
 فشعرت بالتوتر وبالاضطراب، وأدرفت شارلوت وهي تاخذ يد الطفلة وتقودها نازلة الدرج مرة ثانية : تعالي يا جان ...لا ضير, إغتسلي فورا بالماء العذب. ووقفت أنا انظر اليها ، ورأيت الصغيرة العزيزة كيف تضع خديها بيديها المسللتين ظنا منها أن كل الرجس الذي انتقل إليها من جهتي القبيحة سوف يمسحه عنها الماء السحري, وكيف أنها أمعنت في ذلك بكل عنفوانها مع أن شارلوت قالت لها "حسبك". وعندئذ لم احس العماد المقدس لإحلال مثل الذي احست به عندئذ، ولما صعدت شارلوت من النهر أوشكت أن أركع أمامها. 

8 يوليو

 خرجنا إلى فالهايم, خرجت الفتيات في عربة، وأثناء مشينا كنت أنظر في عيني شارلوت الجميلتين !!, وأذكر أن الفتيات عندما ركبن عربتهن مرة ثانية كان الشاب وسلاستات واندران وأنا واقفين بجانب الباب. كانت المجموعة نشيطة تضحك ويمازح بعضها الاخر, وراقبت عيني شارلوت ، كانتا تذهبان من الواحد إلى الآخر ولكنهما لم تنظرا علي, مع أنني أنا الواقف هناك هادئا ساكنا بلا حراك عيناي لا ترى شيئاً غيرها !, وأقرأها فؤادي سلام الوداع ألف مرة ولكنها لم تنتبه ل وجودي قط. وانطلقت العربة فى طريقها وامتلأت عيناي بالدموع و تطلعت في أثرها، وفجأة رأيت قلنسوة شارلوت تنحني خارج الشباك والتفتتْ تنظر ورائها. أكان نظرها موجهاً إلي أنا ؟ ...لست اعلم يا صديقي وفي هذا الشك أجد عزائي, فلعلها..... يا لي من ولد !. 

11 يوليو

 مدام م. متعبة جداً وأنا ادعي إلى الله أن يشفيها, وقد قالت لي اليوم شارلوت شيء ادهشني, فالشيخ م. رجل بخيل كثير التطلع لما في يد غيره، وقد نكد حياة المسكينة السيدة زوجته، بيد أنها تحملت مصاعبها وبلاءها في صبر. ولما أنبأها الدكتور منذ بضعة أيام أن شفائها ميؤوس منه بعثت السيدة إلى زوجها( وكانت شارلوت موجودة) وخاطبته قائلة: عندي ما اقوله لك ، لقد أسست منزلا ودبرت أموره حتى الآن بأقصى ما وسعني من الاقتصاد و التقشف, ولكن يجب عليك أن تعفو عني وتصفح أنني غششتك على مدى ثلاثين سنة : ففي بداية حياتنا الزوجية حفظت لي مبلغاً صغيراً لمتطلبات المطبخ وما إلى ذلك من نفقات المنزل. ولما اتسعت أملاكنا و نَمت مؤسستنا عجزتُ عن إقناعك بان تزيد الإعتماد الأسبوعي والذي هو سبعة فلوريدات بما يلائم مصروفنا , فكنت آخذ النقود منك بدون أن أشعرك بذلك ، بحيث كنت أستعيض نقص الإعتماد من خزانة اموالك ، لأنه ما من أحد يمكن أن يفكر أن زوجتك تسرق خزانة الدار، ولكنني لم أنفق اي شيء هدراً وعبثا . وإنى أدلي لك بهذا الإعتراف لأنني لا ارغب للتي ستدير منزلك بعد وفاتي أن تتحرر من الخجل والمسؤولية بإلحاحك وإصرارك على أن الإعتماد المسموح به لزوجتك الماضية كان كافياً لجميع المتطلبات. وتحدثت مع شارلوت عن مبلغ نقدي ما يتردى فيه بعض الرجال من العمى إلى حد لا يمكن تخيله, وكيف يمكن لأي شخص ألا يشك في وجود خدعة من نوع ما إذا كان كل ما يسمح به سبعة فلوريدات لسد متطلبات تحتاج إلى ضعف المبلغ. 

13 يوليو

 كلا لست مخدوعاً, ففي عينيها الجميلتين قرأت اهتماماً أصيلاً حقيقياً بي وبأحوالي. أجل إني احس بهذا ، ترى هل اقدر على قولها ؟, أأتجاسر على التفوه بالعبارات المقدسة ؟ إنها تحبني !, لكم ترفع هذه الفكرة من مكانتي وتسمو بي إلى عين ذاتي !. ولما كنت تفهم عواطفي يا صديقي ففي مقدوري أن أقول لك كم أبجّل ذاتي وأحترمها منذ أن أحبتني!, فهل هذا محض افتراض أو اعتقاد؟ أم هو وعي بالحق المعلن ؟. لست اعلم أنه يوجد رجلاً يمكن أن يحل محلي و يمسحني من قلب شارلوت، ومع هذا احس عندما تتحدث عن خطيبها بكل هذا الإعتزاز و الحرارة وكأنني جندي جردوه من ألقابه ونياشينه ورتبته.. 25 يوليو

 أجل ياعزيزتي شارلوت ! سانظم وأرتب كل شيء وما عليك إلا أن توكليني بمزيد من المهام، ولكن لا بد لي من شرط واحد: لا تستخدمي التراب في تجفيف السطور العزيزة التي كتبتها إلي، فاليوم سارعت باخذ رسالتك إلى شفتي فضرست بالرمل. 30 يوليو لقد اتى " ألبرت". ..ولا مناص لي من المغادرة, فإنه لو كان هو خير الناس والأهم وكنت أنا اقل منه في كل شيء لما كنت أطلب أن تراه متملكاً هذا الكائن المثالي. أقول متملكاً ؟ ... حسبي هذا يا فلهام. إن خطيبها هنا وهو شاب مثالي لا ينقصه شئ من الصفات الحسنه ولا يملك المرء إلا أن يحبه, ومن حسن حظي أني لم أكن موجوداً عندما رأوه بعضهم فقد كان ذلك خليقاً أن يدمر قلبي ويشله . 
هو شاب شديد الاهتمام بشعور الناس, جزته السماء على ذلك خيراً, ولا بد لي أن استلطفه وأحترمه لما يعاملها به من الإحترام. وهو يضمر الاهتمام لي، بيد أني فيما اعتقد مدين بذلك إلى شارلوت أكثر مما أنا مدين به لاستلطافه لي, فلدى النساء لياقة كبيرة في هذه الأمور. 
و ليس في مقدوري إلا أن أقدر ألبرت حق قدره، فهدوء طباعه وسلاستها يختلف أشد الإختلاف عن اندفاع طباعي الذي لا أقدر أن اخبئه, ولديه إحساس جم بالكنز الذي يحوزه بداية من شارلوت, كما أنه رجل ذكي، وتعلقي بشارلوت و رعايتي لكل ما يتصل بها يزيدان من نشوة حبه و انتصاره . ومن الذي لا يرغب قطع ذراع على تعريض الحياة كلها للدمار, ولكني على كل حال لست على ايمان كامل من أنني على كل الحق، فدعنا من هذه التشبيهات حسبك يا فلهام !, فهناك لحظات أتمنى فيها لو إستطعت على الوقوف ونفضت هذا الموضوع كله عني، وأتمنى فيها لو فررت من هذه البقعة أو علمت أين المفر.. ولكن أياً كان الحال في هذا الموضوع ، فبهجتي مع شارلوت قد ذهبت , ولك أن تسميها افتناناً أو حماقة. 
ولقد كنت قبل مجيء ألبرت أعرف كل ما اعلمه الآن, كنت أعرف أنني لا اقدر أن أصبو إليها, وعندما ارجع إلى شارلوت وأجد ألبرت جالساً الى جانبها في البيت الصيفي بالحديقة، لا استطيع ذلك وأسلك سلوك الغر الأحمق ، وأقترف ألف اندفاعٍ نزق.

 15 اغسطس

 من غير الممكن أن يكون هناك شك او ظنا في أنه ما من شيء لا يمكن الغنى عنه في هذا العالم سوى العشق , والملاحظ الآن أن شارلوت ما كانت لتفتقدني من غير اي وجع, والأطفال ذاتهم ليست لهم إلا أمنية واحدة وهي أن اجيء لمقابلتهم مرة أخرى في الغد. وقد ذهبت اليوم ظهرا لضبط كبسات بيانو شارلوت ولكني لم اقدر على ذلك، لأن الصغار أصروا أن اقص لهم حكاية، وحثتني شارلوت ذاتها على أن ألبي طلباتهم. وإذا اخترعت حدثا ثم أرجع وانساه في القصة لنفس الحكاية ذكروني بسرعة وقالوا إن الحكاية كانت تختلف في المرة السابقة. وهكذا اكتشفت كبر خطأ المؤلف الذي يحور في أعماله ولو بتطويرات من وجهة النظر العاطفية. 
فالإنطباع الأول يتلقاه الناس بطواعية وبساطة , ونحن بجبلتنا نصدّق اكثر الاشياء خيالا ، ومتى نُقشت في الذاكرة فالويل لمن يحاول تغييرها !. 

22 اغسطس

 يا للمصيبة يا فلهام ! فرُوحي الناشطة قد ذهبت إلى حد التراخي, ولا اقدر أن أكون عاطلاً ومع هذا لا اقدر أن أشرع في الشغل. ولست اقدر التفكير فلم يعد عندي عاطفة بجمال الطبيعة وحبها , فمتى تخلينا عن ذواتنا ضعنا وإياها تماماً. وكم من مرة تمنيت في نفسي لو كنت مزارعا طبيعيا كي لا يكون عند استيقاظي في الفجر إلا غرض واحد و هدف واحد وأمل واحد فى ذلك اليوم. وكثيراً ما جرى عندما أرى البرت غارقاً في عمل الحكومة من الأضابير و الأوراق أوهم نفسي بأنني سأكون فرحا لو كنت في مكانه. وكثيراً ما سيطر عليّ هذا الاحساس والشعور حتى لقد هممت أن أكتب إليك وإلى الوزير راغبا في ذلك المنصب في السفارة الذي تعتقد أنه في مقدوري الحصول عليه, وقد كان الوزير قد أظهر رعايته لي والحق أنني لا اعلم أي قرار أجتهد. 

28 اغسطس 

كل علل الشفاء وعلل الدواء سيتم شفاؤها هنا, فاليوم عيد مولدى وفي وقت مبكر من هذا الصباح جائتني لفافة من ألبرت, وما أن اخذتها حتى وجدت بها واحداً من الأشرطة الزهرية التي كانت شارلوت تزين بها فساتينها ...كنت قد طلبت منها مرة أن تمنحني إياه, وكان مع هذا الشريط مجلدان بهما من طبعة كتاب هوميروس الصغير الحجم، وكنت قد تمنيت كثيرا ان احصل على هذه الطبعة لتمنع عني مشقة حمل طبعة أرننين ذات الحجم الكبير معي في نزهاتي القريبة.
 فها أنت ترى كيف يحفان مبادرين إلى تحقيق أمنياتي ورغباتي. قبلت ذلك الشريط ألف مرة، وكنت مع كل نفس من أنفاسي اخذ ذكرى تلك الأيام الحلوة التي لن تعود والتي كانت تملاني بأعمق الحبور.... وهذا نصيبنا يا فلهام ! ولست اتضايق وأتذمر منه, فأزاهير الحياة ليست إلا رؤى سريعة الزوال عابرة, وما أكثر ما يتلاشى منها ولا يترك خلفه أثراً. وداعا...فالصيف بهي رائع, وكثيراً ما اتطلع الى الأشجار في بستان شارلوت وأهز الاجاص المتعلقة بأعالي أغصانها حتى تهبط ، وشارلوت واقفة على الأرض تحتها فتلتقطها بيديها. 

30 اغسطس 

ما اباسني من مخلوق ! لماذا أغدو بذاتي على هذه الصورة ؟ ماذا عسى أن تكون حصيلة كل هذه المشاعر الجياشة التي لا هدف ولا أمل لها , والنهاية أني لا اقدر أن أصلي و انذل إلا لها, فخيالي لا يسري فيه شيء غيرها, وجميع الأشياء التي تحيط بي لا حساب لها إلا بمقدار علاقتها بها، وإني لأستغرق في هذه الحالة الخيالية ساعات طويلة هنية إلى أن أرى ذاتي مضطراً إلى انتزاع ذاتي ووجدانى بعيداً عنها !, فعندما أقضي عدة ساعات في رفقتها أحس أن الحياة دبت في شكلها، وأن قلبي ينشد الخفاق و الاطمئنان , ولا أعي أحياناً أموجود أنا أم غير موجود. احسست بأنه لا بد لي من انتزاع ذاتي منها إما بضربٍ على غير هدى في أنحاء البلدة، أو أن أتسلق حاجزاً خطيرا، أو أشق طريقاً بين الأشجار الملفوفة حتى تمزقني الأشواك البرية، عندئذ أجد الاطمئنان, بل إني ساتمدد على الأرض وقد غلب الاجهاد على أمري....الى اللقاء فلست أرى نهاية لهذا الشقاء اللهم إلا الموت.

 ٣ سبتمبر

 لا مفر لي الا الإبتعاد. شكراً لك – يا فلهام- لأنك حسمت لي ترددي و حيرتي ، لقد فكرت طيلة أسبوعين متتاليين في تركها, لا بد لي من الإبتعاد و هجرها. لقد عادت إلى القرية حيث تقيم في بيت صاحبة لها, ثم هناك ألبرت, أجل لا بد لي من الخروج.

 10 سبتمبر

 أوه، يا لها من ليلة يا فلهام !, في مقدوري منذ الآن أن أتحمل أي شيء, لن المحها بعد الآن...وإني في انتظار شروق الشمس, فعند انبلاج الصبح ستكون الاحصنة أمام الباب. أما هي فنائمة بهدوء و سلام لا يطوف بخلدها أن أنظارها وقعت عليَّ لاخر مرة. لقد تحررت وقد المت بي الشجاعة في لقاء دام ساعتين بصحبتها ألا أفشي لها عن مكمني ..ويا له من كلام ذاك الذي دار بيننا يا فلهام !, وكان ألبرت قد وعد بالمجيء لدى شارلوت في الحديقة في المساء مباشرة. كنت على النافذة تحت شجرة كستناء عالية أرقب الشمس و هي تغرب، ورأيت الشمس وهي تغرب للمرة الأخيرة وراء ذلك الوادي الجميل وذلك الجدول الهادئ والذي كثيراً ما قعدت مع شارلوت بهذه البقعة ذاتها, وشهدت بصحبتها ذلك المنظر الفخم الرائع. وكم أبهجنا وأسعدنا ونحن في فجر مصاحبتنا عندما اكتشفنا أن كلاً منا يحب ذات البقعة، وهي حقاً عاطفية كأي بقعة أسرت لب فنان و تصوره على وجه الأرض, والمنظر تحت اغصان الكستناء فسيح جميل ومترام. ولم أزل أتذكر احساس الأسى العجيب الذي داهمني في للمرة الاولى عندما دخلت فيها ذلك المعتكف, لقد جاءني شعور خفي غريب بأن هذا المكان المقدس سيكون بالتاكيد سرجاً لسعادة لي أو تعب. 
قضيت نصف ساعة وأنا محتجز لتردد بين الذهاب والعودة وإذا بي انصت الى أصواتهما ، جريت إليهما لاستقبالهما و ارتعشت وأنا أتناول يديها و الثمها . ولما بلغنا قمة الشرفة طلع البدر من خلف التل الذي تكسوه الاغصان, ودار بيننا الحديث في مختلف المواضيع، ودون أن ندري دنونا من ذلك المعتكف .
ودخلتْ شارلوت ثم قعدت على الأرض، وجلس ألبرت الى جانبها, وحذوت حذوهما، كنت قلقاً بائسا, ولفتت إنتباهنا شارلوت إلى ضوء البدر وتأثيره البديع في المكان, والحق أن المنظر كان فخماً رائعاً ، وزاد من روعته وبهجته وأبهته ذلك العتم الذي كان يغمر البقعة التي نحن فيها. وظللنا هادئين بعض الوقت وإذ بشارلوت تقول: كلما مشيت تحت ضوء القمر جلب إلى ذاكرتي كل اصحابي المحبوبين الراحلين، فتمتليء ذاكرتي بخواطر الموت والحياة المقبلة. والتفتت نحوي و اكملت: لسوف نحيا من جديد مرة ثانية بإقرار. ولكن هل سيعلم كل منا الآخر مرة ثانية؟ ما رأيك في هذا ؟ ماقولك؟. فقلت لها وأنا أتناول كفها بين يدي وقد امتلات عيناي بالدموع : شارلوت! سيرى كل منا الآخر مرة ثانية هنا, وفيما بعد سوف نلتقي. فلماذا- يا فلهام- تُلقي عليَّ هذا السؤال على وجه الخصوص في اللحظة التي كان خوف وداعنا القاسي يغمر فؤادي؟. فقالت شارلوت: وهل يعلم هؤلاء الراحلون الأعزاء كيف نمضي أوقاتنا هاهنا؟, هل حقاً يعلمون متى نكون بخير وسعادة؟, ايعلمون متى نتذكرهم بكل حب وإعزاز؟. 
إن شبح أمي يحوم حولي و يطوف بي في ساعات المساء الساكنة وأنا جالسة بين ابنائي ، أراهم مجتمعين الى جانبي كما تعودوا التجمع بقربها، وعندئذ أرفع عينيَّ الهاتفتين القلقتين إلى السماء وأتمنى أن تكون أمي تتطلع من الأعلى إلينا لتشاهد كيف أني أبر بالوعد الذي اعطيته لها ، إنها كانت مستسلمة هادئة ، ولم تحس بالشفاء إلا من أجل ابناءها فحسب ولا سيما أصغرهم, وعندما اقترب موتها أمرتني أن أحضرهم إليها فجلبتهم ، وكان الاصغر سناً من بينهم لا يعلمون شيئاً عن خسارتهم الوشيكة الفادحة ، وكان الحزن مسيطرا عليهم وقد غلبهم على أمرهم. كان الجميع وقوفاً حول فراشها، رفعتْ يديها الضعيفتان نحو السماء ودعت لهم و دعت من أجلهم، ثم قبلتهم الواحد تلو الثاني، وأعطيتها يدي فقالت : " لقد أخذتِ على مسؤوليتك الشيء الكثير يا ابنتي : إنه حنان الأم و اهتمامها ما تعدين به !, ولقد شهدت مراراً كبيرة من دموعك وعرفانك أنك تنعمين وتتمتعين بحنان الأم، فأظهري هذا لاشقائك وكوني عند واجباتك وأمانتك وإخلاصك لأبيك كما لو كنت زوجته ، ستكونين أنت مصدر عزائه و راحته. وسألت عنه وكان قد اعتكف ليخفي عنا اوجاعه فقد كان مدمر القلب. ولقد كنت أنت يا ألبرت في الغرفة وطلبتْ أن تدنو منها, وراحت تفحصنا نحن الإثنين بنظرة تمتلا طمأنينة و رضاً إعراباً عن يقينها بأننا سنكون سعيدين معاً. وعندئذ وقع ألبرت على رقبتها وقبلها هاتفاً : وإننا لكذلك ! وسنكون على الدوام كذلك ! 

. 30 اكتوبر 

وصلنا إلى هنا البارحة والسفير صحته متوعكه ، ولم يخرج إلا بعد انقضاء عدة أيام. لو كان أقل شكاسة و قلق لكان كل شيء على ما يرام. وإني لأرى بكل وضوح أن السماء كتبت علي أن أمر بمحن ومصاعب كبيرة ، بيد أن خفة القلب و الشجاعة قد تتحملان أي شيء, ولكن هل يجوز لي أن أقلل من مواهبي وخبراتي في حين أن ثانيين ممن هم أقل مواهب مني بكثير جداً يتمشون أمام ناظري بأقصى ما يمكن من الرضا عن ذواتهم؟. أيتها الحكاية الصمدانية ! يا من أدين لها بكل قدراتي و قواي ، لماذا لا تحتجزي عني الكثير من النعم التي أسبغتها علي لتعطيني عوضاً عنها شعوراً بالرضا و بالثقة بالنفس ؟. وإني أؤكد لك يا صديقي الغالي، أنك كنت على حق بكل تأكيد , فمنذ أن اضطررت أن أخالط الثانيين باستمرار وألاحظ ما يعملون وكيف يشغلون وقتهم ويستغلون مواهبهم، وأنا أشعر بمزيد من الرضا عن ذاتي .فنحن بمقتضى تكويننا البسيط العادي ميالون دوماً إلى مقارنة ذواتنا بالآخرين، وسعادتنا أو بؤسنا يتوقفان كثيراً جداً على الأشياء و الناس المحدقين بنا, ولهذا السبب فلا يوجد هناك ما هو أخطر من العزلة أو الوحدة.. 

26 نوفمبر 

بدأتُ أرى وجودي وحالي هنا أكثر احتمالاً إذا أخذنا في الإعتبار جميع الاحوال, وإني أجد فائدة كبيرة في كثرة كلامي, كما أن كثرة عدد الناس الذين أقابلهم واختلاف احوالهم ومقاصدهم يُحدث لي تسلية كبيرة . لقد تعرفت على الكونت س....ويزداد احترامي له يوماً بعد يوم, فهو رجل حكيم العقل عظيم التميز، وقد أبدى رعاية خاصة بي في أحد المناسبات عندما احتجت إلى القيام ب بعض الأعمال معه، وقد شعرأن كلاً منا يفهم الآخر وأن في استطاعته أن يتحدث لي بلهجة غير التي يستعملها مع الآخرين, ولن اقدر أن أفيه حتى من تقدير كلامه ورقته معي. وإنها لأعظم و افضل بهجة لي أن أرقب عقلاً عظيما بينه وبين عقلي تعاطف.
 لقد صدق ما توقعت وتنبئت فيه فهاهو السفير يسبب لي ازعاجا , فهو رجل لا يقدر أي إنسان أن يرضيه لأنه لا يرضى عن ذاته أبداً. وأنا أحب أن أؤدي الأعمال بمرح وانتظام ومتى فرغت من شغلي نحيته جانباً, أما هو فيعيد تكرار أوراقي قائلاً : إنها لا بأس بها ولكني أوصيك أن تفكر فيها مرة ثانية، لأن المرء يقدر دائماً أن يحسِّن فيها باستعمال لفظ احسن ، أو ظرف أو حرف أو حال أنسب لمقتضى الظرف. وعندئذ أفقد صبري كله فهو يريد حذف حال أو حرف جر, وهو يبغض كل التحويرات التي لدي غرامٌ بها.. وقد قال لي الكونت منذ أيام قليلة وبكل صراحة أنه شديد الإستياء للمصاعب والتعطيل التي فعله السفير. و يعلم ذلك الشيخ ( السفير) إنعطاف الكونت نحوي وتحيزه لي فينزعج بذلك وينتهز كل فرصة للنيل من الكونت على مراىمن عيني , ومن العادي أنني أدافع عنه وذلك ما يجعل المواضيع اصعب مما هي. وبالأمس أثار تعجبي لأنه عرض بي أيضاً بنبرة قائلاً: إن الكونت رجل دنيا ومجتمع ورجل أعمال حسن، وأسلوبه أيضاً جيد وينساب في الكتابة بيسر، ولكنه لم يحظ بتعليم قوي. ونظر نحوي وعلى وجهه علامات كأنه يريد أن يعرف هل احسست باللطمة التي تلقيتها أم لا، ولكنها كلمة لم تحدث الأثر المطلوب في......لأني أحتقر المرء الذي يمكن أن يفكر ويتصرف بهذه الطريقة, ومع هذا خالفته وتصديت له فقلت له إن الكونت رجل أهلٌ لكل تقدير بسند من طبعه وخلقه، ويشهد له صفاته المتميزة وعلمه العميق أيضاً, واستأذنت في الخروج. التقيت أخيراً بالآنسة ب....وهي فتاة ودودة جداً إستطاعت أن تحتفظ بطيبتها وأساليبها الطبيعية التلقائية وسط هذه الحياة المزيفة. وقد سررنا كلانا بهذا الكلام الأول الذي جرى بيننا، وطلبت إليها عند الخروج أن تأذن لي في ملاقاتها فوافقت بأسلوب رقيق و لطيف جداً. وهي ليست من مواليد هذه الارض بل تقيم هنا مع قريبة لها, ولكن سحنة هذه القريبة لا تأسر القلب, فهي أرملة منعزلة مهجورة تقضي عصرها الحديدي لوحدها ولا تريد أن يقترب منها أحد، ولا يريد أحد أن يقربها اللهم إلا لأجل اخلاق إبنة أخيها. 

8 يناير

 ياترى أي نوع هذا الذي ينتمي إليه أولئك الاشخاص اللذين يشغلون تفكيرهم بالمراسم و الشكليات، ويقضون اعوام مخصصين كل جهودهم العقلية والبدنية لتحقيق مطلب واحد وهو التقدم في ذلك الطريق خطوة واحدة، ومكافحين لا لشيء إلا ليشغلوا على الطاولة مكاناً أعلى مما كانوا فيه !, فهم يكلفون أنفسهم عناءاً كثيراً بإهمالهم العمل الضروري في سبيل هذه التفاهات. فهذه المخلوقات السخيفة لا تقدر أن ترى أن الموقع ليس هو الذي يبغي العظمة الاصلية، وأن من يشغل المكان الأول ليس بالشرط هو الذي يقوم بالدور الاساسي, فكم من ملك يحكمه وزرائه وكم من وزراء يحكمهم معاونيهم! ومن في هذه الحالة هو الرئيس الاصلي !. 

20 يناير

 كان لا بد لي أن ارسل إليك برسالة ياعزيزتي شارلوت من هذا الموقع، من غرفة صغيرة في خان ريفي صغير. ففي مدة مكوثي بذلك المكان (د....) حيث سكنت بين ناس لا اعرفهم , لم أشعر في أي وقت بأنني أقل حماسا للتراسل معك. أما وأنا في هذا الكوخ في هذه الوحدة مع الجليد والرياح العاتية تضرب مصراع شباكي فأنت أول من فكرت فيه، بكل الشوق, وأنها ياشارلوت لذكرى عظيمة غاية في الرقة ! . أيتها السماء المنعمة الرحيمة! أعيدي لي في تلك اللحظة الجميلة لحظة لقائنا في باكورة ملاقاتنا ! , ألا ليتك تريني وسط دوامة هذا التشتت. ..أنت "الخميرة" التي كانت تمنحني الحياة في وجودي هنا, وإني قد وجدت تسليتي هنا بمخلوق واحد يثير انتباهي وهو الآنسة ب. 
وهي تماثلك ياعزيزتي شارلوت. فقد رضيت ذاتي على أن أكون لطيف المعشر بعض الشيء، وصارعندي الكثير من حضور العقل والتعقل، وتقول الفتيات أنه لا مثيل لي في فهم المديح . ولكن لا بد لي أن اكلمك عن الآنسة ب...إن لها روحاً فطينة يكاد يظفر من لمعة عينيها الداكنتي الزرقة الواسعتين , وهي على إستعداد دوما أن تنسحب طواعية من دوامة السطحية. وكثيراً ما نصور لذاتنا حياة من السعادة الصافية وسط مشاهد الوحدة في أعماق الريف، ثم نتكلم عنك يا عزيزتي شارلوت لأنها تعلمك، وكان التقدير لسجاياك أنها تحبك و يفرحها أن تكوني موضع الكلام بيننا. ها هي الشمس تغرب في جلال وأشعتها الأخيرة تنعكس على الثلج الذي يغطي الريف. لقد سكنت الريح ولا بد لي من الرجوع .... وداعا !. هل ألبرت معك؟ وكيف حاله معك؟, عفا الله عني ل هذا السؤال؟. 

8 فبراير

 منيتُ طيلة الأسبوع الفائت بأسوء طقس، بيد أن هذا كان بركة و نعمة علي ، فإني أغبط ذاتي بأن الجو في الداخل لا يمكن أن يكون اصعب منه في الخارج, ولا هو في الخارج يمكن أن يكون اصعب منه داخل الجدران, وبذلك استسلم ل الأمر الواقع.

 ١٧فبراير

 اخاف أنني لن اقدر الإستمرار مدة أطول مع سفيري هذا, فقد أوشك أن يتجاوز كل قدرات الاستطاعة , فهو يتصرف بعمله بطريقة سخيفة جداً، حتى أنني في اوقات كثيرة ما أضطر إلى مناقضته منجزاً المواضيع على طريقتي الخاصة. ولقد شكاني أخيراً لهذا الغرض لدى البلاط ووجه الوزير إليَّ الذنب ... وكان اللوم مخففاً جداً في الاصل ونتيجة لهذا كنت على وشك أن اترك عملي، وإذ بي أتلقى خطاباً استسلمت له بكل احترام إعتماداً على الروح الكريم السامي الذي أملاه, وأعرب لي عن احترامه لأفكاري الرفيعة على اعتبار أن هذه كلها من ثمرات نشاط شبابي. وها أنذا مستريح البال لمدة أسبوع ثاني. إن الرضا وراحة البال من احسن الأمور, ولكم كنت أتمنى يا صديقي الغالي لو كانت هذه الجواهر الغوالي اطول بقاء وأقل عرضة للذهاب .

 20 فبراير

 بارك الله فيكم يا صديقيَّ الغاليين، وأدام عليكما الهناء و السعادة اللذين أباهما علي !. وأشكرك يا ألبرت لأنك خدعتني...فقد أنتظرت خبر تحديد يوم زواجكما ، وكنت اود في ذلك اليوم أن أقوم بإنزال صورة شارلوت الجانبية عن الجدار. ولكن ها أنتما الآن متحدين بالقران وصورتها لا تزال عندي , ليكن ولتبقى صورتها معلقة, فأنا اعرف أنني لم أزل أشغل مكاناً لا يمس في فؤاد شارلوت, بل أنا أحتل فيه المكان الثاني وأنا أنوي الإحتفاظ لذاتي بهذا المكان, وإني لسوف افقد عقلي لو أنها نسيتني. وداعا يا ملاك السماء, الى اللقاء يا شارلوت!. 

15 مارس

 لقد جرى لي أمر مؤسف سيبعدني حتماًعن هذا الموقع. لقد عيل صبري ونفذ ! إنه الفناء, ولا سبيل في إصلاح ما جرى، وأنت الوحيد الملوم لأنك أنت الذي اصررت وأرغمتني على شغل هذا المكان الذي لم أكن مهيأ له ظرف من الظروف. ولكي لا تعزو مرة ثانية هذه القارعة إلى حدة مزاجي الطائش المندفع ، أبعث إليك بسرد سطحي خال من التزويق للمسألة كلها. إن الكونت أو....يستلطفني و يحترمني, وقد تناولت طعام الغذاء معه البارحة, وهو اليوم الذي تعّود فيه العظماء أن يجتمعوا ببيته في المساء، وبعد الغذاء ذهبنا إلى البهو الكبير و سرنا جيئة وذهاباً معاً، و تكلمت معه ومع الكولونيل ب....الذي أنضم إلينا. ولما دنت ساعة الإجتماع وإذا بمن ياتي ب الليدي س....يصحبها زوجها العظيم وابنتهما الماكرة البلهاء ، ومروا من جانبي في غطرسة وتكبر وهم يرمونني بنظرات الإزدراء. ولما كنت من داخل فؤادي أبغض العائلة كلها لذا قررت أن أختصر أنصرف، وأنتظرت حتى تنتهي الكونت من ثرثرتهم السخيفة كي أستأذنه في الخروج وإذا بالآنسة ب. اللطيفة المعشر تدخل الحجرة , لذا بقيت و تكلمت إليها متكئاً على مقعدها، ولم احس أنها مرتبكة حتى قد كفت عن الاجابة علي بأسلوبها الطلق المتعود منها، فأدهشني هذا وصدمني و احسست بالانزعاج ، ولكني بقيت مع هذا متعللاً الحجج لسلوكها معي. 

٢٤ مارس

 قدمت استقالتي إلى البلاط وأتمنى أن توقع فورا ، فاصفح عني لأني لم اقل لك هذا قبل ذلك, فلا بد لي من ترك هذا المكان. وأنا اعرف أنكم جميعاً ستحضّونني على ان اظل، ولذا أرجوك أن لا تبلغ الخبر مطلقاً إلى امي.
 إني لعاجز عن أن أصنع لذاتي شيئاً فكيف يتسنى لي إذن أن أصنع شيئاً لمعاونة الآخرين ..لسوف يكرب امي أنني أجهضت ذلك المستقبل الواعد الذي كان يمكن أن يبقيني في البداية مستشاراً خاصاً ثم وزيراً، وإنني أنظر إلى ما خلفي بدلا من التقدم إلى الأمام. ولكي لا تكون جاهلاً لمستقبلي، أذكر لك أن أمير.....موجود هنا وهو فرح كثيرا بصحبتي، ولما سمع باصراري على الإستقالة دعاني إلى بيته الريفي كي امضي شهور الربيع معه, وهناك سيترك لي حرية التصرف في ايامي كما يحلو لي ، ولما كنا متفقين في جميع المواضيع ماعدا شيئاً واحداً، فسوف أجرب طالعي وأصحبه. 

١٩ أبريل

 شكراً لك على خطابيك كليهما. وقد تمهلت في الرد ريثما أحصل على اجابة من البلاط، فقد خفت أن تتقدم امي إلى الوزير كي تنهي مساعي, ولكني قد علمت أن طلبي قد أجيب وقبلت استقالتي. 
ولن اكرر عليك هنا على أي مضض وإستياء قد قبلت الإستقاله ولا ما الذي دونه الوزير في اجابته، لأنك خليق عندئذ أن تكرر تحسرك على تصرفي. وقد أرسل إليَّ ولي العهد هدية قدرها خمسة وعشرون روكانية(عملة ذهبية). 
إن هذه رقة وذوق حركت عواطفي حتى دمعت عيناي, ولهذا السبب لن اخذ من أمي النقود التي كنت قد اردتها منها. سأغادر هذا المكان غداً، ولما كان مسقط رأسي لا يبعد عن الطريق الرئيسي إلا ستة أميال، فإن في نيتي أن أتوجه لزيارته مرة ثانية وأستعيد ذكريات وأحلام طفولتي البريئة, وأدخل من نفس البوابة التي دخلتها مع أمي عندما تركت ذلك المعتكف البديع لتنغمس في حياة البلدة المقبضة .
 وداعاً يا صاحبي العزيز وستصلك أنباء عن مسقبلي المهني. 
25 مايو 

ثبت في دماغي خطة لم أكن أنوي أن اكلمك عنها حتى تتحقق : أما وقد ياست الآن ففي وسعي أن اقولها لك. فقد فكرت أن أطلق الجيش، وظللت أمداً كبيرا متمنياً أن أخطو هذه الخطوة .ولقد كان هذا في الواقع هو السبب الاصلي وراء اتياني إلى هنا مع الأمير، لأنه جنرال في خدمة الجيش .....وقد ذكرت له هذا السبب في إحدى نزهاتنا سوية على الأقدام فلم يوافق عليه، وكان جنوناً كبيرا ألا أصغي لمبررات قراره هذا.

 11 يونيو

 قل ما اردت فلن أستطيع ان اظل هنا بعد الآن. ولماذا اظل؟ إن مرور الزمن يثقل عليَّ هذا بسبب الوحدة. والأمير شخصياً من احسن ما يكون معي ومع هذا ليس على طبيعتي، فليس هناك في الواقع شيء مشترك بيننا ابدا. إنه من أهل الفهم بيد أنه فهم طبيعتي جداً.سأبقى هنا أسبوعاً ثاني وبعد هذا سوف أشرع في أسفاري البعيدة مرة ثانية. ورسوماتي هي أفضل ما فعلته منذ أن حللت هنا . والأمير متذوق للفن ومن الممكن أن يتحسن لولا أن عقله مقيد بالقواعد الباردة والأفكار المجردة التقنية. 

 18 يوليو 

إلى أين تراني اخرج؟ سأقضي إليك بهذا بيني وبينك. أراني مضطر لان اظل هاهنا أسبوعين ثانيين ، وبعد ذلك اظن أنه من الخير لي أن أزور مناجم ....ولكني أضلل ذاتي هكذا. فالواقع أني أريد أن ابقى بالقرب من شارلوت مرة ثانية... وهذا كل شيء, وإني لأبتسم من الام قلبي وأصدع بما يمليه فؤادي. 

29 يوليو

 كلا كلا ! لم يزل كل شيء بخير...كل شيء بخير! أنا زوجها ! . رباه يا من اعطيتني الوجود، إن كنت قد كتبت هذه الفرحة لي لكانت كل حياتي سلسلة كبيرة من صلوات الشكر ادعوها إليك!, ولكني لن أتذمر...اعفو عني هذه الدموع وأغفر لي هذه التمنيات الغريبة. هي زوجتي؟! , ألا إن مجرد التفكير في ضم اغلى مخلوقات السماء هذه بين يدي يكاد يُطيش بعقلي ويذهبه !. إن كياني كله حبيبتي فلهام يشعر بالتقلص والتشنج عندما اشاهد ألبرت يضع يديه حول خصرها النحيل!, ولكن هل لي أن اصارحك ؟. ولم لا يا فلهام ؟ إنها كانت اجدر أن تكون أسعد معي مما هي معه. فألبرت ليس بالرجل الذي يُرضي ويسعد مثل هذا الفؤاد. إن قلبها يتطلب نوعاً معيناً من اللطافة، إنه يتطلب... قصارى ما أعنيه أن فؤادها لا يخفقان بإيقاع واحد وفي اتحاد كامل. كم من مرة ونحن نحدق سوية الى فقرة ما من كتاب مثير للإهتمام وقد بدا أن قلبي وقلب شارلوت يتعانقان، بل وفي مئات ثانية من المناسبات حينما كانت احاسيسنا تتكشف بتأثير حكاية عن شخصية من الشخصيات الخيالية كنت أحس أن كل منا خلق للثاني!, ولكنه يا عزيزي فلهام يحبها بكل ذاته. 

4 اغسطس 

لست وحدي السيء الحظ, فجميع البشر مخيبو الآمال تسقطهم توقعاتكم. لقد قمت بزيارة المرأة الطيبة التي عرفتها فيما مضى تحت أشجار الزيزفون, وقد أسرع أكبر اولادها للقائي، وسمعت أمه صيحات سعيدة فخرجت إلينا، ولكن منظرها كان يقول انها مكتئبة, وكانت أولى كلماتها لي : واحسرتاه يا سيدي الغالي! لقد مات ولدي الصغير جون, ولقد رجع زوجي من سويسرا ولم يجلب معه شيئاً ابدا, ولولا أن بعض الناس الطيبين أعانوه لاضطر إلى ان يشحد نفقات الطريق إلى الوطن، وقد المت به الحمى وهو في الطريق. ولم أستطع جواباً، بيد أني منحت للصغير هدية, و تركت بعد ذلك المكان بقلب اتعبته الأشجان . 

21 اغسطس 

احاسيسي دائمةُ التغير, وأحياناً تتفتح مقابلي توقعات سعيدة ولكن يا للاسف! لا يدوم هذا إلا فترة قصيرة, ثم عندما اغفو في أحلام يقظتي لا أملك إلا أن أقول لذاتي : لو مات ألبرت، لغدت....ولغدوت... وهكذا أمعن في غيابات الوهم إلى أن تقودني إلى النهاية التي أقف أمامها مرتعشا. لقد تغير كل شيء ولم يعد احساس من مشاعري النابضة من قلبي كما كانت مثل ما مضى. 

2 سبتمبر

 إني لا اقدر أحياناً على فهم كيف يتسنى لها أن تستطيع أن تحب رجلاً ثانيا، وكيف تجرؤ أن تحب رجلاً ثانيا في حين أنني لا أحب اي شيء في هذه الدنيا مثل هذا الحب الخالص. فأنني لا أعرف غيرها ولا أملك في الدنيا شيئاً سواها. 

 ٥ سبتمبر

 كتبت شارلوت مكتوبا إلى زوجها في البلدة وقد استهلته بقولها : يا أعز حبيب،عد بأسرع ما يمكنك فإني أنتظرك بحماس كبير جدا. 
ووصل صاحب لي يحمل نبأ منه بأنه لا يستطيع العودة على الفور. ولم يُحوّلْ مكتوب شارلوت إلى عنوان زوجها الحالي، وفي نفس الليلة وقع في يدي فطالعته و ضحكت. لقد توهمت لدقيقة أن هذا الخطاب مكتوب إليَّ. 

١٥سبتمبر 

كم يفيدني يا فلهام أن يكون في الدنيا أناس غير قادرون عن تقدير الأشياء القليلة ذات القيمة الكبيرة في الحياة. أتذكر أشجار اللوز في....التي تعودت أن أجلس تحت ظلالها مع شارلوت أثناء زياراتي للقس المسن الفاضل ؟, تلك الأشجار الجميلة التي كان مجرد النظر إليها يملأ قلبي بالسرور و السعادة . بيد أن شيئاً ما صار على كل حال، فناظر الزراعة و القس اصرا على أن يقتسما خشب الأشجار فيما بينهما، ولكن المؤسسة المالية للمقاطعة سمعت بما جرى فأثارت دعوى بملكية الأرض التي كانت فيها هذه الاشجار، وقررت بيع الأخشاب لمن يدفع الثمن الاكبر. وهكذا لم تزل الأشجار مرمية على الأرض. ولو كنت أنا العاهل لعلمت كيف أتعامل معهم كلهم القس و الإدارة المالية و ناظر الزراعة. أقول لو كنت العاهل؟, إني لخليق عندئذ أن أعير شيئاً من رعايتي واهتماماتى للأشجار التي تنمو في البلدة.

 10 اكتوبر

 مجرد النظر إلى عينيها الجميلتين يملؤني بالفرح !. وما يحزنني أن ألبرت لا يبدو فرحا بالقدر الذي كان يرغب به. وبقدر ما كنت خليقاً أن أكون لو أنني ...لست أحب هذا الارتباك ,ولكنني اقدر أن أعبر عما في نفسي على غير هذا المنوال. 

12 اكتوبر

 لقد حل "أوسيان" في فؤادي محل هوميروس, وأي عالم هذا الذي ياخذني إليه هذا الشاعر! إلى حيث امشي في براري لا تشقها دروب، والتقي في تلك الطرق بذلك الشاعر ذي الشعر السكني يرتاد الزهاد و الوديان ل يعثر على آثار أقدام آبائه، ولكن واأحر قلباه! إنه لا يعثر إلا على أرماس قبورهم!, ثم يتأمل البطل ضوء البدر الخافت و هو يغرب غائصاً في أمواج البحر الطامي فتنبثق في راسه ذكريات الأيام الجميلة ...ذكريات تلك الأيام التي كانت مخاطرها تشد من بأس قلبي في كثير من الاوقات بالحبور. كانت أشجار اللوز تزين و تنشط فناء بيت القس بأغصانها الطويلة المتفرعة!. وقد ذكر لنا استاذ المدرسة بالأمس والدموع في عيونه أن هذه الأشجار قد ازيلت, وهكذا العاطفة!. إن القرية باكملها تتذمر من هذه النكبة، وآمل أن تعلم زوجة القس على وجه السرعة من انقطاع هدايا القرويين مبلغ ما الم مشاعر أهل المنطقة من تأذٍ لما جرى لهذه الأشجار، فقد كانت هي من ارتكبت هذه الفعلة- أعني زوجة القس الجديدة (لأن شيخنا الرائع قد رحل عن الدنيا)- وهي مخلوقة عالية طويلة تغض النظر عن العالم ويغض العالم بصره عنها كل الأغضاء. وما كان لهذه المخلوقة سببا ل أن تقطع أشجار لوزي الجميلة الجليلة!, ولن أصفح عن هذه الفعلة. والآن أسمع حججها : إن الأوراق المتساقطة تجعل الفناء قذراً رطباً ، والأغصان تعترض نور الشمس، والغلمان يرشقون الثمار بالصخور عندما تنضج، فيؤثر صوت هذه الجبلة في راسها ويعكر عليها صفو جلساتها. ولما وجدتُ أن كل الأبروشية متأذين من قطع الأشجار سألتهم لماذا سمحوا بذلك ، فقالوا لي : أواه ياسيدي! وماحيلة أمثالنا من الفقراء الفلاحين إذا أصدر ناظر الزراعة اوامره ؟. 


19 اكتوبر

 واحسرتاه ! يا للفراغ, لكم يخطر لي أحياناً، ليته تسنح لي الفرصة لي مرة واحدة فحسب ....أن أضمها إلى قلبي ، إذن لكان هذا الخواء المخيف المقيت خليقاً أن يمتليء !. 

26 اكتوبر

 أجل يا فلهام، إني احس عن يقين أن وجود أي مخلوق ليس له إلا القليل جداً من التقدير. وقد وصلت الآن صاحبة لزيارة شارلوت فانسحبت إلى الجناح القريب منها وتناولت كتاباً، ولما وجدت نفسي غير قادر على القراءة جلست لأكتب. وقد سمعتهما تتكلمان بصوت خفيض في أمور ومواضيع شتى لا أهمية لها وتتبادلان أخبار البلدة. فهذه على وشك الزواج وتلك متعبة جداً ينتابها سعال جاف ووجهها يزداد ضعفا في كل يوم ، و تلم بها في بعض الأحايين نوبات... 

٨ نوفمبر

 أنّبتني شارلوت على تعصبي، ولكنه كان تأنيباً حافلا بالطيبة و الرقة !, فقد دأبتُ في المدة الأخيرة على احتساء الخمر أكثر من ذي قبل. فقالت لي: لماذا هذا الإكثار. فكر في شارلوت !. فقلت لها : أفكر فيك, أبحاجة أنت إلى أن تقل لي هذا, أفكر فيك حقاً !. أنا لا أفكر فيك لأنك على الدوام وأبداً ماثلة أمام روحي؟ , وفي هذا الصباح على وجه الخصوص جلستُ على البقعة التي هبطت فيها - منذ بضعة أيام- من العربة و ... وعلى الفور غيَّرَت الموضوع لتحول بيني و بين المضي فيه أكثر من هذا. إن جميع نشاطاتي يا صديقي العزيز متعبة وفي وسعها أن تصنع بي ما تريد. 

15 نوفمبر 

أشكرك يا فلهام على تعاطفك المعنوي ونصحك الجليل , وأناشدك السكون ودعني لعذابي وألمي , فلم تزل لدي قدرة كبيرة على التحمل .وأنا اقدر الدين و أجله و أنت تعلم هذا , وأعرف أن الدين قادر على اعطاء القوة للضعفاء وإراحة المظلمومين بالإزدراء، ولكن هل للدين أثر متساو لدى الكل من دون استثناء؟ , فكِّر في هذا الكون هذا و سترى الكثير ممن لم يكن لتأثير الدين عندهم وجود ابدا سواء بُشروا به أو لم يبشروا ، فهل من الجدير و المحتم إذن أن يكون له لدي أثر . أو ليس المسيح ذاته هو القائل :إنه إنما يوقن به من أعطاهم " الأب" له فحسب؟. 
وحينما أنظر الى حولي في الحجرة التي أنا بها في هذا الوقت وأرى معدات شارلوت ملقاة مقابلي وكتابات ألبرت وكل تلك الاجزاء من الآثارات المألوفة لي، حتى تلك المحبرة التي استعملها الآن، وأتذكر من أنا في تلك العائلة ...إنني لديهم كل شيء، فصاحباي هذان يقدرانني وكثيراً ما أسهم في فرحهم، ويخيل إليَّ أن قلبي لا يقدر أن يدق بدونهما. ومع هذا إذا كُتب علي أو قُدر لي أن اتوفى وأخرج من وسط الدائرة فهل تراهما يحسان, وإذا حسوا بذلك فإلى أي مدى ولأي مدة من الوقت يدوم شعورهم بالخواء الذي تركه فقيد في عمرهما ؟ كم ترى يطول هذا ؟. 

 21 نوفمبر

 إنها لا تشعر ولا تعلم أنها تعد حبسا وسجنا سوف يدمرنا كلينا, وأنا احتسي بإفراط مبالغ من الجرعة التي سيكون فيها موتي و فنائي, أي معنى لهذه النظرات الفائضة بالحنان و الرقة التي كثيراً, كلا بل أحياناً ما ترتضيني بها . البارحة عندما هممت بالخروج أمسكت بيدي وقالت: الى اللقاء يا عزيزي فيرتر. عزيزي فيرتر! لقد كانت هذه المرة الاولى التي نادتني فيها بيا "عزيزي"، فغاص الصوت وسكن في داخل قلبي . وفي الليلة الفائتة وأنا ذاهب إلى فراشي، تحدثت إلى ذاتي في أمور عديدة ، ثم قلت فجأة : طابت ليلتك يا عزيزي فيرتر. ولم يسعني وقتها إلا أن أضحك من ذاتي .

 24 نوفمبر

 هذا الصباح اخترقتْ نظرتها اعماق قلبي , فقد وجدتها لوحدها وكانت هادئة صامتة، وراحت تنظر الي بصورة وبشكل مباشرة، ولم أعد اشاهد في محياها مفاتن الجمال والنار الذكية...فكل ذلك كان قد ذهب , بيد أني تأثرت لديها بسيما أمعن تأثيراً على النفس: بنظرة تدل على أعماق التعاطف وأرق اللطف . ولجأتْ إلى البيانو كي تخفف عما الم بها ، وبصوت خفيض صافي راحت تصاحب الموسيقى بأنغام جميلة ، ومع هذا يا صديقي كم أتمنى لو قدرت أن أذوق هذا الهناء ثم أموت بعده تكفيراً عن ذنبي ! ولكن أي ذنب ؟ 

٢٦ نوفمبر

 كثيراً جداً ما أقول لذاتي : أنت وحدك البائس، أما سائر أبناء الفناء ففرحين ، وما من أحد فيهم يماثلني . ويخيل إلي أني فهمت فؤادي. ألا ما أكثر ما يجب علي أن أتحمله!. فهل كان الناس قبلي بمثل هذه التعاسة ... يا إله السماء! أهذا هو قدر المرء ؟ ألّا يكون سعيداً إلّا قبل اكتسابه العقل أو بعد فقدانه ! . القوة أيها " الأب" الذي لست اعلمه, فأي والد يمكن أن يغضب من ولده لأنه استدار إليه فجأة وسقط على رقبته هاتفاً : ها أنا قد رجعت إليك يا أبي فاعف عني إن كنت قد تعجلت الذهاب إليك ورجعت قبل الموعد المعلن !. إن العالم هو بعينه في كل موقع, مسرح هو للألم والجزاء والذلة ، ولكن الحصاد هذا كله؟ أني لست فرحا هانئا إلا حيث تكون أنت، وفي حضرتك وحدك اقبل أن اتعب أو أفرح. أنت أيها الأب السماوي حقيق أن تطرد هذا الولد من حضرتك؟

. 2 ديسمبر 

لقد انتهى موضوعي ولم أعد أطيق هذا الوضع أكثر من هذا. لقد كنت جالساً هذا اليوم مع شارلوت، وكانت شقيقتها الصغيرة تلبِّس دميتها فستانها وهي جالسة في حجري. وفرت الدموع من عيني ونظرت إلى الأمام و حدقت في خاتم زواجها، فتساقطت دموعي وتضاعف ألمي ، وعلى الفور بدات شارلوت تعزف تلك المقطوعة الفريدة , المعزوفة القدسية التي كثيراً ما جذبتني , وشعرت بالراحة لتذكر الايام الماضية ، في تلك الأيام الخوالي عندما كانت هذه المقطوعة معروفة بالنسبة لي، وعندئذ تذكرت كل الأحزان و المشاكل التي تحملتها من ذلك الوقت ، ورحت أذرع الحجرة بخطوات كبيرة ، وغص قلبي بعواطف أليمة، وأخيراً ذهبت إليها و صرخت بها في لهفة : بحق السماء شارلوت لا تعزفى هذه المقطوعة بعد الآن !. فوافقت ونظرت إليَّ نظرة مستقرة ثم قالت في ابتسامة : امتعب أنت يا فيرتر .. فإني أرى أحب طعامك إليك قد أصبح مكروها , فأرجوك أن تخرج ليبدأ جأشك. فانتزعت ذاتي من مكانها انتزاعاً وانصرفت. أنت تنظر وتعلم يا إلهي عذابي، فاجعل له نهاية!. 

6 ديسمبر

 لكم يراودني طيفها واتخيل صورتها ! فهي ملء قلبي سواء كنت يقظاً أو غافيا !, فما أن اقفلت عيني حتى رايتهما مرتسمتين أمامي ، مظلمتين كالهاوية، مفتوحتين تاكلان كل حواسي!. إن المرء لتخذله قواه حين يكون أحوج ما يكون إليها؟. وسواء أغرق في الأحزان أو أحلق في الحبور أترى له من قدره اي مهرب ؟ , وبينما يحلم أنه قابض على الأبدية أفلا يحس باضطراره للرجوع إلى الوعي بوجوده الرتيب البارد ؟. 

12 ديسمبر

 عزيزي فلهام : لقد صار وضعي كوضع أولئك التعساء المنكوبين العاثري الحظ الذين يظنون أنهم فريسة روح خبيثة تتعقبهم، فأحيانا يسيطر عليَّ الإحساس بالتوجس والقلق والخوف، بل إنارة عميقة لا يمكن وصفها تثقل على فؤادي وتعترض أنفاسي!, عندئذ أبدأ بالمشي في الأرض ليلاً حتى في هذا الفصل البارد، وأجد لذة في تأمل المشاهد الغريبة من حولي. وأمس ليلا خرجتُ وتجولت، وكان دفء كبير يذيب الثلوج قد جاء فجاة ، وقيل لي أن مياه النهر ازدادت وأن جميع الجداول قد فاضت على ضفافها, وأن وادي فالهايم قد صار كله تحت الماء!. ومع وقت انتصاف الليل أسرعت بالذهاب فرأيت منظراً مرعبا، فالسيول الهادرة الكثيرة كانت تتدفق من أعالي الجبال في نور البدر ، والحقول والأسوار النباتية والمراعي والأشجار اختلط بعضها ببعض، وانقلب الوادي باكمله إلى بحيرة عميقة ترتطم مياهها تحت سياط الرياح العالية . ولما سطع ضوء البدر وصبغ السُّحب المعتمة باللون الفضي وأرغت السيول الكبيرة وأزبدت تحت قدمي ، إستولى عليَّ شعور غريب يجمع بين الخيفة والحبور، فوقعت في الفجوة وصحت: تب!غص!. وتخلتْ عني مشاعري لحظة في غمار الفرح الكبير بوشك انتهاء أحزاني و اوجاعي بوثبة واحدة أغوص بها في تلك الحفرة !, ثم أحسست وكأني قد تسمرت في الأرض فياست عن وضع نهاية لوجعي!. إن ساعتي لم تحن بعد احس بذلك الآن. آه يا فلهام لكم كنت جديرا أن أتخلى طواعية عن وجودي كي امتطي دوامة الرياح. واجلت ببصرى تجاه بقعة أثيرة حيث كنت متواعداً أن أجلس عندها مع شارلوت تحت صفصافة بعد مسيرة متعبة , واأسفاه! لقد غمرتها المياه أيضا . وبكل قسوة تسقط عيني على المرعى، وفكرت في الحقول المجاورة لمقر الصيد. أترى دمرت هذه العاصفة التي لا ترحم عريشتنا العزيزة , وعندئذ ترقرقتْ على ذاتي شعاعة من سعادتي القديمة ، ولكني خليٌّ من الحديث...ولدي الشجاعة والإقدام على الموت! أجل لعلها لدي...بيد أني لم أزل قاعدا هاهنا، كالمتسولة البائسة التي تجمع الحطب و تطلب الخبز من باب إلى باب كي تطيل لعدة أيام معدودات حياة بائسة لا تطاوعها ذاتها على التخلي عنها.

 15 ديسمبر

 ماذا اصابني ياعزيزي فلهام ؟ أخائف أنا من ذاتي, أوَ ليس حبي أنا من أنقى و اعظم العواطف الأخوية؟, هل تنجست نفسي أبداً برغبة شهوانية أو حسية واحدة؟, ولكني لن أدافع عن ذاتي ولن أحتج. والآن أيتها الاحلام الليلية, لكم أصاب فهمك أولئك الناس الفانون الذين عزوا تأثيراتك المتضادة إلى قوى لا تقهر الليلة , وإني لارتعش وأنا أعترف بهذا. 20 ديسمبر إني مدين لك بالامتنان لما تمنع لي من عشق يا فلهام، ولنصائحك المتكررة الرصينة. أجل أنت على حق فمن الأفضل بلا اي شك أن اغادر....بيد أني لا أوافق تمام الموافقة على مشروعك بالرجوع على الفور إلى جوارك، لأني على الأقل أريد أن أقوم برحلة صغيرة في الطريق إليك. وأنا فرح جداً للقدوم لإحضاري ولكن اجل رحلتك أسبوعين وانتظر مكتوب ثاني مني، فلا ينبغي للانسان أن يقطف ثمرة قبل أوانها، وأسبوعان من التأخير أو التبكير يحدثان فارقاً كبيراً . 
ناشد امي أن تصَّلي لأجل ابنها، وقل لها إني أستغفرها لكل التعب الذي سببته لها.
 لقد كان نصيبي دائماً أن أسبب الاوجاع لمن كان ينبغي أن أزيد في فرحهم وداعاً يا أعز صاحب , ولتحل عليك كل بركات السماء، الى اللقاء ......... 


                                                               النهاية
تفاعل :

تعليقات