القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية: سالباتييرا: بيدرو مايرال. إعداد وإشراف: رجاء حمدان.






لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ..قناة راجوشو ...الرابط التالي : 

"راجو شو يقوم بتلخيص الروايات بإسلوبه المستقل عن الرواية الاصلية بما يتناسب مع حقوق النشر وحقوق الملكية الذي ينص عليها قانون حقوق النشر واليوتيوب """"


تلخيص رواية:
سالباتييرا: بيدرو مايرال.
إعداد وإشراف: رجاء حمدان.

  



رواق ضخم ملتو واقع تحت الأرض يصل بين البناية القديمة والجناح الجديد. على الجدار الداخلي، الذي يكاد يبلغ طوله ثلاثين متراً، تنساب اللوحة كنهر. تستغرق يوماً لإكمال دورتها. ما يقرب من أربعة كيلومترات من الصور تتحرك ببطء من اليمين إلى اليسار. لو قلت إن أبي قد استغرق ستين عاماً في رسمها، لبدا وكأنه فرض على نفسه مهمة إنجاز عمل عملاق. لذا فالقول بأنه قد رسمها على مدار ستين عاماً أكثر إنصافاً.


يعود أصل هذه الأسطورة التي تنسج حول شخصية سالباتييرّا إلى صمته. أو بعبارة أخرى، إلى خرسه، إلى حياته المجهولة. قرأت أن أحد النقاد قد وصف عمله بالفن الخام , فن مصنوع بسذاجة وذاتية تعليم مطلقتين. هذه التوضيحات بلا أهمية. لو أخذت أكذب الأخطاء الواردة فيما يُقال ويُكتب عن أبي، لما حظيت بوقت لعمل شيء آخر. عليَّ أن أعتاد كون عمل سالباتييرّا لم يعد خاصاً بنا (أقصد عائلتي)، وإنه في الوقت الحالي، يراه آخرون، يتطلع إليه آخرون، ينتقدونه، وعلى نحوٍ ما يتملكونه.

في التاسعة من عمره تعرض سالباتييرّا لحادث بينما كان يتنزه مع أبناء عمه على ظهر الخيل على مقربة من النهر. جفل الحصان وهو في أوج عدوه، وفي أثناء وثباته سقط سالباتييرّا عن ظهره، إلا أنه ظل عالقاً بركاب السرج، معلقاً بين حوافر الحصان. هشم الحصان جمجمته وفكه، كما خلع فخذه، ركلاً ودهساً. وجده أبناء عمه بعد نصف ساعة في الجبل، وهو لا يزال معلقاً في الحصان. أنقذتْ حياته الطاهية , عجوز عوراء غطته ونظفت جروحه بخلطة من أوراق الشجر. عندما عاد جدي وجدتي من البلدة ورأياه على تلك الحال، سقطت جدتي مغشياً عليها. وفي اليوم التالي، حضر طبيب مخمور، لم يمس سالباتييرّا، لم يقل أكثر من: لا بد من الإنتظار. وواظب على الحضور كل ثلاثة أيام .

بعد الحادث، لم يعد سالباتييرّا للكلام. كان قادراً على السمع ولكن عاجز عن الكلام. ولكن ما نجح به هو الرسم. بدأ يرسم بالألوان المائية. كان يرسم طيوراً وكلاباً وحشرات وبورتريهات مختلسة لبنات عمه المراهقات، وعماته الخمسينيات، بينما يتناولن عصير الليمون الطازج تحت ظلال الساعات الأخيرة من النهار .
كان جدي رافاييل سالباتييرّا وشقيقه بابلو قد وصلا إلى الأرجنتين وهما في العشرين من العمر، حيث عملا مزارعين. وبعد تجاوزهما الأربعين استطاعا شراء بضع قطع أراض رملية. كان جدي يقول لأبنائه: بدأت من الفقر ووصلت إلى هنا، أما أنتم فتبدأون من هنا، وسنرى إلى أين تصلون. أعفت ركلات  الحصان  تلك أبي من تلك الوصية المفعمة بالتحدي.

وإذا به قد صار أبي الأخرس الصغير، أبله العائلة. كان عند بنات عمه كالدمية. وفقاً لحكايات عمتي دولوريس فقد كن يرغمنه أن يوليهن ظهره فيما تبدل الفتيات ثيابهن لخوض المياه، وسط أشجار الصفصاف المطلة على النهر. ويقلن له ألا يفكر حتى في أن يلتفت، إلى أن ترن الضحكات فيلتفت ليرى بنات عمه وقد خضن المياه. لا بد وأن سالباتييرّا قد شقي بتلك الدعابة, إذ تظهر في عمله على نحو متكرر مراهقات يبدلن ثيابهن خجلى من عري أجسادهن. لا شك أنه كان يرسمهن لحاجته إلى أن يرى تلك المشاهد التي جرت خلف ظهره ولم يستطع مشاهدتها.




توفي أبي في الفجر، نائماً في هدوء. بعد زمن، قررت أنا وأخي لويس أن نهتم باللوحة، كان أول ما فعلناه هو الحديث إلى صديقه القديم، الدكتور دابيلا، طبيبنا في مرحلة الطفولة. أشار علينا بأن نتقدم بطلب إعانة مادية من الحكومة لإقامة متحف صغير. مر زمن من دون أن نتمكن من عمل أي شيء. لم نذكر المسألة لأمي التي توفيت بعده بفارق عامين. ولم تعلم أمي بنيتنا على إخراج اللوحة إلى النور.

في يوم جنازة أمي، وبمجرد أن تخلصنا من العمات والخالات والتعازي، لذت أنا ولويس بالفرار، ومررنا بالمخزن. فتحناه ثم دلفنا وكأننا نسأل شبح سالباتييرّا الإذن بالدخول. هناك كانت لفائف القماش. كان عددها أكثر من ستين. حياة رجل كاملة. وفجأة، سمعنا صوتاً أجوف: عم تبحثان ؟ ورأينا رجلاً قصير القامة كث الشعر. أخبرناه من نكون. قدَّم نفسه إلينا. كان ألدو مساعداً اتخذه سالباتييرّا في أعوامه الأخيرة. سألناه عن آخر ما رسم سالباتييرّا. أطلعنا على اللفافة التي رسمها في عامه الأخير. ورأينا الطرف الذي رسمه قبل وفاته بخمسة عشر يوماً. فقال ألدو : اللوحة لم تكتمل .
عند بلوغه الرابعة عشرة من العمر، اشتدت عزلة سالباتييرّا . كانت تسمح له أمه بزيارة رسام ألماني يدعى هيربرت هولت، علّم هولت أبي تقنيات الرسم بالزيت. خلال تلك الأعوام التي استغرقتها فترة التدريب مع هولت، تجنب سالباتييرّا بنات عمه وإخوته بقدر الإمكان. وعند رحيل هولت، ترك لأبي كمية لا بأس بها من الطلاء ولفافة من القماش. فقرر سالباتييرّا أن يرسم عليها من أولها إلى آخرها، لوحة ممتدة موضوعها النهر، من دون أن يقصها. كانت تلك هي اللفافة الأولى. وكان في العشرين من عمره حين شرع في رسمها .

كان أول ما فعلناه قبل رحيلنا أن دفعنا إلى ألدو بعض النقود ليعتني بالقماش ويحافظ على المخزن. بعد فترة قصيرة، استطعنا ترك مشاغلنا لبضعة أيام. ولم يواجه لويس أي مشاكل في الهرب من عمله في مكتب كاتب العدل، أما أنا، فمُطلّق ويعيش إبني الوحيد في برشلونة، وكل ما كان يتعين عليّ فعله هو أن أغلق الشركة العقارية لبضعة أيام. وخلال تلك الأيام، نزلنا بآخر بيت امتلكاه أبواي. كان على بعد خمسة مربعات سكنية من المخزن. أمضينا الأيام في رفع اللفائف وإنزالها بمعاونة ألدو. بمجرد إنزال اللفافة على الأرض، كنا نبسطها ثم يلتقط لويس صوراً فوتوغرافية لأجزاء منها. كانت فكرته تتمثل في إرسال الصور مرفقة بخطاب بغرض الإصرار على طلب إعانة مادية من المقاطعة.

لم يكن سالباتييرّا مهتماً بإقامة المعارض الفنية، ولم يكن في حاجة للإعتراف له كفنان. أعتقد أنه كان يتصور قماشه باعتباره شيئاً شخصياً أكثر مما ينبغي، كيوميات حميمية، أو سير ذاتية مصورة. ربما كان سالباتييرّا بسبب خرسه، في حاجة لأن يروي ذاته لذاته. كانت كل لفافة تحمل التاريخ والرقم مدوَّنين بوضوح على الجزء الخلفي من القماش. قبل رحيلنا بيوم، وحين بدأتُ في إعداد قائمة باللفائف، لاحظت نقص إحداها. كان ثمة عام بالكامل مفقود : 1961. لم يتوقف سالباتييرّا عن الرسم يوماً واحداً. لذا فمن المستحيل أن يكون قد توقف عن الرسم عاماً كاملاً.

حاولت استرجاع ذكريات ذلك العام. كان عمري عشرة أعوام، أما لويس فخمسة عشر عاماً. كانت أختي إستيلا قد توفيت. كان سالباتييرّا يعمل في مكتب البريد، بينما تُدرّس أمي الإنجليزية. أين تكون تلك اللفافة. أيكون سالباتييرّا قد أتلفها أو باعها. بقينا حيناً من الزمن نحاول حل المسألة, ثم اضطررنا للمضي قدماً في العمل نظراً لعودتنا إلى بوينوس آيرس في اليوم التالي.

كان سالباتييرّا في الخامسة والعشرين من العمر ويعمل بالبريد حين تعرف على "إيلينا راميريس"، أمي . أما هي فكانت في الحادية والعشرين. لقد عمل لها عدداً من البورتريهات، فتاة ذات رموش بالغة الطول, مشرقة دائماً، مستغرقة في القراءة .
في اللحظة الأخيرة، قبل عودتنا إلى بوينوس آيرس، استطعنا إحضار أحد موظفي البلدية للإطلاع على عمل سالباتييرّا. كنا نرغب في معرفة ما إذا كانوا سيتخذون قرارهم بدعم مشروع إقامة متحف لأعماله. قال لنا: أنبهكم إلى عدم وجود نقود. ولكن على كل حال، تقدما بالمشروع . وفي اليوم التالي عدنا إلى بوينوس آيرس ولم أتمكن من العودة إلى بارّانكاليس لعدة شهور .

عدت بحلول نهاية الشتاء، بعد أن نجحنا بالفعل في الحصول على دعم مؤسسة "أدريان رويل". فقد تلقينا مكالمة من تلك المؤسسة، وأبدوا اهتماماً بالعمل نظراً لأنهم كانوا بصدد إعداد مجموعة أعمال فنية من أمريكا اللاتينية. عرضوا علينا مبلغاً لا بأس به من النقود. كان من الضروري أن يبقى أحدنا في بارّانكاليس للإشراف على نسخ اللوحات (المسح الضوئي، الرقمنة، الخ). أخبرت لويس أنني على استعداد للذهاب. فقال لي : لماذا ؟ فقلت: سأبحث عن اللفافة المفقودة.

قضيت أيامي في بارّانكاليس في بيتنا. أرقتني الأشباح التي تسكن البيت. ثياب أمي وأشياء أخرى لها كانت لا تزال موضوعة في بعض الأكياس البلاستيكية بإحدى الحجرات. ها هو البرواز الذي يحمل صورة عرسهما. تزوجا عام 1940، بلا دعم كبير من عائلتيهما. لم تكن جدتي لأمي تريد زواج ابنتها من موظف بسيط  في البريد، وفوق ذلك أخرس. وكذلك جدي وجدتي لأبي لم يرغبا في زواج ابنهما من ابنة أرملة منقطعة عن العالم.

كان ألدو يساعدني في إنزال بعض اللفائف، فكنت أطالع كل تفصيلة فيها. أحيانا كنت أشعر بأنني أتعرف على أبي لأول مرة. وفي أحيان أخرى كانت اللوحات تذكرني بلحظات من حياتنا : كلاب عاشت في البيت قد نسيتها، أو حريق عام 1958 الذي بلغ جنوبيّ بارّانكاليس. كنت أتساءل: كيف كانت حياة أبي ؟ كان ثمة شيء خارق في لوحات سالباتييرّا أكثر مما ينبغي .

لم أكن أعرف من أين ابدأ بحثي عن اللفافة المفقودة. مقارنة بمجموع العمل، كان الجزء المفقود يشكل نسبة لا تذكر، إلا أنني كنت أرغب في العثور عليه، لأن تلك الفجوة كانت تشعرني بالضيق. جبت أنحاء وسط المدينة لبعض الوقت. طرقت باب قريبات تربطنا بهن صلة بعيدة , بنات عم سالباتييرّا. خطر لي أنه ربما استطعن أن يخبرنني بشيء. لم أكن أعرف أي شيء .

كان المخزن يقع في جنوب بارّانكاليس، على مقربة من طريق النهر. كان سالباتييرّا يفتح أبوابه في السادسة صباحاً، فيرسم حتى العاشرة، ثم يغلقه قاصداً عمله في البريد، ويعاود فتحه في الخامسة مساءاً .

وصل الهولنديان بعد شروعي في البحث عن اللفافة المفقودة ببضعة أيام. كان أحدهما يدعى "بوريس"، والأخرى "هنّا". كانت مهمتهما تتمثل في عمل مسح ضوئي لعدة مقاطع من القماش وإرسالها إلى هولندا ثم انتظار التعليمات. عندما بدأت المهمة تسير بالفعل على المسار الصحيح، قررت أن أذهب إلى بناية البريد حيث عمل سالباتييرّا سنوات طوالاً. سألت عدداً من الموظفين إذا كانوا يذكرون خوان سالباتييرّا. في أحد المكاتب استقبلتني عجوز ذات عظام بارزة. حين عرّفتها بنفسي تأثرتْ كثيراً. كانت تدعى "إوخينيا روكامورا". حكت لي كيف كان الجميع يحب سالباتييرّا ويحترمه. وعند سؤالي لها عما إذا كانت تعرف شيئاً عن لوحة سالباتييرّا المفقودة، أخبرتني أنها لم تكن تعرف حتى بأنه يرسم .




في الشارع نال مني التعب بغتة. وفجأة، رأيت عجوزاً ذا لحية بيضاء مدببة يعنّف كلباً في الشارع. تطلعت إليه متفحصاً، إذ لفت انتباهي. كان هو نفسه "ماريو خوردان" صديق أبي. فعرَّفته بنفسي. قال لي على الفور: هيا نُسرع الخطى فهم يطاردونني. نظرت خلفي فلم أجد أحداً. فقلت: من يطاردك ؟ فقال: شخص ما أدين له بنقود. لا تنظر خلفك. حينها اقتربتْ منا سيدة، اعتذرت لي وقالت إنه هكذا يفر منهم هارباً بين الحين والآخر. أخبرتها أنه كان صديقاً لأبي وأطلعتها على رغبتي بطرح بعض الأسئلة عليه. فقالت: تعال غداً لتراه. لن يكون تائهاً إلى هذا الحد .

كان سالباتييرّا يرسم كل يوم، ويدون التاريخ أسفل الموضع الذي بلغه كل سبت باللون الأزرق. أحياناً يرسم خمسة أمتار في الأسبوع، وأحياناً أخرى متراً واحداً، لا أقل. ولكنه لم يتوقف قط. أحياناً كانت هناك قوى تدفع القماش إلى الأمام كالسيل الجارف تبلغ من الشدة حداً تبدأ معه الأشياء في الميل وفقدان التوازن على القماش. وبدأ هذا الإختلال في التوازن عقب وفاة أختي، عام 1959 . في البدء شرع سالباتييرّا يرسم أركاناً من الأرياف، في رسومٍ مشؤومة إلى حد بعيد، شديدة العزلة. في أحدها، تبدو طفلة واقفة بلا حراك بينما تتسلق جسدها جحافل النمل. ثم بدأ يرسم أختي على نحو أقل إيلاماً: غارقة، وكأنها نائمة، وقد طهّرها النهر. لا بد أن أبي وقتها قد شارف على الجنون، فبدأ يدوّر المنظر حول ذاته، فتصبح السماء بالأسفل والأرض بالأعلى، وكأن أبي قد عاود رؤية العالم من خلال خوفه من التعلق بركاب حصان يعدو مندفعاً وسط الأشجار .
ذهبتْ إلى بيت خوردان. دخلت إليه, وجلسنا في إحدى الحجرات. فسألته محاولاً كسر الجمود: ألم تعد تعزف على الأكورديون ؟ فقال : كلا. ثم سحب شيئاً من خلف الكرسي وقال: الآن أعزف على البندقية . وجدته يصوب نحوي بندقية ذات فوهتين. بدأت في القيام من مجلسي قائلاً له أن يتوخى الحذر. فقال لي: إجلس وإلا نسفت رأسك. سالباتييرّا، أما زلت تبحث عن اللوحة ؟ فقلت له: نعم. ولكن لماذا تصوب البندقية نحوي ؟ فقال: أنت مدين لي. أنت مخنث حقير. وخائن، وفوق ذلك كاذب. لست أخرساً. فقلت له : يا خوردان، أنا لست خوان سالباتييرّا، أنا ميجيل الإبن. فقال لي: أتعرف لماذا أرغب في قتلك ؟ منذ متى ونحن نعرف بعضنا يا خوان؟ منذ أن كنا صبيين. كنا كأخوين. هل تعرف أن إيبانييس وباسكيس كانا يريدان تصفيتك؟ تحدثتُ إليهم حتى يتركانك وشأنك. ولكن حين أغلقت مخزنك في وجهي .... حينئذٍ استشطت غضباً، يا رجل. لا أدري لِمَ سامحتك. ولذا فأنت مدين لي بحياتك. لم أنبس بكلمة. حينها سمعت وقع خطوات تقترب. كانت حفيدة خوردان. انتزعتْ منه البندقية، ثم نظرت نحوي وقالت: لا تقلق .. فقلت لها: أنا ذاهب. إلى اللقاء. ثم خرجتُ على عجل .
اتصلتُ على أخي وأخبرته بأنني التقيت بخوردان. حكيت له الحكاية كاملة. وأوضحتُ له أن اللفافة قد سرقها خوردان انتقاماً من سالباتييرّا لعدم سماحه له بالإستمرار في استخدام المخزن لحفظ البضائع المهربة. ثم قلت له : يبدو لي أن والدنا كان مهرباً ! فغضب لويس ونعتني بالمجنون. وحين وصلت إلى البيت، لم أستطع التوقف عن التفكير. تذكرت حديث أمي عن عصابة خوردان. هل كان خوردان وجماعته مهربين؟ هل كان أبي مهرباً؟ حاولتْ أن آخذ قيلولة إلا أنني لم أستطع من كثرة التفكير. استخلصت إلى أن أبي قد عمل مع عصابة خوردان المهربين، ولم يكن أحد ليرتاب فيه، فهو رجل أخرس، موظف بريد، وعلى هذا القدر من حسن الطباع. لا بد أن خوردان شعر بخيانة أبي له حين أغلق أبواب المخزن في وجهه، وفكرت أنه ربما لهذا السبب سرق منه إحدى لفائف اللوحة. تذكرتُ أصحاب أبي إيبانييس وباسكيس. تذكرت تلك الواقعة حين شق إيبانييس القماش بسكينه. لا بد أنني قد حضرت تلك الواقعة وأنا في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري. بلغت الحادية عشرة في 1961، العام الموافق للفافة المفقودة .

ذهبتُ إلى المخزن، وأنزلت اللفافة الموافقة لعام 1960، بسطتها برفق، ولكنني لم أر فيها أي شقوق أو ترقيعات. ظهرت أختي في بعض المقاطع غارقة. عندما وصل ألدو ساعدني على إنزال لفافتي 1959 و 1962. لم يكن بأي منهما شقوق أو ترقيعات. كنت شبه متأكد: القماش المفقود هو الذي شقه إيبانييس .

في اليوم التالي دخلت إلى السوبرماركت المجاور للمخزن. اقترب مني مالك السوبرماركت بالدوني وقال: متى تبيعني ذلك المخزن يا سالباتييرّا ؟ إننا في حاجة لمساحة هنا لتحميل البضائع وإنزالها. فقلت له: على كل حال، عندما ينتهي العمل يفترض بنا أن نأخذ أغراضنا من هناك، حينئذ يمكن بيع المخزن. فقال: وكم تبقّى من الوقت على هذا ؟ فقلت: تبقى وقت. ابتسم بالدوني بشيء من الضيق. ودّعته ثم غادرت .
كان خوردان واقفاً عند الباب. اقتربت منه وقلت: أنا ميجيل إبن خوان سالباتييرّا. أتذكر لوحة سالباتييرّا يا خوردان. فقال: أجل. اللوحة الطويلة التي كان يرسمها على لفائف ؟ فقلت: أجل. ولكن إحدى اللفائف مفقودة. فقال: لا بد أنها في حوزة إيبانييس. هو الذي سرقها. كان يريد أن يشعل فيها النيران. فقلت له إن الأحرى به أن يبيعها. ولكن إيبانييس كان على شيء من الحماقة. قلت له: لماذا سرقها ؟ فقال: أمور صبيانية. قلت: وأين يمكنني العثور عليه؟ قال: لقد قضى حياته متنقلاً على ضفة النهر دائماً. ناحية ملعب كرة البوتشي.

انتهى الهولندي وألدو من مسح ما يقرب من نصف القماش ضوئياً. قال لي الهولندي إن لديه أخباراً سارة: المتحف اتخذ قراره بشراء العمل كاملاً. حينها ذهبت صوب الساحل، عاقداً العزم على البحث عن إيبانييس. كنت مضطراً للسؤال عنه بالإسم , أو السؤال عن صياد أسود. قال لي خوردان أن أبحث في منطقة ملاعب كرة البوتشي. بحثت هناك وما من نتيجة. وبينما أخذ التعب ينال مني، بدأت أسأل نفسي ماذا أفعل، وإن كنت حقاً أفكر أنني سأعثر على لوحة سرقها منذ أربعين عاماً رجل من المؤكد أنه قد أشعل النيران فيها أو ألقى بها في قاع النهر .

وصلت بدراجتي إلى أراض بور سبق استخدامها كمزارع ألبان، أما الآن  فقد أصبحت مخيماً. من خلف شجرة، برز فتى مصوِّباً مسدسه نحوي ثم أطلق عليَّ النار. انحنيتُ متأخراً وفقدت السيطرة على الدراجة. سقطتُ على رأسي. سمعت ضحكات. اقتربتْ مني فتاة وقالت: ليست سوى طلقات صوت. شكرتها ولم أستطع رفع بصري عنها. كانت آية في الجمال، سارت مبتعدة وسط العشب. وأنا واصلت المسير. توغلت أكثر داخل تلك العشوائيات. التقيت بعدد من الرجال يصطادون باستخدام الصنانير. سألتهم عما إذا كانوا يعرفون شخصاً يدعى إيبانييس، صياداً أسود. لم يكونوا على معرفة به. بعد ذلك وصلتُ إلى كشك من الصفيح، فجلست لأتجاذب أطراف الحديث مع البائع. سألته عن إيبانييس. فقال: أجل أعرفه، إنه في مكان منعزل قبل بايساندو بقليل. حينها فكرت أنه عند وصول أخي، يمكننا الذهاب بسيارته إلى هناك.

رجعت إلى المخزن. كان ألدو وبوريس قد غادرا. جلست فترة إلى أن جاء ألدو ليغلق المخزن. طلبت منه مساعدتي في إنزال بعض اللفائف. وعندما انصرف ألدو، طالعت لبعض الوقت لفافة كرسها سالباتييرّا بالكامل لفصول السنة. المساحات متقلبة، من ضوء قيلولة الصيف الأبيض إلى وابل أمطار أبريل، ومن الحقول المغمورة بالمياه شتاء إلى الأشجار المكسوة عن آخرها بأوراق جديدة تكاد تكون فسفورية.




احتسيت قليلاً من التشيفاز, لا أعرف كم كأساً، فقد كنت احتسي من الزجاجة مباشرة. أخذت أفكر, ماذا جرى في تلك الأعوام ؟ في باديء الأمر ذهب لويس إلى بوينوس آيرس، ثم تبعته بعد وقت قصير. رأيت بورتريه رسمه سالباتييرّا لزوجتي السابقة سيلبيا وإبني جاستون. ظللت شارد الذهن، أتطلع. بعد ذلك البورتريه بقليل افترقتُ عن سيلبيا. ها هو سالباتييرّا يطلعني على ما ضاع مني. صعب عليَّ النظر. فقد استطاع أبي الإمساك بما انسل من بين يديَّ.

كانت السماء قد أظلمت عند خروجي من المخزن عائداً إلى البيت بالدراجة. قبل وصولي بمربعين سكنيين، سمعت صوت سيارة تسرع من خلفي. شعرت بها آتية صوبي، ثم حاصرتني وكأنها ستدهسني. توقفتُ على الرصيف مذعوراً. توقفت السيارة على بعد أمتار. كان بداخلها شخصان. صاح بي السائق: بع هذا الشيء اللعين وكفى ! ثم انطلقت السيارة تثير الرمال في الهواء. لم أستطع تبين وجهيهما. لم أفهم أكان هذا سوء تفاهم أم محاولة لقتلي !
اتصلتُ بأخي لويس وحكيت له ما جرى، فقال لي إن عصابة بالدوني مالك السوبرماركت وراء ما حدث على الأرجح. ثم أضاف: كانت قَرْصةُ أذن حتى نبيع !!! ثم أخبرني لويس عن الصعوبة التي واجهها عندما تقدم بطلب إلى اللجنة القومية المعنية بالتراث لنقل اللوحة إلى الخارج. ولكن اللجنة اكتشفت أن لوحة سالباتييرّا قد أعلنت تراثاً ثقافياً للمقاطعة، وبناءاً عليه لم يكن من الممكن بيعها أو نقلها إلى بلد آخر. وقال إنه يحق لنا اللجوء للقضاء والتقدم بطلب نزع ملكية. ولكن الأمر قد يستغرق سنوات. ثم أضاف: لا تقل للهولنديين شيئاً في الوقت الحاضر.

في الصباح ذهبتُ لمقابلة بالدوني مالك السوبرماركت. أبدى شعوره الشديد بالإهانة عندما أوضحت له ما جرى. أنكر إنكاراً باتاً. خرجت من هناك أشد حيرة من قبل. انتقلت إلى المخزن، وهناك قال لي بوريس إنه سيواصل العمل حتى يوم السبت، والأغلب أنه سينتهي من عملية الرقمنة بحلول ذلك الوقت .

يوم الجمعة، عند وصول أخي لويس، قررنا إقامة حفل وداع بالبيت في الليلة التالية مع ألدو والهولنديين. حينها اقترحت على لويس أن نذهب إلى إيبانييس. فقال لي لويس إنه لا يملك أوراق السيارة اللازمة لعبور حدود الساحل. فقلت له: إذا كنت لا تريد أن تأتي فسأذهب وحدي غداً. ثم ذهبت إلى حجرتي، ثم أخلدت إلى النوم.
صحوت في وقت مبكر جداً. لم أكن أعرف ماذا سأفعل. جاء لي أخي لويس وقال لي إنه سيأتي معي للبحث عن إيبانييس. وفي السيارة تشبثت بيد لويس وقلت له : خطرت لي فكرة. إذا كان لا يمكن نقل القماش من الأرجنتين فيمكن نقله من الأوروجواي. نظر إليَّ لويس وقال: ماذا تعني ؟ فقلت: نمرره إلى الأوروجواي ومن هناك نرسله إلى هولندا. حينها تبدلت تعابير وجه لويس وقال: نمرره ؟ لا بأس بذلك. عندما عبرنا حدود الساحل، طرقنا باب حانة مغلقة. سألنا امرأة عن إيبانييس فقالت لنا إنه يعيش على الساحل، في أرض تابعة للبلدية.

اضطررنا للذهاب إلى الساحل سيراً على الأقدام. سرنا بحذاء أرض تغطيها الشجيرات, ثم بحيرة ساحلية تطفو على سطحها زنابق الماء، إلى أن بلغنا منحدر النهر. حينها التقينا برجل فسألناه عن فيرمين إيبانييس ؟ فقال لنا : كان فيرمين خالي. وقد توفي منذ زمن. عم تبحثان ؟ فقلنا له: نود أن نعرف إذا كان خالك فيرمين ما زال يمتلك لفافة من القماش المرسوم كانت تخص والدنا خوان سالباتييرّا ؟ فقال الرجل: كانت في حوزته بالفعل. ولكن منذ سنوات أعطيت اللفافة ل "صوريا" مالك "لوس لانارِس". وقد توفي "صوريا" منذ خمس سنوات، وخاض أبناؤه نزاعاً قضائياً على المزرعة مع بعض الدائنين، وأصبحت الملكية مهجورة.

استغرقنا وقتاً طويلاً حتى نتخذ قراراً. وفي النهاية وصلنا إلى مزرعة لوس لانارس. وقفنا هناك نلتفت حولنا. كنا تائهين أكثر من أي وقت مضى. وصلنا إلى البيت. كان الهجران مطبقاً. لم نسمع أي صوت صادراً من البيت. طرق لويس الباب بيده ولم يجب أحد. دفعت الباب بكتفي. لقد وصلت إلى هنا، والآن لن أسمح لباب عتيق بالوقوف في طريقي. على الرغم من إصراري لم أحقق شيئاً. وفجأة سقطت عصا بجواري. كان لويس قد أتى بفرع شجرة ضخم. وبالتعاون مع لويس استطعنا أن نخلع الجزء السفلي من الباب، حتى صنعنا فتحة يمكن لشخص أن يمر من خلالها. دخلت أولاً. كانت رائحة نشادر وعفن أقوى من أن يمكن معها التنفس. جبنا المكان بالقداحة مرفوعة عالياً. دلفنا إلى الصالون فرأيت أخي ينظر إلى الأعلى. في النهاية تبينت شيئاً بين السقف المنخفض ومستوى الأبواب. كان قماش سالباتييرّا. ها هو . شعرت براحة عظيمة: هناك كان الجسر، المساحة التي سترأب صدعاً طالما أرقني في عمل أبي. أخيراً سأزيح عن صدري ذلك الإنقطاع. شعرت بالنشوة التي تغمرنا حين يكتمل الشيء ويصير انسيابياً متواصلاً .

اكتشفنا أن القماش مثبت بمسامير إلى بعض الألواح الخشبية. رأينا جزءاً من القماش يصور سباق خيل. وبدت أعراف الخيل وكأنها خارجة تطل من اللوحة. كان انتزاع اللوحة عملاً منهكاً. وفي لحظة ما بلغنا جزءاً من اللوحة حيث تُرى امرأة ذات عينين صافيتين، بدا لي أنني أعرفهما. قلت للويس: هذه المرأة كانت زميلة أبي في البريد، إوخينيا روكامورا. كانت هناك صور أخرى لها، مستلقية عارية. أعتقد أن كلينا قد فوجيء بالأمر، فلم يكن لدى أي منا أدنى شك في وجود تلك العلاقة الغرامية . أفترض أن أمي بدورها لم تكن على علم بها. مما لا شك فيه أن ثمة علاقة جمعت بين إوخينيا روكامورا وسالباتييرّا عام 1961. لم تكن سعادة لويس كبيرة بكشف حقيقة خيانة أبينا. نظرت إلى اللوحة من نهايتها، فظهرت امرأة سوداء عارية، كروح هائمة، هاربة. وعند صورة تلك المرأة خياطة في ذلك الجزء، ترقيعاً مائلاً. كان ذلك هو الشق الذي أحدثه فيرمين إيبانييس وسط المخزن يومئذ. لزمنا الصمت حتى لا نستمر في المناقشة حول الأمر. أتممنا إنزال القماش، وأخرجناه عبر النافذة وحملناه معاً. كان في وزن رجل.
بلغنا النهر عند مغيب الشمس. ذهبنا إلى بيت إيبانييس كي نترك اللفافة هناك. تعاون معنا إبن أخت فيرمين إيبانييس بلا سؤال. أوصلنا إيبانييس إلى حافة الساحل حيث قدمنا ثم ابتعد مجدفاً. كان على وشك أن يغيب عن ناظرينا في العتمة حين ناديته. قلت له: هل توفيت أمك ؟ فقال: أجل، منذ زمن. فسألت: هل كانت سوداء ؟ فقال: أجل. فقلت: وماذا عن أبيك ؟ فقال: لم أعرفه. فقلت: ألا تعرف عنه أي شيء ؟ فقال: أعرف أنه كان أخرساً، لا أكثر !!!




صعد لويس المنحدر أمامي وأخذ يسير على عجل. استدار نحوي، لم أنتبه إلا وقد انقض عليَّ جاذباً قميصي بشدة وقال: كيف تسأله هذا السؤال ؟ قلت له: اتركني! وتشاجرنا كما كنا نفعل في سن المراهقة. هل كان لنا أخ غير شقيق ؟ ربما أنجب سالباتييرّا إبنا من تلك المرأة السوداء التي ظهرت مرسومة في اللوحة. من أجل ذلك ثار فيرمين إيبانييس حين تعرَّف على أخته في تلك اللوحه. ولهذا شق فيرمين إيبانييس اللوحة وسرقها. أيكون هذا ما جرى ؟ فضلاً عن علاقته الغرامية بإوخينيا روكامورا, امرأة البريد. أيكون ثمة نساء أخريات لن نعرف عنهن شيئاً أبداً ؟ أبناء آخرون؟
من كان أبي ؟ بدا لي أنني لم أكن أعرفه. اقتربنا أنا وأخي من صوت جلبة صادر عن موضع. رأينا ولداً يركض فسألناه عما يجري فقال : حريق !!! كان المخزن يحترق. بدا أن السقف قد انهار، وأطلت ألسنة اللهب عالياً بعنف. صرخت فيهم أن يتصلوا برجال الإطفاء، فقالوا لي إنهم في الطريق. كان شيئاً مجحفاً أكثر مما ينبغي. نتاج حياة بأكملها يتبدد في النيران. وكأن النيران اندلعت في حياتي وحياة أسرتي. ذاكرتي, طفولتي. سنوات سالباتييرّا, جهوده وشغفه الشديد. كل شيء كان يحترق.  وضع لويس ذراعه على كتفي ورأيته يبكي. وبقينا نشاهد عاجزين عن إطفاء ذلك الجحيم .
وصل ألدو وبوريس وهنَّا. لم يستطيعوا تصديق أعينهم. قالوا إنهم انتهوا من العمل في السابعة. أغلقوا الباب بالقفل. لم يتركوا شيئاً موقداً. ولحسن الحظ، كانوا قد أخرجوا الماسح الضوئي والمعدات نظراً لأنه اليوم الأخير. ثم وصل رجال الإطفاء, إلا أنهم لم يستطيعوا عمل أي شيء. ولكن بم يجدي الحديث عن حزني لمرأى المكان يحترق طوال الليل. وعند بزوغ الفجر استطعنا أن ندخل إلى ذلك الشياط والرماد الأسود الغارق في مستنقع من المياه, لم نتمكن من استعادة متر واحد من لوحة سالباتييرّا المحفوظة في المخزن !!!
في الوقت الراهن، يقوم في الموضع نفسه موقف للسيارات. كان ذلك ما يريده بالدوني. رأيته في فيلم وثائقي عن حياة سالباتييرّا وعمله. لم يمكن التحقق من كون الحريق متعمداً، ولا من مسؤولية بالدوني الجنائية. ومع ذلك فلا شك أن ما حدث من صنع جماعته. من جانبنا، بعنا قطعة الأرض لشخص آخر، إلا أن ذلك الشخص باعها لبالدوني بعد وقت قصير .



استعدنا اللفافة الباقية في حوزة إيبانييس. لم يرغب لويس في المجيء. فذهبت مع هنَّا وبوريس، حيث نجحنا في عمل مسح ضوئي للفافة الوحيدة الناجية من الحريق. في لحظة ما استطعت الإنفراد بإيبانييس وبحت له بما أعتقد. قلت له إن أباه ربما كان سالباتييرّا، وإنه قد يكون أخي غير الشقيق. لم ألحظ عليه رد فعل قوياً، وكأنه لا يهتم. أخذ بوريس وهنَّا لفافة القماش الباقية، وادّعيا أمام الجمارك أنها من رسمهما فلم تواجههما أي مشاكل. وهكذا وصل القماش إلى متحف رويل بأمستردام .
بدأت في الكتابة منذ بضعة أعوام. أشعر بأن هذا المكان, ذلك الفضاء على الورقة الخاوية يخصني، بغض النظر عن النتائج. في هذا المستطيل، ثمة متسع للعالم برمته. إبني جاستون موسيقي. عازف جيتار في فرقة موسيقية. يعيش في برشلونة. ذهبت لزيارته منذ عامين، وبحثت عن عمل بلا جدوى. والآن أعيش في "جواليجواي" على بعد ساعات قلائل من بارّانكاليس. أعمل مساءاً بصحيفة يومية محلية. وفي الصباح أكتب نصوصي وأتمشى في الشوارع الهادئة .

في إحدى العطلات الأسبوعية، وأنا برفقة جاستون، سافرنا إلى أمستردام لزيارة متحف رويل. ذهبت نزولاً على طلبه. اضطررت لأن أدوس على كبريائي، بعد أن أقسمت بألا أضع في المكان قدماً قط.  فقد توترت العلاقة بيننا وبين مؤسسة المتحف، لأنهم لم يدفعوا سوى خمسة بالمئة من المبلغ المعروض. اشترينا تذكرتين وذهبنا إلى موضع القماش الذي أنقذناه أنا ولويس. إلا أن المفاجأة كانت حين نزلنا الدرج متجهين إلى الجناح القديم، وفجأة, على جدار رواق طويل ملتوٍ، رأينا لوحة سالباتييرّا. تنبعث منها أضواء مفعمة بالحركة. تمر على شاشة في حجم القماش نفسه بدقة. العمل كاملاً مرقماً، يمر ببطء من اليمين الى اليسار. جلست وجاستون لمشاهدة اللوحة. رأيت وجوه الزائرين ترتسم عليها ابتسامة دهشة في حضرة صور سالباتييرّا الغريبة، وضيائه وألوانه. الآن اجتمع كل شيء بلا فجوات، وأنا برفقة إبني البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً، الذي استطاع رؤية صنيع جده, تلك اللوحة التي كانت تعانقنا جميعاً.

                                         النهاية.




تفاعل :

تعليقات