لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجو شو... الرابط التالي :
السيد دمبي وولده:تشارلز ديكنز
إعداد وإشراف:رجاء حمدان
كان السيد
دمبي في الثامنة والأربعين حين رزق بإبنه بول، كان ينتظر هذه اللحظة منذ وقت طويل، وكان له أيضاً إبنة في السادسة من
عمرها ولكن بنظره ما قيمة الفتاة للشركة، لقد كان ينتظر إبناً صبياً وعلى أثر
ولادة هذا الإبن جعل السيد دمبي إسم شركته، شركة دمبي وولده, وكانت لهذه
الكلمات ذات أثر في نفسه حتى أنه تصرف بلطف مع ابنته وهذا على غير عادته فقال لها:
يا فلورنس تعالي وشاهدي أخيك الجميل ولكن لا تلمسيه، وطلب من السيدة بلوكت الممرضة
أن تهتم بالسيد الصغير، لكن فلورنس لم تفعل وجرت نحو أمها وتعلقت بها بحب عظيم. لم
يحب السيد دمبي هذه التصرفات من الفتاة وكان يعتبر الأحضان والقبل تقلل من قيمته
وذاته.
نزل السيد
دمبي ليتحدث مع الطبيب بشأن صحة زوجته فاني، وهناك أخبره الطبيب أنها يجب عليها أن
تبذل جهداً كبيراً لتشفى, وإذا لم تبذل هذا الجهد فقد تمر بأزمة ما, وفي هذه الأثناء
قدمت أخت السيد دمبي السيدة لويزا تشك لتهنئته على المولود الجديد بول, وقد كانت
سعيدة جداً وقالت: إنه يشبه العائلة، ثم قدِمت صديقتها الآنسة توكس لتهنئتهم
بولادة بول الصغير.
أستُدعي السيد دمبي على عجل إلى خارج الغرفة
لكنه عاد شاحب الوجه, فقد كان يعلم أنه سيشعر بحزن إن ماتت زوجته حتى لو لم يكن
حزناً عميقاً وقال: للأسف يا لويزا إنهم يقولون إن فاني... قاطعته لويزا قائلة: لا تصدق هذا
الأمر, هيا لنذهب إليها.
كانت
الطفلة فلورنس متمسكة بوالدتها, حاول الطبيب أن يهمس لها كي يجعلها تبتعد لكن
الطفلة لم تفهم قصده وبقيت متمسكة بأمها إلى أن ساد جو كئيب حول الفراش وقالت الطفلة
ماما فاستيقظت الأم لبرهة صغيرة ثم ارتعشت جفناها وابتسمت إبتسامة باهتة فصاحت
الطفلة: يا حبيبتي يا ماما.. يا حبيبتي يا ماما, وهكذا انطلقت الأم وهي تحتضن
ابنتها فوق البحر المظلم الذي يحيط بالعالم بأسره.. ماتت السيدة دمبي.
بعد انتهاء
مراسم المأتم أمر السيد دمبي أن تُغطى
جميع غرف المنزل بالأغطية ما عدا ثلاث غرف في الطابق السفلي كان يستخدمها، وذهبت
الفتاة إلى بيت عمتها وبقي بول الصغير برعاية رتشادرز المربية مع أبيه في البيت.
ثم عادت
الطفلة فلورنس بعد أيام إلى البيت وأطلت على رتشادرز وسألت: هل هذا أخي، فقالت
رتشادرز: نعم تعالي قبليه، فلورنس بقيت في مكانها وسألت: ماذا فعلوا بماما؟. كانت
الطفلة رقيقة هادئة في حزنها وانفرادها، وكان قلبها مشحوناً بحب كبير لم يبد على أحد
أنه يريده, حتى أن قلب بوللي رتشادرز كان حزيناً عندما تُركت بمفردها مرة أخرى وحاولت أن تُبقي
فلورنس الصغيرة معها، وقد تسنت لها الفرصة في نفس الليلة, فبينما كانت تحاول جعل
الصغير بول ينام حضر السيد دمبي وسألها كيف حال السيد بول الصغير فقالت: بخير ولكن
من المجدي أن يكون معه أطفال آخرين كي
يبقى مبتهجاً، فقال السيد دمبي: إن كان هذا في مصلحة السيد بول فليس هناك أفضل من الآنسة فلورنس، ثم أمر
أن تبقى فلورنس بالبيت. لم يكن السيد دمبي يتعامل مع ابنته فلورنس كالآباء الآخرين
بعطف وحنان، حتى أن الطفلة خجلت من أن تقول لوالدها ليلة سعيدة قبل الذهاب للفراش.
وفي يوم
تعميد بول الصغير قال للسيدة بوللي رتشادرز إنه سيرسل إبنها إلى مدرسة خيرية ليتلقى التعليم وذلك
عرفاناً منه لها لعنايتها بولده السيد بول، لكن بوللي التي لم يكن يُسمح لها برؤية
أطفالها ومنزلها أرادت أن ترى ولدها وهو عائد من المدرسة لكن أمراً حدث, فقد كان
مجموعة من الأولاد المزعجين يلحقون به ويهزأون من زيه، فأعطت السيد بول والآنسة
فلورنس لسوزان نيبر والتي
كانت مربية فلورنس وذهبت لإنقاذ إبنها، في هذه الأثناء كان في الشارع ثور هائج مما
جعل فلورنس تخاف وتركض بعيداً حتى أصبح الجميع لا يرونها وأخذوا يبحثون عنها.
وبينما كانت خائفة ووحيدة في الشارع جاءتها سيدة كبيرة بشعة فقالت لها: سآخذك
إلى مكان آمن ودفعتها إلى بيت قديم ووضعتها في غرفة رثة وسألتها عن من أنت؟, فقالت
لها الطفلة: أنا فلورنس دمبي، وأكملت لها قصتها.
أخذت العجوز كل ملابس الطفلة بما فيهم الحذاء
وأعطتها ملابس وقبعة قديمة، وأخذتها إلى شارع عمومي كي تستطيع أن تسأل عن الأشخاص
الذين كانوا معها وعن عنوان شركة أبيها، وطلبت منها التوجه إلى ركن الشارع والإنتظار
هناك حتى تدق الساعة الثالثة وبعد ذلك
تسأل عن عنوان شركة أبيها, وحذرتها أنها ستنتقم منها إن خالفت أوامرها. وفعلت
الطفلة ما طلبته منها المرأة وظلت تسأل عن شركة والدها, فهي لا تعرف من الشركة سوى
إسمها وهو شركة دمبي وولده حتى وصلت عند الشاطيء, وسألت هناك عن عنوان
الشركة فظهر لها غلام جرت إليه وقالت له: أرجوك أن تهتم بأمري, إسمي فلورنس وقد
تهت بعيداً، وانفجرت الطفلة في البكاء ثم وقعت قبعتها وانسدل شعرها على وجهها فتحرك شعور الإعجاب في نفس الغلام والتر فهدّأ من روعها وأخذها إلى متجر عمه
سول, وهناك أطعمها العم سول ودفّأها فغلب عليها النعاس ونامت، ثم انطلق والتر إلى
منزل السيد دمبي ليخبره أنه وجد ابنته وهي بخير، فأرسل السيد دمبي المربية سوزان
نيبر مع والتر لكي تحضر فلورنس إلى
البيت وطرد رتشادرز بسبب أخذها طفله بول إلى أماكن مروعة، وبكى بول الصغير في تلك
الليلة كثيراً لأنه قد فقد أمه الثانية, أما فلورنس فكانت حزينة لأنها كانت تحب رتشادرز.
كانت الآنسة توكس صديقة السيدة لويزا تشك تعيش
في منزل صغير مظلم, وهناك كانت تربي معها بول الصغير, وكبر بول وانتقل من مرحلة
المهد إلى مرحلة الطفولة فأصبح يمشي ويتكلم، وكانت هي سعيدة به وترى أنه يشبه والده
السيد دمبي - الرجل الذي هي معجبة به- ولا يشبه أمه بشيء، وكانت تشاطرها الرأي
السيدة تشك وتخبرها أنها ستكسب قلب أخيها السيد دمبي لاعتنائها بولده بول.
وبرغم الإعتناء ببول جيداً إلا أنه بقي طفلاً
رقيقاً وحالماً وكثير الشرود، وكان الذي زاد حزنه وجعله شغوفاً طرد مربيته بوللي
رتشادرز، وكان بول الصغير يكثر من السؤال عن أمه كثيراً حتى أنه كان دائماً يسأل والده: ما هي النقود؟, وبما أننا
نستطيع فعل أي شيء بها فلماذا لم تبقِ لي أمي؟, فقال له السيد دمبي: إننا نفعل ما
نريد بالنقود إلا أنها لا تعيد الحياة لنا ولا تعيدنا صغاراً بعد أن نكبر، كان
السيد دمبي حزيناً على ولده.
وفي يوم أخبر بول والده بأنه متعب وظهره
يؤلمه وأنه يريد أن يبقى في غرفة فلورنس لكي تبقى تغني له، وهذا جعل السيد دمبي
قلقاً على ولده فأخبر أخته السيدة تشك وصديقتها الآنسه توكس بهذا الأمر, قالت الآنسه
توكس: إنه ليس قوياً كما تريد يا سيد دمبي، في الواقع إن عقله أكبر من جسمه وحجمه
ولكن لا يوجد ما يقلق ، لكن يمكن إرساله إلى مدرسة بريتون الداخلية وتتولى رعايته
السيدة ببكين فيقوى ويصبح أكثر صلابة.
تم إرسال بول إلى مدرسة السيدة ببكين, وفي نهاية
الأسبوع الأول لم يتحسن بول في هذه المدرسة. كان بول يحب الوحدة فعندما يذهب بصحبة
فلورنس إلى الشاطيء كان يذهب إلى منطقة منعزلة, وكان هو يريد ذلك بالإضافة إلى
وجود فلورنس بجواره، وكان يتأمل المكان كرجل حالم ويسأل فلورنس ماذا يوجد هناك
ويشير باصبعه إلى تلك البقاع البعيدة التي لا تُرى .
أما الغلام والتر فقد تحسِّن لبسه منذ رأى
فلورنس لأول مرة, وكان في أوقات فراغه يذهب ليتمشى بالقرب من منزل السيد دمبي لعله
يرى فلورنس، وإذا رآها يرفع قبعته لتحيتها.
كان العم سول متعب التفكير حتى أنه كاد يبكي بسبب
الديون التى كادت تفقده عمله. إنطلق والتر إلى الكابتن البحار كتلي صديق والده المقرب وأخبره بشأن عمه سول،
وعندما علم الكابتن كتلي بالأمر أخذ ما في حصالته من نقود وبعض الأدوات التي يمكن
بيعها أو رهنها لوفاء الدين وقدمها للعم سول، لكن العم سول رفض أن يأخذ منه شيئاً وكان
رأيه أن يباع ما في المحل من بضاعة كي يوفي بالدين ولا يوجد طريقة أخرى غير ذلك،
وهنا تذكر الكابتن أن الذي يؤجّر المحل للعم سول هو مستر دمبي فانطلق ليقابله وأخذ
معه والتر، وحين علموا أنه ذهب إلى مدرسة بريتون إنطلقا إلى هناك ورائه.
وهناك في مدرسة بريتون تقابل الكابتن ووالتر
مع السيد دمبي، وعندما رأته فلورنس إبتهجت وصاحت: يا بابا ها قد جاء والتر الذي أنقذني،
وعندما حضر والتر والكابتن وتحدثوا إلى مستر دمبي نادى على إبنه بول وقال له: لو
كنت تملك المال ماذا كنت ستفعل؟, فأجاب بول: كنت سأقرضه للعم سول، فقال السيد دمبي
حسناً عندما تكبر سنصبح دمبي وولده ونتشارك النقود سوياً وسوف نستخدمها معاً، هل
ترغب إذاً أن تكون دمبي وولده من الآن وإقراض هذا المال للعم سول ؟, فقال بول: نعم
أرغب بذلك لو سمحت يا بابا وكذلك فلورنس؟, فقال السيد دمبي: لا شأن للفتيات بدمبي
وولده, هل هذه رغبتك أنت؟ فقال بول: نعم.
حينها كتب السيد دمبي خطاباً قصيراً وقال له:
أعط هذا الخطاب للسيد كاركر السكرتير وسوف يقوم بدفع المبلغ, واعتبر أن هذا عملاً
مقدماً لك من السيد بول، إنحنى والتر لشكر السيد دمبي وغادرالمكان. حاولت فلورنس أن
تلحق به لترسل رسالة إلى العم سول لكن السيد دمبي أمرها بالبقاء في مكانها.
كان جو باجستوك أحد ضباط الجيش المتقاعدين،
وعندما علم أن السيد دمبي يريد زيارة إبنه في يوم السبت قرر أن يقابلة ويقدم نفسه إليه،
وكان كل هدفه هو مقابلة جارته الآنسة توكس التي كان يكنّ لها المودة ويرجو ألا
تكون قررت أن تصبح السيدة دمبي، وهناك قابل السيد دمبي فدعاه السيد دمبي لزيارته
في الفندق, وردَّ له أيضاً الزيارة حتى توثقت صلة الصداقة بينهما بسرعة.
وبعد فترة من الزمن من رعاية بول في مدرسة
السيدة ببكين أصبح بول بعمر السادسة فقرر السيد دمبي أن ينقله إلى مدرسه الدكتور
بلمير ليتلقى التعليم المناسب ويصبح متفوقاً على أقرانه.
ونُقل بول إلى
مدرسة الدكتور بلمير ليتعلم ويصبح رجلاً، واشتغل بول جيداً وأثنت عليه السيدة بلمير,
وكان يدرس طيلة اليوم ما عدا بعض الوقت للطعام, وفي أيام السبت كان يلتقي بأخته
فلورنس ويجلس معها وتغني له ويذهبان إلى الشاطيء. كان يوم السبت بالنسبة لبول أسعد
الأيام، وبعد ذلك قامت فلورنس بجلب الكتب التي يدرس بها بول إلى المنزل حتى تقدم
له المساعدة، وأصبحت تساعده بالدراسة كل يوم أحد وتجعل كل ما هو عسير عليه سهلاً
يسير، وهكذا تقدم بول كثيراً في الدراسة, وعندما علم السيد دمبي بتقدمه أصر أكثر
من ذي قبل على أن يتعلم بول أكثر وأكثر حتى أن بول فقد حيويته للدراسة من كثرة الإلحاح,
إلا أنه احتفظ بما تعلمه في الماضي ولكنه بقي شارداً وحالماً.
كانت فلورنس الشعاع البهيج في حياة بول, وكان
بول دائماً ينظر ناحية النافذة عله يرى شعاع فلورنس، أما السيد دمبي فكان كالشبح
يأتي يوم السبت بمفرده وبعد هبوط الظلام, ويتطلع من النافذة حيث كان إبنه يغدو
ليصبح رجلاً.
وفي يوم ما
توفي شاب من الذين يعملون لدى السيد دمبي في جزر الهند الغربية، وحين أتى والتر ليُحضِر
الخطابات إلى مكتب السيد دمبي خطرت للسيد دمبي فكرة وهي أن يرسل والتر إلى جزر الهند الغربية بدلاً
من الشاب الذي توفي وأخبره بذلك، لكن والتر كان يفكر بأنه سيُحرم من العم سول ومن
رؤية الآنسة فلورنس ومن الكابتن كتلي.
مرض بول في
المدرسة وتم إحضار الطبيب لفحصه، وطلب الطبيب من السيد بلمير إبعاد بول عن كتبه
بسرعة وقال: إنه بحاجة للرعاية والتغذية الصحية فهو ضعيف البدن, وعند نهاية الفصل أخبر
السيد بلمير بول أنه سيقيم حفلاً في المدرسة لنهاية الفصل الدراسي ويمكن له دعوة أخته
الحبيبة فلورنس، فأرسل بول بطاقة دعوة لإخته, وفي يوم الحفل أتت فلورنس بثوب سهرة
بسيط وكانت تبدو رائعة الجمال، وعندما رأت بول راحت تقبله وتعانقه وكانت الدموع تنهمر من عينيها فأدارت وجهها للحظة وأعادت الإبتسامة
إلى وجهها ونظرت إلى أخيها بحب، كانت تود البقاء بجانبه كل الوقت إلا أنه طلب منها
أن ترقص وقال إن هذا سيفرحه كثيراً، فقد كان بول مسروراً جداً برؤية الجميع معجبون
بأخته الحبيبة، وعند الرحيل ودّعه الجميع في صخب وضجيج وبقي الجميع يلوحون خلفه
بقبعاتهم ويتدافعون لمصافحته وكل واحد
يصيح دمبي لا تنساني.
عاد بول
الصغير إلى منزله مع فلورنس بعد الحفلة وبقي في فراشه الصغير طوال الوقت حيث كانت
تظهر له تهيئات، كان يظن أن في غرفته شبح فسأل فلورنس: من هذا يا فلورنس؟ فقالت له:
إنه أبي، ثم أتى السيد دمبي وقال: يا بني ألا تعرفني وغادر بسرعة قبل أن يمد له
بول يده ويجذبه إليه، وكان دائماً يرى بخياله النهر الموجود بين ضفتين خضراوتين في
وسط القرية، وكان يرى أن هذا النهر قاتم وهو يجري بثبات باتجاه البحر، في المرة
التالية التي رأى فيها الشبح جالساً عند سريره ناداه قائلاً: لا تحزن من أجلي يا
عزيزي بابا!! الواقع أنني سعيد جداً، ولم يحاول بول أن يعرف كم من الليالي ظل
النهر القاتم الأسود ينحدر نحو البحر على الرغم منه, وكان يتحدث إلى فلورنس ويقول
لها: يا له من نهر مسرع في جريانه وهو قريب من البحر وإنني أسمع الأمواج، وهناك قارب
على الشاطيء إنَّ حَرَكته تجلب لي الراحة والنعاس، وقد دخل إلى البحر وهو يسري في
هدوء ورفق ولكن مَن ذلك الذي يقف على الشاطيء؟ إنها ماما إنها تشبهك يا فلورنس، إنني أعرفها بوجهها!, ثم أشرق
الضوء الذهبي على الحائط ولم يتحرك شيء آخر في الغرفة، ومات بول الصغير.
بدا وجه
السيد دمبي شاحباً وكان ألمه شديداً وكأن ماء الحياة نفذت منه، ثم خرج وركب في العربة وتحرك الجميع ورائه في مراسم دينية
للجنازة ..وهناك نقشَ على حجر القبر عبارة الإبن الوحيد المحبوب.
كانت فلورنس تسأل عمتها عن أبيها وهل تستطيع أن تفعل
شيئاً لتواسيه، لكن السيدة تشك أخبرت فلورنس أنها لا يمكن لها أن ترى والدها وليس
عليها أن تحلم بذلك حتى !، لكن الفتاة الحزينة كانت تنسل من حجرتها عندما ينام
الجميع وتُطفيء الأنوار وتجلس قرب باب غرفة والدها وتتمنى لو تستطيع أن تُظهر له
بعض الحب لكي تواسيه وتخفف من أحزانه, إلا أن باب الغرفة كان مغلقاً دائماً وكان
السيد دمبي يعيش وحيداً منعزلاً، وفي يوم ما تسللت فلورنس إلى باب غرفة والدها فوجدته
مفتوحاً، تشجعت ودخلت في خفة وسكون ويداها مرتعشتان, كانت مدفوعة بالحب العظيم
الذي في نفسها ونادت بابا, كان والدها جالساً في تفكير عميق ومجهداً وذا وجه صارم
لا يوجد به محبة ولا حنية, وفزع عند سماع صوتها وقال: لماذا أتيت إلى هنا وماذا
تريدين، فتجمدت وأصبحت كالحجر وخائفة أمام الوجه الذي يخلو من الرقة والعطف الأبوي,
ولم تستطع أن تقول شيئاً وبكت, فقادها السيد دمبي نحو الباب بيدين باردتين وقال:
تحتاجين إلى الراحة هيا إذهبي للنوم وأضاء لها الطريق لتصعد على السلم، بدت وكأنها
تود العودة إليه لكنها كانت خائفة، والحقيقة أن السيد دمبي لم يكن يعلم إنْ كان
ينظر إلى فلورنس على أنها المنافس لبول وتتفوق عليه بالصحة والقوة والنجاح أو أنها
المنافس الناجح له شخصياً في احتلال عاطفة إبنه ومحبته، راقبها وهي تصعد حتى اختفى
آخر جزء من ثوبها وعاد إلى غرفته وأغلق على نفسه الباب وجلس ينتحب ولده الفقيد.
أما والتر
فقد كان كئيباً وحزيناً وهو ينظر إلى غرفة
نومه العتيقة ويتخيل أنه بعد ليلة سوف يغادر إلى جزر الهند الغربية، ثم نزل إلى
دكان عمه سول وجلس معه كي يودعه ويخبره كم سيشتاق له، وطلب منه أن يرسل له ويخبره
عن أخبار الآنسة فلورنس دمبي، وفي تلك اللحظة أتت فلورنس ومعها مربيتها سوزان
وتحدثت إلى والتر وقالت له : فليباركك الله يا والتر، وفي يوم ما سيتحدث إليّ
والدي بحرية وحينها سأطلب منه أن يعيدك لأجل خاطري، ثم أعطته ربطة وهي تقول: لقد
صنعت هذه الهدية الصغيرة لبول خذها مع حبي, ولتعلم من الآن أنك أخي يا والتر بعد أن مات بول.
تناول
السيد دمبي طعام الإفطار مع جو باجستك ثم ذهب إلى لمينجتون ذات يوم، وفي الطريق رأى
الآنسه توكس ولوحت لهما فقابل السيد دمبي التحية ببرود شديد مما جعل جو باجستك
سعيداً بذلك، فقد كان يحاول معرفة إن كان السيد دمبي يكنّ أي مشاعر تجاهها. وفي
صباح اليوم التالي خرج السيد دمبي وجو باجستك للمشي ورأى السيدة سكيتون تجلس في
كرسي ومعها ابنتها الشابة إدث، فأسرع جو جاستك تجاههما وحياهما وعرَّفهما إلى
السيد دمبي وتحدثا قليلاً، ودعتهما السيدة سكيتون لزيارتهما في أي مساء، وحيتهم
السيدة الكبيرة وانحنت الشابة برأسها ثم غادرتا. كان السيد دمبي يتتبعهما بعينيه
وقال: إنهما راقيتان فقال جو باجستك: نعم فالسيدة الكبيرة هي أخت المرحوم اللورد
فينكس وعمها اللورد الحالي، أما السيدة الشابة فقد تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها
من الكولونيل جرانجر وقد توفي زوجها, لكنها لم تتزوج بعد ذلك لأنها متكبرة جداً.
بعد أيام
زارهما السيد دمبي في منزلهما وكانت الشابة جميلة رائعة الجمال كما أنه اكتشف أن لديها
مواهب في الرسم والعزف.
أما فلورنس
فقد كانت تعيش وحيدة في المنزل الكبير الخاوي وكثيراً ما كانت تتخيل حياتها لو كان
والدها يحبها ويحميها ولو أن أمها بقيت على قيد الحياة تعانقها في حب وحنان، لكن
سرعان ما يأتي الليل والظلام ولا يوجد أحد يؤنس وحدتها، فقررت أن تكمل تعليمها حتى
يأتي يوم يعرف فيه والدها أنها تحبه كثيراً, وأصبحت تلك الفكرة كل حياتها.
زارت فلورنس
العم سول كي تسأل عن أخبار والتر ولكنها لم تجد عنه أي أخبار، ولم يكن كذلك العم
سول على ما يرام لكنه قال لها: إنه أفضل ما يكون لمثل رجل في سنه، وفي اليوم
التالي أرسل طرداً إلى الكابتن كتلي فيه وصيته ورسالة يخبره فيها أن لا يفتح تلك
الوصية قبل مرور عام أو عندما تصله أخبار من والتر، وأن لا يحاول البحث عنه، وأن
يحتفظ لوالتر ببيت في المكان القديم حتى نهاية العام، وخشي الكابتن أن يكون العم
سول قد انتحر بسبب أحزانه فبحث عنه في كل مكان حتى أنه أخذ يقرأ أسماء المفقودين
والمعثور عليهم كل يوم في الجرائد, وعندما
استسلم قرر أن ينفذ ما طلبه منه العم سول، وأخذ يعمل في دكانه وأدخل عليها القليل
من التحسينات.
وفي يوم من
الأيام زار جو باجستك السيدة سكيتون وأخبرها أن السيد دمبي واقع بحب السيدة ابنتها الشابه إدث وهو جاد في رغبته بالزواج
منها، وكان يبرز أمام عينيها ثروته فقال لها: إنه صيد ثمين وسوف نتحدث في المستقبل
عن ذلك في زهو وانتصار.
قبلت إدث
بذلك وذهبت مع السيد دمبي إلى منزله للقاء ابنته والتعرف عليها، وعندما عادت
فلورنس إلى البيت وجدت أبيها ومعه سيدتان، سكيتون وابنتها إدث، وعرَّفها والدها إلى
إدث وقال: إنها ستصبح في القريب العاجل كوالدتها.
فصرخت فلورنس: أوه يا بابا ليتك تصبح سعيداً، سعيداً
جداً جداً جداً طيلة حياتك, وتوجهت إلى إدث وحضنتها وقبلتها، وبينما كانا يتعرفان إلى
البيت قالت فلورنس: لا تبدأي بكرهي، فقالت إدث: أكرهك أنت؟ لا, سنبدأ بالثقة وسوف أجعلك
سعيدة وأنا مستعدة لأن أحبك، حينها حضنتها الفتاة وهي تقول لها يا ماما، ثم أخذت
فلورنس تأمل أنها ستتعلم من أمها الجديدة كيف تستحوذ على حب والدها.
بعد مدة جاءت
إدث كي تصحب فلورنس لتبقى معها كي تتعرفا على بعضهما جيداً حتى يحين موعد الزواج
المقرر بعد أسبوع، لكن فلورنس لم تكن تعلم بهذا الأمر، وحين صاحت فلورنس ماما في
فرح قالت إدث: لم أصبح ماما بعد، قالت فلورنس: لكنك ستصبحين قريباً، أخذتها إدث إلى
داخل الغرفة وأخبرتها إدث أنه عندما تتزوج بأبيها وتسافر لبضعة أسابيع عليها أن
تعود إلى منزلها لأن هذا سيجعلها أكثر راحة، وعليها ألا تقبل أي دعوة من أي شخص للبقاء
عنده، فقط عودي إلى منزلك.. هكذا قالت إدث لفلورنس.
ذهبت فلورنس
مع إدث إلى منزلها للمكوث عندها قبل أن يحين موعد الزفاف، وقابلت أم إدث وتعارفا، ووعدتها
إدث أن تعود لمنزلها في يوم الزفاف، وقدم
السيد دمبي لتناول الغداء في بيت السيدة سكيتون، إرتبكت فلورنس عند رؤيته لأنها لم
تكن تعلم بقدومه, وعندما مرت من قرب الباب
صاحت وهي تقفز وتقول: إنه آتٍ, وجرت إليه بسرعة ووضعت يداها حول عنقه وقبلته من
وجهه ثم أسرعت خارجة من الغرفة.
مر الأسبوع
بسرعة وتعددت الزيارات إلى محلات الملابس والقبعات والفطائر للتجهيز للزفاف، وكان
على فلورنس أن تخلع ثوب الحداد وتلبس فستاناً جميلاً لهذه المناسبة، أما إدث فكانت
لا تُظهر الإهتمام لأي شيء، وفي الليلة الأخيرة قالت السيدة سكيتون: يا عزيزي دمبي
أرجو منك أن تترك لي فلورنس غداً عندما تأخذ مني حبيبتي الغالية الحلوة إدث، فقبل
السيد دمبي بذلك فأدارت إدث رأسها فجأة وتحول عدم اكتراثها في لحظة خاطفة إلى
اهتمام شديد وأنصتت لما يقال.
وعندما أصبحت
منفردة مع والدتها قالت: يا أمي يجب أن تبقي هنا لوحدك حتى أعود، لن أسمح بأن أفسد
فتاة بريئة مقابل أن أرضِي ألف أم مثلك، وفلورنس عليها أن تعود لمنزلها وإلا أقسم أنني
لن أتزوج بهذا الرجل في الكنيسة، قالت أمها وهي تنظر إليها بفزع: هل تظنين أنك
ستعيشين بسلام في ذلك المنزل ما لم تتزوج فلورنس وترحل بعيداً عنه، قالت إدث: سِيري
يا أماه في طريقك الخاص, شاركي كما يحلو لك فيما كسبت واصرفي المال وكوني سعيدة
كما تريدين، لقد نلنا الغرض من حياتنا وإنني أصفح عن دورك في شرور الغد وآثامه,
ويا ليت الله يصفح عما قمت به أنا من دور، ثم عادت إلى غرفتها وهي منهكة ومتعبة,
وفي طريقها مرت بجانب الغرفة التي ترقد بها فلورنس فدخلتها ووضعت رأسها بجانب رأس
الفتاة النائمة وذرفت الدموع, وهكذا أمضت إدث الليلة الأخيرة التي سبقت زفافها.
في صباح اليوم
التالي ذهب الجميع إلى الكنيسة وتم عقد القران، كانت السيدة توكس حزينة وبكت، أما
السيد توست الذي كان أكبر طالب في مدرسة بولو وكان صديقاً له فقد جن حباً وشغفاً
بالآنسة فلورنس، ثم عادت الجموع إلى بيت العروس وانهالت عليهما التهنئة. وبعد
تناول الإفطار في اليوم التالي إرتدت إدث ثياب السفر وهرعت إليها فلورنس مودعة
ولوحت إدث للجميع ثم اختفت. في تلك الليلة كانت فلورنس تقرأ كتاباً لكنها سرعان ما
أغلقته وكانت تتخيل أمها وأخيها الميت في ثيابٍ كالملائكة ووالتر أيضاً المسكين، أوه
ترى أين هو الآن.
في هذه
الأثناء كانت هناك أشياء تشغل بال الكابتن كتلي, وكان قد مضى عليه فترة دون أن
يسمع أي أخبار عن سفينة والتر أو عن العم سول, ولم يكن قد أخبر فلورنس باختفاء
العم سول. وذات مساء بارد مظلم من أمسيات الخريف والرياح تهب بشدة والمطر يتساقط
مدراراً جاء السيد توتس وكان يريد رؤية العم سول لكن الكابتن كتلي أخبره أن العم
سول غير متواجد، فقال إن معه صحيفة أخفتها سوزان عن الآنسة دمبي لأن بها خبر عن
شخص تعرفه الآنسة دمبي وكذلك العم سول، وقرأ الخبر: إن السفينة ديفاينس هنري
جيمس التي وصلت اليوم إلى الميناء تُقرر أن رجال المراقبة قد رأوا قبل الغروب بنصف
ساعة بعضاً من قطع من حطام سفينة تطفو على بعد ميل، وأرسلتْ قارباً لمعاينة الحطام
فاكتشف جزءاً من مؤخرة سفينة وقرأوا عليها إسم صن آند إير... ولم تُرى أي آثار
لجثث موتى على الحطام العائم, ولا شك أن السفينة المفقودة صن آند إير التي كانت في
طريقها إلى باربادوس في جزر الهند الغربية قد تحطمت في الإعصار الأخير وأن كل شخص
على ظهرها قد لقي حتفه.
حزن
الكابتن كتلي بشدة وقال وداعاً يا بني والتر، لم يكن ولده فعلياً لكنه حزن عليه
كما لو كان ولده، وطلب من السيد توتس أن يخبر الآنسة فلورنس بأن كل شيء انتهى، فسأله
السيد توتس وهل الآنسة فلورنس سوف تتأثر كثيراً فأخبره الكابتن كتلي أنه قبل أن تكون
الآنسة دمبي قد شبت عن الطوق بعد كانا متحابين كزوج من الحمام الصغير، فسقط وجه
السيد توتس إلى الأسفل حزيناً.
بعد مدة
عاد الزوجان السعيدان إلى البيت الذي رُتب وأضيئت الشموع كما لو أن الحياة عادت إليه
من جديد، واستقبلَ الزوجين السعيدين السيدة سكيتون وفلورنس، وبدا السيد دمبي بارداً
تجاه ابنته لكنه أقل برودة من ذي قبل، وتناولوا العشاء جميعاً وكانت إدث باردة كالصنم
مثل زوجها، وبعد العشاء غادرت السيدة سكيتون إلى فراشها وغادرت أيضاً إدث ولم تعد،
ثم أتت فلورنس فلم تجد سوى والدها في الصالون، جلس هو في أحد أركان الغرفة وغطى
وجهه بمنديل يسمح له رؤية الأشياء متهيئاً للنوم بينما جلست فلورنس إلى الطاولة,
كان نظره إلى فلورنس أكثر عطفاً من ذي قبل فقد غدت امرأة مكتملة بجمالها الأخاذ،
وفي لحظة أتت إدث وقالت: فلورنس لقد كنت أبحث عنك في كل مكان وأخذتها من الغرفة
بينما ظل السيد دمبي جالساً في مكانه متظاهراً بالنوم, وظل بصره ملقىً إلى المكان
الذي كانت تجلس فيه فلورنس, وكان متعجباً من إدث عندما رأى أنها تحاول أن تُبهج الفتاة
حتى أنه قال: إنها ليست إدث!!, وبقي جالساً والوقت يمر حتى حل ظلاماً حالكاً في
الغرفة.
كان السيد
دمبي ينظر إلى زوجته الأولى بتعالٍ وتكبر ويظن أنه أعلى منها وله الحق في ذلك،
وعندما قابل إدث ورأى تكبرها وتعاليها ظن أن هذه الصفات ستضيف إليه القوة والتعالي,
ولم يكن يعلم أنه في يوم قد تُوظف هذه الصفات ضده، ولم يكن يعجبه أن زوجته تعامله
وتعامل الضيوف بطريقة متكبرة لا حدود لها وهم من كبار المجتمع، فقرر الذهاب
والتحدث إليها بهذا الأمر وطلب منها أن تحترمه وتطيعه كحق له في ذلك، ولكنها رفضت فتحطمت الثقة التي
بينهما وبدأت الكراهية تنمو يوماً بعد يوم فيما بينهما، وكانت فلورنس تلاحظ ذلك .
وكانت
فلورنس تظن أنه من غير الحكمة أن تحب شخصاً ضد والدها, وعندما تأتيها الكلمات
الرقيقة من إدث تشعر أن أفكارها نكراناً لجميلِ تَعامُل إدث معها، وهكذا عاشت
فلورنس تقاسي من حبها لكليهما أكثر مما قاست عندما كانت وحيدة وأصبحت حزينة، حتى أن
مربيتها سوزان ذهبت لتحدث السيد دمبي عن حزن فلورنس لكن تعاليه وتكبره جعله يطرد
سوزان وجعل السيدة ببكين مدبرة لمنزله .
وفي أثناء
مغادرة سوزان أتى السيد توتس لرؤية الآنسة فلورنس، أسرعت فلورنس لاستقباله وطلبت
منه أن يهتم بسوزان، فاهتم بأمرها وقضى معها بعض الوقت وحينها سألها إن كانت
فلورنس ستحبه بعد مرور الوقت، فقالت سوزان: إن ذلك لن يكون أبداً, قال السيد توتس
في حزن: أشكرك, ثم ودعها وركبت العربة.
وفي تلك
الليلة طلب السيد دمبي من سكرتيره السيد كاركر بأن يأتي إلى البيت ويكون رسوله إلى
زوجته لأنه لا يريد أن يتحدث معها بنفسه، وطلب منه إخبارها بأن تحسن من
سلوكها، أما الطلب الآخر فكان بأن لا تُظهر
الحب لفلورنس.
ذهب السيد كاركر سكرتير السيد دمبي إلى إدث وأخبرها بأنه سيكون رسول
السيد دمبي لها كي يعطيها الأوامر من سيده، وأن السيد دمبي يعلم أن إدث لن تحبه وستعتبر
ذلك إذلالاً لها، وأخبرها كاركر أيضاً أن السيد دمبي لا يعجبه سلوك إدث تجاه الآنسة
فلورنس فهو يعتقد أن إظهار الحب للفتاة لن يجدي لها نفعاً. وقفت إدث تبتسم في وجهه
باحتقار ثم تهاوت كما لو أن الأرض هبطت من تحتها وكادت أن تقع فأمسكها السيد كاركر
بين ذراعيه فدفعته بعيداً وقالت: أرجوك..وبكل مكر حاول أن يصطاد بالماء العكر... فأمسك يدها وقبلها ثم
انسحب, وهكذا زادت الحواجز بين السيد دمبي وزوجته ولم تتكسر حدتها.
أما فلورنس
التي بلغت السابعة عشرة من عمرها فقد كانت كثيراً ما تبقى وحدها, وعندما لاحظت أن إدث
تتجنبها ذهبت إلى غرفتها وقالت: ماما هل أغضبتك؟, لقد تغير سلوكك معي يا ماما
العزيزة، فقالت إدث: يا حبيبتي فلورنس إنني لست غاضبة منك ولكن يجب أن نتظاهر أننا
لا نتحدث إلى بعضنا البعض, وأنا لا أستطيع أن أذكر لك السبب ولكني لا أزال كما كنت
في السابق أكنّ لك المودة.
وذات ليلة
وهم يتناولون العشاء كان السيد دمبي يطلب من زوجته أن تطيعه وتستقبل ضيوفاً سيأتون
للعشاء في اليوم التالي, لكن إدث رفضت تماماً أن تفعل ما يطلبه منها وطلبت منه أن
تنفصل عنه، لكن كبريائه منعه وقال: أتريدين أن يقول الناس إن السيد دمبي إنفصل عن
زوجته .. وانفجر ضاحكاً، فمزقت إدث ما كانت ترتديه من مجوهرات متلألأة وألقتها على
الأرض ثم غادرت الغرفة في صمت، وقابلت على السلم فلورنس التي سمعت من وراء الباب
ما دار بينها وبين والدها وحاولت اعتراض طريقها ولكنها صرخت في وجه فلورنس وقالت:
دعيني أمرّ لا تقتربي مني، وهكذا خرجت إدث من البيت ولم تعد ... وعلموا من سائق
العربة التي أقلتها أنها ذهبت إلى منزلها القديم مما أثار غضب السيد دمبي وجعله
يلقي بكل ما يخص زوجته إدث على الأرض, وعندما جرت إليه فلورنس لتواسيه من شدة غضبه
ضربها بشدة حتى أنه أوقعها على الأرض الرخامية، وكان وهو يضربها يشتم إدث بأفظع الألفاظ
. كانت فلورنس حزينة جداً من أعماق قلبها، لقد أحست أنه لا يوجد لها أب على الأرض
وجرت كاليتيمة خارجة من منزله.
جرت فلورنس
تائهة في شوارع المدينة وتذكرت كيف كانت قبل زمن طويل تائهة في الشوارع, لكنها الآن
تائهة بالإضافة إلى حزنها، وذهبت إلى منزل العم سول وهناك وجدت الكابتن كتلي، كانت
حزينة وخائفة وتعبة فأغْشِي عليها فحملها الكابتن كالطفلة ووضعها على الأريكة,
وعندما استيقظت سألت عن العم سول فأخبرها الكابتن أنه لم يعد منذ زمن ، ثم قالت
له: إنه لا يوجد لها مكان تذهب إليه وترجو أن تبقى معه, إبتسم لها وقال: يا سيدتي
الصغيرة أنت يا فرح قلبي, ونامت فلورنس في غرفة العم سول.
ثم جاء
السيد توتس ليخبر الكابتن أن شخصاً ينتظره
قرب الباب في الخارج وأن هذا الشخص أخبره أنه يريد من الكابتن أن يخرج إلى ركن الشارع
لأمر هام، فخرج الكابتن لملاقاة هذا الشخص وعندما عاد كان شاحب الوجه فسأله توتس:
هل هناك أمر سيء؟ فأجابه الكابتن: لا على العكس, ثم غادر توتس.
عند المساء
استيقظت فلورنس وحضّروا العشاء, وأثناء الطعام حكى لها الكابتن قصة والتر وكيف غرق
بالسفينة ثم قال: في بعض الأحيان تكون هناك نجاة من الأخطار ويعود الشخص بعد أن
نظن أنه قد مات. كانت مرتعشة وتنظر حولها ثم رأت خيال شخص يحمل مصباحاً !!, لقد
كان خيال والتر لقد عاد، كانت تعتبره كأخ لها وبدا أنه عزائها الوحيد في العالم.
وفي اليوم
التالي أتى السيد توتس وعندما رأى والتر عرّفه به الكابتن فانصدم لكنه قام ليصافحه
وتمنى أن يكون بخير، كان توتس قادماً ليخبرهم عن هروب الآنسة فلورنس من منزل
والدها ولا يعلم أحد أين ذهبت، فقال والتر: يسرني أني أستطيع تهدئة بالك، إن الآنسة
فلورنس في أمان وهي بخير وبأحسن حال، ثم اصطحبه الكابتن كتلي إلى الدور العلوي وكم
كانت فرحته ودهشته حين رأى فلورنس فجرى نحوها وأمسك بيدها وقبّلها وذرف الدموع.
قالت
فلورنس: يا عزيزي السيد توتس إنني فرحة برؤيتك، فشكرها السيد توتس وقال: إن والتر
والكابتن كتلي أخبروني أنني أستطيع أن أقدم لك خدمة ما، إذا كنت تريدين العثور عليها
فسوف أحضرها لك, تستطيعين أن تثقي بي بعد الكابتن كتلي نفسه، فكرت فلورنس في هذا
المخلوق الطيب ثم ودّعها وذهب.
كانت فلورنس حزينة بسبب والتر فهو يتجنبها ولا
يذهب لرؤيتها إلا إذا طلبت منه ذلك, فقد كانت تعتبره أخاً لها أما هو فقد كان
يتألم بسبب هذا, فقد أعجب بها وأحبها بجنون, فقررت فلورنس أن تتكلم معه. سألته عن آخر مرة رأته فيها قبل أن يغادر
المدينة، فوضع يده على صدره وأخرج الربطة التي أعطته إياها، قالت: هل ترتديها لأجل
خاطري، قال: نعم لأجل خاطرك يا فلورنس وأنا أعلم أنك تثقين بي كأخيك ولكني لا أستطيع
أن أناديكي أختي، لقد تركتك وأنت فتاة صغيرة وعدت اليوم لأجدك امرأة متكاملة، إحمرّ
وجهها وأنزلت رأسها إلى الأسفل، وأكمل: لكنني لست غنياً كي أليق بك، لست سوى سائح متجول وإنني في
القريب العاجل سأترك المدينة كي أكسب عيشي بالضرب في عرض البحر، فقالت: إذا أخذتني
زوجة لك يا والتر فلسوف أحبك جداً, ولن أكون بذلك ضحيت بشيء في سبيلك فليس لدي ما أضحي
به أو من أحزن لفراقه, ولكني سأكرس لك كل حبي وحياتي.
ضمها والتر
إلى صدره وأسند خدها على خده وعندئذ بكت طويلاً على صدر حبيبها وقد أضحت منذ تلك
اللحظة غير وحيدة وغير مكروهة وغير مهملة.
كانت إدث
تعيش في شقة في فرنسا، وعندما سمعت صوت مفتاح في القفل صاحت من هناك, دخل كاركر وأغلق
جميع الأبواب ورائه وقال: لم أرك قط جميلة وجذابة كالليلة وأخذ يدنو منها، وفي
لحظة خاطفة حملت السكين وهددته بأن تقتله إذا اقترب منها، فجلس على كرسي بعيد وهو
غاضب وقلق ولم يستطع إخفاء ذلك، وقالت إدث وهي ترمقه بنظرات قاسية: كم خدعتني وأنا
امرأة متزوجة؟, وكم من مرة كشفت جرح تلك الفتاة التعسة الحلوة؟, وكم أغريتني بالإنتقام
اليائس العنيف الأخرق؟.
فقال
كاركر: ماذا يا إدث؟, لقد كان هذا السلوك مناسباً لزوجك التعس...، فقالت: كان
يكفيني لاحتقاره وكرهه أن تكون يا كاركر أنت من تنصحه، فقال: أكان هذا هو السبب في
هروبك يا إدث؟.
فقالت إدث:
نعم وهو السبب في وقوفنا وجهاً لوجه للمرة الأخيرة، لقد لعبت دور الخائن الأثيم
وخدعت طفلته البريئة وخدعت الجميع، وأكملت إدث: لقد خُدعت أنت أيضاً كما يخدع جميع
المخادعين والغشاشين، لقد رأيت زوجتك في عربة في الشارع!.
وفي تلك
اللحظة رن جرس الباب فابيضّ وجه كاركر خوفاً ورعباً, وفي لحظة خاطفة دخلت إدث غرفة
النوم وأغلقت على نفسها الباب، ظل الجرس يدق ثم سمعت إدث أصواتاً مختلفة مختلطة معاً ومن بينها صوت السيد كاركر، ثم اقتحم كاركر
غرفة النوم وما أن رأى سلماً صغيراً حتى هبط عليه إلى الشارع وهو يشتم إدث بأفظع
الألفاظ. أخذ كاركر عربة وهرب إلى باريس، وكان في الطريق يفكر كيف جرى الزواج
الثاني لسيده السيد دمبي, وكيف كان يغار من إبن وإبنة السيد دمبي, وكيف أخذ يحفر
لهم حتى لا يستطيع أحد الدخول إلى قلب سيده غيره إلى أن وقع هو في الحفرة وانتهى
به الأمر إلى التشرد والفرار من وجه العدالة.
وحين وصل
باريس ركب البحر عائداً إلى إنجلترا, وقرر الفرار إلى مكان بعيد بالريف وذهب كي يسافر
بالقطار, وفي محطة القطارات دفع أجرة السفر وبقي ينتظر القطار جيئة وذهاباً حتى
رأى الرجل الذي كان هارباً منه، فزلت قدمه ووقع على السكة الحديدية, وسرعان ما سمع
صوت القطار فارتعب وصرخ كي يساعده أحد لكنه لم ير سوى وجه ذلك الرجل, وما لبث أن أمسكت
به عجلات القطار وتقلب مرة تلو المرة وسقط ميتاً على سكة القطار.
أخيراً
حضرت سوزان مع السيد توتس وحين رأت فلورنس صاحت: آه يا حبيبتي الجميلة الآنسه
فلورنس، فرحتْ جداً فلورنس بقدوم سوزان وعلمت أن توتس أخبرها بأمر زفافها، وفي الليلة
التي تسبق اليوم المحدد للزفاف وبينما كان الجميع مجتمعين في الحجرة العليا من
الدكان صاح الكابتن بصوت عالٍ حيث أنه رأى العم سول قادماً فقفز إليه وحضنه بفرح
شديد وانهال عليه بالأسئلة: كيف أنت؟ وأين كنت؟ وماذا فعلت؟ ....فقال العم سول: إنني
متعب ومذهول حتى أنني لن أستطيع أن أقول الكثير.
قابل العم
سول والتر وتحدثوا سوياً، وذهبت فلورنس إلى فراشها مبكراً، وغادر توتس بعد أن سلم
على والتر وقال له: إنه يسعده أن فلورنس ستتزوج من الرجل الذي تحبه ويحبها، وأخبر
والتر توتس بدوره أن فلورنس تعزه بشدة ولن تجد صديقاً أفضل منه.
وفي صباح
اليوم التالي زُفت فلورنس إلى والتر، وبعد عدة أيام خرجوا سوياً على ظهر سفينة إلى
البحر، كانت فلورنس تراقب الأمواج وتسمع أصواتها وقالت لوالتر: إن الأمواج تجعلها
تفكر في أخيها بول، والحقيقة أنها كانت تذكرها بوالتر عندما كان غائباً، فالأمواج
تهمس دائماً لها بالحب، الحب الأبدي الذي لا حدود له .
وفي عصر
يوم من أيام الصيف بعد انقضاء عام على زواج والتر وفلورنس كثر الهمس في محيط
العاملين بمجال السلع حول حدث ضخم سيحدث، وانتشرت أخبارُ توقف شركة دمبي وولده عن
العمل, وتم الإعلان عن أسماء المفلسين وأولهم إسم السيد دمبي، وأصبح القصر العظيم
منزلاً خاوياً لا يوجد به غير السيد دمبي، وعادت بوللي رتشاردز مربية بول الأولى
لتهتم بالسيد دمبي الذي كان متعب العقل وملازماً غرفته. وبينما الليل مخيم على
القصر المفلس أتت الآنسة توكس, بعد أن تسلمت رسالة من بوللي, وسألت عن أحوال السيد
دمبي، ومن شدة إخلاصها له أخذت تأتي كل يوم وتحمل له أشهى الأطعمة وتقضي معظم
وقتها في المنزل الخرب.
لم يعرف أحد
ما كانت تقوم به الآنسة توكس سوى بوللي وجو باجستك، وبقي يضحك كثيراً متعجباً من أمرها
ويقول: لعنة الله على تلك المرأة, لقد ولدت عبيطة بلهاء.
أما السيد
دمبي فقد كان يجلس وحيداً في غرفته يتذكر كيف مرت تلك السنوات، وتذكر ابنته التي
دائماً ما كان قاسياً معها رغم أنها دائماً كانت تنظر إليه بمحبة، وتذكر ابتساماتها
الدائمة له وكيف أنه خسرها, وأصبح لا يفكر بشيء سوى بولديه فلورنس وبول.
كان السيد
دمبي يعيش في بؤس وألم وضعف وشغف حتى أنه فكر في الإنتحار، وقد كان في الليلة
الماضية قد خرج خفية وأخذ شيئاً من المطبخ وخبأه في صدره وعاد إلى غرفته، وكان
يفكر في قتل نفسه إلا أنه سمع فجأة صوتاً رقيقاً يصيح في محبة وفرح: بابا يا عزيزي
يا بابا! سامحني أرجوك, لقد جئت أطلب منك العفو, وإنني لن أكون سعيدة بدون عفوك ورضاك.
سار متعثراً
إلى كرسيه وشعر بها تضع يديه حول عنقه وتعانقه وتقبله على وجهه، وشعر- يا الله - شعر
بكل ما ارتكبه في حقها بعمق هائل وألم شديد!!.
بابا يا
حبيبي لقد عدت أماً ولدي طفل يدعى بول، ولما ولدته عرفت كم أحبه وكم هو عزيز علي وشعرت
بخطأي عندما تركتك، سامحني يا بابا العزيز.
وهكذا أضحت
الإبنة بعد كل شيء هي (دمبي وولده) حقاً . أما سوزان فقد تزوجت من السيد
توتس، وأما السيد دمبي فقد مرض مرضاً خطيراً جداً حتى أنه كان يهلوس في بعض الأحيان.
وبعد ذلك أخذ والتر فلورنس لتقابل إدث, وكانت ما
تزال في جمالها ورونقها غير أنها أصبحت متواضعة وغير عنيدة, وعانقت فلورنس وقبلتها
وهي تبكي في مرارة وتقول: أقسم بالله إنني بريئة، وتحادثتا ولكنها لم تقبل أن تعود
إلى السيد دمبي، وحضنتها طويلاً وبقوة وكأنما سكبت كل ما في قلبها من حب وحنان
دفعة واحدة. قالت إدث لفلورنس: عندما تتركيني في هذه الغرفة المظلمة فكري أنك
تركتيني في القبر، وتذكري دائماً أنني كنت أحبك. غادرتها فلورنس ولم تر وجهها مرة أخرى
لكن قبلاتها وعناقها ظل باقياً في قلبها.
الآن أصبح
السيد دمبي رجلاً أبيض الشعر ويحمل وجهه آثاراً ثقيلة من الهموم والمعاناة ولكنها
مجرد آثار لن تعود واقعاً، وانحصر فجره وزهوه في ابنته وزوجها، وكثيراً ما كان
الناس يرون السيد دمبي مع ابنته وطفليها بول وابنتها، وكان الجد يراقب بول كثيراً
ويقضي معه أوقاتاً طويلة, أما الفتاة فكان يكتم قصة حبه لها وتعلقه بها ويتسلل في
خفية ويقبلها وهو يبكي ويقول: يا فلورنس الصغيرة ويزيح خصلات شعرها عن عينيها
بحنان.
النهاية.