القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية في سردابي: ديستويفسكي- إعداد وإشراف:رجاء حمدان



لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجو شو... الرابط التالي : 


تلخيص رواية 
في سردابي: ديستويفسكي 

إعداد وإشراف:رجاء حمدان









 


 أنا مريض, أنا رجل حقير ليس بي ما يجذب , أعتقد أني مكبود ولكني لا أفهم شيئاً ما عن علتي , ولا أعرف على التحديد أين موضع آلآمي , ثم إني لا اهتم بهذا المرض ولا أداويه. منذ زمن طويل اعيش عمري هذا الذي أحياه منذ عشرين سنة , أنا الآن في سن الأربعين , كنت موظفاً ولست اليوم بموظف , كنت إذا جاء المراجعون من طاولتي يريدون أمراً أصرف بأسناني, فإذا قدرت ان اهين اي احد منهم شعرت بفرح ليس عليه من مزيد و اعتبرت ذلك نجاحاً لي, كل ذلك كان في أيام الشباب . 

أنا لم اقدر أن أكون شيئاً ما حتى ولا أن أكون خبيثاً ولا طيباً ولا بطلاً ولا شريراً ولا نذلاً ولا دودة ولا شريفاً , وأنا الآن أنهي في هذا الحجر عمري , ولي غذاء في عزاء لا يجدي هو أن اعرف علم اليقين أن الذكي لا ينجح ولا يكون شيئاً يذكر و ان السخيف بحق هو الذي يصل الى ما يرغب به . إنْ تسألوني من أنا ؟ سيكون جوابي أني أعمل في إحدى المؤسسات وأني سعيت وطلبت هذا العمل لأن من واجبي أن أجد شيئاً آكله , نعم كان ذلك مطلبي الوحيد , وعندما ملكت المال وورثت من أحد أقربائي البعيدين ستة آلاف رويل قدّمت استقالتي على الفور وقبعت في زاويتي الصغيرة . 

أحب يا سادتي أن اقول لكم لماذا لم يكن في مقدوري أن اكون حشرة لأني ويا للأسف لم أكن جديراً بها , أقسم لكم يا سادتي أن الفهم الكبير للأمور والأشياء مرض أيما مرض, إنه مرض كبير وأن الفهم الطبيعي هو ما يكفي لسد حاجات الإنسان أو يزيد عن حاجاته , أنا مقتنع قناعة كبيرة أنّ ليس سمو الإدراك والفهم وحده مرضاً بل كل إدراك مهما كان صغيرا هو مرض , أؤكد لكم ذلك. أقول في ذاتي : لن تقدر الى نهاية عمرك أن تكون رجلاً آخراً, وأنت لو ملكت من الايمان و الزمان ما يكفي لتبدلك لم ترغب أنت بذاتك في هذا التغيير, ولو أنك اردت هذا التغيير لم تكن قادراً على فعله فنحن في الواقع لا نستطيع أن نغير شيئاً في طبيعتنا , ثم إني أنانيٌ أحب ذاتي حبا كبيرا , وأنا مثل الأحدب أو مثل القزم سريع النزق سيىء الظن ومع ذلك فلي ساعات لو أني ضربت فيها ضربة لشعرت أني بهذه الصفعة باني فرح مسرور , وأنا جاد فيما أقول : لو جرى ذلك لوجدت فيه عنصراً من عناصر السعادة , إنها رائحة البؤس , أوَ ليس في اليأس أروع ألوان السعادة وأقواها ولا سيما حين تحس بحالك الذي أنت فيه ثم تحس أن ليس لك مخرج من هذا الوضع ولا خلاص, إنك حين تتلقى الضربة يجتاحك احساسك بالهاوية التي ترْدين فيها . أنا المجرم المسؤول عن كل شيء , مجرم لأني أكثر فطنة وذكاءاً من كل من هم حولي, أما لماذا لا أقرر ان انتقم لنفسي والإنتقام ممن اذلني ؟ كيف تتم هذه المواضيع عندما يتعلق الثأر بمخلوقات تعلم كيف تنتقم أو تعرف كيف تدافع عن نفسها على العموم ؟ إنها حين تستبدّ بها الحاجة إلى الانتقام لا تجد في كيانها مكاناً لشعور غير هذا الشعور , وعند ذلك ينقض السيد قدماً نحو طموحه كأنه ثور ثائر هبط قرناه , وهؤلاء السادة اقصد الرجال العمليين أصحاب العقول الكبيرة يتخلون عن أهدافهم أمام الثار .

 الرياضيات هي إثنان في إثنين أربعة , ففكّر إن رغبت أن تُنكر ولسوف يصرخون كل إنكار لا معنى له , نعم إثنان في إثنين أربعة وما تهتم الطبيعة بعد ذلك بقبولك ولا تهتم برغباتك ولا تبالي برفضك ولا تريد أن تعرف إن كانت تلك القوانين متوافقة معك ام غير متوافقة , فأنت مضطر إلى قبولها على مشكلاتها وإلى أن تقبل معها كل ما يندرج تحتها من نتائج . تقدر أن تفهم كل شيء وأن تعلم كل أمر وكل جدار حجري وكل مستحيل, وتستطيع كذلك أن تنكر كل مستحيل وكل عائق من حجر إن كنت تمقت أن تحني رأسك لها ذليلا . إنك حين تحس أنك دون شك غير مسؤول عن شيء البتة إنك حين ذاك تقدر ان تخضع خضوعا شهوانياً إلى السكون الابدي , وإلى العدمية مقتنعاً أنك لن تقدر في نهاية الأمر أن تبغض مخلوقاً كائناً من كان , وعندئذ تبقى النتيجة كما هي وعلى ما كانت عليه , أنت لا تجد داعياً يدعوك للثورة وقد لا تجد لها مبررا أبداً لأن كل ما هنالك ليس إلا حمأ خداعاً و مسنوناً , إنك لا تدري ما تعمل ولا من تلوم ثم إن هذا لا يمنعك من أن تتوجع وتزداد ألماً على قدر ما يفوتك من سؤالك : لماذا وكيف. أوَقد بلغ لك أن تكتشف سعادة في وجع الأسنان و تبتسمون وأنتم تصيحون ؟ نعم لقد أوجعتني اسناني شهرا باكمله و وجدت في هذا الوجع سعادة , إن لذة الذي يتألم تجد تعبيرها في انينه و شكواه , وهو لو لم يشعر بلذة هذا الأنين إن لم يتوجع ولم يئن , فإحساسك يردد على مسمعيك : أنك ستبقى عبداً لأسنانك عن طريق عبوديتك لدكاترة الأسنان, وأن الوجع قد ينتهي إذا استسلمت لهوى طبيب منهم , فإذا لم يتبع الدكتور في أسنانك أهواءه بقي الوجع مستمراً . حاول ألا تستسلم وجرب أن تحتج ولسوف تلاحظ أنه لم يبق لك عزاء إلا في أن تحتمل ذنب عنادك وأن تضرب بكف يدك جدارك الحجري ولا شيء غير ذلك . أما لا زلتم يا سادتي عن الفهم عاجزين ؟ إذن فاستمعوا إليّ إذا شئتم أن تشعروا بدقائق هذه اللذة و اقسامها , فاجعلوا شعوركم نامياً مندفعاً وإحساسكم كبيرا . 

 أيستطيع رجل قادر على الاستمتاع بمهانته الشخصية أن يحترم ذاته ؟ أنتم تسألونني لماذا أقضم ذاتي قضماً ولماذا أعذب ذاتي كل هذا العذاب؟ والجواب: حاولوا يا سادتي أن تتعمقوا في ذواتكم تعمقا وعندئذ تدركون ما في قولي من صدق و حق , أنا أخلق من العدم مغامرات شتى وأصنع من يدي وجوداً كاملاً , أليس من المحتم عليّ أن أعيش على هذا الشكل ؟. الضجر ! الضجر! والملل يا سادتي متجذر في كل تصرفاتي و سلوكي وحياتي , يكاد يقتلني الجمود ويسحقني ارضا , أنا أصنع فكرتي في نفسى وهكذا يُولّد رأساً كل سببٍ أوّلي في ذاتي سبباً ثانيا أكثر أصالة وأقرب الى الصحة . هذا جوهرومكمن كل شعور وهذا أساس كل فكرة . 
تذكروا أني اكلمكم عن الثار منذ زمن كبير ولا شك أنكم لم تفهموا من كلامي اي شيء , قالوا :ينتقم الإنسان لأنه يعتبر الإنتقام عدلاً , فالسبب الأول العدالة , أما أنا فلا أبصر شيئاً من العدل في هذا العمل ولا اي نصيب من الخير , ونتيجة ذلك أني حين ابدا في الإنتقام لا أجد لانتقامي اي سبب غير خبثي وشري .. أليس ظني اني كنت فطينا عائداً إلى عجزي وأني لم أقم بعمل طوال عمري ولم أنجز اي عمل إن قمت به ؟ وما أنا إلا كثير الكلام , ثرثار كثير النقمة ولكنه مُقلم الأظفار , وما عساني أن أفعل إن كان مستقبل كل مخلوق ذكي - وإنه لمصير مؤكد - أن يثرثر ثم يثرثر, يعني أن يملأ بالتراب آفاق الفضاء؟؟!. وما عسى أن يجري لو كانت قلة عملي عائدة إلى كسلي وحده؟ يا رب لو أن ذلك حقاً لاحترمت ذاتي إحتراماً كبيرا , فأنا كسلان , لقد صرت الآن مُعرّفاً تعريفاً ظاهر الحدود واضح المعالم , لا تسخروا حقاً فأنا لا أقرر إلا الحق . هذا في اعوامي الأربعون أما قبل الأربعين فقد كان الموضوع مختلفاً إختلافاً كبيرا واضحا . 
ما أحسن أن أجد لي عملاً ملائما ولكن أخبروني هل سمعتم أن الإنسان خلال ألوف السنين الكثيرة التي مرت أنه لم يفعل غير ما تمليه عليه مصلحته الشخصية ؟ ما اعتقد ذلك أبداً, إن الناس يعلمون حق العلم منفعتهم ومصلحتهم ويعرفون أين تكمن هي ولكنهم على الرغم من ذلك فهم يهبطون بها إلى مستوى غير مستواها ثم يرمون بأيديهم إلى التهلكة, إلى الخطر والمغامرة وما من ضرورة تشجعهم إلى ذلك, ومع ذلك فهم يختارونها و يمشون فيها طائعين أحراراً في عزم و اصرار وعناد وقد راقهم وأعجبهم العناد . 

 هنا يا سادتي تكمن المسالة كل المسالة , أليس وراء المصالح الإنسانية جمعاء أمر لست اعلمه هو أكثر قيمة عند كل امرء , إن الإنسان في سبيل مصلحته يقدر ان يفعل اي شيئ مخالفاً لكل قانون ومناقضاً لكل منطق ومضحياً بشرفه ورفاهيته وأمنه , وبكل ما هو خير ونافع, كل ذلك ليحظى بمصلحته هذه التي يعدها أعظم ثمناً و أكثر جاذبية . يا للإنسان إنه لغبي كما صورته المقادير و خلقته الحوادث , بل لعله ليس غبياً بقدر ما هو عاق عقوقاً لا نجد له من ينافسه فيه, فلست أرى بعيداً ولا غريباً أن يقوم أناسي الغد بالسخرية من الناس كلهم ويستهزأوا بهم, و سيجري هذا فعلاً لسبب بسيط سهل هو أن الإنسان أياً كان يجب أن يفعل كما تشاء رغبته , لا كما يأمره دماغه ومصلحته , وإرادتي الشخصية في أوج استقلالها و حريتها هي هواي الذاتي في أقصى نوبات جنونه, رغباتي الخاصة في اقصاها الإبليسية الرعناء, تلك هي مصلحة الإنسان الكبيرة التي لا نتذكرها والتي لا نجد لها مكاناً في قوائمنا و تصنيفاتنا , والتي هي على الرغم من عدم تذكرنا لها تمزق نظرياتنا وطرائقنا كلها قطعة قطعة . إن الإنسان ليس في حاجة إلا إلى إرداة حرة مطلقة , وليكن ما يكون ثمن هذه الإرادة , ولتكن ما تكون عواقبها . 

إن الشيطان وحده يعلم ما تعني هذه الإرادة بالفعل . الحق أن العقل يا سادتي شيء عظيم خطير ولكن الذكاء ليس إلا ذكاءاً وهو لا يُرضي في الإنسان إلا نعمة التفكير فقط , أما الارادة فتمثل الحياة في اكملها كل الحياة الإنسانية , ومن هذه الحياة العقل ومنها تلك الحسابات الدقيقة الجزئية . نعم إن الحياة على هذا الشكل تبدو غالباً بشعة و كريهة ولكنها على الرغم من ذلك تبقى الحياة ولا تتمحور في استخراج جذر مربع , وقد لا توافق الرغبة العقل لو طاب لها ذلك ولكن الرغبة كثيراً ما تأبى في اصراروتصميم أن تتفاهم مع الذكاء , فقولوا لي يا سادتي ما قيمة هذه الرغبة إذا لم تكن هنالك غير رياضياتكم و جداولكم ؟ ما قيمة هذه الرغبة إذا خلا المجال لإثنين في إثنين يساوي أربعة ؟ ذلك أمر لا تتدخل فيه رغبتي فما لها وله ؟ وهذه الإرادة أين اشكالها ؟ أنا اضحك معكم يا سادة ولكن في الحياة مسائل تعذبني يا سادتي فهاتوا لي حلاً وأريحوني من هذا البؤس .
 وعلى كل حال فقد كان الإنسان خائفاً على الدوام من إثنين في إثنين يساوي أربعة, و اقول لكم أني أنا أيضاً منها خائف , نقدر أن نقول أن الإنسان كلما وصل وبلغ شيئا من طموحاته بدت عليه أمارات الإرتباك و القلق , فالجري خلف الهدف يرضيه أما الوصول الى هذا الهدف فلا , ألا إن هذا الأمر مضحك ولكنه مضحك ضحكاً مخيفاً ذا اسنان . لن ترضيني المساومات البتة ولن أقبل بغير صفر ثابت دوري , ذلك لأن قوانين الطبيعة تسلم بتواجده , ولن أرضى البتة بمنزل ضخم فيه غرف يستأجرها الفقراء طوال ألف سنة أجعله تاجاً على رؤوس ما ارغب به , ولن أرضى البتة بهذا المنزل الضخم ذي الغرف وقد تدلت منه لافتة مكتوب عليه دكتور أسنان , إن حديثنا رزين و جديٌّ وإن كنتم لا تتنازلون فتصغون إليَّ فلن أبدأ بالركض خلفكم لأسمعكم آرائي . 

إن لي سرداباً اذهب إليه وما دمت أعيش و احيا وما دامت تختلج في ذاتي الرغبات فلتجف يدي إذا حملت إلى بيتكم الضخم هذا حجراً ما مهما كان ضئيلا , وأخيراً أريد أن أقول لكم : إني على ايمان كبير من أننا نحن معاشر ذوي السراديب يجب أن نبقى على الدوام ملجمين بلجام يكمم افواهنا , نعم إننا نقدر ان نحيا في سراديبنا معزولين أربعين سنة لا ننبس ببنت شفة , ولكن حذار فنحن إذا خرجنا إلى النور وولّينا الأدبار فارّين من سراديبنا جئنا معنا بسيل ضخم من الكلام , وها نحن هؤلاء نتكلم و نتكلم ثم نتكلم . والخلاصة يا سادتي إن من الخير لنا ألا نشتعل , الجمود ا احسن لنا من كل شيء , إذن فليعيش ويبقى السرداب . 

ستندهشون حين احدثكم من غير نفاق إنني أؤمن بجزء قليل فقط من كل هذا الكلام الكثير الذي دونته , أقسم لكم يا سادة أنني لا اوقت بكلمة واحدة منه , بأصغر كلمة مما دوّنت , وها أنتم تسألونني : إذن ف لماذا كتبت هذه الصفحات كلها ؟ وأنا اجيب على سؤالكم فأسألكم : إفترضوا أني حبستكم في سرداب طوال أربعين سنة و امرتكم ألا تقوموا باي شغل مهما كان , وانقضت الاعوام الأربعون ثم جئتكم أسألكم ما عمل الله بكم ؟ أيمكن أن يحيا إنسان وهو وحيد بلا عمل طوال أربعين سنة ؟ لكن قولوا لي قبل هل بلغتم من السذاجة حداً تُصدقون فيه أني سأنشر عليكم كل ما احسست به في سردابي ؟. في ذكريات كل إنسان مواضيع لا يقولها الا لمجموعة من الاصحاب القريبين , وأمورٌ لا يستطيع أن يأتمن عليها أحداً إلا ذاته , وكلما كان الإنسان شريف النفس مستقيم القصد تكالبت عليه هذه الذكريات , وهذه الذكريات تصير أكثر إشراقاً وفخامة حين تدوّن , فعندما أكتب أكون أكثر وضوحها في الحكم على ذاتي , ثم إنّ لي في الكتابة سلوى و عزاء . هنالك في حياتي ذكرى غير قريبة تعذبني ولذلك فقط كان من المحتم عليّ أن أتخلص منها . كنت في الرابعة والعشرين من عمري وكانت حياتي قلقة مضطربة , ولاحظتُ أن اصحابي يروني انسان ذو شذوذ, واليوم بان لي أني أعاني غروراً لا حدود له, وهكذا كنت اتضايق من شكلي و اعدّه مرعبا مخيفا وطالما ردّدت في ذاتي هذا الكلام : إن الأمر سيّان عندي أن يكون شكلي جميلاً أو غير جميل فالاهم عندي أن يكون شكلي نبيل الملامح يحمل معاني التعبير و الإيحاء وذكياً فطناً على الخصوص, ذكياً ذكاءاً بشكل حاد !. ورغم ما أنفقته من جهد لأحمل ذاتي على تصديق هذا الحديث فقد كنت في قرارة ذاتي مقتنع أن وجهي لا يحمل البتة هذه الملامح الكاملة العزيزة , ولعل أكبر تطور في كياني هو اعتقادي أني ربما كنت بين عاملي المكتب الإنسان الوحيد الذي يظن نفسه أنه وغد و عبد , نعم أنا عبد ووغد و اعلن هذا دون تردد , فالعبودية والدناءة حالة عادية وأصيلة فينا, وكان في حياتي اضطراب أشد خطراً, كنت البارحة اهرب من البشر هربا اما هذا اليوم فقد تقوّت علاقتي مع زملائي حتى صارت صداقة شخصية جد صميمة. 

تبادلنا الزيارات والأنخاب وشربنا الفودكا وضحك كلنا على ذقون كلنا الاخر وتحدثنا حديثاً طويلاً, وخرجت بعد تلك الليلة واشتبكت في شجار عنيف كان خصمي فيه ضابطاً وخرجت مضطرباً مرتبكاً ومضيت رأساً في طريقي إلى المنزل .
 وجاء اليوم التالي فتابعت حوادث عهري السيئة دون اطمئنان وفي شيء من الحزن. فهروبي من الضابط لم يكن خوفاً ولكن غروراً وكبرياءاً لا حد لهما , فلدي من الشجاعة الجسمية ما يكفيني ولكن الشجاعة الأخلاقية لا تكفيني , خفت أن أرى الناس يضحكون عليّ وامتدت جذور حقدي في قلبي وإزدادت مع الأيام عمقاً و سعة على ذلك الضابط فاستقصيت انباءه , أليس من العيب أن يكون لك عدو ثم أنت لا تعرف حتى إسمه ؟ وتبعته إلى بيته وعرفت عنه كل ما يمكن أن يُعرف من بوّاب بيته , وعزمت على التحرش به و اغضابه فكتبت إليه كتاباً توسلت اليه فيه أن يمن عليّ فيقدّم إليّ تاسفه , ولمّحت في غير تردد إلى التنافس إذا رفض أن يعتذر. وتبلورتْ في راسي اراء صارت عندي شعورا مباشرا ثابتا يعذبني عذاباً مقيماً ويحمل إليَّ إهانة لا تزول على الدوام : لست إلا ذباباً في هذا العالم الكبير , ذباباً قبيحاً لا خير فيه ولا فائدة له. وقررت في تلك الليلة السيئة أن أتخلى بشكل نهائي عن ذلك المشروع المنحوس وهو منافسة الضابط ولكن هأنذا على بعد ثلاث خطوات من عدوي اللدود , و اقفلت عيني وصار بيننا صدام قوي كتفاً بكتف , لم أتراجع قيد خطوة واحدة وغدوت له نداً , ولم يلتفت إليّ وتظاهر أنه لم يرى اي احد ولكني على ايمان كبير من أنه أراد أن يخفي عن عيون البشر ما جرى معه . 

أما أنا فأصابني من الألم فوق ما الم به , لقد كان أشد مني شجاعة , ولكن ما لي أذكر ذلك ؟ المهم أني علمت مطلبي وحفظت كرامتي ولم أتراجع قيد خطوة واحدة , وأخيراً صرت نداً له أمام كل الناس , وعدت إلى منزلي وقد انتقمت من كل شيء, رجعت و انا احس بالحماسة و الفرح وأنا ظافراً منتصراً , ونُقل الضابط بعدها إلى قطعة اخرى ولم أره منذ أربعة عشر سنة . ماذا تصنع اليوم أيها الصديق العزيز؟ ومن عساك تضرب الان ؟. تأنيب الضميرأتعبني جدا وبقيت كسير القلب ثم ألِفت وجعي شيئاً فشيئاً , ونسيت ذلك الضابط ولم يعد يخطر في ذهني في اي حال من الاحوال . كان كل ما في حياتي لا يخلو من عمق ومعنى كبير , أأقبل دعارة مسطحة عادية , دعارة صادقة خالية مما يستحق أن يكتب في الكتب . يا إلهي كم من حب تصورته في أحلامي خلال شطحاتي في عالم العظمة و الجمال , وإنه لحب جموح خيالي ليس فيه عنصر من عناصر الجسد, ثم إنه كثير كثرة لا احس فيها بالحاجة إلى تحقيق هذا الحب تحقيقاً واقعيا . وستقولون لي : أحلامك هذه التي تعلنها عالياً فيها دناءة و حماقة , وأنا أسائلكم : لماذا هذه الأحلام تكون دنيئة ؟ اتعتقدون أني أخجل منها ؟ وهل تظنون يا سادتي أن أحلامي أكثر غباوة و حماقة من الحوادث التي صُنعت منها حياتكم ؟.

 لم تمتد أحلامي في ي هذه الفترة سوى ثلاثة شهور ثم احسست بارادة كبيرة لا سبيل الى ردعها تدعوني إلى الغرق في هذا العالم و الانغماس في مشكلات البشر . وانحصرت هذه الرغبة في زيارة مسؤول مكتبنا أنطون انطونوفيتش سيتوشكين . ولقد كان هذا الرجل طوال عمري هو العلاقة الوحيدة التي تربطني بالبشر وما تزال الى الآن هذه العلاقة تثير دهشتي . ولم أقم بزيارته إلا بعد أن احييت لذّاتي الداخلية و احسست بحاجة قتّالة إلى أن أعانق من هم مثلي من الناس , فكان ينبغي أن أجد إنساناً حقيقياً واحداً من دم و لحم . وكانت لي علاقة غير طيبة بصاحب قديم من المدرسة اسمه سيمونوف , وخطر في بالي زيارته ذات يوم من أيام الخميس و ها انا اليوم اطرق بابه , إني لم الاقيه منذ عام تقريباً ! كان عند سيمونوف زميلين من زملائي القدماء . 

وبدا لي أنهم يبحثون في موضوع غريب , ولم يهتم أحد بدخولي ولم يرحب بي اي شخص , كان كلامهم فيه جدٌّ ولعله كان حماسياً شائقاً , إنهم يرغبون في أن يقيموا حفلة عشاء على شرف زميل لهم اسمه إيفرنوف, وهو ضابط في الجيش . وكان إيفرنوف زميلي هو الاخر , كان ولداً طيباً نشيطاً ولكني بدأت امقته عندما انتقلنا إلى الصفوف الكبيرة لأنه كان كثير اللطف و كثير المرح , ولقد كان كسولاً لا يجتهد بدراسته ولكن كسله لم يحول دون نجاحه في المدرسة نجاحاً كبيرا لأنه ذو صلات وعلاقات. إذاً فزملائي يرغبون في أن يقيموا حفلة وداع له عشية انتقاله من هنا , إنهم ما يزالون يعتبرون أنفسهم أدنى منزلة وأقل اعتبارا , فهم ليسوا له بأنداد ولا مثلاء له , فدخلتُ في كلامهم وقلت لهم : أنا مصمم على الإشتراك في تكريمه واتفقنا. والحّت عليّ الأحلام تلك الليلة اصرارا وكانت مزعجة مخيفة وكيف لا تكون كذلك ؟ تذكرت حياتي المدرسية والتى كانت سلسلة كبيرة من صور حقيقية لحبس كبير ليس من سبيل إلى الخلاص منها , وحين أنهيت دراستي كانت في ذاتي غاية واحدة طاغية وهي أن اهرب منها هروبا , وأن أقطع اية علاقة بهذا الماضي الحقير وأن أغرقه بالماء , أن أطمره بالرماد و التراب , فماذا جرى لي اليوم ؟ ماليَ أركض خلف سيمونوف ؟؟ كلا لن اهرب ولن أنهزم , إني أحس بهوى عاصف يريد مني أن أبرهن لهذه الحثالة الذليلة من الناس أني لست ذلك النذل الصغير الذي اتخيل ذاتي فيه , سوف أغلبهم كلهم وأسحرهم كلهم و اجبرهم على حبي اجبارا , آآآآه ربِّ اجعل هذا اليوم قصيراً !. 

 علمت منذ الصباح أني سوف أكون أول من يصل إلى الفندق و خجلت جدا أني قمت بسؤال الناس كلهم لاعلم موعد حفلة أشترك فيها داعياً لا ضيفاً, وأخيراً جاء اصحابي وكانت فرحتي فرحة غريق أنقذه المساعد من موت محتم , ونسيت في هذه الفرحة ذلي وهواني , وكان إيفرنوف أول من دخل الى القاعة دخول ضابط حملة عسكرية وقال لي وهو يجر كلماته جراً : صدمتني رغبتك في مشاركة هذه الليلة فنحن لا نلتقي بك البتة وأنت الذيعلى الدوام تتجنبنا, وأنت في ابتعادك عنا وتجنبنا مخطيء فلسنا مرعبين إلى هذا الحد الذي تتخيله , وعلى كل حال أنا فرح وسعيد جدا بتجديد علاقتنا . ثم أخذوا مقاعدهم وأخذت مقعدي على المنضدة المدورة وقال لي أحد الاصحاب : أما تزال في الوزارة ؟ كم راتبك ؟ حينها قلت : اجل في المستشارية , معاشي ؟ هل هو تحري مفتوح, ثم اشتعل الحوار بيننا و صحت : نستطيع أن نتكلم في قضايا أكثر ذكاءاً . 
ثم غيروا مجرى الحديث و صاروا يتبادلون اطراف الحديث وجعلت أفكر في ذاتي وأقول : يا رب أصحيح هذا المجتمع الحقير مجتمعي ؟, يا لهم من سخفاء أغبياء , أيعتقدون أنهم شرّفوني حين جعلوا لي مكاناً على طاولتهم تلك ؟ ألا يعلمون بأني أنا الذي شرّفتهم وأنا بينهم ؟. أغرقت وجعي في أصناف الخمور وسرعان ما المّت بي السعادة وسقطتْ نظرتي القلقة الوقحة عليهم , فعلمت أنهم نسوني نسياناً اكيدا , وجدتهم يصرخون و يلعبون , أجهدت نفسي كيلا أرى منهم اي واحد و كي احسسهم أني بهم غير مكترث ومهتم وأنا أبتسم لهم و اتضايق منهم , إنها أشد لحظات حياتي نذالة وقسوة وسخرية . يستحيل أن يحتقر إنسان ذاته كما احتقرت ذاتي , وأن يهينها كما أهينها , إنهم يعيشون و يتعاملون كأني لست في القاعة البتة , كأنني اختفيت عن عيونهم , جمعوا أنفسهم وخرجوا من القاعة فصحت : هناك .. هناك سوف يخرون مقابلي رُكعاً وسجداً , سوف يقبِّلون ارجلي ويستجدون صداقتي !!, ولحقت بهم . قفزت الدرج وقرعت الباب برجلي و يدي سوية و احسست بالم في ساقي وعند ركبتي على الخصوص , وفُتح الباب بطريقة سريعة : إذن فقد كنا على موعد , لقد قال لهم سيمونوف أن هنالك زبون ثاني وطلب منهم إتخاذ بعض الإحتياطات , وكان هذا المنزل مخزناً من المخازن المعروفة والتي اقفلتها الشرطة منذ زمن كبير جدا , كان في رائعة النهار مخزناً بالفعل ولكنه إذا جاء الليل إنقلب إلى ماخور , و تستطيع ان تمضي فيه فترة المساء إذا طاب لك ذلك. 

دخلت القاعة ونظرت جانبي , أنه ليس بإمكاني أن أتبين ما يجري على بعد خطوتين مني , و علّيت بصري مرتفعا إلى المرأة التي دخلت, هذا وجه فيه شباب وفيه صفرة وفيه نضارة , وهذان الحاجبان فاحمان واضحان , وهذه نظراتٌ تمتزج فيها الجد و الدهشة , ما أحلى هذا الوجه لقد رضيت به على الفور , ولو أنه ابتسم لي لمقته فوراً . وأجهدت نفسي في النظر إليه وأنا لا اقدر ان ارتب ما في راسي من افكار , إنه وجه يوحي بالبراءة و اللطف ثم إنه في الوقت ذاته ذو رزانة وحصافة . 
كانت ثيابها غير ذي كلفة ولم تكن فاتنة الجمال رغم أنها طويلة القوام وقوية البنية منسجمة القوام , وشعرت بغصة في قلبي وتقطّعٍ في صدري واقتربت منها ونظرت إلى المرآة من غير قصد فراعني أن أرى شكلي , سيان عندي قبح شكلي وحسنه , بل أنا بقبحه سعيد, يفرحني أن أبدو لهذه الفتاة مقيتا بل ويلذ ذلـك لي . من خلف الحائط دقت الساعة دقات غريبة لكأنها حشرجة امرئ على وشك الوفاة , لملمت شتاتي نفسي , على أني لم ارقد فقد كنت في غيبوبة. والليل يكاد يخيم على الحجرة الضيقة . 
وتمالكت ذاتي وتذكرت على الفور ودون عناء كل ما حدث لي . طوال غيبوبتي أني شاهدت نقطة ثابتة تدور حولها ايامي , أما حين رجعت إلى الحقيقة فقد بدا لي كل ما حدث لي منذ ساعات وكأنه صار منذ زمن سحيق بعيد جدا , في زمن تبخر و مضى فكأنه لم يكن له اي تواجد . 

وفجأة رأيت عينان تنظران الي في فضول و عناد , ونظراتهما باردة غير مهتمة وقاتمة غريبة , شد ما ضايقتني هذه النظرات. ولمعتْ في ذهني فكرة سوداء أن امشي فأقبع في سردابٍ خانق بارد , وإذن فلماذا تمتحنّني هاتان العينان هذا الاختبار الغريب العجيب الشاذ . انقضت ساعتان إثنتان وهذا المخلوق الذي يحيا بقربي لم أقل له اي كلمة ولم يقل لي اي كلمة , بل لم أر ما يدعو إلى مبادلته الحديث , لقد كان الصمت مهما لي . ونظرتُ إليها ونظرتْ إلي أمداً كبيرا , لم تُخفض عينيها , سألتها على حين غرة : ما إسمك ؟ قالت في لهجة غير لطيفة : ليزا, فسألتها : أأنت منذ عهد قديم هنا ؟ فقالت : منذ أسبوعين, وصوتها يتقطع و يرتجف , الله يعلم غضبي و ارتباكي يزدادان لحظة بعد اخرى . وبعد حديث لي مع ليزا قلت لها : الشر اجمعه في عدم التفكير, عودي إلى سواء السبيل قبل اي يفت الاوان وأرى أن الأوان لم يفت بعد الى الان , أنت ما زلت صبية جميلة و تقدرين أن تحبي وتتزوجي وتعيشي بهناء , قاطعتني : ولكن المتزوجات لسن جميعاً هنيئات , فقلت : هذا صحيح ولكن الزواج مهما كان خير لك من أن تحييّ هنا , خير لك إلى حد لا تجوز فيه المضاهاة بين الحياتين, قد يحيا الانسان دون سعادة إذا كان يحب , بل إن الحياة رائعة حتى حين نتألم , ما أجمل الحياة كيف كانت هناك أما هنا فلا شيء غير التعفن و التفسخ , لا تنكري وجودي في هذا الموقع فلست قدوة لك ولعلي أن أكون شراً منك , لقد كنت ثملا ثم إن الرجل ليس للمرأة قدوة أبداً ولا له بها صلة , هأنذا أصبح قذراً وسخاً ولكني لست عبداً , أدخل متى اردت وأخرج متى اردت فكأني لم أكن , أما أنت فأمَة مستعبدة تقودها الاغلال وتتحكم في عنقها سلاسل العبودية , لقد بعتِ روحك للشيطان بيعاً دنيئا , الناس يشربون الكحول ليُغرقوا فيها همومهم و الامهم , وآلامي هي التي رمت بي إلى هذا المكان. أرأيت ؟ وهل لاقيت في هذا المكان خيراً ؟ ما اعتقد ذلك أبداً , لقد اتصل جسمها .. منذ حين .. لم اعلمك من قبل ولم تعلمينني , ولم أقل لك كلمة واحدة , ولم نكد ننتهي حتى رحت تتطلعين إلي كما تتطلعين إلى وحش و تختبرين أمري . وعندئذ تطلعت إليك , أهكذا يكون الحب ؟ ابدا . 

لم يكن أمرنا كله غير سماجة مُنكرة .. قاطعتني قائلة: نعم. ولقد صدمتني نعم هذه ترسلها برقة عن غير قصد. إذن فهذه المرأة قدرت ان تحس بما احسست به , وأن تفكر فيما فكرت فيه, إذن فهي أهلٌ للتفكير, يا للغرابة. وكدت أفرك يدي سعادة . إذن فمن الممكن أن ننقذ هذه الروح الشابة و ندلّها على طريق الخير والجمال ؟ فسألتها : لم دخلت هذا البيت ؟ أما كان بيت والدك لك ! فقالت : لقد كنت فيه أكثر بؤسا . تلك فكرة جاءت في رأسي , لعمري أن هذه الفتاة يعنيني شانها ويشغلني مصيرها , لقد كانت روحي ضعيفة سقيمة تتقبل شاكرة ولادة مثل هذا الإهتمام الحديث , فقلت : اظن أنهم أهانوك وجنوا عليك , لست اعلم شيئاً عن حياتك ولكنْ صبية تماثلك لا يمكن أن تدخل هذا البيت مختارة طائعة . اسمعي إليّ يا ليزا ارغب في أن أحدثك عن ذاتي , لو كان لي عائلة وأنا طفل لم صرت هكذا وأنا رجل. إنك ما تزالين تعيشين بين أسرتك و أهلك وتحت سقف منزلك , أما أنا فلم أجد لي عائلة ابدا ولذلك فقد صرت غير ذي احساس . لو كنت أباً وكان لي بنات و بنون لأحببت الفتيات أكثر مما أحب الصبيان , لست اعلم يا ليزا أنا اعلم أباً قاسي القلب ومع ذلك فهو يركع كل يوم تحت قدمي إبنته, إنها ترقص في مرقص وهو يجلس في انتظارها خمس ساعات كاملة منتصبا في موضعه لا يتحرك و لا يريم , إنه بها مجنون وأنا اعلم جنونه .. الآباء يحبون الفتيات أكثر مما تحبهن والداتهم ويخيل لي أني لو كانت لي بنت فلن أزوّجها البتة , أقسم لك أني سأكون حسوداً غيوراً ولكني قبل أن أهبها لرجل اخر سأغربل الشباب غربلة وأنخلهم نخلاً, حتى الاقي من يحبها حباً حقيقيا فأزوجها . اتعلمين أي شخص هو أثقل الناس ظلاً على الأب و اكثرهم تعرضاً لكراهيته ومقته : ألا إنه ذلك الشخص الذي يحبه ابنه . 
فقالت فجأة : ومن الآباء من يحبوا بيع بناتهم, إنهم يرمون بهن في حجرات شرف. فقلت: نعم, نعم يا ليزا ولكن الإنسان يذكر بؤسه وينسى سعادته, وحظه من السعادة كبير جدا , لو كانت لك عائلة يبارك لك الله فيها ويجعل زوجك رائعا . وما أحلى هذا الجو الرائع , وما أحلى هذا الدفء الاسري . 

تزوجي يا ليزا تزوجي تعلمي هذا كله, وتأملي قليلاً في الأشهر الأولى من عمرك مع من تحبين: يا لهذه السعادة الكبيرة إنها لكثيرة, كثيرة جداً . قولي لي يا ليزا : ألا تحسين أنك في هذا المحل حزينة حزناً كبيرا ؟, أتقولين : لا ؟ إذن فهذا برهان جديد يثبت مدى ما في العادة من تأثير وقوة. هل تعلمين أني رغم هذا كله , و في الدقيقة التي رجعت فيها الى ذاتي بعد أن فعلت ما فعلت ورجعت إلى عقلي , صعُب علي أن أراني معك في هذه الحجرة ؟ ذلك أن الرجل لا يمكن أن يسقط في فجور هذا المنزل إلا إذا كان ثملاً سكراناً . أتعلمين لو أني أبصرتك في غير هذا المنزل لانتظرتك على الباب وجثيت على قدماي ورأيت في أحلامي أنك خطيبتي , وكان من دواعي فخري أن الاقيك , أما أنت فتمكثين هنا تبيعين روحك, روحك التي يجب أن تكون خالصة لله, إنك تعطين حبك لأول سكير يطلب هذا الحب, الحب الذي هو عند البنت اغلى ما تملكه الذي هو كنز الفتاة الغالي وثروتها الوحيدة . اتعتقدين أن عشيقك يحبك , كيف يقدر أن يحبك وهو يعرف حق المعرفة أنك ستكونين بين دقيقة ودقيقة في أحضان انسان ثاني , إنه يسخر منك. إن الفتاة الطاهرة لا تأكل كسرة الخبز من أيدي الناس إذا هي عرفت ما يدعوهم إلى إطعامها, والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها. فلا يغرنك صباك ولا يخدعنك جمالك وذلك إن حماك الله الوقوع فريسة الأمراض, هذه الأمراض اللعينة الخطيرة .

 آه يا ليزا أية سعادة تجدينها إذا توفيت في زاوية من زوايا ذلك القبو المظلم صبية مسلولة . لن يدعو لك واحد من الناس بمغفرة الله و رحمته , ولن يتنهد أحد إذا جئت على باله, المهم أن يتخلصوا منك ويدفنونك على وجه السرعة .
 هكذا تدفقت في كلامي تدفق السيل لا أضبط أعصابي و لا أتمالك نفسي . كنت أعرف أن حديثي ثقيل الوقع على السمع مفرط في القسوة , ولقد أصابت سهامي منها ما رغبت في ان تصيبه وهاهي تغمس وجهها في الوسادة غمساً وهي تنشج نشيجاً يمزق قلبها , ودموعها تحرقها , فقلت لها : ليزا سامحيني يا صديقتي , هذا عنواني تعالي لنتلاقى , وقالت : نعم سأزورك. وقبل أن اذهب مدت إليّ يدها برقعة من الورق, وفتحت الورقة و تلوتها : هناك طالب في كلية الطب يكتب إليها معلناً لها عشقه في كلمات خالية من النفاق , ولكنها مفعمة بالإحترام و التقدير . 

وانتهيتُ من تلاوة كتاب ليزا وليزا تنظر إلي نظرة حارة ثابتة فيها فضول. وذكرتْ لي في كلمات سريعة ملئية بالسرور أنها كانت ذات مرة في حفلة راقصة أقامتها عائلة محترمة لا تعلم من الأمر شيئاً- إنها هنا منذ أمد غير بعيد تريد أن ترى فقط وستخرج في الحال عند وفاء دينها- و قابلت الطالب في تلك الحفلة ثم تلاقيا و تعرفا على بعضهم البعض , وهذا الطالب لا يعلم شيئاً عن *هذا*, ولقد ارسل لها رسالة صباح تلك الحفلة الراقصة (منذ ثلاثة أيام) عن طريق صاحبة وهذا كل شيء. ثم غضت ليزا بصرها . 

إن هذه الطفلة الشقية الصغيرة هرعت تبحث عن ثروتها الثمينة كي لا أغادر سريرها دون أن اعلم أنها هي أيضاً موضع حب طاهر و شريف , وأنها هي أيضاً يكتب إليها الناس في إجلال و احترام . فهذه الرسالة كبرياؤها ومبرر حياتها , لقد تذكرتها في تلك الدقيقة لتسمو في عيني فلم أقل لها اي شيء , صافحتها وذهبت وأسرعت في الهروب . إستيقظت صباحاً ولكن الذي يعنيني والمسألة المهمة التي تشغلني هي أن أعمل على الفور على استرجاع ما فقدته من سمعتي وما اهدرت من كرامتي في عيون سيمونوف مهما كان الثمن غالياً. أما ليزا فقد انستني اياها أعمالي منذ الصباح نسياناً كليا . كتبت إلى سيمونوف كتاباً مثاليا قلت له إني أنا وحدي المسؤول عما جرى , قدمت له تاسفي , وألححت على أمر واقعي هو أني رجل لم أتعود على شرب النبيذ وبالتالي أنقذت ذاتي وخرجت من تلك الحادثة. 

 وهاأنذا ألقي حوادث البارحة في زوايا النسيان , ولكن ما بال ليزا لا تفارق راسي في هذه اللحظات , ويخيل لي أن ليزا بمفردها المسؤولة عن كل اوجاعي , كنت حين اتخيل أن ليزا يمكن أن تزورني أتعذب عذاباً كبيرا , الحق إني أكره أن ترى كيف احيا , فبالأمس كنت مقابلها بطلاً والآن .. لقد احسست مرات عديدة برغبة جارفة ترغمني على ان اذهب الى ليزا وأن أقص عليها كل شيء وأطلب إليها ألا تاتي اليّ ابدا . 

كان مستحيلاً عليّ أن أسكن حجرة مفروشة فبيتي يمثل عالمي الحبيب الصغير , قوقعتي, صدفتي. هأنذا اذهب إليه فأبتعد عن العالم باكمله وكأني لست فيه, وأبولون (مالك الحجرة) عندي جزء من هذا البيت ولذلك استبقيته فيه سبع سنوات باكملهن .. لم أسمع باب الردهة وهو يُفتح في بطء ولكني سمعت اقدام أبولون تقترب قائلاً : شخص يسأل عنك ثم ابتعد ودخلت ليزا, ولم يريد ان يرجع الى حجرته فقلت له : أخرج ! و لاقيتي مقابل ليزا منسحق الفؤاد في وضع مخز, وخيل إلي أني اضحك , فقلت لها في آلية : إجلسي. وأكملت اصيح : لقد فاجأتني في وضع غريب , لا تعتقدي أني أستحي من انني معدم الحال , فليس الفقر عاراً بل لعلي أراه كرامة . أنا فقير ولكني ذو ولكني ذو احترام . أتحتقريني يا ليزا ؟, ونظرتُ إليها وأنا ارتعش , وكنت أنقم على ذاتي ثم أكملت : لماذا اتيتي أجيبي, لقد كرهتك لأني كذبت عليك ولأنك صدقت هذا الكذب, أنا أحب ان العب بالكلمات وأحب الأحلام في فكري, ولكني في الواقع لا أريد إلّا أن تذهبوا إلى جهنم جميعاً. 

أعرف أني سافل نذل كسول أناني. وأشد ما كان يضايقني أني بدوت في عينيك بطلاً من الأبطال وها أنت الآن تريني شريداً شحاذاً ألبس مبذلاً ممزقاً, قلت لكِ إني لا أستحي من انني معدم الحال , لقد كذبت أنا أستحي منه قبل كل شيء .. ولم أكد أقول لها إني حقير سافل نذل وأنا أبكي حتى تشجنت ملامح وجهها تشجناً كبيرا , وهاهي ذي تقفز من مقعدها قفزاً وتندفع اندفاعاً لا سبيل إلى صده وفتحتْ لي يديها . وأحسست قلبي يتبخر . و ركضت إليّ فضمتني إلى صدرها في عطف وانفجرتْ تبكي و تنتحب واستسلمتْ إلى بكاء كبير . كنت أخجل من ان اتطلع إليها, أف كم أكرهها وكم اشعر أني منجذب إليها, عاطفة تضاعف من عاطفة. ألا يكون ذلك ثأرا ؟ ولكنها ما زالت تاخذني إلى صدرها في حرارة وفي فرح . وانقضى ربع ساعة و بدات امشي في الحجرة عرضا و طولا حتى كدت أجن , أتطلع إلى ليزا من خلف الحاجز فالمحها جالسة على الأرض ورأسها يستند إلى الفراش وكأنها تبكي. إني لاحس أن اندفاعي الجنسي لم يكن إلا ثأرا , ولم يكن إلا إهانة جديدة لها . أنا لا أقوى على الحب , فالحب عندي معناه السيطرة و التعذيب والعاجز في الحب من لا يستبد, ولست اقدر ان اتخيل وجود نوع ثاني من الحب. وهل من العجيب في أني لمت ليزا بل ذللتها لأنها جاءت إلى منزلي تريد أن تسمع كلمات الشفقة ما دمت ذلك المخلوق الذي أفسده السرداب ولم يتعود الحياة العادية , ولكنها جاءت لتعشقني .

 نعم على الحب وحده يعتمد تغيير المراة و تنزيهها من كل نجس وتجدّدها الروحي . وفجأة قفزت ليزا و امسكت ب منديلها وقبعتها ومعطفها ثم مشت , وتمتمت وهي في طريقها إلى الباب : الى اللقاء . وأسرعتُ إليها على الفور , فأمسكتُ بيدها وفتحتها ودسست فيها شيئاً و اقفلتها وهربت. والآن أمامي تلك الورقة الزرقاء المالية ذات الروبلات الخمسة. مقابلي هذه الورقة الممزقة التي دسستها في يدها, نعم الورقة ذاتها . إذن فقد قدرت أن تتركها على المنضدة أثناء هربها من حجرتي .

 لحقت بها مسرعاً فمن المؤكد أنها لم تقطع أكثر من مائتي قدم , وسرت مائتي خطوة فلم أجد أحداً. إلى أين ذهبت ؟ ولماذا أركض خلفها ؟ أتراني ارغب في أن أركع على قدميها لأكفِّر عن ذنوبي ؟ أخبروني لماذا لا اعلم للمرة المائة ما هي رغبتي ؟ لماذا لا اعلم ما أرغب فيه ؟. وعدت إلى منزلي تخنقني تأملات فيها توتر و قلق وفيها وجع . ولم ألق ليزا بعد ذلك ولم أسمع عنها اي شيء .
 وهأنذا وبعد تلك الاعوام الطويلة لا أزال اشاهد في ذكريات هذه الحوادث ما يوجعني وما يشق على ذاتي . و لكن أما آن لي أن أنتهي من ذكرياتي الآن, بل إني لاعتقد أني أخطأت حين بدات في كتاتبها, بل إني لم أزل منذ كتبت السطر الأول منها وأنا أخجل من ذاتي . لم تكن هذه الحكاية أثراً أدبياً ولكنها تقويم لعوج و تكفيرٌ عن ذنب , وما الفائدة من تأليف روايات كبيرة أصف فيها كيف فقدت حياتي لأني مصاب بانحلال نفسي و تفسخ أخلاقي , لأن البيئة التي نشات فيها فاسدة , لأني لم أتعود الحياة لأني قتلني الغيظ و الحقد وأنا ماكث في سردابي. والمهم عندي أن تُحدث هذه الصفحات في نفوس الناس أثراً سيئاً, لأننا جميعاً عادة قد خسرنا الحياة, لأننا جميعاً نعرج عرجاً بسيطا أو غير بسيط ..


 نحن أموات بالفطرة والحق أننا منذ ازمان سحيقة لم يلدنا آباء يحبون لنا الحياة الحقيقية الحية , ونحن على ذلك قانعون وبه راضون.. كفى لست أريد أن أكتب عن سردابي شيئاً جديداً ومع ذلك, فإن رفيقنا هذا الذي يحب النقائض لم ينته هنا من ان يكتب مذكراته. ولم يقدر مقاومة رغبته في الكتابة . وها هو يمسك بقلمه ولكن يخيل إلينا الآن حقاً أن ننتهي من هذه المذكرات ....


                                                 النهاية.            
تفاعل :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق