القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية طيور الحذر:ابراهيم نصر الله - اعداد واشراف : رجاء حمدان




تلخيص رواية
طيور الحذر:ابراهيم نصر الله
اعداد واشراف : رجاء







لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجو شو... الرابط التالي
  


دفعتني يداها إلى الداخل تلك التي كانت تصْرُكُ تحت أسنانها, نظرة الرعب احتلت عيني تلك المرأة جعلتهما تبرقان كأعين الثعالب في الليل, أعين الضباع, لم أعرفها تلك المرأة لم أعرفها إنها هي ولن تصدقني أمي, دفعتني للداخل أكثر مما تتصورين, أكثر مما أتصور. إندفع أبي صاعداً للتل باحثاً عن القابلة تاركاً أمي مع تلك المرأة ولكنه عندما تأخر خِفت,  كيف لي أن أعود ثانية إلى نقطة الصفر وأنا الذي قطعت عتمة الشهور تلك لأكون ؟ ... زمن طويل مرّ قبل أن أسمع وقع خطوات أبي ولم يكن وحده, وستسألني أمي : كيف عرفت أنها خطوات أبيك ؟ فأصمت : إذا كنتِ تريدين أن نختم الحكاية من أولها فسأختمها. كانت خطوات أبي لأن ليس لدي إخوة,  فكان الرحم جميلاً ودافئاً وله رائحة غرفة غير مسكونة ثم تأكدت من هذا عندما خرجت لأن الخروج من بين عظامك كان صعباً .. أتيت إلى الدنيا قبل موعدي بشهر كان يوم الجمعة, فكرت : لماذا لا يكون هذا البيت الجميل خارج بطن الأم ؟, فترة وجودي في الرحم إعتبرتها ضائعة حيث العالم مقفل ولا يربطني بالحياة سوى خيط لحمي.  في واحد من أيام الأسبوع كانت أمي تجلس تحت شجرة التوت سمعتها ترحب بشخص قادم نحونا بخطى ناعمة مثل الغناء, قالت أمي : أهلا حنون !, وحين ردت حنون عليها كاد قلبي يطير من مكانه حيث أنه أفلت من صدري, حينها بدأتُ فصلاً من فصول شغبي التي أطرق فيها جدران الرحم دون هوادة و بدأت أمي تهمس بدورها : الله يساعدك على عريسك  شيطان مصفّى !, ولما عرفتُ أنني أنا المقصود جن جنوني وطار قلبي    ولكن حنون بعدها ابتعدت, في تلك اللحظة بكيت قهراً للمرة الأولى في حياتي ...

يوم ولادتي كنت أصرخ لست بحاجة إلى الداية إتركوني سأخرج وحدي, وكانت تدفعني للداخل وعندما اندفعت خارجاً بكيتُ فرحاً وبكِيتْ هي قهراً, حينها هرولت المرأة فوق السفح, وحاول أبي أن يعيدها وراحت تلعن الدنيا واليوم الذي جئتُ فيه, وسيمر وقت طويل قبل أن أراها ثانية . تناسيت ما مر بي أثناء ولادتي ورحت أنشغل بمراقبة ملامح الناس, وأنظر إلى النافذة وأرى قطعة زرقاء صافية, وفجأة سمعت أمي ترحب في حوش الدار بإم خليل وتضحك بفرح شديد وهي تقول : أهلاً بعروستنا , فزعٌ غريب دبّ فجأة وبدأ قلبي يخفق بجنونه القديم, حاولتُ استراق النظر أكثر من مرة لمشاهدة حنون وعندما لم أنجح بدأت أتحرك بعصبيتي المعهودة, أحسست بعدها أنها تحملني إليهما ومن بين يديها لاحت نظرة مني عبر البوابة صعقت : القطعة الزرقاء لم تزل هناك !, أحببتها بعدها, تسللتْ نظراتي إليها على استحياء وما أن اكتملت ملامحها في عيني حتى هتفت : الله .. إنها أحلى من القطعة الزرقاء .. حملتني أمي ووضعتني بين يدي حنون, لم أصدق ما يحدث للحظات, بدأتْ تناغيني بقصد دفعي للإبتسام على ما يبدو, أحسستُ أنها هبلة في حركاتها هذه وقلت : لم لا تكلمني مباشرة ؟ حينها عمّ صمت قطعته أمي : أنظري كيف يحدق في البنت ؟, تنبهتُ فحولت نظري هارباً باتجاه القطعة الزرقاء . كانت حنون في الثالثة من عمرها ربما صبية ناضجة كاملة تهبط جديلتها الحمراء من خلف عنقها باتجاه صدرها, حاولت الوصول إلى جديلتها ولكن دون جدوى فقد ردتها عندما أوشكت أن ألمسها .
رياح صغيرة ناعمة هبّت وغسلت روح الصغير فبدا أكثر فرحاً بالحياة   وإقبالا عليها من أي إنسان في ذلك السفح. إنتشر البشر في بيوت متباعدة وزرعوا دواليهم وهم يدركون أن إقامتهم هنا لن تطول, يتجولون وخضرتهم معهم, لم تكن الأشجار التي يحبونها فأشجارهم الفلسطينية عاجزة عن أن تنمو في هذه السفوح, فزرعوها وهم على يقين أنهم سيتركونها هنا ذكرى لأيام قاسية عاشوها بعيداً عن وطنهم , ينظر الصغير إلى ما حوله ويبتهج ... سماء صافية .. شمس كبيرة ودجاجة لا تكف عن نقر البيت, تراب أرضيته وجدرانه طينية .



ثم جاء إعصار الحرب ... جارفاً كل ما في طريقه من أعشاب وأزهار برية, جارفاً الخبيزة والحمصيص والزعتر المتناثر وريحان الأحواض فزعاً, كان الصغير بين يدي أمه من المشهد والأصوات التي لا يفهمها,    وكانت أم خليل وحنون هناك, حنون المتعلقة بثوب أمها تشد عليه وأكثر من دمعة جافة بعينها ... من سيكون القتيل ؟, أصوات الإنفجارات كانت تصلهم تهز المغاور شاهدة على أيام سوداء لا تنسى, فأيام الهجرة تطول   والعمر ينتهي فجأة هكذا كلحظة الإنفجار  ينتشر ويدوي !, أي بيت ذلك الذي ستنعق الغربان فيه اليوم ؟, فجأة جاء الرجال إلى بيت أم خليل التي وجدت نفسها تبكي وتبكي معها عائشة ويبكي الصغير وتبكي حنون, قالت أم خليل هاذية : يعيدونك في كيس ودمك يقطر منه !. تقدم الرجال من أم خليل الحامل في شهرها السادس يقولون : البقية في حياتك حينها صرخت أم خليل فهذا رجلها الثاني الذي تتزوجه ويموت , أسندنها النساء وكان الكيس على باب الغرفة يبحث عمن يسنده, يبحث عمن يجرؤ ثانية على حمله بعد أن اتضحت الكارثة وسقى الدم حوض النعناع . ضمت حنون الصغير وناما على نحيب أم خليل فطار الصغير حاملاً حنون بين يديه, طار وفجأة سَدت عليهما الطريق تلك المرأة, وفي لحظة واحده عرفها تلك التي كانت تدفعه إلى داخل الرحم, إرتبك وتعثر وصرخ فحملته أمه وحملت حنون النائمة التي ستمضي أولى ليلاتها عندهم .
الكثير من رجال الجبل كانوا يعملون هناك في الكسارات يحطمون الصخور يفجرونها ببارودهم , أشغال شاقة يرزحون تحت ساعاتها الطويلة بصبر القهر ذاك الذي يعتصرهم منذ اقتلاعهم من جذورهم, وتذريهم في الهواء المر شظايا شقاء وبحث لا يهدأ عن لقمة عيش مهما كان لونها, وراح أبو خليل ضحية عمله, وما أن واروا الميت التراب حتى انحنى (الزوبعة) وقام بتلبيس القبر, تهامس الرجال حول القبر كانوا يعرفون أن أحداً لن يتقدم لأم خليل في هذا الزمن فكانت مسأله تلبيس القبر تعني أمراً واحداً فقط , أن من يلبس القبر يطلب زوجة الميت من أهلها ولم يكن لهم إلا أن يوافقوا .
إندفع رأس أم خليل إلى الوراء مرتعبة, كانت صرختها وانفجر شيء ما هنالك من بين فخذيها, حدقت في الكتلة المدماة التي تشبه أباها وكان ولداً.
لم تعد مريم الشقراء ذات الجديلتين الذهبيتين تظهر في أي مكان, ظلت هناك بجديلتيها, لم تعتن بشيء مثلما كانت تعتني بهما, ظل البيت حولها يضيق وهي تحشر نفسها في زوايا نفسها, حتى الصغير الذي تعلق قلبها به لم تكن تراه إلا إذا زارتهم عائشة أختها , ظلت مريم نفسها المدللة المحبوبة الرافضة دوماً لكل من يتقدم لخطبتها من أجل الضابط الذي تحبه, بينما غيّبت مريم كل ما تعرفه عن جيش الإنقاذ الذي انسحب قبل بدء القتال, كانت مريم تقرأ رسائله على الدوام بينما عائشة تعلّق : الناس عندنا لا تحب هكذا ولا يلزمها كل هذا الحكي إذا كانت صادقة .
وقف محدقاً في الطائر كما لو أنه يراه للمرة الأولى ملوناً وجميلاً, وجاءت راكضة وأحس بها, أشار إليها أن تتوقف وأن تخفض صوتها ولم تنتبه, أمسك بحجر وقذفه باتجاهها وأصاب إحدى رجليها وخرجت تبكي, ذهب إليها ليراضيها ولكنها بدأت تلعن كل ما حولها, كانت هذه واحدة من عاداتها الغريبة ولكنها لم تقل مرة : يلعنك, وعندما عاد للبيت سمع أمه تقول : سترحل حنون فاعتقد أنه السبب. طويلة مرت اللحظات وترامت الأيام بين يوم غيابها وذلك اليوم الذي تجرأ الصغير أن يسأل أمه لماذا, فقالت أمه : ذهبوا لمخيم الوحدات (على أطراف مخيمهم) أخذوا وِحدة , بعدها ضبطت عائشةُ الصغير وهو يحلم بصوت عالٍ : بدّي حنون !, وفي الصباح وجد قرب مخدته باقة من أزهار الحنون فقال : هذا ليس حنوني !, قالت عائشة : و لكن هذا الحنون الذي نعرفه من أيام فلسطين, ولكن عائشة فرحت بصغيرها من كل قلبها كما لو أن حديقتين تفتحتا على طرفي فمها .
مخنوقاً بين قمة الجبل التي يصل إليها في ثلاثين خطوة وحَوش البيت كان الصغير هنالك ينادي وكل ما حوله يضيق . توقف المطر و بدأ فصلٌ جديد من الماء, ولم يكن علي (أبو الصغير) يقول شيئاً وهو يرى جنون الماء ويدرك أن أحداً لا يستطيع قطع الشارع للوصول إلى عمله. أمام السيل تتراكض البيوت ويمتد الذراع المائي الهائل مختطفاً البيوت التي كانت تعتقد بأنها آمنة لكن الهدير يبتلعها ويعلو على كل الأصوات,  وتنفرط البيوت ويتراكض الناس باحثين عن الغرقى وما تناثر من أوانيهم وأثاثهم في أطراف الوادي ولكن صرختْ عائشة : أين الصغير؟؟؟. على أحد الطرق الترابية شاهدتْ عمة علي الولدَ الصغير وأخذته لأمه وأخذت تصيح : تريدين أن تُضيِّعي الولد ؟, ألا يكفي أنك غير قادرة على إنجاب أخ له ؟, فبكت عائشة ورد الصغير : لا أريد أخاً, فأمسكت العمة بطرف قميصه وهزته ثم أخذه عمه عيسى وابتعد, وهناك كان يمكنه أن يجلس صامتاً ويكرهها أكثر. تذكر الصغير هل كانت تلك هي المرة الأولى التي يراها فيها ؟ لا, فارتد للوراء ملتجأ لإمه وألقى بنفسه في حضنها, الآن عرف تماماً لماذا لم يحب تلك المخلوقة (عمة أبيه وابنتها الصفراء) إنها هي , هي التي كانت تريد أن تبقيه في الداخل والتي شدت رأسه ودفعته, قال لإمه كل ذلك لكنها لم تصدقه .



كانت أم ثريا عمة أب الصغير تقول لعائشة وهي حامل بالصغير .. هل تعتقدين أنك حامل ؟, خَوْفي أنك منفوخة لا أكثر ؟, أما هي فكانت سمينة وقصيرة ولا تفتح فمها إلا لتلعن الدنيا وحظ إبن أخيها علي الذي ابتُلي بزوجة سمراء, وتنفث في وجه عائشة : إن شاء الله يكون بطنك منفوخاً   ونزوجه ثريا ! .. إرتعدت أم ثريا حين قال الصغير : أنت كذابة, أنا أعرف أنك كنت تريدين أن أموت وكنت تدفعينني للداخل حتى أكون نفاخاً, حينها قالت : من قال لك هذا الكلام ؟ فقال : أنا الذي رأيت , أنا لست أهبل !.
بعد مدة تزوجت ثريا من عيسى ولكنها كانت تريد أن تتزوج من علي,   وبعد أن دخل الشتاء التهبت لوزتا ثريا ولم تكن قد استسلمت لنصيبها في الزواج, حينها صعَدت عائشة الجبل لتبحث عن امرأة تدلك لوزتيها, وحملت صغيرها وخرجت فلم تكن تطمئن عليه في حضور ثريا , ثريا التي ما أن تراه حتى تصرخ في وجهه : أنت , أنت السبب !.
مخيم الوحدات .. الشتاء الأول لا يُنسى كأنه شتاء العالم الأول في المخيم, والشتاء يتقدم ويتطاول بين البيوت صقيعاً ينتشر دخوله, عودة قاسية يطبّق الطين على الأحذية , طين بقبضات خفية عملاقة يقبض على الأرجل يُعريها, وقلة كانوا أولئك الذين يمتلكون الجزمات البلاستيكية التي تصل للركب, وفجأة أشرقت الشمس وترامت السماء صافية وخرجت النساء لنشر الأغطية والملابس التي تسلل إليها الماء من السقوف والشبابيك الخشنة الصغيرة, وأشار الفتى إليه ثانية ورآه بوضوح رأى وجهه, كانت عيناه تلمعان كسكين أمه فركض الفتى أمامه حيث كانت أمه كانت مشغولة بإخته, ونزل إلى البركة رافعاً أطراف الجاكيت الرجالي الطويل الذي يرتديه وبدأ الفتى بتحريك رجليه.
حين هبطوا التلال قاطعين البراري وعلى أكتافهم عبء أيام قادمة مالحة,  ودقائق معجونة برمل خشن تتفتت بصعوبة تحت أسنانهم وهم يحاولون قطع الزمن بالكلام, رأتْهم من بعيد وعرفتْ أن حظها - رغم سواد الأيام التي تعيشها- الآن يفلق الحجر, قالوا لها : إنه علي ! ففرحت عائشة. وفرحت مريم الشقراء لكن قلبها أوجعها طلقة طائشة مرت منه وتساءلت : هل يكون قتل ؟, وقالت لعائشة : ربما قتل في المعارك, لم يكن هناك شيء يمكن أن يؤخره سوى أن يكون استشهد, وبكت مريم الشقراء       وتفقدت رسائله التي كانت هناك في عبّها, الرسائل الموقوتة الأخطر من القنابل لو أنها اكتُشفت, قولك تعترف مريم لإختها عائشة أنه مسّها , لو اعترفت لأغمي على عائشة ربما .
فوق مدرعته الترابية, بيد على رشاشها وأخرى تلوح لسكان القرية مر حين لم ير من كل تلك الجموع سواها, حين لم تر سواه, حين حملت تنكة الماء مع بقية النساء والبنات وصعدت التل باتجاههم , مريم التي ظلت تخاف على شعرها , وحين رأته عرفت أنه هو لا غيره ذاك الذي حلمت به. إلتقت العيون واندفع باتجاهها دون خلق الله من البنات وأنزل التنكة  عن رأسها وهناك لمح خيوطاً من الماء تنساب على عنقها : حورية, هكذا همس سلمان لنفسه وهو الذي لم ير بحراً في حياته !.



لم يعد بمقدور الصغير أن يرى أباه فقبل الفجر ينحدر مع السيول إلى المدينة ويعود وقد نام الجميع, وفي ليلة سمع الصغير أمه تقول لأبيه : أم خليل بتسلم عليك ! حينها قفز الصغير من تحت لحافه قائلاً : شفتيها ؟ أين ؟ فقالت عائشة : في المخيم , مخيم الوحدات .. وبعد يومين صاحت عائشة : ضاع الصغير, هناك شائعات عن سرقة الأطفال والإتجار بدمهم. إكتشف الصغير أن الدنيا واسعة فهناك وجوه كثيرة وأناس كثيرون وبنات صغيرات مثل حنون ولكنهن غيرها, إرتبك فدنيا بهذه الإتساع كيف يمكن العثور فيها على حنون ؟. أوشكت الشمس على الغروب حينها التف وعاد إلى بيته وكأنه يعرف الطريق من ألف عام. بعدها راحت أمه وأحضرت أم خليل وحنون فاندفع إليها وعلى الصخرة البيضاء المشرفة على مكب النفايات جلسا هناك وبقيا صامتين إلى أن جاء سمير وقال للصغير : من هذه فقال الصغير : حنون فقال له سمير : إنها حلوة !, ثم غاب سمير ورجع وبيده عصفور كان قد اصطاده وقدمه لحنون, وبعدها ذهبت حنون ولكنه تبعها, سمير تبعها عن بعد إلى أن وصلت إلى بيتها, لمحته أكثر من مرة يحاول الإختباء كلما التفتت, فَرِحة راحت تبتسم وقلبها ينبض وتصدر تنهيدة إثر تنهيدة مضاءٌ ذلك كله ببريق عينين نشوانيتين .
تفرق الصغار في أزقة المخيم , شوارع ضيقة بظلال نحيلة , أزقة طويلة تعبرها قنوات بطولها مياه آسنة بروائح كريهة ترف حولها حشرات من أشكال مختلفة. حملت عائشة صحيفتها وذهبت, إندفعت وسط المعمعة شقت طريقها بجسدها النحيل وبإحساسها أن ما لديهم من ماء في البيت لن يكفي للصباح التالي, صراع أكتاف, كلمات نابية تنطلق دون وعي بلا ورع , يد قوية امتدت وسحبت عائشة من شعرها فوجدت نفسها خارج المعركة ملقاة في بحيرة طين, لم يتلفت أحد باستثناء سائق الصهريج      وموظف وكالة الغوث, وفجأة احتضنت أم خليل عائشة بعد أن رأتها في المعركة وبكت كل منهما على الأخرى وعلى نفسها .
لم تكن هذه العصافير تغادر البرية, تأتي ويعرفها الصغير واحدة واحدة مثلما يعرف أطفال الحارة, يعرف الطائر الجديد والطائر الذي اختفى     ويعرف كيف تُقاد إلى الفخ ويعرف الصخرة المفضلة لها, يعرف زوايا السياج والمدى الذي تبلغه نظرة العصفور فوقها. أطبق الأولاد على عنقه في قاع الوادي, عرف السبب, سمير كان أكثرهم غضباً وقال : السهل ليس لك وحدك, لقد علمتها الحذر ولم يعد بإمكاننا اصطيادها, حينها اطمأن الصغير لحذر عصافير الصيد وأخذ نفساً عميقاً, أحس بارتياح شديد وقال لنفسه : الآن تغادر السهل مطمئناً على ما خلفك من طيور, كلها دخلت الإختبار الصعب وتجاوزته بعد دفع الثمن .
أصبح خليل والصغير صديقين, كانا يركضان يجتازان الشوارع والأزقة ينعطفان مثل خيول المعارك ويصعدان الجبل ويعبران السهل, مُهرين رشيقين طافا الحارة أكثر من مرة حملتهما أقدامهما إلى بيت حنون , أسرّ الصغير لصديقه أن حنون حبيبته , لم يفهم خليل أن تكون لك حبيبة دون أن تكلمها , أن تنفرد بها .. ذهب الصغير مصطحباً خليل معه إلى بائع الكتب ليشتري كتاباً, كان على غلافه صورة فتاة باكية تشبه حنون       وبالفعل اشترياه, وحين رجعا صرخ خليل : ولكْ هذي أحلى بكثير من الصورة, ما دفعناه في الكتاب كان خسارة .
قالت : سألد ! خرجت ولم يمض وقت طويل حتى ولدت وجاءت بنت, فرحت عائشة وعادت إلى البيت إلى أن طرق الباب ودخل الرجل الأبيض الطبيب وقال لعائشة : لماذا غادرت المستشفى ؟ نحن لم ننته بعد, هناك ولد آخر في بطنك !, وذهبا إلى المستشفى وعادت بطفل جديد, ورجعت للبيت ورجع الطبيب مرة أخرى وقال : لماذا غادرت المستشفى نحن لم ننته منك هناك ولد آخر !, وبالفعل ذهبت إلى المستشفى ولم تكن تتألم, كان الأمر أشبه بأن تمد يدك إلى كومة برتقال وتتناول حبة. كان الصغير بجانب أخته وأخيه وحدق في الوجه الجديد وكان أجملهم, وحين استيقظ الصغير في بيته وجد أن البيت مليء بالأخوة والأخوات وأن سهى أصبحت كبيرة .. وتم تسجيل الصغير في المدرسة بعدما أضاع سنته الأولى بانشغاله بالعصافير .



سأله مدير المدرسة عن مكان الألم فأشار إلى صدره, حيث كان الطلاب يركضون خلف الكرة وكان يسبقهم كما لو يريد إخراج عصفور من الفخ,  ولكنه تعثر فسقطوا كلهم, صف كامل من التلاميذ إنهار عليه ! , قال المدير : ربما انكسر واحد من أضلاع القفص الصدري, حينها بكى الصغير : هل لديّ قفص في الداخل ؟ ألهذا لا أستطيع أن اطير ؟, حاول المدير تهدئته, المدير الذي أحبه لحظتها فقال الصغير : أريد أن يبقى القفص مكسوراً لا أريد أن أظل هنا ويشير إلى صدره : أريد أن أخرج !. ليال طويلة قاسية مرت ولم تهدأ حركة الصغير, تفلّت من بين أضلاعه دون جدوى !, إستيقظ فوجد نفسه وحيداً, عاد لتحسس صدره ولأول مرة في حياته استطاع أن يتلمس قضبان قفصه وبكى , بكى كثيراً لأنه هناك .. في الداخل !.
عشرات الأطفال هبطوا وكانوا ينادون بكل حناجرهم وبقوة , شيء غريب أحسه الطفل, خطر ما يدفع كل هؤلاء للركض باتجاهه, وحين وصل خليل قال فزعاً وهو يرتجف : الحكومة أخذت أباك , إنهم يفتشون البيت !, ركض الصغير مسرعاً إلى البيت فوجد ثلاثة رجال نزلوا من عربتهم      وشدوا عائشة من شعرها وشدوا الصغير ودفعوا الجميع إلى الحوش ثم إلى الغرفة وطبَقوا الباب وثبتوا الباب بالمسامير, وكانت الحاره ترتجف  والخبر يطير إلى  كل أنحاء المخيم : لقد وجدوا بندقية في بيتهم . طرقت عائشة الباب ولم يتقدم أحد .. من يقدر على الحكومة ؟ ولكن جاءت تجر نفسها, عبرت من بينهم ولم يتحرك أحد حينها إنحنت والتقطت الشاكوش وفتحت الباب, بعدها جلست أم ثريا وبكت وقالت : هاتوا لي الصغير !. ركض الصغير سريعاً باتجاه السهل وصرخ صرخته الأولى والثانية      والثالثة فهناك خمسة عصافير ميتة, كانت هناك باردة في الفخاخ .
لم تتحقق أمنية أم يوسف - أم مريم وعائشة - : "اللهم لا تُمتني إلا قبله "  وتشير إلى زوجها, فلم تكن تجرؤ على تصور الدنيا دونه سيد روحها     وقلبها, كان يذرع المخيم كما يذرع غرفة ضيقة كما يذرع زنزانة, يمر بالرجال في المقهى الوحيد ويعود للبيت يقول : الغربة سجن يا أم يوسف, الغربة سجن !, بكت أم يوسف أمنيتها التي لم تتحقق وبكت حالها قبل أن ترفع أمنيتها الثانية للسماء : "اللهم لا تمتني إلا وغبار الطريق على قدمي سالكة طرق الله كلها" ولم يطل عمر الأمنية. كانت أم يوسف عائدة من عند عائشة, فرشت سجادة صلاتها وراحت تصلي, وحين أكملت صلاتها لم تنهض أبداً .
طويلة وقاسية كانت الأيام الأولى التي تلت إعتقاله, فعاشت عائشة ومريم والصغار على ما يرسله يوسف الذي انتقل إلى الخليج ليعمل, وفي كل مرة تأتي رسائله من بلد صحراوي غير ذاك التي أتت منه في مرة سابقة.
خطوات الشتاء على أبواب المخيم, خطواته فوق سطوحه وعبر شوارعه الواسعة وأزقته الطويلة الرمادية. إقترب الأستاذ خالد مربي الصف من الصغير وقال : سمعت أنك الأشطر في الصيد فقال الصغير : أصْطادها وأطيّرها لأعلّمها الحذر, لم يفهم الأستاذ ما قاله الصغير فقال الأستاذ : لماذا لا تساعدني في تعليم الأولاد ما دمت قادراً على تعليم العصافير؟, فقال الصغير : هذه مسألة أخرى فالعصافير أشطر من الأولاد , العصفور يتعلم من انطباق الفخ على رقبته من المرة الأولى أو الثانية, ولكن الأولاد لا يتعلمون بعد الضرب بالخيزران على أيديهم وأرجلهم ولا يتعلمون من الضرب على رقابهم ووجوههم .
كل محاولات خليل لنسيان صورة حنون فشلت, شيء ما تحرك فيه وظل يشده إليها, تسلل إلى طرف المخيم على رؤوس أصابعه, في الحارة وجدها تتقافز تلعب الحجلة, رأته فجاءته راكضة, إرتبك واحمر واتقدت أذناه, تغيرت حنون وكبرت وسألته عن صاحبه, لم يعرف أنه سيحمرّ وأن خبراته كلها حول الفتيات ستنهار ويتدلى لسانه بلهاً, ثم مضت مبتعدة لكنها قبل أن تختفي وقالت بصوت واضح : لا تنس تسلم !. أحس بصعوبة محاولته, الكلمات تطارده, كيف يجرؤ على حمل هذا السلام ؟. وبعدها اندفعت حنون إلى الصغير واقتربت منه وقالت : تحبني أم تحب العصافير ؟ فقال الصغير : أحبك وأحب العصافير, قالت حنون : عليك أن تختار أنا أو العصافير ؟ فقال : العصافير فانفلتت غاضبة ووصلت إلى دكان أبو خليل, إرتبك خليل وانعقد لسانه ثم قال : أريد أن أقول لكِ سراً !, وتركها في الداخل وخطا باتجاه الباب وأغلقه وأعتمت فجأة فقال : أنا من زمان بحبك, فقالت : كنت أعتقد أنك صاحبه ولا تخونه !!, وخرجت من الدكان وقالت : سلّم, وكان تبليغ السلام الثاني أصعب من الأول ولم تعد حنون للدكان ثانية .



لانه لم يغب مرة عن المدرسة أرسل الأستاذ خالد من يسأل عنه خلال الفرصة. قالت مريم لعائشة : لا أريد أن تتدخلي أنا من سيربيه, وعندما جاء قالت مريم : لن أسألك أين كنت, لن أسألك لكن اسمعني جيداً, حتى الدار من الممكن أن تغيب عنها, أن تغيب طويلاً لكن المكان الذي لن أسمح لك بأن تغيب عنه هو المدرسة, هذا من أجل أبيك أولاً ومن أجلي, نحن أناس لا نملك شيئاً الآن وقلبي يقول لي دائماً في كل هذه الغربة هناك شيء واحد يشبه بلادنا هو المدرسة, لا تغب أنت الآخر لا أريد أن أخسر البلد أكثر من مرة, إن خسرناها مرتين  خسرناها للأبد .
إلتقى خليل بحنون وقال لها : إن الصغير يحب امرأة كان قد رآها في المُؤن حينها أطلقت سؤالها : لماذا لا يكون أهبلاً إلا معي ؟, فتّشت عنه    ولم تره ولكنه رآها فاختبأ خلف امرأة كبيرة في السوق كانت تناقش البائع في سعر عدة رؤوس من الملفوف, لم تكن عيناها اللتان تبحثان كان غضبها !. عاد من السوق يجر رجليه وخلفه شمس مكسورة غاربة, رأته  فاندفعت إليه وبطحته وقبضت على عنقه وقالت : لماذا لا تكون أهبلاً إلا معي ؟ وصاحبك يريد أن يضحك عليّ ويطعمني حلاوة من الدكان ؟ !. إنتقل الصغير إلى خليل وسأله فقال : قلت لها ذلك لأجعلها تغار !, إقسم لك ! فحنون مثل أختي ..
قالت أم ثريا : ظلمتك يا عائشة, ظلمتك وأنت الأحن عليّ من إبنتي, بعدها طلبت أم ثريا من الصغير عصفوراً فذهب واصطاد لها الكثير من  العصافير, وعندما رجع إلى أم ثريا وفتحت عينيها لترى عشرات الأجنحة تطير في الغرفة فقالت : أولادي عصافير الجنة !, ثم فتح الباب وابتعدت العصافير وخلفها أم ثريا تطير مبتسمة ... سأل الصغير وكان يبكي : أكانت ستموت لو لم نحضر لها العصافير ؟.
صاعدة الطريق الترابي, صاعدة السهل وحولها عصافير الصغير تتناثر, صاعدة من الكسارات وأمامها مستشفى الإشرفية ودم الزوبعة يملؤها, بعض الرجال سبقوها وجنازة سريعة نُظمت لدفن الساق التي لم يشارك فيها صاحبها الزوبعة, فكل شيء جرى بسرعة البرق, منشارٌ كونيٌ انقض على ساقه اليسرى وتركها واقفة للحظات .. ضاقت الغرفة على الزوبعة وضاقت على أم خليل وضاقت حنون بضيق أمها, سأل الزوبعة : ماذا فعلتم بالساق ؟ فردوا : دفناها !, فقال الزوبعة: إذهبوا واكتبوا على الشاهد : عينة مستعجلة من جسد العبد الفقير إلى الله لمعاينتها من قبل ملائكة الموت والبقية تأتي ! .. أسابيع طويلة مرت لم يعد لقبه الزوبعة يظهر حتى أوشك أن يظن أن فقدان الساق ضرورة لا بد منها لكي يكسب احترام الناس, وحتى بعد أن تفضلت وكالة الغوث لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين   وتشغيلهم بتركيب ساق خشبية له, وحتى عندما عاد للشوارع ليمشي بصعوبة, وحتى عندما رآه الأطفال لم يجرؤ أحد أن يقول للآخر هذا هو الزوبعة .
عصبية غدت عائشة في غياب علي, إشتعلت توتراً من الحياة المرة التي لم تر فيها يوماً واحداً حلواً, كما أن يوسف لم يعد يرسل أي شيء منذ شهرين ولم يبق سوى حل وحيد وهو أن يعمل الصغير !. وبالفعل بدأ الصغير بالعمل في سوق الخضار المركزي, وبعد نهار طويل اندس في فراشه, ولم يشبع نوماً فصحي ودس قدميه في حذائه وأصبح جاهزاً, خرج من الخيمة وأمه على الباب, ناولته قطعة خبز وحبات زيتون راحت تذوب في الطريق, وفجأة تذكر أنه لم يخبرهم بشيء عن ذلك المشمش السحري, أحس بحزن شديد فقال : غداً أحدثهم .. ولم يأت الغد المطلوب, إنتظر حتى يوم الجمعة وحدّث الجميع , حسدوه في البداية حين تحدث عن المشمش وحسدوه أكثر وهو يتحدث عن هذا الذي يسمى أجاص, حسدوه أكثر على الدراق وتذوقوا الطعم الغائب لكل واحدة من هذه الفواكه المحرمة .
فجأة تنبهوا .. حدّقوا في الأرض التي يقفون عليها, الشوارع التي يعبرونها, الأزقة الفصول التي وزعتهم على بردها وحرها وخريفها, دبت خضرة ما في أرواحهم وبدأوا يحسون بأرجلهم ثانية .. أرجلهم التي ابتلعها الخدر .. عشرون عاماً كاملة .. فجأة تنبهوا تصريحات الرئيس عبد الناصر , أجواء الحرب التي بدأت تزحف, طارت العصافير من رأس الصغير وحلقت خالته مريم للمرة الأولى .. أوشكت أن تغادر خيمتها أن تحرقها : فرِحنا أكثر من ذلك حين أتت جيوش الإنقاذ عام 48 وأيامها على الأقل كنا نملك سلاحاً ونحن الآن لا نملكه, ثم دخلت الخيمة تتبعها عائشة وسرب من أولادها.




قال الزوبعة لحنون : هل سمعت بشيء جديد ؟ فقالت : لا لكن الدنيا قايمة قاعدة !, فيقول وهو يفك رجله الحشبية وكأن جلوسه سيطول أكثر: كنت أتمنى أن أرى النصر بعيني, عشرين عاماً نتمرغ في الوحل نلملم قطعاً صغيرة في كيس وتطير ساقي في الزمن الذي أحتاجها فيه , هل سأعود إلى فلسطين على عكاز ؟, هل ستعرفنا البلاد بعد أن كبرنا ؟ هل تعرفني إذا ما عدت إليها بلا ساق ؟.
دقت يد الباب .. دقة أليفة انتفض لها أكثر من قلبٍ في ذلك المساء المصبوغة نوافذه بالنيلي .. تقدمت عائشة وفتحت الباب .. القامة هي لكن الوجه مخطوف بظلام, تسمرت مكانها وكان علي. وكلما همت عائشة لتخفف ضوء الفانوس صاحوا أولادها بها : خليه بدنا نشوف أبونا !.
بقي الصغير صامتاً مأخوذاً بإحساس غريب يدفعه إلى كتابة شيء ما , شوق غريب إلى ورقةٍ بيضاء ولقلمٍ وصمت أكثر عمقاً لوحدة, أحس بشيء يتحرك في أعماقه, كلمات .. كلمات غامضة لها معناها الأوضح من شمس لا يعرفها الآن لكنها وحدها التي يريد قولها, كتابَتُها فتح باب جسده وإطلاقُها فتح باب الركض خلفها ,اللعب معها وإلقاءها أرضاً وشد شعرها. كتب الصغير شعراً وانتشر بحثاً عن حنون التي وجدها في فرن الزوبعة فناداها وأعطاها الرسالة, لم تسأله : هل أنت الذي كتبتها ؟ بل سألته : أنا البنت التي في القصيدة ؟ فهز رأسه كنعم, فأمسكته من يده وأدخلته إلى الحوش وقبّلته وهمستْ : طِرتُ فرحاً !, وأطارته قبلتها وطار ثانية وعاشرة حين فكر بالعلاقة الغريبة بين قصيدته وقبلة حنون والطيران  وأحس بشوق عارم للبياض !.
فُتح باب التطوع وأعلنت ذلك الحكومة, هب الناس بحثاً عن المراكز التي حددها البيان للحصول على أسلحتهم, وقالت الحكومة : الأسلحة وزعت على الأهالي فحدّق الأهالي في أيديهم فوجدوا أيديهم فقط. تساقط البشر على بوابة بيتهم الصغير كطيور السمّن, قالت أمه الحكاية التي يعرفها قبل أن تقولها : كنا نسير تلاحقنا الطائرات تلقي براميلاً تنفجر فتحرق الشجر والحجر, يتموج الشاطيء فنمشي معه ويستقيم فنمشي معه, من الشمال إلى غزة قطعناها مشياً في ال 48, كنا مهاجرين وكانت طيور السمّن مهاجرة فأكلناها وبها عشنا حتى وصلنا غزة قبل أن نذهب إلى الخليل, ولم يكن في السماء طيور هذه المرة .
تحت غبار الحرب فتشوا عن وجوه يعرفونها عن أخبار ولم يكن أحد يعرف عمن يبحث في هذا الفتات الآدمي من الشرود والإنهاك, وامتلأت المدارس عن آخرها ووصلت طلائع الجيوش إلى العاصمة .
مكتفياً بالجمل الصغيرة بينه وبين أبيه فرحاً بتنفيذ أوامره كان يمشي معه كظله, الصغير الذي أحب أن يكون هذا الأب أباه وليس سواه, الصغير الذي لم يفعل ولن يفعل ما فعلته حنون, حنون التي قالت لها بنات صفها اللواتي كن يحملن صور آبائهن : لم لا ترينا صورة أبيك ؟, حنون التي احتارت ولم تطل حيرتها حين حملت صورة جمال عبد الناصر في اليوم التالي وقالت : هذا أبي وتركتهن يتهامسن خلفها غير عابئة بأي شيء, لكنها عادت في صبيحة اليوم التالي وحين التقتهن كان كل شيء طبيعياً وعلى حاله حتى حين عدن للكلام عن صور الآباء , حتى حين قالت حنون : لا تستطيع أيٌّ منكن أن تنكر أن أبي هو الأجمل فوافقنها .
عادت البنت الفدائية للظهور وعادت حنون للقائها, وبعد قليل اكتشفت حنون أنها أصبحت في تنظيم فدائي آخر دون أن تعلم, فالبنت الفدائية تركت التنظيم الأول لكن الإجتماعات ظلت نفسها والوجوه نفسها, بينما خال حنون لعب الدور الأساس في دفع أمها للموافقة على دخولها العمل الفدائي علناً, فأصبحت تمشي في الطرقات مرتدية اللباس العسكري
 بينما تبرعت مريم بخيمتها لمعسكر الأشبال الذي انتشر محاذياً لمستشفى الاشرفية, وهناك ركضوا وحملوا الأسلحة الرشاشة وأطلقوا النار.



 وفي يوم أمسك الشرطي سعود وسحبه باتجاه المخفر لأنه يلبس بدلة الأشبال, حينها جاء أصحابه إلى مريم فاحتارت كيف تدخل امرأة إلى مخفر ؟, إرتبكت ولكنها تناولت غطاء رأسها عن كيس طحين وأكملت انتعال حذائها في الحوش والشارع, وعندما وصلت إلى المخفر صعدت إلى مكتب المدير فأمسكها الشرطي من كتفها فانزلق غطاء رأسها وانتشرت جديلتان ذهبيتان متعبتان, قال المدير : ما هذه الفوضى؟, عمّ صمت القبور فأكمل : هذا الوجه أعرفه ! قالت مريم : هذا الوجه ليس غريباً ! وفجأة صرخت : سلمان !! فقال المدير مرتبكاً : مريم !, حينها صرخ الشرطي : إحترمي نفسك وتكلمي بأدب مع أحمد بيك !!!!, قالت : أحمد بيك !! منذ عشرين سنة أبحث عنك وأنتظرك وأنت تحت رجلي هنا, منذ عشرين عاماً يا أحمد بيك !! حبستني هنا ودقت صدرها, حبستني هنا عشرين عاماً, حبستني مثلما تحبس هؤلاء الناس وأكثر, لم يكن أسمك هو الكذبة الوحيدة بل كل قدومك كان كذبة, كان علي أن أفهم ذلك من زمان .. ثم شدت سعود المذهول من يده, سعود الذي لم يكن يصدق عينيه ولا أذنيه ونزلت الدرجات الداخلية خارجة به !.
ذهبتُ إلى الفرن فلم أجدها, إلى بيتها لم أجدها, طرت فوق معسكر الزهرات لتدريب الفتيات فلم أجدها, لمحتها في الشارع قلت لها : تعالي لا تخافي وارتفعتُ واندفعتُ ثانية باتجاهها هابطاً من أعلى السماء وقلت لها : أم العصفور قالت لإبنها لا تنزل إلى الأرض ربما تتعثر وتنكسر رجلك,  وأمي قالت لي لا ترتفع هكذا لئلا تقع وتنكسر رجلك فمن أصدق ؟ أمي أم أم العصفور.
وقلت لخالتي : الريح جائعة هذا الصباح فلم تصدقني, والعصفور انفجر قبل الوصول إلى الفخ, حاولت أن أنزل أكثر من مرة ولم أستطع, إلتقطت حبتي زيتون وارتفعتُ ولم تلحقني أمي وقالت ثريا : لم لا تضعونه في قفص ؟ وكنت خائفاً !, أشار إليّ أبي أن أهبط فابتعدت وقلت : الجبان هو الذي لا يستطيع أن يطير. وكانت عصافيري تتطاير في السهل, قال الأولاد لمدرب الأشبال : هل صدّقتنا أخيراً, ألم نقل لك إنه يطير ؟ إنه يقف في الهواء, أنظروا ! وحاولوا أن يحدقوا ما استطاعوا وكانوا مرتبكين بأعينهم وبي .
قلت لحنون : تعالي نعلمُ العصافير الحذر فقالت إنها ستذهب إلى معسكر الزهرات ثم إن إسمها لم يعد حنون, لكنني رأيتها هناك في السهل وقد سبقتني بفخاخها وجديلتها الذهبية وعينيها, وكانوا في السهل يطلقون النار, ناديتها لم تسمع ولمحتها على رأس الجبل توشوش عصفوراً وتطلقه ولم تكن خائفة من الرصاص, طرت إلى حنون ولما وصلتها كانت تلم سرباً كاملاً من العصافير قتيلة وتبكي وبكيت معها . هبطتْ قذيفة في البعيد, بحثت عن عصافيري وفرحتُ ولكنني لم أستطع الخروج, وقلت : القذيفة قتلت السهل, وبقيت أبحث طويلاً إلى أن اكتشفت أني في حفرة كبيرة, وكنت أتسلقها فأنزلقُ إلى قاعها إلى أن نجحت أخيراً, فرأيت السهل وغابت الشمس وأشرقت من جديد وظلتْ تغيب وتشرق والقذائف تتساقط وكنت تعبت تعبت كثيراً .. العصافير تتعب أيضاً. ورأيتهم يتقدمون باتجاهي من بعيد, الأشبال وقائدهم أمي, خالتي مريم إخوتي أبي وسعود  الزوبعة وكانوا يبحثون, إقتربوا وكانت عصافيري معي, قالوا : انظروا إن العصافير تخرج من بطنه ستأخذه إنها تحمله . ركضوا وتعثروا في تلك المسافة القصيرة مئات المرات, وكنت أراهم يقتربون وأسمعهم أكثر   والعصافير ترتفع وترتفع وأمي تصرخ : يمّه وخالتي تصرخ : يمّه, ولم يكن نداء آمين كافياً بالنسبة لي كي أرد, وظلوا يركضون وكنت فرحاً لأن حنون تجلس عند رأسي ... فرحاً لأن القذيفة التي ألصقتني بالأرض لم تصل لعصافيري ... فرحاً لأن عصافيري كانت ترتفع وترتفع .. عصافيري وعصافير أخرى لم أكن رأيتها من قبل .. وكانت هناك رفوف سُنونو أيضاً .... فَرِحاً لأنهم حين وصلوا  لم يجدوا غير قميصي في المكان !.             



                                               النهاية.




تفاعل :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. نحن نقدم قرض عاجل هنا جميع المشاكل المتعلقة القرض هو حل بين فترة قصيرة من الزمن مع انخفاض معدل الفائدة من 3٪ والمدة أكثر من 20 عاما ما تنتظرون تطبيق الآن وحل مشكلتك أو بدء الأعمال التجارية مع دفع القرض من مختلف الفواتير فقط مراسلتنا الآن في
    jameshenryloancompany40@gmail.com
    واتساب نومبر: 2348110133466+

    ردحذف
  2. من فضلك اريد مرحبا، اسمي ليندا كارول، أنا سعيد جدا لتلقي الرهن العقاري من الجزء الأوروبي من العالم، وأنا هنا أن يوصي كل ما في حاجة إلى المساعدة المالية للاتصال السيد دانيال سيلفا لتطبيق الرهن العقاري الخاص بك.

    كنت في حاجة إلى 40،000 $ الرهن العقاري لشراء سيارة جديدة وأيضا لدفع فواتير بلدي، اتصلت به للحصول على طلب الرهن العقاري بلدي، وتلقي الرهن العقاري بنجاح.

    يرجى الاتصال السيد دانيال سيلفا عبر البريد الإلكتروني لرهنك العقاري: danielsilva59491@gmail.com

    دانيال سيلفا.

    ردحذف

إرسال تعليق