لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجو شو... الرابط التالي :
تلخيص رواية
قصة جان :باري بيترسن
اعداد واشراف :رجاء جبر حمدان
حدث ذلك في عطلة نهاية الأسبوع في صباح يوم السبت, فأخذنا نثرثر أنا وجان
حول ما ذكر في الصحف الصباحية .. بعدها تلاشت في عالم البداية المبكرة لمرض
الزهايمر .. إن أكثر ما أتذكره هو عينيها فقد لاحظت أنهما مفتوحتان على وسعهما على
غير العادة وهي تحدق إليّ وترمقني بنظرة مباشرة, ثم خلال الأيام الثلاثة بدأت تقول
لي أنها تسمع أصواتاً في شقتنا, وكانت تشكّل جملاً بكلمات صحيحة ولكنها غير مرتبة
, لم تعد تتذكر أسماء الأشخاص فأخذتْ تصفهم بمظهرهم, وعندما أخبرت الطبيب قال لي :
إنها تعاني من البداية المبكرة لمرض الزهايمر, ستمر عليها أيام جيدة وأخرى سيئة,
ثم في صباح اليوم التالي أصبحتْ جان على ما يرام وعادت لطبيعتها, ولكني اطّلعت على
المرض أكثر وعرفت أن العقاقير لا تشفي ولا تستطيع أن تمنع من تقدم المرض, سيستمر
المرض بالتقدم مهما حاولنا أن نمنعه .
جان طولها خمسة أقدام وبوصتان فقط لذا أطلقتُ عليها إسم الشقراء الصغيرة,
لا تتوقف عن الضحك وعندما قابلتها كانت قد أصبحت مراسلة للأخبار في التلفزيون, إرتفعتْ
في السلم الوظيفي بجهدها, أضفتْ روح التفاؤل على حياتنا فتقبلتْ دورها كزوجة
وكزوجة أب لابنتيّ الصغيرتين, إتسمت نظرة جان إلى الحياة بالإشراق والتفاؤل ولهذا
كانت تفضل ألوان الأحمر القانية والذهبي والزهري الناعم والدافيء .. كانت جان في
الخامسة والخمسين من عمرها عندما تم تشخيصها بمرض الزهايمر, وكان قد مضى على زواجنا عشرون عاماً .. وسرعان
ما ستفقد جان ذكريات حبنا الدافيء وسرعان ما سيصبح كل يوم في نظر جان بارداً وموحشاً, وسرعان ما أخبرت جان أصدقائها إيلين وأندريه
بالخبر.
كانت جان تقول لأصدقائها وُلد والدي في الرابع عشر من كانون الثاني ووُلد أحد أخوتي كذلك وكذلك أيضاً وُلد باري في
الرابع عشر من كانون الثاني وهذا دليل أننا مقدّران لبعضنا, وكانت تروي لهم قصة
لقائنا قائلة : دخلت ورأيت ذلك الرجل جالساً على مكتبي فقلت له: إنني أحتاج المكتب
لكتابة مقال, عندها نظر إليَّ ونزع ورقته وابتعد غاضباً, وحينها ابتدأتْ قصتنا ..
إنني أبارك اليوم الذي تزوجنا فيه أنا وجان, وعندما أنظر إلى الصور لا أصدق أن
امرأة مدهشة كهذه وافقت على الزواج بي, ولكن معجزة زواجنا حدثت بفضلها هي . عشنا
حياتنا بحلوها وبمرها وكانت جان بجانبي, لم أكن أناديها أو أبدأ حديثي معها إلا
بكلمة عزيزتي, ولطالما سُرّت لسماع هذه الكلمة مني سواء أكنت أتصل بها من مهمة
صحفية في مكان ما من العالم أو من المكتب لنثرثر حول ما أعدته للعشاء. لطالما
مازحنا والداها لأننا نغازل بعضنا على الدوام وكانا يقولان بمنتهى الثقة : سينتهي
هذا بعد انقضاء شهر العسل, ولكنه لم ينته !.
يعتقد معظم الناس أن مرض الزهايمر مرض مرتبط بكبار السن, ولكن الشباب لا
يحمي صاحبه اذ قد يباغت أشخاصاً في العقد الثاني أو الثالث حينها سيكون سريعاً وأشد
خبثاً ..
بعد مرور عام على زواجنا عرضتْ عليّ شبكة سي بي اس وظيفة كمراسل في طوكيو,
تحمستْ جان للفكرة كثيراً وكأنها كل ما تطمح له, وقررت أننا من هناك سنبدأ, حينها
أصبحتُ عاجزاً عن رفض الفكرة. كان هدف الحياة من وجهة نظرها هو أن يحاول المرء
جاهداً النظر إلى الجانب الإيجابي من كل يوم يعيشه وكل تجربة يمر بها. عملي في سي
بي اس في لندن كان أكثره أغطية للأحداث في الشرق الأوسط بما في ذلك العراق بحيث
يتطلب مني ذلك قضاء الكثير من الوقت بعيداً عن جان, وبالرغم من كره جان للحظات
الوداع إلا أنها احترمت رغبتي وقاومت خوفها وابتسمت وعانقتني وتركتني أذهب . قال
لنا أصدقاؤنا المتزوجون أننا قد نفقد بمرور السنوات تلك الشرارة والطاقة ولكن ذلك
لم يحدث لنا قط, ربما لأن عملي غيّر شكل علاقتنا وزاد متانتها, فعندما أعود من رحلة ما إعتدت أن أتصل
بها من المطار لأخبرها أنني في طريق العودة إلى البيت وإلى أحضانها مجدداً .
بدأت الأعراض تتزايد وبينما أخذت جان تتغير بقيت أنا ثابتاً كالصخرة وصامداً في عزمي ورفضي التام ان أرى أو أسمع ما
يجري أمام عيني بالرغم من وجود الأمثلة التي تثبت مرضها, حيث قالت لي إبنتي ذات
يوم إنها لم تستطع تذكر ما حدث قبل نصف ساعة, حتى كان هناك شيئاً من الأنانية في
تصرفي فقد رفضت نهاية كل شيء بنبناه من حولنا في حياتنا, لو أنني تقبلت الوضع وتمتعت
بالحكمة الكافية لغيرت مجرى حياتنا كلها, هذا هو ما يفعله الإنكار يسلبنا اللحظات
التي كان من الممكن أن نحظى بهـا. لقد أخذت جان تتغير أمام عيني وبدأت ثقة تلك المراسلة
الصحفية الناجحة النشيطة ورغبتها بالنجاح تنحسران ببطء كما ينحسر المد الهاديء في
منتصف الليل .
لطالما شكل غيابي في مهمات طويلة قد تمتد لشهر أو أكثر إحدى حقائق حياتي مع
جان, ولكن بغداد كانت أصعب مهمة حتى ذلك الوقت بالنسبة لها, أيقنتُ أنها في كل
لحظة أمضيتها في بغداد كانت تتساءل عن حالي , طيلة سبعة أسابيع عملت في هذه المهمة
في العراق وأنا أعيش على السجائر (فقد بدأت أدخن من اللحظة التي دخلت فيها ذلك
المكان) والبسكويت, ولم أتجرع أي
نوع من المشروبات إذ أنني أردت أن أحافظ على يقظتي لأنه قد يتوجب علينا أن نهرب من
الفندق في أي لحظة .
أحب أن أعتقد أنني جعلت جان تشعر بأنها محبوبة كل يوم, ولم أعبر عن هذا
بمجرد الكلام إذ لطالما عبرت لها بضمة أو عناق أو نظرة. إعتادت جان على أن تمنح
ابتسامتها لكل من يدخل عالمها وبمرور الوقت أصبحتْ خسارة جان التي نعرفها أكثر
وضوحاً .. لم تكن الكآبة شيئاً تتقبله جان مني ولا سيما في اليوم الذي بلغت فيه
الأربعين من عمري, كنت أشعر أن أفضل سنوات حياتي قد مضت فاستغرقت بالنظر إلى
المرآة والتّأوه والإختباء تحت ملاءة
السرير, لكن جان لم توافق على هذا التصرف بل وجعلتني سعيداً أكثر من ذي قبل .
لاحظت تغييراً بطيئاً ولكنه ثابت, فقد بدأت جان تفقد الإهتمام بمقابلة أناس
جدد, ولائحة أصدقائنا أصبحت تخلو من أي إسم, ثم تطورت اهتماماتنا فانعدم حماسنا
لاستكشاف الأماكن التي يجب على كل قادم جديد أن يزورها, هذا ما رفضتُ أن أراه وهو
ماثل أمام عيني, فقد كانت جان امرأة متفتحة ودودة بطبيعتها ومحبوبة من كل من حولها,
ومع ذلك لم تعارض ولم تبد أي رد فعل, بينما بدأت حياتنا الإجتماعية تتقلص وتضيـق وكانت
تزداد العزلة التي تحجزنا عن العالم بينما كان دماغها ينغلق ببطء على نفسه, وبدأت ابتسامتها
العريضة الرائعة تصبح أكثر رتابة, وبدأت تتحدث برتابة بندرة متزايدة وازدادت فترات
صمتها طولاً وعمقاً, وبدأت تركز على النشاط والمزاح بشدة محاولة بإصرار أن تتشبث
بالحاضر وبحقيقة ما يجري حولها, ولكنها
قاومت وبكل ضراوة أن تبدو طبيعية حتى لاحظ أكثر الأصدقاء ذلك وبشدة, وأبدوا
استغرابهم الشديد لتبدل شخصيتها كاملاً في فترة ليست طويلة .
بالنسبة الى رعاية مريض الزهايمر وليس هناك أي تدريب أو دليل أو خبرة
باستثناء بعض الأشخاص النادرين الذين خضعوا لتدريب طبي, أما نحن الباقين فمجرد
هواة في هذا التكليف الجديد وأشخاص عاديون مؤهلاتهم الوحيدة في الجغرافية والحب,
إذ أننا الأقرب إلى الشخص المصاب بالمرض والأحب إلى قلبه . تجلت محاولتي في إتقان
هذه المهنة الجديدة في ثلاثة فصول, أولها هو رعاية جان بنفسي, والثاني هو استئجار
موظفة لتقدم الرعاية لها في المنزل, والثالث هو نقلها إلى مصحة رعاية على الطرف
المقابل من المحيط الهاديء لمكان إقامتنا, فكاد الأول أن يكلفني عملي والثاني صحتي
والثالث عقلي !. وجدت نفسي رويداً رويداً
مسؤولاً عن اتخاذ المزيد من القرارات بعد أن كنا نتشاركها سوية, وفي نهاية المطاف
أصبحت أتخذ كل قرار يتعلق بنا كلينا بدءاً من تنظيم زيارات العائلة والأصدقاء إلى
الطبق الذي نريد تناوله .
كنا نثق ثقة كبيرة بقدرة الطب على الشفاء فقررت جان تناول أدويتها بانتظام
ولكن الأدوية كانت تفشل واحدة تلو الأخرى . إستمرت المخاوف تصطخب في رأسي, هل
ستتذكر جان أن تتناول حبوب دوائها في الصبــاح ؟, هل ستذهب لتمشي في مكان ما وتنسى
أين هي ؟, هل ستحاول أن تطبخ شيئاً ثم تأخذ قيلولة وتنسى الموقد مشتعلاً ؟, لذا
أردت أن أقوم برعايتها بنفسي لأنني أحبها, ثم بدأ الضغط يتنامى وكذلك الإرهاق
لأكتشف أن حياتي بدأت تشق طريقها نحو الدمار, فوجهت غضبي تجاه أناس لا علاقة لهم
بأسباب نوبات غضبي فإن ارتكب أحدهم خطأ أو أزعجني انفجرت في نوبة من الغضب والصراخ
. أي فائدة ترجى من أن أغضب على قدري ؟, إنني لا أستطيع أن أسأله لماذا فعل هذا
بجان التي لا تستحق هذا المصير, كيف أستطيع أن أطرد الغضب هذا الذي يتملكني كالروح
الشريرة ؟.
عندما أخبرت الناس عن تشخيص مرض جان رأيت الخوف في عيونهم من عبارة مرض
الزهايمر, إذ ثمة رعب بشري طبيعي من كل الأمراض, فقد تسلبنا بعض الأمراض شيئاً من
قدراتنا ولكن هذا المرض يسلب كل ما نملكه منذ الولادة كالعقل والذكريات والقدرة
على الكلام والحلم والتخيل .. إنني
حتى الآن ما أزال عاجزاً عن استيعاب ماهيته وسأبقى كذلك ما لم يصبني أنا . ألن يخترع شخص
ما لقاحاً أو حقنة تعيدها إلى طبيعتــها ؟, يجب أن يحدث هذا قريباً لأنني لا
أستطيع ن أتقبل حقيقة المصير الذي سنواجهه, وراح عقلي ينكر الواقع ويأمرني ألا أسمح
بوقوع هذه الكارثة .
إن جان تعوض نقص ذاكرتها بطرق عديدة, ففي أحد الأيام ذهبت للتسوق في متجر
الصداقة المحلي فكتبتْ جان بعبارة على رسغها بإسم المحل التجاري, وعندما سألتها
تلك الليلة أين ذهبت نظرت إلى رسغها ووجدت الجواب جاهزاً هناك, لاحظت أيضاً أن جان
أصبحت تنأى بنفسها عن التجارب الجديدة, فتجربة أمور جديدة قد تبدو مغامرة مرعبة لمريض
الزهايمر . يجب عليَّ الإعتراف أنني متفاجيء من السرعة التي تتلاشى فيها ذاكرة جان
قصيرة الأمد .. إن ذلك يحرمنا مشاركة التجارب اليومية ويسلبها الإستمتاع بالأشياء
الجديدة التي تشكل جزءاً من حياتنا .. إنني أخسر أكثر من مجرد صديقة لأن تلك المرأة
التي يختلسها مني المرض رويداً رويداً هي الوحيدة التي أعتبرها بيت أسراري وأستطيع
أن أفتح لها قلبي وأشاطرها كل تفصيلة من تفاصيل حياتي, أشعر أنني عالق في وضع أشبه
بفيلم سينمائي أشاهد أحداثه تتكشف أمام عيني وأنا أعرف النهاية مسبقاً, ولكن لا
سبيل إلى إرجاع الشريط لأعيد الأيام الجميلة الماضية .
كنت مدركاً تماماً لما ينتظرنا, ربما تتقدم المرحلة بسرعتها الخاصة مع كل
شخص ولكن نهاية الطريق معروفة وواضحة , طيلة حياتي ادخرت المال وخططت لتزويد
عائلتي بمستقبل مريح مالياً إلى أن نشر المرض سحابته السوداء فوق رأسي, فأصبحت
بحاجة إلى بصيصٍ من النور وبعض البهجة لتنمنحاني شيئاً من الرضا. في الوقت الحاضر
ساعدني العلاج بالتجزئة على تخدير شعوري بالخسارة وأنا أرى جان تتغير, فاستطعت أن
أركز أفكاري بدلاً من ذلك على إعادة تطبيق محركات سيارات الخمسينيات من دون أن
يتوجب على عقلي أن يدور حول نفسه ليلاً نهاراً من الحزن والغضب, لأن ما تبقى من
جان اليوم أقل من البارحة وأقل من الأسبوع الماضي, فأخذت أتظاهر بالسعادة وأشتت
ذهني, فكلما أنفقت أكثر جنيت ربحاً أكبر ولكن هذا المنطق المريض يخدع صاحبه ويحاول
أن يثبت له أن الصيف لن ينتهي أبداً وأن الشتاء لن يذهب إن هو تمنى ذلك . جان بدأت
تخسر نفسها شيئاً فشيئاً ولهذا فقد شعرتُ أنني أستحق الألم مثلها على حد سواء,
وبينما أخذت جان تنجرف إلى عالم النسيان إلى الأبد بدأ كل ما يضفي المتعة على
حياتي تصرفاً أنانياً بحيث يجب عليَّ أن أنتزعه منها, وبهذا أدركت أن كل أحلامي
تناثرت في مهب الريح .
حظينا طوال حياتنا معاً بحياة عاطفية تدفع كلاً منا لإسعاد الآخر وإرضائه
وتركه أشد شوقاً إليه من قبل, لا أعرف متى تبدل ذلك الإحساس لأن التغير تسلل إلينا
بلا صوت ولا إدراك, في بداية الأمر وجهت اللوم لنفسي وحاولت أن أتصرف بصورة ألطف
ولكن لم يفلح الأمر. لم يكن الأمر مجرد شعور بالوحدة بل عزلة مفروضة وغير مرغوب
بها, لم أتوقع قط أن أشعر بالوحدة وأنا بصحبة جان, ولكنني الآن أشعر بها حتى وأنا
بجانبها لأنني محروم من تلك الرابطة وذلك القرب ومن اللحظة التي تجعلنا نحن الإثنين
شخصاً واحداً. و ما أن بدأ المرض يتطور حتى ازدادت ثقتها بنفسها تدهوراً وأصبحت أكثر
اعتماداً عليَّ لأتخذ تقريباً كل قرار نيابة عنها حتى في أبسط الأمور, مثل أي
شطيرة تريد في المطعم, فبدأتُ شيئاً فشيئاً أفقد صفة الزوج وأتحلى بصفة الأب لطفلة
صغيرة, وبدأت الأنوثة الرائعة التي تتحلى بها تذوي شيئاً فشيئاً !.
أصبحت فجوات الذاكرة عند جان تحدث بصورة يومية, فكانت تقرأ لي خبراً في
الجريدة بصوت مرتفع ثم وبعد دقائق تقرأ لي الخبر مجدداً, في البداية وجدت الأمر
مزعجاً ولكنني اعتدت عليه بمرور الوقت فأصبح أمراً عادياً كغيره من الأمور العادية.
وبعد فترة من تشخيص مرضها بدت مُدركة لارتباكها فاعتادت أن تقول مراراً : أدرك
أنني أعاني من هذا الشيء ... في رأسي ... هل أنا على ما يرام ؟, لا أريد أن أصبح
عبئاً على أحد ,إنني أستطيع الرحيل, لم لا أرحل وحسب ؟.
كانت صديقة جان قد بعثت لي ببعض المصادر لمساعدة جان في مرضها ثم عرّفتني
على شخص كانت تعرفه في طوكيو إسمه دك وتعاني زوجته أيضا من البداية المبكرة لمرض
الزهايمر, فسارعت بالإتصال به حيث أن زوجته دوروثي قد وصلت إلى مرحلة متقدمة أكثر بكثير من تقدم جان في مرضها, فبدأت أصِفُ دك
بزميل الزهايمر وأصبحت أعتبره بمثابة منارة في ظلام دربي المتخبط بسبب تقدم دوروثي
على جان بالمرض , ساعدني دك في تخطي الأزمة الأولى التي شكلت تحذيراً ينبهني لقيام
الزهايمر بخدعٍ شريرة في دماغ جان محولاً الأشياء التي تستطيع أن تتذكرها إلى
أشياء أخرى, فمثلاً يوم الأحد في زيارتنا إلى سياتل أجرى والد جان محادثة معها
بشأن الوصية وذلك بغيابي, فنزلت جان تبكي وتقول إن والدها قد استبعدها من الوصية لأننا
نملك المال الكافي, ولكن عندما تحدثت إلى والدها اعترته الدهشة مما جرى وقال إنه
لم يقل لها إنه يستبعدها من الوصية, بل قال إنه على الأرجح سيمنح معظم المال لأحفاده
لتسديد نفقات دراستهم الجامعية, وقد اعتبر هذا مجرد حديث عفوي بينه وبين جان حول أولوياته بالنسبة لأملاكه .. طرأت
بعض التغيرات الصغيرة على تصرفات جان أحدها هو الميل لتجميع الأشياء وترتيبها دون
سبب, في البداية لم يشكل لي الأمر أهمية وليست هناك أي فائدة من سؤالها عن السبب
لأنها لم تكن تتذكر قيامها بذلك أو سبب قيامها به,ولكني تساءلت إن كان هذا يعتبر نمطاً جديداً
وسيتكرر غالباً في المستقبل.
في شهر أيلول وقعت حادثة جديدة في أثناء تواجدنا في بكين, أصيبت جان بالإرتباك
والدوار ولم تعد تقوى على الوقوف على قدميها, فذهبنا إلى العيادة الطبية وتملك
الطبيب القلق من احتمال إصابتها بالسكتة, وتم تشحيص مرضها على أنه التهاب شديد في
الجهاز البولي, وبعدها أمر الطبيب بإجراء تصوير مقطعي لدماغها للتأكد أنها غير
مصابة بالسكتة فأتت نتيجته جيدة باستثناء أنهم اكتشفوا أن الجزء الأمامي من دماغها
بدأ بالضمور !!. وفي غضون ذلك الوقت وظّفت بضع نساءٍ ليكنّ رفيقات جان ليمنحنها
الثقة وليساعدنها عندما تخرج كي لا تتوه وتضل الطريق .
أصبح من عاداتها أن تقوم بتدوين أبسط الأعمال وكانت هذه إشارة واضحة للدلاله
إلى تدهور ذاكرتها قصيرة الأمد, وكان سلوكها عبارة عن تعويض لها .
شعرت فعلاً أن أيامي طولها 36 ساعة أو أكثر, وشعرت أني بحاجة إلى فترة أستعيد
شحن طاقتي بها, وبالفعل ذهبت يومين في رحلة لعلاج عيني بينما تركت مع جان عاملتين
تتناوبان على رعايتها, ولكن المرض استغل فترة غيابي وتسلل إلى جان وانغمس بها إلى
مستوى أعمق, وشكلت رحلتي نقطة تحول والفصل الأخير في رعايتي لجان آنذاك, لذا أدركت
أني الآن لم أعد أستطيع أن أتركها وحدها حتى ليوم واحد لأنها قد تأخذ الدواء نفسه
مرتين أو أكثر في اليوم, وأصبحت المرحلة التالية من مهمتي أن أبحث عن موظفة رعاية
مناسبة لتنتقل إلى منزلنا وتساعدني في رعاية جان ..
ربما شعر المرض بالنصر وهو يسلبها مني فجعله هذا أكثر نهماً لأن يستولي على
المزيد منها بصورة أسرع وبلا رحمة. إن المرض لا يسخر فقط من الشخص الذي يسلبه عقله
ولكن من الآخرين حوله الذين يحاولون أن يصدوا هجومه !, والآن فقط لم يعد هناك صد
ولا هجوم فقد بدأ الإنسحاب !.
إنتقلنا إلى آسيا ثلاثتنا أنا وجان والممرضة الجديدة المتقاعدة ديان, فقد أدركت
عدم استطاعتي ترك جان وحدها حتى خلال عملي في المكتب. ديان كانت تتمتع بمؤهلات
مدهشة لأنها عملت لوقت طويل في مؤسسات الرعاية, كانت تتفهم حاجات المرضى بالإضافة
إلى تحليها بالصبر في التعامل معهم .
بعد فترة بدأت ديان تواجه ما اختبرته بنفسي, فقد بعثت لي مرة برسالة عبر
البريد تقول فيها : إنها تتجول في أنحاء الشقة وتحرك الأشياء من أماكنها استعداداً
وحتى يتسع المكان للزوار, وأخرجت كل شيء من حقيبتها, وعندما قلت لها إننا نعيش
وحدنا في الشقة قالت أعلم هذا ولكن هناك المزيد من الناس قادمون فقد بدأوا يصلون
الآن !, وقالت أيضاً ديان: إن ارتباكها وعنادها حيال الوقت والمكان يشكلان دليلاً
واضحاً على مدى السرعة التي يستطيع بها الزهايمر أن يؤثر على العقل .
عندما كنا نسهر معاً ليلاً إعتدنا أن نجري محادثات عن كل الأماكن التي
زارتاها كل من جان وديان طيلة اليوم, ونحظى بفرصة رؤية الصور التي التقطتاها
لبعضهما, فبدأت أتقبل هذه القاعدة الجديدة لأنها أدخلت السعادة إلى قلب جان ..
أحببت تلك اللحظات وشعرت أن مخاوفي على جان بدأت تهدأ قليلاً .. ثم حلت الكارثة
المطلقة : وحش الغضب !.
لقد ابتكرت جان طرقاً للتعامل مع نسيانها وهي : الأولى الغضب مثل إنني لا
آبه لأمر ذلك الشخص فلماذا أتذكره ؟, والثانية هي التظاهر أي تظاهر الموافقة على
كلامي في حين أنني أظنها لا تتذكر فعلاً, والثالثة هي الصمت وغالباً ما ألاحظ
لجوءها لاتباع هذه الطريقة عندما نختلط بالآخرين, وأعتقد أنها تخشى قول شيء يلفت
النظر لوضعها, ولهذا فقد أصبحت تؤثر التزام الصمت فابتكرتُ أنا بعض الإستراتيجيات
المضادة .
بعد فترة أصبحت جان لا تطيق ديان
وتصر على أنها ليست بحاجة إليها بل وأنها تعيق طريقها, فقد شكل وجود امرأة أخرى في
المنزل دليلاً جديداً لدى جان أنها تعاني من المرض وهذا ما كانت تنكر جان وجوده .
فأصبحتْ تقضي معظم وقتها في غرفتها كي لا ترى ديان, بهذا أصبحت جان تصب غضبها عليّ
من حين لآخر وتوجه لي طلبات غاضبة أن أتخلى عن ديان, ولم تعد جهودي لتهدئتها تفي
بالغرض إلا نادراً, بينما استطاعت ديان أن
تجد حلاً منطقياً لأمزجة جان المريضة وهو التمرين, فقد كانت تذهب للمشي صباحاً وأذهب
معها للتقليل من التوتر, وكانت جان ترافقنا في بعض الأحيان .
جعلني انشغالي في غمرة هذه التغييرات والمعركة الخاسرة التي خضتها لأجعل جان
تتقبل وجود مانحة الرعاية أن أنسى أن المرض يتصرف بكل خبث ومكر , لقد استطاع المرض
فعلاً أن يفسد تلك الرعاية والحب ويحولهما إلى دمار, إذاً فهو يستطيع أن
يستولي على شخصين معاً ويحتفل بينه
وبين نفسه ببراعته المميتة الذكية .. وأدركت أنني هدفه الرئيسي !.
بعدها بدأت جان تفقد ذاكرتها طويلة الأمد .. يصادف أني ووالدها وأخوها
جميعاً ولدنا في الرابع عشر من كانون الثاني, ولقد اعتبرت جان هذه المصادفة بأنها
دليلاً بأننا مقدران لبعض, ولكن في إحدى ليالي الكريسماس طلبت مني أن أروي لها قصة
تتعلق بثلاثتنا لأنها لم تعد تذكر تفاصيلها. إنني أسمع الناس يقولون إن الزواج صعب
ويجب على المرء أن يبذل جهداً للمحافظة عليه, ولكنني لم أشعر بهذا قط ولكنني أدركت
هذا الآن , إنها أصبحت شخصاً يجب عليَّ مراقبته وكأنني أتعامل مع طفلة صغيرة .
أخذت في كل شهر عطلة راحة لي مدة يومين, ولكن نهاية هذا الأسبوع حدث لي شيء
غريب, فعندما أنهيت إجازتي لم أعود إلى البيت بل ذهبت لأكمل نصاً كان مطلوباً مني
في المكتب, ولكن أكثر ما أزعجني هو أنني لم أرغب بمعاودة الدخول إلى عالم جان
وعالم المرض ووحش الغضب, ولم يتملكني أي شعور بالذنب لغيابي عن الشقة لبضع ساعات
إضافية لأنني أيقنت أن ديان تقدم الرعاية الكافية لجان, ولكنني شعرت بالذنب حيال
عدم رغبتي بالعودة, فأصابتني الصدمة لأن أجد أن من الصعوبة أن أبقى بقرب جان !!.
لقد بدأت علامات الإرهاق والتعب تظهر عليَّ وأصبحت أعاني من ازدياد الوزن
لأني أجد من الأكل متنفساً لما يحدث معي, وبدأ ضغط دمي بالإرتفاع تدريجياً وصرت أشرب
كثيراً لأني وجدت فيه نوعاً من الإشباع الذاتي, وذلك أثّر بشكل كبير على كتاباتي ونصوصي.
فتوتر مانح الرعاية للمريض مؤكد وتتراوح التاثيرات طويلة الأمد من خطيرة إلى مميتة,
إذ يقول واحد من أصل عشرة مانحي رعاية أن صحتهم ازدادت سوءاً بسبب ما يجب عليهم
فعله أو ما يجبرون أنفسهم على فعله, فقد يعانون من الإكتئاب الإعتيادي والتوتر
العاطفي وأمراض أخرى مزمنة مثل السكر والضغظ والتهاب المفاصل. حينها أخبرتني ديان :
أن جان تعاني من مرض وبسبب هذا المرض ستحتاج دائماً إلى أناس يعتنون بها ولكنك أنت
من يرعاها ولا أحد يهتم بك, إنك تتدهور شيئاً فشيئاً ولن تستطيع أن تساعد جان إن
لم تكن هنا ... لقد كنت مستعداً للتخلي عن أي شيء لأعيد جان إلى صحتها حتى ولو على
حساب صحتي وجسدي حتى أعجز عن ذلك. في الحقيقة لقد أتت النتيجة عكسية فكل الرعاية
التي منحتها لجان وكل ما تطلّبه مني
منحها لم يحدث أي فرق بالنسبه لها.
أتذكر المرة الأولى التي نسيتني فيها جان عندما كنا في الفراش وأنا أربت
على ظهرها, نهضتْ ونظرت إلى يدي اليسرى وقالت : لديك خاتم زواج, هل أنت متزوج ؟ !!.
إن الزهايمر مرض فتاك وجان تعاني من مرض فتاك, هذه الكلمات التي تجاهلتها لسنوات ومنعتُ
نفسي من قولها أو حتى التفكير بها, ولكنّ الإنكار لا يضع حداً للمرض فقد بدأ مسبقاً
بالتخطيط للفصل الأخير من حياة جان .
حان الوقت لانتقال جان إلى مصحة الرعاية, قالت لي ديان : من الأفضل أن تنفذ
الإنتقال بينما لا تزال جان قادرة على التكيف مع مكان جديد, فهذا سيساعد طاقم
الموظفين على معرفتها وتوطيد علاقتهم بها بينما لا تزال شخصيتها سليمة .. أردت أن
أنعم براحة البال وأنا أعلم أنها في مصحة جيدة وأن أعود بذاكرتي كل مرة أزورها
وأنا واثق من أنها في مكان جميل, لذلك غيّرتُ لها أجواء وأثاث المكان وبالألوان
التي تحب. أحبتْ جان المكان كثيراً ولكنها سرعان ما كرهته لأنه مليء بالمسنين, ولكني
فعلت الشيء الصحيح بنظر أصحاب الخبرة بهذا المرض وإن لم أتقنه فعلاً, ولكن هذا
الشيء أقنع البعض أني لست زوجاً مخلصاً ومحباً على الإطلاق, حيث اعتبر البعض أني
خذلت جان وارتكبت أخطاءاً كثيرة في تعاملي معها, والاسوأ من ذلك هو أنهم أصبحوا
على قناعة أنني آذيتها عن عمد عندما نقلتها إلى المصحة, واتهمني البعض الآخر أنني
تخليت عنها وهجرتها فتحولت في نظرهم إلى
رجل تنطوي أفعاله على معاني الغدر والخيانة . ولكن لِيدري الناس موقفي يجب عليهم
أن يروا ما أراه, فهم لم يخوضوا الصراع اليومي الذي بدأ يزداد صعوبة يوماً بعد يوم
بسبب غضبها وانكفائها على ذاتها ...
لقد امتد الغضب والإستهجان لينال من أعصابي النازفة الجريحة مرة تلو الأخرى,
عاودت الإتصال مع الناس الذين استشرتهم من قبل ووثقت بهم فطمأنوني أن وضع جان في
مصحة الرعاية هو بالضبط ما تحتاج إليه في تلك المرحلة, ولكن اليأس الذي قاسيته
والإتهامات التي وُجهت إلي بالتخلي عنها أو إيذائها عن عمد أضافت إلى آلامي, وزادت
من كآبتي إلى درجة أنني أصبحت أستطيع أن أشعر بها عضوياً في قلبي, فوق كل هذا وذاك
بدأت عاصفة عاطفية أخرى تتشكل في أعماقي وأخذت أتساءل : لماذا أستمر من دون جان إلى
جانبي ؟, هناك إجابة مرعبة ولكنها تغريني بهدوء, ربما أحصل على وسيلة تضع حداً
لآلامي .
عندما زرت جان في إحدى الليالي وبينما أنا في جناحها والتلفزيون يعمل
وجدتها تحدق إلي, فوجدت هذا غريباً إلى أن ساعدتني بعض الأحداث الأخرى على أن أدرك
أن هذه لحظات تحاول فيها أن تتعرف إليَّ , ساورها قلق في إحدى الليالي بعد عودتي
إلى مصحة الرعاية لأن وجود رجل غريب معها في الجناح قد يعتبر غير لائق ..!!.
مرت عليّ أسوأ ليال في حياتي حاولت فيها أن أقنع نفسي أني سأعيش وحيداً من
الآن فصاعداً ولكني لم أستطع. عانيت من اكتئاب حاد بعد خروج جان من حياتي وفكرت
بالإنتحار ولكن الإنتحار تصرف يدل على الأنانية, فموتي سيؤذي ابنتيّ وايذائهما شيء
لا يطاوعني قلبي على فعله قط .
بينما راحت الأحداث تتسارع أكثر من قدرتي على التحكم بها توقفت وفكرت ملياً
في ما يجب أن أفعله في السنوات التالية, وخطرت المرحلة النهائية ببالي إذ لا يزال
من الصعب عليّ حتى في تلك اللحظة أن أستخدم كلمة الموت ..
لم أتخيل كيف ستبدو السنوات التي بانتظاري أو أتصور الخطوات القادمة, لقد
رفضت أن أسمع ما يجري أو أراه, فكل ما استطعت أن أدركه هو رحيل جان الوشيك وعيشي
في المستقبل وحيداً في مكان يدعى ما بعد جان !. إنني لا أتمتع بأي صفة مميزة أو
أتحلى بالشجاعة الغامرة لأتخطى المصاعب وأستمر بالحياة, بالرغم من كل شيء لم أدرك
أن حياتي أصبحت موضوعة على المحك هكذا .
عندما دخلت جان إلى حياتي إنمحت كلمة الوحدة من قاموسي إلى الأبد .. والآن
أصبح للأبد تاريخ نهاية, وحان الوقت لأن أدرك أنني أستطيع أن ألعن الظلام وأقرر
أنني سأعيش هناك .. لم أعترف ولم أستطع أن أعترف أنها سترحل عني يوماً وإلى الأبد
.. هذه هي الأبدية التي عجزت عن مواجهتها.
يوماً ما قدّم لي أحد الأصدقاء نصيحة لأخرج من حالة الإكتئاب الحادة التي
أعاني منها فقال : يجب أن تتعرف على امرأة ولو بعلاقة سطحية !. ساورني شعورٌ بعدم الإرتياح
بسبب شعوري بالخيانة لمجرد التفكير بالعثور على امرأة أخرى, فجان لم ترتكب أي خطأ
كما أنها لا تتذكر أن لها زوجاً يدعى باري, ولكن مَنِ المرأة التي تستطيع أن تحل
محل جان؟, أعرف أني لن أجد بديلة أبداً .. طالما جان على قيد الحياة سيظل واجبي أن
أرعاها وإن قررتُ أن أقيم علاقة جديدة فيجب أن تشتمل علينا نحن الثلاثة أنا وجان
والمرأة الجديدة, ومن الصعب أن أطلب هذا من إحداهــن.
ذهبت إلى جان وجلسنا في جناحها الزهري الجميل, وبعد أن أنهينا العشاء جلست
على أحد الكراسي, وفي الخارج بدأت شمس شباط تميل للمغيب مضفية على الغرفة جواً
دافئاً وحميمياً, توجهت جان نحوي وانحنت إلى الأمام مركزة على عيني وقالت : لا
تنسني !. كانت ملامحها غريبة خالية من التعبير, ثم استرخت عليّ ورأسها على كتفي,
ومر بعض الوقت من دون أن نتبادل أي كلمات حينذاك كدت أن أبكي, ثم استلقينا على
السرير واحتضنتها وأنا أربت عليها وأمنحها الراحة التي لطالما عشناها معاً لأوقات
عديدة في حبنا ورغبتنا بالقرب من بعضنا .. منذ لقائنا الأول عرفنا أننا سنبقى معاً
إلى الأبد, لم يكن من المكتوب لهذا الحب أن ينتهي على الإطلاق ولكنه الآن انتهى
بهذه البساطة. سألتها قائلاً : هل تعرفين من أنت ؟ قالت : إسمي جان , فقلت : هل
تعرفين من أنا يا عزيزتي ؟, رمقتني بنظرتها اللطيفة المعهودة ولكنها لم تستطع أن
تجيب فقد غاب إسمي عن ذاكرتها !.
مع الوقت أدركت أنني لم أعد أستطيع منع نفسي من تمني حدوث فرصة ثانية للحب
خاصة بعد رسائل أم جان التي تقول لي فيها أن أبحث عن شريكة جديدة لحياتي, ولكني لم
أهرع للعثور على امرأة جديدة بل أسرعت للعثور على معالج نفسي ليساعدني في التوقف
عن هذا التفكيروهذا التمني, ولكن نصيحة
المعالج كانت : دع الذنب وراء ظهرك واتخذ القرار من أجل نفسك !, ولكني ما زلت أشعر
بأني آثم إذا أردت أن أرتبط بامرأة أحبها وتدخل السعادة إلى قلبي .
ولكني للمرة الأولى منذ تلك الليلة في شقة جان عندما لم تتذكرني توجب عليّ
أن أفكر في إخراجها من معادلة حياتي والتوقف عن العيش وحيداً, هناك كثيرون أرادوا
لي موتاً عاطفياً بطيئاً ونهائياً وحيداً كموت جان, ومع ذلك فقد خالجني شعور أن
جان لن تتقبل هذا الموقف مني, فإن تسبَّب حبي لها بلحاقي بها إلى عالم النسيان أحزنها
ذلك حزناً فوق التصور, عندها عرضتْ عليّ إحدى الصديقات مواقع للمواعدة عبر الإنترنت
وسجلتني على إحدى المواقع, وبالفعل
تواعدت مع بعض النساء في الولايات المتحدة واكتشفت أن الصور والأشخاص لا تتطابق
دائماً, وقابلت بعض النساء الأخريات في طوكيو .
بعدها تعرفت إلى امرأة شعرتُ معها أننا شريكان في الخسارة, تبادلنا أرقام
الهواتف وبدأنا نتصل ببعضنا, وبمرور الوقت ازددنا قرباً ثم توجهت لأقابلها شخصياً,
شعرت بعد المقابلة أنني حي مجدداً وتملكني إحساس بالإثارة والذنب معاً ربما بشكل
متساو, أقنعت نفسي أن هناك شيء مميز وكامن في تلك المرأة, وفي النهاية استطعت أن أقع
في الحب مجدداً معها, وهذا يعني أنني مستعد لبداية جديدة !.
من خلال العديد من المكالمات الهاتفية والرسائل مع هذه المرأة الجديدة بدأت
علاقتنا تنمو وتزدهر, لقد خالجتنا المشاعر نفسها عن الخسارة, فقد خسرتْ زوجها في
موت مفاجيء وخسرتُ أنا جان ولا أزال أخسرها بسبب مرضها الذي يجعلها تذوي شيئاً
فشيئاً, فجمعتنا هذه الجوانب كصديقين وبدأنا نشترك أيضاً باهتمامات أخرى.
مع كل زيارة لي لجان كانت تتضح لي خسارتها لأشياء مثل قدرتها على إيجاد
كلمة أو تشكيل جملة, واستبد بي الألم من رؤية تلك المرأة التي أحبها تحدق إليّ وهي
غير قادرة أن تميّزني .. إنها لا تزال تتحدث عن شخص يدعى باري فهو يشكل جزءاً من
حياتها اليومية ولا يزالان يجريان محادثات معاً, ففي أحد الأيام أتى طبيب الأسنان
لمصحة الرعاية فذهبت بسرور للقيام بالفحوصات لأن السبب كما شرحت لاحقاً : أن باري
طلب إليها أن تفعل هذا ولكنني في الواقع لم أطلب منها شيئاً مماثلاً.
إن الزهايمر يعذبُ بأسلوب خاص به لأن جسد الشخص المصاب يبدو حتى النهاية
طبيعياً بالرغم من أنه تالف, كما قد يفعل به مرض مثل السرطان أو الإيدز, إن هذا
يجعل تقبل المرض أمراً صعباً .
لقد بذلت في سبيل جان كل عناية ممكنة وربما توجب عليّ أن أفعل بعض الأشياء
بشكل أفضل ولكنني لا أستطيع أن أغيرها الآن, ومع ذلك فقد قمت بأشياء أخرى بشكل
جيد, والآن أعترف أن أصعب شيء هو الوداع, لا أعرف إن كانت ستفهمني أو توافق على ما
سأفعله ومع ذلك فسآخذ التلميح منها ومما جعلها من قبل كل شيء في حياتي .. لقد فات
الأوان لأن أمنحك قبلة أخيرة ولكني سأعيش كما علمتني وأختار الحياة وأحتفل بها حتى
لو كان المضي قدماً يعني أن أخلفك ورائي .. أيمكن أن توجد في مكان ما داخل عقلك
طريقة تعرفين بها أنني سأحبك وسأفتقدك دوماً ؟, لقد حان الوقت الآن ويجب أن يمشي
كل واحد منا في طريقه .. عزيزتي جان لقد جعلتيني من قبل أثق بالأبدية وجعلتيني أثق
في ما تقولينه دائماً .. من عزيز إلى عزيزته .. وداعاً ..
إنتقلتُ عائداً إلى الولايات المتحدة لأبدأ عقداً جديداً في العمل بشركة أخبار
سي بي اس .. أنا الآن أعيش في دنفر مع ماري نيل المرأة المميزة التي جمعتني بها
الأقدار والتي أصبحت تحبني, إنني أبدأ حياة جديدة معها ولكن حياتنا تتضمن جان أيضاً, لقد شجعتني
ماري نيل بنفسها على اتخاذ قرار زيارة جان دورياً, قد يقول البعض أن هذا يتطلب
عزيمة وإصراراً كبيرين, ولكننا نقول إنه يتطلب عائلة كبيرة تحب بعضها, والآن سنصبح
جميعاً عائلة واحدة .. من أجل جان !.
النهاية .
تعليقات
إرسال تعليق