تلخيص رواية
الهالة المقدسة - د. حنان لاشين
إعداد وإشراف - رجاء حمدان&
كانت مياه البحر تمتد كبساطٍ ناعم فتان لازوردي, هدأ البحر وهدأت معه السماء من تلك الحمرة المسمومة التي كانت تنذر بالعواصف القوية . بدا الجو هادئا لطيفا , كان قد مر وقت طويلاً جداً على ذهاب أسامة الى الإسكندرية وها هو اليوم يعانق نسيمها مرة اخرى . جلس مرتدياً بزة غامقة أضفت عليه مسحة من الوسامة و اصبحت قسمات وجهه أكثر راحة ، كان يشعر بالحنين إلى الحب والعواطف , يبدو أنه بحاجة إلى أنيس وإلى زوجة تمسح بقلبها الحاني على كل الامه , ومع أنه كان يتشرنق على نفسه ويستمتع بوحدته ولكنه اليوم يجد تغيراً في حاله , يبدو أن نفسه الطيبة تتوق للحب .
رحلته إلى الإسكندرية تمت بدون اي قرار مسبق فهو يحتاج إلى إجازة ليتخذ قراراً صعباً بعد صراع داخلي في نفسه , فهو يتمزق بين بقائه في مصر ووالدته و أخوته وحيث المستشفى الخاص الذي أنفق عليه جده كل امواله , وبين انتقاله الى الابد إلى المملكة المتحدة . فبعد إنتهاء دراسته وتخرجه من كلية الطب وحصوله على الماجيستير , كان قد حصل على منحة لينال شهادة الدكتوراة بعد أن استدعاه الدكتور جيمس في أحد الأيام , لن ينسى أسامة أبداً نظرته عندما قابله حينها , فقد رمش بعينيه نحوه بإعجاب وقال له : لقد إطلعت على مقالٍ بإسمك في المجلة العلمية ولفت نظري ان عمرك ليس بالكبير , حينها أحس أن كل من بالمكتب منتبه وينصت إليه فاستجمع قواه ونظر في عيني الدكتور وقال بكل قوة : المقال يتحدث عن إمكانية زرع أقطاب إلكترونية في دماغ شخص مصاب بشلل دماغي تحتوي على ذكريات تم جمعها من دماغ شخص ثاني ليتغلب بذلك على مرضه , ولكنى لا أدري إن كانت الذكريات ستجعله شخصاً ثانيا , ولكن لا أظن أن الذكريات تغير النفس و الروح . قال الدكتور جيمس : دعني اقول لك بصراحة عن نقطة مهمة , الكثير من الباحثين لن يقتنعوا بالفكرة و كونك مسلم و عربي ستكون تحت الملاحظة الحثية والشك , لهذا لا بد أن تشتغل مع فريق وتنصهر فيه .. أوجعته جداً كلماته تلك لفرط صدقها وعلى عكس ما تصوره بعد هذا الحوار . عرض عليه الدكتور جيمس أن ينضم لفريقه العلمي وينتقل إلى المملكة المتحدة بأجر قائم و عال جدا ولكن كان يترتب على ذلك أن ينتقل الى الابد و بشكل نهائي .
مر الوقت وهو يستعيد كل تلك الأحداث في راسه ثم قال في نفسه لم يحن الوقت للإرتباط بعد , فهناك عدة أولويات و اولها تحقيق طموحه العلمي , ولكن والدته في كل مرة تصر على ان تزوجه ريتال إبنة خاله. كانت السيدة دولت قد تعلقت باولادها ووهبت نفسها اليهم بعد وفاة زوجها ورفضت ان تتزوج فقط حتى تهتم بابنائها حسام وأسامة و مريم , وكان أسامة يفتقد أباه كثيراً .. مضت سنواتُ مراهقته وكان يحس بالوحدة لولا خطابات صديقه سليمان , كان يحس بالراحة وهو ينتظر وصول مكاتيبه ، فسليمان في تلك الفترة لم يكن لديه حاسوب فلا بديل من الخطابات البريدية , فكانت رائحة الورق وطوابع البريد أجمل أيام عمره تقريبا . نشأ أسامة وتربى في بيئة متحفظة , فكل شيئ يسير بطقوس و قوانين رتيبة ، كان دائماً يتعلل بدراسته حتي لايطلب منه احد أي واجب اجتماعى للخروج ويفضل البقاء مع مريم , وكان يتركها تثرثر و تتحدث معه في أي شيء فلم تكن لديه رغبة بالمرح مع الشباب .
على الشاطيء اقترب من أسامة رجل طويل العنق هزيلُ البدن وجلس بجانبه وقال : إسمي سعد حلمي , لا اعلم من انت و لكن اعتقد أن خطوطنا قد تقاطعت من قبل , فأنت تشبه ابني , لقد كان مهندساً قبل أن يموت ولكنه لم يمت بالمعنى الحرفي ولكنه رحل للأبد عن مصر, وبعد هجرته نسيني و كاني لست موجودا فمات بالنسبة لي وهو ما زال على قيد الحياة !!! . حينها حيّاه أسامة بحرارة وتبادلا أرقام الهواتف لعلهما يتواصلان في وقت لاحق ويخفف عنه لوعته على ولده .
كانت ليلة فيها السماء صافية جداً مما دفع القمر لأن يضيء الحجرة بضوء مائل إلى الزرقة . إنها تحس بالتعب وبأن كل عظام جسدها تغلي وتتفتت منذ مغادرته وسفره , تفتقده بشدة رغم أنه لا يعيرها أي شان , فهو دائم الحضور والتواجد في روحها , حينها بدأت تبكي و هي تقول لذاتها : لقد ابتليت بحبه ! مسحت دموعها فقد عرفت انه قد جاء من المملكة المتحدة ولكنه لم يمر حتى الآن ليرى خاله , لقد اعتقدت في لحظة ما أن هناك تقارباً بينهما , ظهر ذلك في حفل زفاف مريم حين ابتسم لها مرتين ولكنه لم يتقدم حتى الان ليخطبها ! . لم تكن من النوع الذي يحسن عرض ذاته أمام من تحبه لتدفعه حتى يهتم بها , كانت نقية وخجولة لتلك الدرجة التي جعلتها تكتم إعجابها و تعتقد أنها لا تستحقه , حيث أنها لم تسع لذلك الحب بل وجدته يكبر في قلبها منذ وقت الطفولة , فكثيراً ما كانت تسمع أمها مراراً و هي تبتهل الى الله أن يجعل أسامة من نصيبها , وكانت تتساءل لماذا هو على وجه الخصوص ! . كانت تركض بقلبها بعيداً ولكنها كلما ابتعدت خطوة اقتربت خطوات أكثر وأكثر من ذلك الحب . اقتربت والدتها منها وألقت برأسها على صدر والدتها التي كانت تعلم خبيئتها فمسدت شعرها وخففت عنها .
( والدتك هاتفتنا خمس مرات ) إخترق صوت موظف الإستقبال العالي أذن أسامة فنزل بشكل سريع حتى يتكلم مع امه , حينها التفت إلى أحد الموظفين الذي كان الحزن بادياً عليه وكأنه وشك البكاء , وحين سأله أسامة ما به هدات قسمات وجه الموظف و هبط حاجباه ثم سالت دموعه على وجهه وكأنه طفل صغير وقال : لدي مشكلة وأمر بظروف قاسية بعض الشيء , حينها عرض أسامة عليه ان يعاونه وتبادلا أرقام الهواتف على أمل مساعدته .
نام أسامة في تلك الليلة مضطرباً قلقاً بعد أن هاتف والدته وطمأنها على نفسه و وعدها بان يعود في اقرب وقت ممكن الى القاهرة , صَاحبه شعورٌ بالذنب وتأنيب الضمير لأنه كان السبب في حزنها وبكائها, وفي الصباح قرر أسامة أن يزور صاحبه سليمان ثم يرجع في قطار السادسة مساءاً إلى القاهرة , وحين وصل إلى بيت سليمان بدت له البناية كعجوز خطت السنون على وجهها , عمر طويل من التجاعيد والآخاديد العميقة المحفورة عليها لكنها لا تزال تحتفظ بمسحة من الجمال . ظهر سليمان من الشرفة وأشار بسبابته إلى مدخل البناية فركض أسامة إليه بينما هرول فكره على درج الذكريات , وبعد حديث طويل بينهما أغلق سليمان جميع الأجهزة حوله , التلفاز والحاسوب , والذي كان دائما معتادا على تشغيلهم في نفس الوقت كمن يحيط نفسه بجمع من الاصحاب كي يؤنسوا وحشته ويكسروا حواجز الصمت االتي يغرق فيها لفترات طويلة , ثم قررا ان يذهبا لتناول السمك في إحدى المطاعم ! مطعم بسيط امتزجت روائح المقالي بروائح الطماطم و السمك.. من بعيد ثمة سيارة مسرعة , التف تجاهها بشكل تلقائي ،صر أسامه على أسنانه من صوت احتكاك عجلاتها في الشارع , فوقعت عيناه على فتاة صغيرةٍ ضئيلة الحجم تحاول ان تعبر الطريق , وبلمحة عين صدمت السيارةالطفلة , وصرخت والدتها و فرت السيارة . ركض أسامة وسليمان تجاه الفتاة ليفحصها بينما كانت والدتها تتمتم باكية : ليتني ما طلبت منك الماء يا فرحة ليتني مت من العطش !. بعد برهة بدأت الفتاة بإستعادة وعيها رويداً وكانت تتألم بشدة , كان رأسها على صدر أسامة فامتلئت ثيابه بدمائها . فتحت عينيها فإذا هما زمردتان يحتضن كل منهما جفنين يرفرفان بوهن حانيين, تشبثت به فاحتضنها كأب حنون ودماؤها تنزف من راسها وبعدها أخذها لإحدى المستشفيات , و علم فيما بعد أن فرحة ذات التسع سنوات يتيمة ولا تمتلك هي و والدتها إلا الستر , تركهما أسامة على أمل ان يلتقي بهما بعد أسبوع حتى يطمئن على صحة فرحة !! .
أخبرته أنها متعبة جداً وواهنة و تحس أن الموت قريب منها . كانت تبدو في حملها وكأنها متأهبة دائماً لان ترحل قال زوجها ( أحمد ) بصوت رتيب : مريم دعينا نذهب عند امك ! ردت : لا ...أنا أحب منزلنا و احس بالراحة فيه لا بد أن نبقى لوحدنا , فكل ركن هنا شهد على لحظة حب لن ننساها أبداً أليس كذلك , رد ببرود : بلى . لو كان تمهل قليلاً ما كان ليتزوجها , سذاجة العشاق جعلته يعتقد أن الحب لا يتعرض للمشاكل , والآن هو يتعرض للمحن , ولكنها كانت ترى أن الحب وحده يغني و يكفي عن كل شيء .
دقت الساعة الخامسة عندما وصل أسامة إلى القاهرة و اصطحب معه فرحة و والدتها ليعالجها في مشفاهم الخاص بهم , وبعد أن استقروا في المستشفى ترك اسامة المستشفى على وجه السرعة , إقترب من الشارع العتيق الذي يحتضن بيت جده الذي بدا كعروس رقيقة بهية بين تلك العمارات , أسرع أسامة إلى الداخل فقد اشتاق لإمه بشكل كبير ولكنه لم يجدها , حينها أنصت إلى صوت التلفاز يأتي من بعيد فعرف أن جده في حجرة المعيشة , تبادل مع جده النظرات وبعد كلام قال أسامة : الحياة في مصر صارت بؤساً على بؤس , الشباب يدفنون أحلامهم كل يوم وأنا لدي حلم كبير , هناك سيعاملونني كبشري , أما هنا فنحن نسحق أنفسنا بايادينا , حينها انتشله صوت خطوات والدته , تلك المرأة اللماحة الرصينة شديدة الذكاء ، رمقت أسامة بنظرة كلها رجاء وتوسل أن يتراجع عن قراره , لم يتحمل أسامة ان يقف معهما لحظة أخرى ثم خرج دون أن يعرف أين وجهته . قرر الذهاب إلى المستشفى كى يطمئن على فرحة . كان المستشفى على حداثة عهده يعد من أفضل مراكز الرعاية الصحية الخاصة بالقاهرة , وكان الدكتور أمين وابنته سارة من يشرف على المستشفى حين يغيب اسامة عنها .
عندما عاد أسامة إلى المنزل وجد والدته ما زالت تنتظره مستلقية على الاريكة متدثرة بشالها الأزرق تتوسد بشعرها الذهبي المتروك تحت رأسها والذي انطفأ بريقه بالشيب . عند الساعة العاشرة في الليل كانوا جميعاً يجلسون في قاعة الطعام , الجد وهو يداعب مروان أول حفيد لهذه الاسرة وريم زوجة حسام ومريم وزوجها أحمد وأسامة . مرت الليلة جميلة وهادئة جدا وسعدوا جميعاً بانتقال مريم وأحمد الى المنزل , وقرر أسامة أن يؤجل إخبار والدته بأنه لن يخطب الآن ابنة خاله ريتال وأنه سوف يؤجل الأمر .
استيقظ أسامة مبكراً وكان خياله شارداً خلف زجاج الشباك وهو يفكر في آخر لقاء له مع ريتال فقد كانت ناعمة و هادئة كغصون تلك الأشجار التي تظهر مقابله . أنهى أسامة عمله في ذلك اليوم وكان لا بد له من زيارة خاله كمال اليوم !! . تناهى إلى سمعه صوت خطوات مسرعة خفيفة , ففتحت ريتال الباب وقد اختفت تقريباً بأكملها وراءه فحياها ثم دخل إلى حجرة الضيوف , ثم جاءه خاله واستقبله بكل ترحيب بينما كانت ريتال تنصت إلى كلامهما وهي في المطبخ شاردة , بينما كان أسامة يتساءل في راسه عن سبب اختفائها وعدم انضمامها لهذه الجلسة , وخرج دون أن يراها . ما زال متردداً في أمر خطبتها ولكنه .. سيسافر ! .
صف سيارته الفخمة أمام بناء من القرميد واللون الرمادي , دخل إلى الممر وهو يرتدي بزة غامقة بنية اللون , فكان حسام قد بدأ العمل كمحاسب في شركة مقاولات , وذاع صيته بشكل سريع جدا وحقق حسام طموحه في أن يصير أحد أشهر رجال الأعمال , وكانت لديه زوجة جميلة وطفل رائع . كانت ريم مشدودة القوام و جميلة , لديها شخصية استعراضية مبهرة تحب أن تلفت الأنظار إليها , كانت نادمة لأنها لبست الحجاب ولكنها لم تكن تتجرأ ان تبوح بذلك . في نفس الدقيقة التي خرج فيها حسام من مبنى ضخم يحمل معه إسواراً ذهبياً بديعاً لزوجته مرت مركبة سليمان المتهالكة من أمامه دون أن يلتفت أو ينتبه لذلك ، لقد وصل سليمان إلى القاهرة أخيراً و قلبه يتألم في صمت , حتى أسامة أعز اصحابه كان لا يجرؤ على مناقشة سبب ألمه معه , كان في داخله جرح مفتوح دائماً ، حزن أبدي منذ اختلف مع والده وطرده من المنزل , فقرر البقاء للأبد ببيت جدته رغم محاولات والده الحثيثة في أن يسترضيه ..إتجه إلى منزلهم القديم , فتح الباب فأصدر صريراً عالياً , شم رائحة التراب فاحس بانقباض ي صدره فقد جثم شبح الماضي على صدره , وقرر أن يذهب الى منزل أسامة .
إزدحم المنزل بالضيوف , عاونت أم فرحة السيدة دولت فقد اخذها أسامة اليوم من المستشفى حتى تنضم و تعمل في منزلهم , كانت فرحة تجلس على الأرض وتراقب بعينيها الخضراوين كل الموجودين بفضول غريب , كان الخال كمال قد أتى لزيارة شقيقته دولت , وفجأة وفي غمرة الأحاديث الندية انقطع التيار الكهربائي وانطفأت الانوار ثم ساد صمت حميمي بينهم , رفرفت أهداب الصغيرة فرحة باضطراب ودارت مقلتاها قبل أن تدرك شيئاً ما ! كانت تحس أن هناك شخص سيموت ! هذا ما شعرت به قبل وفاة والدها , التقفتها أمها بين يديها وأسرعت بها إلى المطبخ فهمست فرحة قبل أن تنام ( الموت هنا يا أمي ) . انتهت الأمسية وبقي سليمان مع أسامة و تكلما الى وقت متاخر .
في اليوم التالي ، اتصل حسام على زوجته ريم كي يخرجا معا بينما بقي ابنهما الصغير مروان مع السيدة دولت تهدهده حتى يهدئ , جاء أحمد ليرى مريم التي ما يزال تعبها يزداد يوما بعد يوم , وفورقدوم سليمان شدته فرحة لتقول له بأن الجد يريد أن يراه . كانت تلك اول مرة تدخل فيها فرحة إلى المكتب ، وجدت الكثير من القصص و الكتب فأخذت تتلفت وتحملق بعينيها باحثة على الكتب المصفوفة في الرفوف عن قصص الأطفال , فخاب املها ورجعت إلى صالة الإستقبال .
ما زالت فكرة الهجرة تطفو على أفكار أسامه من وقت لاخر . عندما عاد إلى المنزل بعد يوم طويل من العمل وجد فرحة ترسم على اوراقها ، إبتسم لها وهم بالخروج من الحجرة عندما قالت له بعفوية : كلكم تستهلكونها , إنكم تستهلكون السيدة دولت ! اندهش أسامة فأكملت : هي أول من يستيقظ , ومن يهتم بإعداد الطعام وتهاتفك لتطمئن عليك, وتعطي جدك الدواء , , وتدلك قدمي مريم , وتحمل مروان وتكوي قميص أحمد , , فأرجوك لا تصرخ بوجهها كما يفعل السيد حسام , ولا تبخل عليها بالشكر كما يفعل السيد أحمد , ولا تكن أنانياً كالسيدة ريم ولا كسولاً كالسيدة مريم, ثم عادت فرحة لدفترها , رسمت شمساً كبيرة على وشك ان تغرب , كان لقرص الشمس هالة مشعة ذهبية , لكنها ألقت بالقلم وأمسكت الممحاة ثم بدأت تمسح الهالة المحيطة بقرص الشمس وهي بائسة .
حفنة من النجوم كانت تراقب العابرين و الطرقات في هداءات الليل , مضى الليل دخل شقيقها يوسف عليها جال في الحجرة لبضع لحظات ثم اقترب وقال : ريتال ارغب في أن أخطب سارة , كان يوسف يعمل مع الدكتور أمين وسارة تعمل دكتور في المستشفى ، استغربت ريتال من ذلك فسارة أكبر بسنتين من يوسف فقالت له : يقولون إن التجاعيد تظهر على وجه المرأة قبل الرجل , لهذا ينصحون بأن تكون الزوجة أصغر عمرا من الرجل .. لم يعير كلامها يوسف أي اهتمام و أصر على سارة , وعند ما وجدته بذلك التصميم والإصراره شجعته ريتال وهنئته على حبه لسارة فطلب منها ان تذهب كي تحادث سارة بموضوعه بالمستشفى ولكن ريتال أصرت على عدم الذهاب للمشفى وان يكون اللقاء في مكان اخر بعيداً عن العمل ..عادت ريتال لحجرتها ولافكارها وهمست لنفسها , غداً سيذهبون جميعاً لزيارة بيت جدها , وغداً الجمعة سيكون أسامة هناك , ماذا ستعمل هل تغلق عينيها وكأنها لا تراه ؟؟ وإن اغلقت عينيها فكيف ستغلق قلبها ! .
كان الحي ساكنا كعادته في أيام الجمعة , أما منزل الجد فلم يكن هادئاً أبداً , اقتربت فرحة من ريتال لتشكرها على الثياب التي أعطتهم لها فقالت : شكراً لك أعجبني الثوب الأزرق إنه جميل جداً و الآن سأرسمك ! . انطلقت بعدها ريتال تحمل كاسات الشاي إلى المطبخ ، مشت بتوتر لأنها ستضطر للمرور أمام أسامة وهى في طريقها إلى المطبخ ولشدة إرتباكها إلتوت قدمها ووقعت على الارض و انهالت الاكواب من يديها وانتشر الزجاج في كل مكان . أسرع أسامة على الفور وأمسك بيدها وبدأ بتقطيبها بينما كانت تتالم و تبكي من وجعها, في هذه اللحظه اتصل عليه توفيق موظف الإستقبال و قال له بأن عليه ديون طائلة ولايعرف كيف سيسدد تلك التى عليه ... أخبر أسامة والدته بأنه مضطر للذهاب الآن و طلب منها أن تخطب له ريتال . أن يُغرم بك شخص فذلك رائع , أما أن تكون على ايمان كبير أنه مغرم بك فذاك أروع ! . ذهب أسامه إلى توفيق حتى يعطيه المبلغ ليفك بها ضائقته . على الطريق كان أسامة يقود مركبته وهي تشق طريقها ضد تيار الهواء ويفكر في ريتال وعذوبة تلك الدقيقة التي التقت فيها عيناهما سوية , اختلج قلبه في صدره , وفجأة ظهرت أمامه من حيث لايدري سيارة مقبلة بالإتجاه المعاكس , تحاشى السيارة المقبلة فاصطدم بسيارة ثانية ثم لفت سيارته في الهواء . شعر بألم شديد , ابتلعه الظلام , و احس أنه يسقط في مكان عميق ! .
ثقل في جسده وكأن أكياساً متروسة بالرمال مربوطة في أطرافه الأربعة , يتملكه احساس غريب أنه يسمع صوت بكاء وأصوات قادمة من مكان بعيد جدا , يبدو أنه في المستشفى شعر بوخز أصابعهم في كامل جسمه . بعد لحظات فتح عينيه والتفت حوله ليرى ذاته في مكان عجيب , غرفة خاليه جدرانها ساكنة , بدأ يشعر بيديه و رجليه رفع يده ليتأكد من أنه سليم هل مات ؟ لم يتوقع أنه سيموت في هذه اللحظة ؟ لم يفعل شيئا بعد لم يعش كفاية ليحقق طموحاته ولم يتزوج الفتاة التي يحبها و ينجب أولاد ،ولم يبر والدته كما يجب , إنبثق وميض أبيض من قلبه حيث كان يضع يده . كان المكان هناك هادئاً لكنه بارد جداً صدر صوت قوي :عد إليه عد إلى الله !! سرت في جسده قشعريرة ، رأى كوخاً مقابله فاقترب منه فرأى فرحة داخل هذا الكوخ اقترب منها، رفعت له بالاوراق التى ترسم عليها وقالت : أنظر لقد عرفت السر ! حدق في رسمتها فأضاءت الحلقة المرسومة بداخلها ظلاً لشيء ما , شيء يماثل منزل جده ,أكملت فرحة : إنها الهالة المقدسة ثم تغيرت ملامح وجهها وتبعثرت الهالة المضيئة و صرخت فرحة : لا بد أن تعود وخرجت من الكوخ ...
بدأ أسامة يستعيد وعيه شيئا فشيئا ورأى الدكتور أمين أمامه وقال : كان حادثاً شنيعاً لقد نجوت بإعجوبة !!!!,
بعد ذلك لازمه شعور دائم بالخوف حتى بعدما شفى وعاد الى منزله , وعندما فاتحته أمه بموضوع الإرتباط مرة أخرى قال لها : ليس الآن , و رجع الى حجرته والشعور بالخوف لا يريد ان يفارقه ، الجحيم هو يكون حين لا يعود هناك أي أمل , وما عاد لديه أمل في الحياة , فهو ينتظر الموت !
رجع يوسف إلى المنزل و هو فرحا , تسارعت دقات قلب ريتال يبدو أن أسامة قد قرر أن يحدد موعد الخطبة أخيراً, وحين قال يوسف إن سارة وافقت على الخطبة احتضنت ريتال شقيقها وأخفت ما يختلج في داخلها من أحاسيس , وذهبت مع أخيها ليخبروا اهلهم بالامر , بينما انفرجت أسارير يوسف وقلبه يكاد يرقص طرباً و فرحاً فهو لا يكاد يصدق ما سمعه من والده لمباركته للزواج دون نقاش ولا كلمات يشرح.
مرة أخرى العرق يغرق جبينها وهي ترتعش , استيقظ كل من فى المنزل على صراخها ، ركض كل من في المنزل على صوت فرحة , جاء أسامة إلى الحجرة وطمأن الجميع عليها ، وفي الصباح سألها عن المنام فقالت : رأيت الكابوس المرعب مرة ثانية الذي رأيته سابقاً قبل وفاة أبي , أسمع ذئاباً تعوي وكلاباً تنبح وسباعاً تزأر كلها تطلب فريسة واحدة ولكن هناك من يفترسهم واحداً تلو الثاني إنه الموت ,, هناك أحد سيموت في هذا المنزل !! حملق بعينيها الخضراواين ثم قال : من الفريسة ؟ قالت : لا أدري كان على وجه الفريسة وشاح أبيض لا اعرف من سيموت ! أسرعتْ بعدها فرحة مجيبة لنداء والدتها وتركته يتساءل من سيموت ؟ هو أم جده يا إلهي , ربما مريم أو والدته .. بدأت الأفكار تتناطح وتتصارع في رأسه .
إنهمرت أمطارالسماء ووقف أسامة يراقب أشجار الحديقة , رجعت لقلبه رعدة الخوف , يحس بأن الموت قابع هنا وهناك وسينهشه و يتركه , كان حائراً كيف بإمكانه أن ينسى أن الموت ينتظره ؟ كيف ترجع إليه الرغبة في الحياة ؟ خرج باحثاًعن مسجد يحتويه , الحياه لا تستحق لماذا نركض ورائها .غمرته حالة من السكينة و الراحة لم يخرج منها إلا وهو يختم صلاة العشاء , صافحه المصلون وكأنهم يهنئونه , رحبت به الكفوف وودعته الدعوات على الطريق وهو راجع الى منزل جده , دعوات من سمعوا أنينه وشهدوا دموعه .
اقترب أسامة بعرجته من فرحة وسألها عن كل من في البيت فقالت إنهم خرجوا جميعاً ، السيد حسام أولاً و من ثم خرج السيد أحمد ثم خرجت السيدة دولت وحدها بشكل سريع أما السيدة مريم فخرجت بعد أن أخذت سيارة أجرة وأخيراً خرجت السيدة ريم بعد أن تركت مروان مع والدتي بالمطبخ . جلس أسامة حائراً حتى رجعت مريم ثم لحقتها أمه . كانت مريم شاحبة ابيضت شفتاها وزاغت عيناها ثم فقدت وعيها ثم استعادته بعد معاونة أسامة وطلبت منه ان يطفئ الاضواء في البيت و ان يغلق الباب . خرج أسامة والخوف من الموت ما زال ينقر في راسه , يخشى أن تموت مريم أو أن يباغته الموت فجأة , أما والدته فكانت وساوس الشيطان تنهش بصدرها لأنها كانت تعرف خبيئة ابنتها ! .
لقد بدأ الأمر قبل الحادث بأسابيع حيث لاحظت السيدة دولت نظرات أحمد لريم و ملاحقته لها , كانت فرحة هي العين التي نقلت لها كل ما يحدث و يدور أمامها بالتفصيل فالفتاة نبيه وقوية الملاحظة , قالت لها أن أحمد لا يصلي كما تعتقد هى و قالت لها أنه اشترى هاتفاً جديداً كما قالت لها أنه لا يهتم بأمر مريم كما أنه كان يصعد إلى سطح المنزل وينحني على المطل حتى يراقب ريم . وفي إحدى الأيام شاهدتهما الجارة رقية , شاهدت أحمد وريم ومروان على السطح يتكلمان وكانت ريم تضحك بدلالٍ كما هي عادتها في الحديث , ومن هنا بدأ الشك ينهش السيدة دولت ليل نهار . وبعد فترة لاحظت السيدة دولت أن ريم قد توقفت عن الخروج من حجرتها وأن أحمد بدا عصبياً جداً , ولم تدر هل تقول ل ابنتها ما يجري أم لا .. وتفاجأت السيدة دولت بأن مريم تعلم عن كل شيء وأن بين أحمد وريم رسائل كثيرة , ولكن ريم صدته في النهاية وانقطعت عن التواصل معه عندما صرح بحبه و اعجابه . ولم تفضح مريم سر زوجها كما قالت لها أمها ولكن غلى الدم في عروقها , وواجهت أحمد بالحقيقة الذي اعتذر منها ورمى كامل المسؤولية عليها بسبب حملها المبكر قبل استمتاعهما بحياتهما . أحمد بالفعل لم يحب مريم هذا الحب على الاطلاق بل كانت بالنسبة له زهرة اشتهى رائحتها فقط , ولما قطفها وذبلت زهد فيها والتفت لغيرها ولن يشبع البتة ! .
كانت أجواء حفلة خطبة يوسف و سارة صافية و هادئة , وعلى غير عادته سابقاً كان أسامة متوتراً يرتدي بزة فاخرة زرقاء , جلس يفكر في أحوال مريم لا يعلم لماذا طلبت مريم الانفصال . كانت ريتال تتبعه بنظراتها , ثمة وجع في صدرها , عادت تشارك شقيقها يوسف فرحته بقلب متعب , حتى متى ستنتظر ؟ بينما مسح أسامة بنظراته حشد المدعوين باحثاً عن ريتال فاستقرت أخيراً عيناه عليها فزال التوتر!! يحبها لكنه لا يقدر أن يقترب منها لأنه سيموت , جلس شارداً يتفكر بكل ما مر به حتى هذه اللحظة , ولد وعاش وكبر وتعلم وتفوق وصار دكتورا يشار إليه بالبنان وماذا بعد ذلك سيموت و تبتلعه الرمال ! .
عادت دولت إلى المنزل وصعدت إلى حجرة والدها فقال لها : كنت خائفاً يا ابنتي , الوحشة يا ابنتي , احس أن وقت رحيلي قد آن وأرجو أن يغفر لي ربي كل ما قصرت به , إن حسام يا ابنتي بحاجتك لا تتركيه حتى لو ابتعد هو عنك , و قولي ل أسامة أن يلازم أخاه ويأنس به ويصبر عليه , أما مريم فلا تغفلي عنها فهي تحتاجك أيضاً ، أطلبي من اخوتها أن يمنحاها ذلك الحب الأبوي الذي ابتليت بالحرمان منه , إن أسامة يمر بلحظات صعبة و ذلك الحادث قطع طريقته التي يعالج بها شؤون حياته , وددت لو أقنعه أنه لن يحسن أن يعيش حياته على التوالي فهو لا يحاول أن يقضي أكثر من عمل في وقت واحد , تعود أن ينهي شيئاً ثم الآخر والآن يؤجل الزواج حتى ينتهي طموحه العلمي الذي لن ينتهي البتة , وبعد الحادث صار يؤجل حياته كلها اعتقادا منه أن القرب من الله مهمة سيتم إنجازها في وقت محدد وكأن حياته وعمره ومهنته سينتظرونه في الطريق ! لماذا لا يتزوج ريتال ويحبها على التوازي وهو يمضي في عمره ؟ تسارعت أنفاس والدها وبدأ ينتفض ويتشنج ثم تابع كلامه بصعوبة وقال : أخبرى أسامة أن يحب وهو على الطريق , يعمر في الارض وينشر العلم وينفع به غيره من الناس ليكسب أضعاف عمره بركة في الإيمان والسعادة والعمل في الدارين , فعندما نعيش لأنفسنا فحسب تبدو لنا الحياة ضئيلة قصيرة , الموت آت لا ريب فيه فليعد إلى الله ولتكن حياته كلها لله حتى زواجه ! وعلى نحو مفاجئ , تُمزق أستار الصمت صرخة ألم اجتمع لها كل من في المنزل , وتوجهت الأنظار ناحية السرير , لفظ الجد أنفاسه الأخيرة ! .ومات
وقف أسامة أمام جده يتذكر صوت فرحة وهي تقول له عن الكابوس الذي باغتها تلك الليلة , بعدها ازدحم البيت بالعائلة , وبقي أسامة اليوم كاملاً في المقبرة عند جده , هبت الريح مرة ثانية فانتابته قشعريرة . ما عادت لديه الرغبة في ان يحيا اكثر من ذلك ..
خيم السواد على المنزل وبدأ الناس بتقديم واجب العزاء .. تناهى على سمع حسام حديث الجارة رقية و هي تصف لجارتها كيف أن زوجة المستشار التي تقطن في البناية المقابلة لمنزلهم , وهي ريم , كانت تلتقي بأحمد على سطح البيت بعيداً عن انظار كل العائلة , تذكر حسام زوجته وكيف كانت تلح عليه أن يتكلم معها و لو قليلا أو أن يأخذها لبيت أمها لأنها ملت من الجلوس وحيدة . كان حسام يعتقد أن الماديات أهم من العواطف واحتواء زوجته والكلام عن الحب ، فأنهك نفسه في الشغل كي يكسب المزيد من المال , هرول حسام إلى والدته ليتبين الحقيقة ويسألها فقالت له : كانت مرة واحدة وزوجتك ليست مذنبة لأنه كان يلاحقها وهي تصده , يا بني إقترب من زوجتك إلى ذلك الحد الذي يجعلها تطيعك حباً لك وليس خوفاً منك , إملأ حياتها بالحب فالفراغ جعلها سهلة المنال لماذا أهملت إشباع مشاعرها يا ولدي ؟ , عليك أن تسامحها لأنك سبق وأخطأت , ألم تكن تتحدث إلى فتياتٍ أخريات عبر الإنترنت وكنت تخفي هذا عن زوجتك ! .
انفضّ العزاء وخلا المنزل من الغرباء . ذهب سليمان و اسامة إلى المسجد أما أحمد فحياهم واستعد للإنصراف اعتقادا منه أن الأمر بينه وبين ريم لم يُكشف إلا لزوجته فقط , رماه حسام بنظرة قاسية ولكمه لكمة قوية ارتجت لها أسنانه فتركتهم ريم وانتقلت إلى حجرتها على وجه السرعة و الندم يأكلها ، لحقها حسام الذي بدأ صراخه يملأ البيت ثم هدأ فجأة .. كان البيت هادئاً ومعتماً إلا من بصيص نور قد تسرب من أسفل باب المنزل , كل النوافذ مغلقة وكأنها جفون مقفلة , أصرت فرحة على غلقها جميعاً , وأخيراً جلست تنتظر أسامة وعندما جاء صاحت : السيدة دولت مريضة , حينها ركض أسامة إلى حجرة والدته حيث كانت تضع كفها على صدرها و اسرع بها إلى المستشفى .
تأملته السيدة دولت وهو يطالع نتائج التقارير الطبية وهو بمعطفه الأبيض , وأطل الفخر من عينيها ولكن ما الذي تغير فيه بعد الحادث , فقد خسر جزءا كبيرا من وزنه وأصبح لا يهتم بأناقته ومنطوياً على نفسه ودائم الشرود قليل الكلام كثير الإطراق , كان يكفيها هماً قلقها على ابنتها مريم وابنها حسام فانفعالها أدى إلى ارتفاع ضغط الدم عندها . لم تظهر الفحوصات اي حاجة لان تبقى في المستشفى ولكن بقي فحص واحد أراد أسامة أن يجريه لها .
عادم السيارة كان ينفث دخاناً أسوداً ورغم ذلك كان سليمان يحس وكأنه يقود مركبة فخمة جدا , جلس أسامة بجواره يتلوى في كرسيه , كانت تلك أول مرة يسافر فيها بعد الحادث , فعندما قال له سليمان أنه عائد إلى الإسكندرية قرر ان يذهب معه وشجعته أمه على ذلك عله ينعم براحة نفسية .
كانت رأسه مغطاة بخوذة مزودة بأقطاب كهربائية متعددة تتصل فيما بعد بجهاز كمبيوتر والدكتور جيمس روبن والدكتور أمين يقفان سوية ويطالعان باهتمام لوحة المراقبة وينتظران بقلق كبير . استيقظ أسامة وبعد نصف ساعة أفاق من أثر المادة المخدرة التي حقنوه بها قبل البدء بعملية نسخ ذاكرة امه من قرص صلب على الشريحة التي تم زرعها منذ مدة في دماغه . كان يمر بحالة اضطراب ذهني فنشاطه الدماغي بدأ في الارتفاع , آلاف الصور انبثقت مقابل عينيه مرت كل ذكريات والدته منذ شبابها إلى هذا الوقت أمام عينيه , فعندما مرضت امه اخذها الى حجرة خاصة وود أن يجري عليها اختباراً بسيطاً يخص أبحاثه , وكان الدكتور أمين الوحيد الذي يعرف بهذا الموضوع , فقد قام أسامة بنسخ ذاكرة امه على الحاسوب وبعد فترة بدأ يراسل الدكتور جيمس , ووقّع على أوراق أنه يريد ان يتطوع بنفسه للقيام بالإختبار, وتمت العملية بنجاح أفاق بعدها أسامة حاملاً ذاكرته وذاكرة أمه التي تبلغ من العمر ستين سنة , لم يكن يعرف حينها أن أحمد قد أوجع أخته بتلك الطريقة وطمع في زوجة رجل ثاني , لم يلاحظ قسوة شقيقه حسام على والدته وأنها كانت تحمل عنهم جميعاً حملاً ثقيلاً , لم تخبره عن الاوجاع والتلوع الذي كان في صدرها اشتياقاً لهم وخوفاً عليهم ولم تخبره عن وصية جده له ... أسامة استيقظ ما بك ؟ قالها سليمان وهو يهزه بعنف كي يوقظه يبدو وكأنه رأى كابوساً غريبا عجيبا !! قال سليمان : إننا في منزل جدتي في الإسكندرية ولكن ما بك ؟ قال أسامة : أين والدتي هل ماتت ؟؟؟ طمأنه سليمان ثم رجع أسامة بعدها للنوم سريعاً كان كابوساً مرعباً !! .
في اليوم الذي يليه استيقظ أسامة مبكراً فقد انتهت عطلته , ولكن قبل ذلك أراد ان يقابل السيد سعد حلمي حينها اتصل به ووعده أنه سيقابله بعد ساعة في ذات المكان . كان أسامة يتوق ليقابل السيد سعد بشكل غريب , أراد أن يفتش في شخصيته عن ملامح الأب الغائب , لم يملأ جده ذلك الفراغ وحتى خاله لم يروي عطشه لتلك المشاعر فالأب أمان . وحين جاء السيد سعد وسأل عن حال أسامة قال : حطمني عناق الموت و اخافتني عيناه وهي تطاردني وتتفحص ملامح وجهي , كرهت رائحة أنفاسه أكره الموت لا اقدر ان اصبر على هذه الحياة التي نهايتها الفناء وسنتها الفراق , حينها علم السيد سعد أن أسامة لديه ما يشغل باله فقال بروية : لماذا أنت هنا على وجه الأرض ! ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ,عُد لله تعالى واجعل حياتك له , يجب ألا تبالغ في الخوف من الموت وإلا ستفقد الشعور باي شيء جميل , لقد فَطرَنا الله على النسيان , ستأتي عليك لحظات و تنتصر عليك فطرتك وتنسى الموت .. وَجدت كلمات السيد سعد طريقها لقلب أسامة , كان لنبرات صوته رنة عاطفية وحقيقية وكأنه مر بتلك العواطف من قبل , وبهذا صار أسامة أفضل حالاً مما كان عليه .
على الطرف الآخر من الهاتف قالت : نحن هنا بالإسكندرية أنا وخالك كمال يا أسامة , اضطررنا لان ناتي الى هنا حتى نقدم واجب العزاء لإبنة خالنا في وفاة زوجها وبالمناسبة جاءت معنا ريتال . أصيب أسامة بصدمة وراحة في الوقت ذاته وتسارعت دقات قلبه , كان يتوق ليراها , وفي ذلك المطعم طلب أسامة من خاله ان يتحدث مع ريتال منفردين ، جلسا وجهاً لوجه على طاولة مستديرة من الخشب الساكن ثم قامت معه وسارا نحو البحر , غشيتهما الراحة وبدأ يفتش في جعبته عن كلماتٍ حتى يبدا في حديثه , طال صمت أسامة حينها قالت ريتال كاسرة حاجز الصمت : هل ثمة شيء ليس على ما يرام ؟ فقال : إذا كنت تسببت لك بأي وجع فاطلب منك السماح , وددت فقط أن تمنحيني المزيد من الوقت لست مستعداً لان اتزوج في هذا الوقت فلنؤجل خطبتنا قليلاً , قالت ريتال بغضب : لقد ضيعت وقتي في انتظارك ! حينها قال أسامة : إنني خائف من الموت اخاف أن أتركك وحيدة كأمي بلا حب , بلا رفيق عمر يشاركك حياتك , لا ارغب في أن اوجع قلبك , قالت ريتال : أوتظن أنك الآن لا توجع قلبي ؟ أعلم أن الحادث قد كسر شيئاً ما بداخلك ولكن يبدو أن عمتي ألحت عليك لان تتزوج مني ولم تكن رغبتك , فترددك ليس وليد الحادث بل من قبل ذلك يا اسامة حينها قال أسامة : لا بل أنا أحبك وينبغي أن أكون بقربك لا أتخيل حياتي من دونك , اللقاء الذي جمعنا سوية في حفل زفاف شقيقتي ورداؤك الطاهر وابتسامتك الهادئة التي تخفي خلفها الحياء الذي أحبه وروحك الفطرية النقية التي تتحدثين بها معنا وكفك الرقيق وقامتك القصيرة كل تلك التفاصيل الصغيرة تسكنني منذ اعوام ...الآن في هذه الدقيقة وأنا أقف أمامك أود واتمنى أن تكوني بجواري حتى أصل لحاله من الإتزان . حاولت ريتال أن تقرأ أفكاره بدأ كتفيها يرتجفان وانكمشت في ردائها خجلاً وفي تلك الدقيقة كان أبوها خلفها مباشرة فقد تأخروا على موعد القطار ولا بد من ان يرجعوا . وقرأ أبوها البشرى على وجهها وتبينت السيدة دولت الفرحة التي تطل من عيني ولدها .
الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح , كانت تلك المرة رقم عشرين التي تسمع فيها نفس الجملة , فأسامة لم يعد لغاية اللحظة من الإسكندرية ولم يرد على هاتفه من النهار بينما بدأ سليمان بعملية البحث عنه في الأقسام والمستشفيات والبحث عن أي طريقة تمكنه من الوصول إليه . مر أسبوع ولم يعد أسامة , انهارت السيدة دولت حزناً و قهراً على ابنها , شعرت أنه ليس في يدها اي حيلة ،بكت وإنتحبت حتى جف معينها ولمت صدرها ثم فقدت الوعي . جلست ريتال بجوار عمتها ترتجف كورقة مجهدة وقالت لأبيها : سأسافر مع فرحة و والدتها لأبحث عنه ، فقال أبوها : إذاً سأذهب معكم ! .
في شقة سليمان جلس كمال بالقرب من ابنته ، قال سليمان : يوم اختفائه خرج على عجل لمقابلة شخص ما , وعندما قرصنت حسابه على الفيسبوك كان يتحادث مع شخصاً ما يعيش في الخارج , وكان أسامة يتكلم عن أبيه ويطلب منه أن يهاتفه ويسأل عنه لأنه وحيد , ولكنه ذكر في الرسالة المكان الذي راى فيه هذا الرجل , حينها اتجهوا كلهم إلى الشاطيء وارتدت ريتال سترة أسامة الزرقاء وحمل كل منهم صورة لأسامة و شرعوا يسألوا عنه في طرقات الإسكندرية ! .
مرت اعوام وبوجهٍ وسيم لوحته الشمس وبقوامٍ رياضي ممشوق قوّمته السباحة حمل مظلة واتجه بالقرب منهما , حينها قالت فرحة التي أوشكت أن تتم عامها التاسع عشر : ( هنا من فضلك و نريد مقعدين ) , تسمر حينها في مكانه و احس برعشة تجتاح جسده وكأنه يعلم من هي , لاحظ أن السيدة التي معها ترتدي سترة رجالية فعرّفهم على ذاته , كان اسمه ماهر ويدرس في كلية العلوم , حينها قالت السيدة : إسمي ريتال و ارغب في أن أستأجر شقة في تلك البناية التي تقابل هذا المكان , وكاد ماهر ان ينصرف إلى أن استوقفته ريتال و وضعت امامه صورة لأسامة وقالت له : هل تعرفه إننا نبحث عنه منذ عشرة اعوام ! فور أن أمسك الشاب بالصورة وتأمل عينيه قال : لن أنسى هذا الوجه طوال حياتي , لقد كنت يوماً على أسير بجانب إحدى المقاهي وكان ذلك منذ عشر اعوام وكنت جائعاً أحمل بيدي كيس حلوى أبيعه للناس , مر من أمامي وأعطاني قطعة من الشوكولاه و عاونني , وبعدها أهداني سترة وجوارب جديدة وحذاءاً , يبدو أنه كان ينبوعاً من الخير كان إنسانياً إلى الحد الذي يجعل البسطاء لا ينسون ملامحه و وجهه , حينها قالت فرحة : السيدة ريتال خطيبة أسامة وقد اختفى منذ عشر اعوام ولم يعثر عليه حتى الآن !!! .
ألم شديد في رأسه ودقات قلبه موجعة بطيئة , ( أسامة هل تسمعني ) إنه ذلك الصوت الذي يعلمه أسامة , إفتح عينيك أو حرك أصابعك إن كنت تسمعنا !! فتح عينيه فشاهد الدكتور أمين حينها قال أسامة : أين أنا ماذا حدث ؟ قال الدكتور أمين : كان حادثاً قاسيا , لقد تعرضت لصدمة في جمجمتك أدت إلى رضٍّ دماغي قوي , ولقد غبت عن الوعي لمده خمس وعشرين يوماً , حمداً لله على سلامتك يا بطل لقد نجوت بأعجوبة !! . أغمض أسامة عينيه يسترجع كل ما عاشه و رآه , كان كل هذا يدور في رأسه في وعي مواز كان يحيا فيه , لم يمت جده ولم يخطيء حسام يوماً ولا زوجته ريم , وأمه بجواره ولم يكن أحمد خبيثاً ومريم بخير, وريتال ما زالت تحبه و تنتظره , ولم تكن عشر اعوام بل كانت مجرد أيام أبحر فيها في عالم غريب عجيب , لم يكن سهلاً أن يمر بهذا وحيداً , لم يكن سهلاً على الإطلاق ! .
كان الجو رائقاً والسماء عذبة المنظر بينما كان أسامة يجلس في حديقة البيت بالقرب من والدته وقد دب النشاط في عروقه وقال : إني أحب ريتال متى ساتزوج بها ؟ .. سألته من هو سعد ومن هو ماهر ؟ رفع أسامة حاجبيه باستغراب فأكملت السيدة دولت : قدم طفل صغير يدعى ماهر ليزورك بعد أسبوع من الحادث بعد أن رأى صورتك في الجريدة , أما سعد فقد قدم في الأسبوع الذي يلي زيارة ماهر وقال إنه التقى بك على الشاطيء وعلم بهذا الامر أيضاً من الصحف , لا تنس أنك طبيب معروف , كان دائماً يرقّيك ويتحدث إليك ويهمس في أذنيك بآيات القرآن ......, ثم قاما الأثنين لزيارة ريتال , جاء سليمان بسيارته الغريبة فلاحت ابتسامة أسامة على وجهه فقال له سليمان كم شعر باليتم بغيابه فقال أسامة : أنت من فرضت على ذاتك هذا الحصار , يجب ألا تطيل وحدتك عد إلى بيت والدك واخرج من تلك المتاهة , ولتأنس بتلك الروح الدافئة التي تغمر المنازل عندما يشرق عليها الحب , سامح والدك يا سليمان فقد سامحته والدتك ! ارتبك سليمان فكانت تلك هي اول مرة يتحدث فيها أسامة صراحة عن هذا الموضوع , قال سليمان : لا أستطيع , فكل ركن في المنزل يُذكرني بوجه أمي وهي تبكي وتعض على شفتيها لتكتم بكاءها حتى لا توقظنا , وأبي ينهال على جسمها باللكمات ويركلها ،لشد ما اقساه , فمشهد فرارها لتحتمي بأثاث المنزل لا يفارق خيالي , ظل يومها يضربها إلى أن واجَهْتُه فصفعني وتوعدني بالعذاب إن رجعت مرة ثانية , لجأت لخالي حينها وأبلغنا الشرطة , وجرح كبرياؤه عندما جاءت أمي وتنازلت عن البلاغ و رجع الى المنزل وغاب الأمان . أما الآن فإنه قد تغير كثيراً ويبذل قصارى جهده كي يعوضها . قال أسامة : وأيضاً عد إلى خطيبتك وأعتذر لها ولا توسِّط أي صديق بينكما مهما بلغت ثقتك فيه .. إنصرف سليمان بعقل غيرعقله و بقلبٍ غير قلبه , وبعد دقائق وعلى الطرف الآخر من هاتف سليمان كان صوت ابوه مفعماً بالبهجة وهو يثرثر معه , وأخيراً فتح سليمان حقيبة ذكرياته و ترك كل ما طواه بها من فرحة , فأشرقت قسمات وجهه .
مشت جذوة النهار في سواد الليل , فتح أسامة عينيه ملتفتاً لكل من حوله بشكل غريب , رغب في ان يتصل بالدكتور أمين ولكن احس أن إجابته لن تروي ظمأه , فما مر به لا يفسره العلم ولا الطب ومن ضمن الأحداث التي مر بها أسرار تخص الاسرة , قلبَ هاتفه فاتصل بالسيد سعد حلمي فقال له : أثناء فقدانك لوعيك تلاقت روحك بروح والدتك وريتال وبي وبالآخرين و رجعت إليك بحقائق جلية ما كان لك أن تتصورها لو يعود إليك وعيك , فمثلاً تُقبض الأرواح عند نيام النائم فتقبض روحه في منامه , وتلتقي الأرواح ببعضها البعض أرواح الموتى والنيام , فيحبس الله التي قضى عليها الموت ويرسل الثانية إلى بقية آجالها , أنهى أسامة المكالمة وقد سرت الطمأنينة في قلبه .
بسمة في ثغر الصباح , ظهرت الغيوم حيث كانت ريتال تجلس بالقرب من زوجها في ذات المكان , أخيراً تزوجها وكان حفل زفافهما منذ شهر , وها هما يقضيان آخر أسبوع من شهر العسل في الاسكندرية يتمشيان على الشاطيء قال لها : اللقاء الذي جمعنا مع بعضنا البعض في حفل زفاف أختي , تتذكرين تلك النظرة التي سارعت بغضها فخطفتها من عيني , ابتسامتك الرقيقة رداؤك الطاهر روحك النقية كفك الرقيق وقامتك القصيرة التي أعشقها , كل تلك التفاصيل تسكنني منذ اعوام , أنت غيمة برهافة القطن أنغمس فيها بكل ما فيّ , أحبك ! قالت ريتال : لماذا احس وكأنني سمعت تلك الكلمات من قبل , وكأن تلك اللحظات تتكرر مرة ثانية أليس غريباً ! قال لها وعلى فمه ترتعد ابتسامة : لعل أرواحنا تلاقت من قبل هناك في مكان لا يعلمه إلا الله وحده.
النهاية
الهالة المقدسة - د. حنان لاشين
إعداد وإشراف - رجاء حمدان&
كانت مياه البحر تمتد كبساطٍ ناعم فتان لازوردي, هدأ البحر وهدأت معه السماء من تلك الحمرة المسمومة التي كانت تنذر بالعواصف القوية . بدا الجو هادئا لطيفا , كان قد مر وقت طويلاً جداً على ذهاب أسامة الى الإسكندرية وها هو اليوم يعانق نسيمها مرة اخرى . جلس مرتدياً بزة غامقة أضفت عليه مسحة من الوسامة و اصبحت قسمات وجهه أكثر راحة ، كان يشعر بالحنين إلى الحب والعواطف , يبدو أنه بحاجة إلى أنيس وإلى زوجة تمسح بقلبها الحاني على كل الامه , ومع أنه كان يتشرنق على نفسه ويستمتع بوحدته ولكنه اليوم يجد تغيراً في حاله , يبدو أن نفسه الطيبة تتوق للحب .
رحلته إلى الإسكندرية تمت بدون اي قرار مسبق فهو يحتاج إلى إجازة ليتخذ قراراً صعباً بعد صراع داخلي في نفسه , فهو يتمزق بين بقائه في مصر ووالدته و أخوته وحيث المستشفى الخاص الذي أنفق عليه جده كل امواله , وبين انتقاله الى الابد إلى المملكة المتحدة . فبعد إنتهاء دراسته وتخرجه من كلية الطب وحصوله على الماجيستير , كان قد حصل على منحة لينال شهادة الدكتوراة بعد أن استدعاه الدكتور جيمس في أحد الأيام , لن ينسى أسامة أبداً نظرته عندما قابله حينها , فقد رمش بعينيه نحوه بإعجاب وقال له : لقد إطلعت على مقالٍ بإسمك في المجلة العلمية ولفت نظري ان عمرك ليس بالكبير , حينها أحس أن كل من بالمكتب منتبه وينصت إليه فاستجمع قواه ونظر في عيني الدكتور وقال بكل قوة : المقال يتحدث عن إمكانية زرع أقطاب إلكترونية في دماغ شخص مصاب بشلل دماغي تحتوي على ذكريات تم جمعها من دماغ شخص ثاني ليتغلب بذلك على مرضه , ولكنى لا أدري إن كانت الذكريات ستجعله شخصاً ثانيا , ولكن لا أظن أن الذكريات تغير النفس و الروح . قال الدكتور جيمس : دعني اقول لك بصراحة عن نقطة مهمة , الكثير من الباحثين لن يقتنعوا بالفكرة و كونك مسلم و عربي ستكون تحت الملاحظة الحثية والشك , لهذا لا بد أن تشتغل مع فريق وتنصهر فيه .. أوجعته جداً كلماته تلك لفرط صدقها وعلى عكس ما تصوره بعد هذا الحوار . عرض عليه الدكتور جيمس أن ينضم لفريقه العلمي وينتقل إلى المملكة المتحدة بأجر قائم و عال جدا ولكن كان يترتب على ذلك أن ينتقل الى الابد و بشكل نهائي .
مر الوقت وهو يستعيد كل تلك الأحداث في راسه ثم قال في نفسه لم يحن الوقت للإرتباط بعد , فهناك عدة أولويات و اولها تحقيق طموحه العلمي , ولكن والدته في كل مرة تصر على ان تزوجه ريتال إبنة خاله. كانت السيدة دولت قد تعلقت باولادها ووهبت نفسها اليهم بعد وفاة زوجها ورفضت ان تتزوج فقط حتى تهتم بابنائها حسام وأسامة و مريم , وكان أسامة يفتقد أباه كثيراً .. مضت سنواتُ مراهقته وكان يحس بالوحدة لولا خطابات صديقه سليمان , كان يحس بالراحة وهو ينتظر وصول مكاتيبه ، فسليمان في تلك الفترة لم يكن لديه حاسوب فلا بديل من الخطابات البريدية , فكانت رائحة الورق وطوابع البريد أجمل أيام عمره تقريبا . نشأ أسامة وتربى في بيئة متحفظة , فكل شيئ يسير بطقوس و قوانين رتيبة ، كان دائماً يتعلل بدراسته حتي لايطلب منه احد أي واجب اجتماعى للخروج ويفضل البقاء مع مريم , وكان يتركها تثرثر و تتحدث معه في أي شيء فلم تكن لديه رغبة بالمرح مع الشباب .
على الشاطيء اقترب من أسامة رجل طويل العنق هزيلُ البدن وجلس بجانبه وقال : إسمي سعد حلمي , لا اعلم من انت و لكن اعتقد أن خطوطنا قد تقاطعت من قبل , فأنت تشبه ابني , لقد كان مهندساً قبل أن يموت ولكنه لم يمت بالمعنى الحرفي ولكنه رحل للأبد عن مصر, وبعد هجرته نسيني و كاني لست موجودا فمات بالنسبة لي وهو ما زال على قيد الحياة !!! . حينها حيّاه أسامة بحرارة وتبادلا أرقام الهواتف لعلهما يتواصلان في وقت لاحق ويخفف عنه لوعته على ولده .
كانت ليلة فيها السماء صافية جداً مما دفع القمر لأن يضيء الحجرة بضوء مائل إلى الزرقة . إنها تحس بالتعب وبأن كل عظام جسدها تغلي وتتفتت منذ مغادرته وسفره , تفتقده بشدة رغم أنه لا يعيرها أي شان , فهو دائم الحضور والتواجد في روحها , حينها بدأت تبكي و هي تقول لذاتها : لقد ابتليت بحبه ! مسحت دموعها فقد عرفت انه قد جاء من المملكة المتحدة ولكنه لم يمر حتى الآن ليرى خاله , لقد اعتقدت في لحظة ما أن هناك تقارباً بينهما , ظهر ذلك في حفل زفاف مريم حين ابتسم لها مرتين ولكنه لم يتقدم حتى الان ليخطبها ! . لم تكن من النوع الذي يحسن عرض ذاته أمام من تحبه لتدفعه حتى يهتم بها , كانت نقية وخجولة لتلك الدرجة التي جعلتها تكتم إعجابها و تعتقد أنها لا تستحقه , حيث أنها لم تسع لذلك الحب بل وجدته يكبر في قلبها منذ وقت الطفولة , فكثيراً ما كانت تسمع أمها مراراً و هي تبتهل الى الله أن يجعل أسامة من نصيبها , وكانت تتساءل لماذا هو على وجه الخصوص ! . كانت تركض بقلبها بعيداً ولكنها كلما ابتعدت خطوة اقتربت خطوات أكثر وأكثر من ذلك الحب . اقتربت والدتها منها وألقت برأسها على صدر والدتها التي كانت تعلم خبيئتها فمسدت شعرها وخففت عنها .
( والدتك هاتفتنا خمس مرات ) إخترق صوت موظف الإستقبال العالي أذن أسامة فنزل بشكل سريع حتى يتكلم مع امه , حينها التفت إلى أحد الموظفين الذي كان الحزن بادياً عليه وكأنه وشك البكاء , وحين سأله أسامة ما به هدات قسمات وجه الموظف و هبط حاجباه ثم سالت دموعه على وجهه وكأنه طفل صغير وقال : لدي مشكلة وأمر بظروف قاسية بعض الشيء , حينها عرض أسامة عليه ان يعاونه وتبادلا أرقام الهواتف على أمل مساعدته .
نام أسامة في تلك الليلة مضطرباً قلقاً بعد أن هاتف والدته وطمأنها على نفسه و وعدها بان يعود في اقرب وقت ممكن الى القاهرة , صَاحبه شعورٌ بالذنب وتأنيب الضمير لأنه كان السبب في حزنها وبكائها, وفي الصباح قرر أسامة أن يزور صاحبه سليمان ثم يرجع في قطار السادسة مساءاً إلى القاهرة , وحين وصل إلى بيت سليمان بدت له البناية كعجوز خطت السنون على وجهها , عمر طويل من التجاعيد والآخاديد العميقة المحفورة عليها لكنها لا تزال تحتفظ بمسحة من الجمال . ظهر سليمان من الشرفة وأشار بسبابته إلى مدخل البناية فركض أسامة إليه بينما هرول فكره على درج الذكريات , وبعد حديث طويل بينهما أغلق سليمان جميع الأجهزة حوله , التلفاز والحاسوب , والذي كان دائما معتادا على تشغيلهم في نفس الوقت كمن يحيط نفسه بجمع من الاصحاب كي يؤنسوا وحشته ويكسروا حواجز الصمت االتي يغرق فيها لفترات طويلة , ثم قررا ان يذهبا لتناول السمك في إحدى المطاعم ! مطعم بسيط امتزجت روائح المقالي بروائح الطماطم و السمك.. من بعيد ثمة سيارة مسرعة , التف تجاهها بشكل تلقائي ،صر أسامه على أسنانه من صوت احتكاك عجلاتها في الشارع , فوقعت عيناه على فتاة صغيرةٍ ضئيلة الحجم تحاول ان تعبر الطريق , وبلمحة عين صدمت السيارةالطفلة , وصرخت والدتها و فرت السيارة . ركض أسامة وسليمان تجاه الفتاة ليفحصها بينما كانت والدتها تتمتم باكية : ليتني ما طلبت منك الماء يا فرحة ليتني مت من العطش !. بعد برهة بدأت الفتاة بإستعادة وعيها رويداً وكانت تتألم بشدة , كان رأسها على صدر أسامة فامتلئت ثيابه بدمائها . فتحت عينيها فإذا هما زمردتان يحتضن كل منهما جفنين يرفرفان بوهن حانيين, تشبثت به فاحتضنها كأب حنون ودماؤها تنزف من راسها وبعدها أخذها لإحدى المستشفيات , و علم فيما بعد أن فرحة ذات التسع سنوات يتيمة ولا تمتلك هي و والدتها إلا الستر , تركهما أسامة على أمل ان يلتقي بهما بعد أسبوع حتى يطمئن على صحة فرحة !! .
أخبرته أنها متعبة جداً وواهنة و تحس أن الموت قريب منها . كانت تبدو في حملها وكأنها متأهبة دائماً لان ترحل قال زوجها ( أحمد ) بصوت رتيب : مريم دعينا نذهب عند امك ! ردت : لا ...أنا أحب منزلنا و احس بالراحة فيه لا بد أن نبقى لوحدنا , فكل ركن هنا شهد على لحظة حب لن ننساها أبداً أليس كذلك , رد ببرود : بلى . لو كان تمهل قليلاً ما كان ليتزوجها , سذاجة العشاق جعلته يعتقد أن الحب لا يتعرض للمشاكل , والآن هو يتعرض للمحن , ولكنها كانت ترى أن الحب وحده يغني و يكفي عن كل شيء .
دقت الساعة الخامسة عندما وصل أسامة إلى القاهرة و اصطحب معه فرحة و والدتها ليعالجها في مشفاهم الخاص بهم , وبعد أن استقروا في المستشفى ترك اسامة المستشفى على وجه السرعة , إقترب من الشارع العتيق الذي يحتضن بيت جده الذي بدا كعروس رقيقة بهية بين تلك العمارات , أسرع أسامة إلى الداخل فقد اشتاق لإمه بشكل كبير ولكنه لم يجدها , حينها أنصت إلى صوت التلفاز يأتي من بعيد فعرف أن جده في حجرة المعيشة , تبادل مع جده النظرات وبعد كلام قال أسامة : الحياة في مصر صارت بؤساً على بؤس , الشباب يدفنون أحلامهم كل يوم وأنا لدي حلم كبير , هناك سيعاملونني كبشري , أما هنا فنحن نسحق أنفسنا بايادينا , حينها انتشله صوت خطوات والدته , تلك المرأة اللماحة الرصينة شديدة الذكاء ، رمقت أسامة بنظرة كلها رجاء وتوسل أن يتراجع عن قراره , لم يتحمل أسامة ان يقف معهما لحظة أخرى ثم خرج دون أن يعرف أين وجهته . قرر الذهاب إلى المستشفى كى يطمئن على فرحة . كان المستشفى على حداثة عهده يعد من أفضل مراكز الرعاية الصحية الخاصة بالقاهرة , وكان الدكتور أمين وابنته سارة من يشرف على المستشفى حين يغيب اسامة عنها .
عندما عاد أسامة إلى المنزل وجد والدته ما زالت تنتظره مستلقية على الاريكة متدثرة بشالها الأزرق تتوسد بشعرها الذهبي المتروك تحت رأسها والذي انطفأ بريقه بالشيب . عند الساعة العاشرة في الليل كانوا جميعاً يجلسون في قاعة الطعام , الجد وهو يداعب مروان أول حفيد لهذه الاسرة وريم زوجة حسام ومريم وزوجها أحمد وأسامة . مرت الليلة جميلة وهادئة جدا وسعدوا جميعاً بانتقال مريم وأحمد الى المنزل , وقرر أسامة أن يؤجل إخبار والدته بأنه لن يخطب الآن ابنة خاله ريتال وأنه سوف يؤجل الأمر .
استيقظ أسامة مبكراً وكان خياله شارداً خلف زجاج الشباك وهو يفكر في آخر لقاء له مع ريتال فقد كانت ناعمة و هادئة كغصون تلك الأشجار التي تظهر مقابله . أنهى أسامة عمله في ذلك اليوم وكان لا بد له من زيارة خاله كمال اليوم !! . تناهى إلى سمعه صوت خطوات مسرعة خفيفة , ففتحت ريتال الباب وقد اختفت تقريباً بأكملها وراءه فحياها ثم دخل إلى حجرة الضيوف , ثم جاءه خاله واستقبله بكل ترحيب بينما كانت ريتال تنصت إلى كلامهما وهي في المطبخ شاردة , بينما كان أسامة يتساءل في راسه عن سبب اختفائها وعدم انضمامها لهذه الجلسة , وخرج دون أن يراها . ما زال متردداً في أمر خطبتها ولكنه .. سيسافر ! .
صف سيارته الفخمة أمام بناء من القرميد واللون الرمادي , دخل إلى الممر وهو يرتدي بزة غامقة بنية اللون , فكان حسام قد بدأ العمل كمحاسب في شركة مقاولات , وذاع صيته بشكل سريع جدا وحقق حسام طموحه في أن يصير أحد أشهر رجال الأعمال , وكانت لديه زوجة جميلة وطفل رائع . كانت ريم مشدودة القوام و جميلة , لديها شخصية استعراضية مبهرة تحب أن تلفت الأنظار إليها , كانت نادمة لأنها لبست الحجاب ولكنها لم تكن تتجرأ ان تبوح بذلك . في نفس الدقيقة التي خرج فيها حسام من مبنى ضخم يحمل معه إسواراً ذهبياً بديعاً لزوجته مرت مركبة سليمان المتهالكة من أمامه دون أن يلتفت أو ينتبه لذلك ، لقد وصل سليمان إلى القاهرة أخيراً و قلبه يتألم في صمت , حتى أسامة أعز اصحابه كان لا يجرؤ على مناقشة سبب ألمه معه , كان في داخله جرح مفتوح دائماً ، حزن أبدي منذ اختلف مع والده وطرده من المنزل , فقرر البقاء للأبد ببيت جدته رغم محاولات والده الحثيثة في أن يسترضيه ..إتجه إلى منزلهم القديم , فتح الباب فأصدر صريراً عالياً , شم رائحة التراب فاحس بانقباض ي صدره فقد جثم شبح الماضي على صدره , وقرر أن يذهب الى منزل أسامة .
إزدحم المنزل بالضيوف , عاونت أم فرحة السيدة دولت فقد اخذها أسامة اليوم من المستشفى حتى تنضم و تعمل في منزلهم , كانت فرحة تجلس على الأرض وتراقب بعينيها الخضراوين كل الموجودين بفضول غريب , كان الخال كمال قد أتى لزيارة شقيقته دولت , وفجأة وفي غمرة الأحاديث الندية انقطع التيار الكهربائي وانطفأت الانوار ثم ساد صمت حميمي بينهم , رفرفت أهداب الصغيرة فرحة باضطراب ودارت مقلتاها قبل أن تدرك شيئاً ما ! كانت تحس أن هناك شخص سيموت ! هذا ما شعرت به قبل وفاة والدها , التقفتها أمها بين يديها وأسرعت بها إلى المطبخ فهمست فرحة قبل أن تنام ( الموت هنا يا أمي ) . انتهت الأمسية وبقي سليمان مع أسامة و تكلما الى وقت متاخر .
في اليوم التالي ، اتصل حسام على زوجته ريم كي يخرجا معا بينما بقي ابنهما الصغير مروان مع السيدة دولت تهدهده حتى يهدئ , جاء أحمد ليرى مريم التي ما يزال تعبها يزداد يوما بعد يوم , وفورقدوم سليمان شدته فرحة لتقول له بأن الجد يريد أن يراه . كانت تلك اول مرة تدخل فيها فرحة إلى المكتب ، وجدت الكثير من القصص و الكتب فأخذت تتلفت وتحملق بعينيها باحثة على الكتب المصفوفة في الرفوف عن قصص الأطفال , فخاب املها ورجعت إلى صالة الإستقبال .
ما زالت فكرة الهجرة تطفو على أفكار أسامه من وقت لاخر . عندما عاد إلى المنزل بعد يوم طويل من العمل وجد فرحة ترسم على اوراقها ، إبتسم لها وهم بالخروج من الحجرة عندما قالت له بعفوية : كلكم تستهلكونها , إنكم تستهلكون السيدة دولت ! اندهش أسامة فأكملت : هي أول من يستيقظ , ومن يهتم بإعداد الطعام وتهاتفك لتطمئن عليك, وتعطي جدك الدواء , , وتدلك قدمي مريم , وتحمل مروان وتكوي قميص أحمد , , فأرجوك لا تصرخ بوجهها كما يفعل السيد حسام , ولا تبخل عليها بالشكر كما يفعل السيد أحمد , ولا تكن أنانياً كالسيدة ريم ولا كسولاً كالسيدة مريم, ثم عادت فرحة لدفترها , رسمت شمساً كبيرة على وشك ان تغرب , كان لقرص الشمس هالة مشعة ذهبية , لكنها ألقت بالقلم وأمسكت الممحاة ثم بدأت تمسح الهالة المحيطة بقرص الشمس وهي بائسة .
حفنة من النجوم كانت تراقب العابرين و الطرقات في هداءات الليل , مضى الليل دخل شقيقها يوسف عليها جال في الحجرة لبضع لحظات ثم اقترب وقال : ريتال ارغب في أن أخطب سارة , كان يوسف يعمل مع الدكتور أمين وسارة تعمل دكتور في المستشفى ، استغربت ريتال من ذلك فسارة أكبر بسنتين من يوسف فقالت له : يقولون إن التجاعيد تظهر على وجه المرأة قبل الرجل , لهذا ينصحون بأن تكون الزوجة أصغر عمرا من الرجل .. لم يعير كلامها يوسف أي اهتمام و أصر على سارة , وعند ما وجدته بذلك التصميم والإصراره شجعته ريتال وهنئته على حبه لسارة فطلب منها ان تذهب كي تحادث سارة بموضوعه بالمستشفى ولكن ريتال أصرت على عدم الذهاب للمشفى وان يكون اللقاء في مكان اخر بعيداً عن العمل ..عادت ريتال لحجرتها ولافكارها وهمست لنفسها , غداً سيذهبون جميعاً لزيارة بيت جدها , وغداً الجمعة سيكون أسامة هناك , ماذا ستعمل هل تغلق عينيها وكأنها لا تراه ؟؟ وإن اغلقت عينيها فكيف ستغلق قلبها ! .
كان الحي ساكنا كعادته في أيام الجمعة , أما منزل الجد فلم يكن هادئاً أبداً , اقتربت فرحة من ريتال لتشكرها على الثياب التي أعطتهم لها فقالت : شكراً لك أعجبني الثوب الأزرق إنه جميل جداً و الآن سأرسمك ! . انطلقت بعدها ريتال تحمل كاسات الشاي إلى المطبخ ، مشت بتوتر لأنها ستضطر للمرور أمام أسامة وهى في طريقها إلى المطبخ ولشدة إرتباكها إلتوت قدمها ووقعت على الارض و انهالت الاكواب من يديها وانتشر الزجاج في كل مكان . أسرع أسامة على الفور وأمسك بيدها وبدأ بتقطيبها بينما كانت تتالم و تبكي من وجعها, في هذه اللحظه اتصل عليه توفيق موظف الإستقبال و قال له بأن عليه ديون طائلة ولايعرف كيف سيسدد تلك التى عليه ... أخبر أسامة والدته بأنه مضطر للذهاب الآن و طلب منها أن تخطب له ريتال . أن يُغرم بك شخص فذلك رائع , أما أن تكون على ايمان كبير أنه مغرم بك فذاك أروع ! . ذهب أسامه إلى توفيق حتى يعطيه المبلغ ليفك بها ضائقته . على الطريق كان أسامة يقود مركبته وهي تشق طريقها ضد تيار الهواء ويفكر في ريتال وعذوبة تلك الدقيقة التي التقت فيها عيناهما سوية , اختلج قلبه في صدره , وفجأة ظهرت أمامه من حيث لايدري سيارة مقبلة بالإتجاه المعاكس , تحاشى السيارة المقبلة فاصطدم بسيارة ثانية ثم لفت سيارته في الهواء . شعر بألم شديد , ابتلعه الظلام , و احس أنه يسقط في مكان عميق ! .
ثقل في جسده وكأن أكياساً متروسة بالرمال مربوطة في أطرافه الأربعة , يتملكه احساس غريب أنه يسمع صوت بكاء وأصوات قادمة من مكان بعيد جدا , يبدو أنه في المستشفى شعر بوخز أصابعهم في كامل جسمه . بعد لحظات فتح عينيه والتفت حوله ليرى ذاته في مكان عجيب , غرفة خاليه جدرانها ساكنة , بدأ يشعر بيديه و رجليه رفع يده ليتأكد من أنه سليم هل مات ؟ لم يتوقع أنه سيموت في هذه اللحظة ؟ لم يفعل شيئا بعد لم يعش كفاية ليحقق طموحاته ولم يتزوج الفتاة التي يحبها و ينجب أولاد ،ولم يبر والدته كما يجب , إنبثق وميض أبيض من قلبه حيث كان يضع يده . كان المكان هناك هادئاً لكنه بارد جداً صدر صوت قوي :عد إليه عد إلى الله !! سرت في جسده قشعريرة ، رأى كوخاً مقابله فاقترب منه فرأى فرحة داخل هذا الكوخ اقترب منها، رفعت له بالاوراق التى ترسم عليها وقالت : أنظر لقد عرفت السر ! حدق في رسمتها فأضاءت الحلقة المرسومة بداخلها ظلاً لشيء ما , شيء يماثل منزل جده ,أكملت فرحة : إنها الهالة المقدسة ثم تغيرت ملامح وجهها وتبعثرت الهالة المضيئة و صرخت فرحة : لا بد أن تعود وخرجت من الكوخ ...
بدأ أسامة يستعيد وعيه شيئا فشيئا ورأى الدكتور أمين أمامه وقال : كان حادثاً شنيعاً لقد نجوت بإعجوبة !!!!,
بعد ذلك لازمه شعور دائم بالخوف حتى بعدما شفى وعاد الى منزله , وعندما فاتحته أمه بموضوع الإرتباط مرة أخرى قال لها : ليس الآن , و رجع الى حجرته والشعور بالخوف لا يريد ان يفارقه ، الجحيم هو يكون حين لا يعود هناك أي أمل , وما عاد لديه أمل في الحياة , فهو ينتظر الموت !
رجع يوسف إلى المنزل و هو فرحا , تسارعت دقات قلب ريتال يبدو أن أسامة قد قرر أن يحدد موعد الخطبة أخيراً, وحين قال يوسف إن سارة وافقت على الخطبة احتضنت ريتال شقيقها وأخفت ما يختلج في داخلها من أحاسيس , وذهبت مع أخيها ليخبروا اهلهم بالامر , بينما انفرجت أسارير يوسف وقلبه يكاد يرقص طرباً و فرحاً فهو لا يكاد يصدق ما سمعه من والده لمباركته للزواج دون نقاش ولا كلمات يشرح.
مرة أخرى العرق يغرق جبينها وهي ترتعش , استيقظ كل من فى المنزل على صراخها ، ركض كل من في المنزل على صوت فرحة , جاء أسامة إلى الحجرة وطمأن الجميع عليها ، وفي الصباح سألها عن المنام فقالت : رأيت الكابوس المرعب مرة ثانية الذي رأيته سابقاً قبل وفاة أبي , أسمع ذئاباً تعوي وكلاباً تنبح وسباعاً تزأر كلها تطلب فريسة واحدة ولكن هناك من يفترسهم واحداً تلو الثاني إنه الموت ,, هناك أحد سيموت في هذا المنزل !! حملق بعينيها الخضراواين ثم قال : من الفريسة ؟ قالت : لا أدري كان على وجه الفريسة وشاح أبيض لا اعرف من سيموت ! أسرعتْ بعدها فرحة مجيبة لنداء والدتها وتركته يتساءل من سيموت ؟ هو أم جده يا إلهي , ربما مريم أو والدته .. بدأت الأفكار تتناطح وتتصارع في رأسه .
إنهمرت أمطارالسماء ووقف أسامة يراقب أشجار الحديقة , رجعت لقلبه رعدة الخوف , يحس بأن الموت قابع هنا وهناك وسينهشه و يتركه , كان حائراً كيف بإمكانه أن ينسى أن الموت ينتظره ؟ كيف ترجع إليه الرغبة في الحياة ؟ خرج باحثاًعن مسجد يحتويه , الحياه لا تستحق لماذا نركض ورائها .غمرته حالة من السكينة و الراحة لم يخرج منها إلا وهو يختم صلاة العشاء , صافحه المصلون وكأنهم يهنئونه , رحبت به الكفوف وودعته الدعوات على الطريق وهو راجع الى منزل جده , دعوات من سمعوا أنينه وشهدوا دموعه .
اقترب أسامة بعرجته من فرحة وسألها عن كل من في البيت فقالت إنهم خرجوا جميعاً ، السيد حسام أولاً و من ثم خرج السيد أحمد ثم خرجت السيدة دولت وحدها بشكل سريع أما السيدة مريم فخرجت بعد أن أخذت سيارة أجرة وأخيراً خرجت السيدة ريم بعد أن تركت مروان مع والدتي بالمطبخ . جلس أسامة حائراً حتى رجعت مريم ثم لحقتها أمه . كانت مريم شاحبة ابيضت شفتاها وزاغت عيناها ثم فقدت وعيها ثم استعادته بعد معاونة أسامة وطلبت منه ان يطفئ الاضواء في البيت و ان يغلق الباب . خرج أسامة والخوف من الموت ما زال ينقر في راسه , يخشى أن تموت مريم أو أن يباغته الموت فجأة , أما والدته فكانت وساوس الشيطان تنهش بصدرها لأنها كانت تعرف خبيئة ابنتها ! .
لقد بدأ الأمر قبل الحادث بأسابيع حيث لاحظت السيدة دولت نظرات أحمد لريم و ملاحقته لها , كانت فرحة هي العين التي نقلت لها كل ما يحدث و يدور أمامها بالتفصيل فالفتاة نبيه وقوية الملاحظة , قالت لها أن أحمد لا يصلي كما تعتقد هى و قالت لها أنه اشترى هاتفاً جديداً كما قالت لها أنه لا يهتم بأمر مريم كما أنه كان يصعد إلى سطح المنزل وينحني على المطل حتى يراقب ريم . وفي إحدى الأيام شاهدتهما الجارة رقية , شاهدت أحمد وريم ومروان على السطح يتكلمان وكانت ريم تضحك بدلالٍ كما هي عادتها في الحديث , ومن هنا بدأ الشك ينهش السيدة دولت ليل نهار . وبعد فترة لاحظت السيدة دولت أن ريم قد توقفت عن الخروج من حجرتها وأن أحمد بدا عصبياً جداً , ولم تدر هل تقول ل ابنتها ما يجري أم لا .. وتفاجأت السيدة دولت بأن مريم تعلم عن كل شيء وأن بين أحمد وريم رسائل كثيرة , ولكن ريم صدته في النهاية وانقطعت عن التواصل معه عندما صرح بحبه و اعجابه . ولم تفضح مريم سر زوجها كما قالت لها أمها ولكن غلى الدم في عروقها , وواجهت أحمد بالحقيقة الذي اعتذر منها ورمى كامل المسؤولية عليها بسبب حملها المبكر قبل استمتاعهما بحياتهما . أحمد بالفعل لم يحب مريم هذا الحب على الاطلاق بل كانت بالنسبة له زهرة اشتهى رائحتها فقط , ولما قطفها وذبلت زهد فيها والتفت لغيرها ولن يشبع البتة ! .
كانت أجواء حفلة خطبة يوسف و سارة صافية و هادئة , وعلى غير عادته سابقاً كان أسامة متوتراً يرتدي بزة فاخرة زرقاء , جلس يفكر في أحوال مريم لا يعلم لماذا طلبت مريم الانفصال . كانت ريتال تتبعه بنظراتها , ثمة وجع في صدرها , عادت تشارك شقيقها يوسف فرحته بقلب متعب , حتى متى ستنتظر ؟ بينما مسح أسامة بنظراته حشد المدعوين باحثاً عن ريتال فاستقرت أخيراً عيناه عليها فزال التوتر!! يحبها لكنه لا يقدر أن يقترب منها لأنه سيموت , جلس شارداً يتفكر بكل ما مر به حتى هذه اللحظة , ولد وعاش وكبر وتعلم وتفوق وصار دكتورا يشار إليه بالبنان وماذا بعد ذلك سيموت و تبتلعه الرمال ! .
عادت دولت إلى المنزل وصعدت إلى حجرة والدها فقال لها : كنت خائفاً يا ابنتي , الوحشة يا ابنتي , احس أن وقت رحيلي قد آن وأرجو أن يغفر لي ربي كل ما قصرت به , إن حسام يا ابنتي بحاجتك لا تتركيه حتى لو ابتعد هو عنك , و قولي ل أسامة أن يلازم أخاه ويأنس به ويصبر عليه , أما مريم فلا تغفلي عنها فهي تحتاجك أيضاً ، أطلبي من اخوتها أن يمنحاها ذلك الحب الأبوي الذي ابتليت بالحرمان منه , إن أسامة يمر بلحظات صعبة و ذلك الحادث قطع طريقته التي يعالج بها شؤون حياته , وددت لو أقنعه أنه لن يحسن أن يعيش حياته على التوالي فهو لا يحاول أن يقضي أكثر من عمل في وقت واحد , تعود أن ينهي شيئاً ثم الآخر والآن يؤجل الزواج حتى ينتهي طموحه العلمي الذي لن ينتهي البتة , وبعد الحادث صار يؤجل حياته كلها اعتقادا منه أن القرب من الله مهمة سيتم إنجازها في وقت محدد وكأن حياته وعمره ومهنته سينتظرونه في الطريق ! لماذا لا يتزوج ريتال ويحبها على التوازي وهو يمضي في عمره ؟ تسارعت أنفاس والدها وبدأ ينتفض ويتشنج ثم تابع كلامه بصعوبة وقال : أخبرى أسامة أن يحب وهو على الطريق , يعمر في الارض وينشر العلم وينفع به غيره من الناس ليكسب أضعاف عمره بركة في الإيمان والسعادة والعمل في الدارين , فعندما نعيش لأنفسنا فحسب تبدو لنا الحياة ضئيلة قصيرة , الموت آت لا ريب فيه فليعد إلى الله ولتكن حياته كلها لله حتى زواجه ! وعلى نحو مفاجئ , تُمزق أستار الصمت صرخة ألم اجتمع لها كل من في المنزل , وتوجهت الأنظار ناحية السرير , لفظ الجد أنفاسه الأخيرة ! .ومات
وقف أسامة أمام جده يتذكر صوت فرحة وهي تقول له عن الكابوس الذي باغتها تلك الليلة , بعدها ازدحم البيت بالعائلة , وبقي أسامة اليوم كاملاً في المقبرة عند جده , هبت الريح مرة ثانية فانتابته قشعريرة . ما عادت لديه الرغبة في ان يحيا اكثر من ذلك ..
خيم السواد على المنزل وبدأ الناس بتقديم واجب العزاء .. تناهى على سمع حسام حديث الجارة رقية و هي تصف لجارتها كيف أن زوجة المستشار التي تقطن في البناية المقابلة لمنزلهم , وهي ريم , كانت تلتقي بأحمد على سطح البيت بعيداً عن انظار كل العائلة , تذكر حسام زوجته وكيف كانت تلح عليه أن يتكلم معها و لو قليلا أو أن يأخذها لبيت أمها لأنها ملت من الجلوس وحيدة . كان حسام يعتقد أن الماديات أهم من العواطف واحتواء زوجته والكلام عن الحب ، فأنهك نفسه في الشغل كي يكسب المزيد من المال , هرول حسام إلى والدته ليتبين الحقيقة ويسألها فقالت له : كانت مرة واحدة وزوجتك ليست مذنبة لأنه كان يلاحقها وهي تصده , يا بني إقترب من زوجتك إلى ذلك الحد الذي يجعلها تطيعك حباً لك وليس خوفاً منك , إملأ حياتها بالحب فالفراغ جعلها سهلة المنال لماذا أهملت إشباع مشاعرها يا ولدي ؟ , عليك أن تسامحها لأنك سبق وأخطأت , ألم تكن تتحدث إلى فتياتٍ أخريات عبر الإنترنت وكنت تخفي هذا عن زوجتك ! .
انفضّ العزاء وخلا المنزل من الغرباء . ذهب سليمان و اسامة إلى المسجد أما أحمد فحياهم واستعد للإنصراف اعتقادا منه أن الأمر بينه وبين ريم لم يُكشف إلا لزوجته فقط , رماه حسام بنظرة قاسية ولكمه لكمة قوية ارتجت لها أسنانه فتركتهم ريم وانتقلت إلى حجرتها على وجه السرعة و الندم يأكلها ، لحقها حسام الذي بدأ صراخه يملأ البيت ثم هدأ فجأة .. كان البيت هادئاً ومعتماً إلا من بصيص نور قد تسرب من أسفل باب المنزل , كل النوافذ مغلقة وكأنها جفون مقفلة , أصرت فرحة على غلقها جميعاً , وأخيراً جلست تنتظر أسامة وعندما جاء صاحت : السيدة دولت مريضة , حينها ركض أسامة إلى حجرة والدته حيث كانت تضع كفها على صدرها و اسرع بها إلى المستشفى .
تأملته السيدة دولت وهو يطالع نتائج التقارير الطبية وهو بمعطفه الأبيض , وأطل الفخر من عينيها ولكن ما الذي تغير فيه بعد الحادث , فقد خسر جزءا كبيرا من وزنه وأصبح لا يهتم بأناقته ومنطوياً على نفسه ودائم الشرود قليل الكلام كثير الإطراق , كان يكفيها هماً قلقها على ابنتها مريم وابنها حسام فانفعالها أدى إلى ارتفاع ضغط الدم عندها . لم تظهر الفحوصات اي حاجة لان تبقى في المستشفى ولكن بقي فحص واحد أراد أسامة أن يجريه لها .
عادم السيارة كان ينفث دخاناً أسوداً ورغم ذلك كان سليمان يحس وكأنه يقود مركبة فخمة جدا , جلس أسامة بجواره يتلوى في كرسيه , كانت تلك أول مرة يسافر فيها بعد الحادث , فعندما قال له سليمان أنه عائد إلى الإسكندرية قرر ان يذهب معه وشجعته أمه على ذلك عله ينعم براحة نفسية .
كانت رأسه مغطاة بخوذة مزودة بأقطاب كهربائية متعددة تتصل فيما بعد بجهاز كمبيوتر والدكتور جيمس روبن والدكتور أمين يقفان سوية ويطالعان باهتمام لوحة المراقبة وينتظران بقلق كبير . استيقظ أسامة وبعد نصف ساعة أفاق من أثر المادة المخدرة التي حقنوه بها قبل البدء بعملية نسخ ذاكرة امه من قرص صلب على الشريحة التي تم زرعها منذ مدة في دماغه . كان يمر بحالة اضطراب ذهني فنشاطه الدماغي بدأ في الارتفاع , آلاف الصور انبثقت مقابل عينيه مرت كل ذكريات والدته منذ شبابها إلى هذا الوقت أمام عينيه , فعندما مرضت امه اخذها الى حجرة خاصة وود أن يجري عليها اختباراً بسيطاً يخص أبحاثه , وكان الدكتور أمين الوحيد الذي يعرف بهذا الموضوع , فقد قام أسامة بنسخ ذاكرة امه على الحاسوب وبعد فترة بدأ يراسل الدكتور جيمس , ووقّع على أوراق أنه يريد ان يتطوع بنفسه للقيام بالإختبار, وتمت العملية بنجاح أفاق بعدها أسامة حاملاً ذاكرته وذاكرة أمه التي تبلغ من العمر ستين سنة , لم يكن يعرف حينها أن أحمد قد أوجع أخته بتلك الطريقة وطمع في زوجة رجل ثاني , لم يلاحظ قسوة شقيقه حسام على والدته وأنها كانت تحمل عنهم جميعاً حملاً ثقيلاً , لم تخبره عن الاوجاع والتلوع الذي كان في صدرها اشتياقاً لهم وخوفاً عليهم ولم تخبره عن وصية جده له ... أسامة استيقظ ما بك ؟ قالها سليمان وهو يهزه بعنف كي يوقظه يبدو وكأنه رأى كابوساً غريبا عجيبا !! قال سليمان : إننا في منزل جدتي في الإسكندرية ولكن ما بك ؟ قال أسامة : أين والدتي هل ماتت ؟؟؟ طمأنه سليمان ثم رجع أسامة بعدها للنوم سريعاً كان كابوساً مرعباً !! .
في اليوم الذي يليه استيقظ أسامة مبكراً فقد انتهت عطلته , ولكن قبل ذلك أراد ان يقابل السيد سعد حلمي حينها اتصل به ووعده أنه سيقابله بعد ساعة في ذات المكان . كان أسامة يتوق ليقابل السيد سعد بشكل غريب , أراد أن يفتش في شخصيته عن ملامح الأب الغائب , لم يملأ جده ذلك الفراغ وحتى خاله لم يروي عطشه لتلك المشاعر فالأب أمان . وحين جاء السيد سعد وسأل عن حال أسامة قال : حطمني عناق الموت و اخافتني عيناه وهي تطاردني وتتفحص ملامح وجهي , كرهت رائحة أنفاسه أكره الموت لا اقدر ان اصبر على هذه الحياة التي نهايتها الفناء وسنتها الفراق , حينها علم السيد سعد أن أسامة لديه ما يشغل باله فقال بروية : لماذا أنت هنا على وجه الأرض ! ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ,عُد لله تعالى واجعل حياتك له , يجب ألا تبالغ في الخوف من الموت وإلا ستفقد الشعور باي شيء جميل , لقد فَطرَنا الله على النسيان , ستأتي عليك لحظات و تنتصر عليك فطرتك وتنسى الموت .. وَجدت كلمات السيد سعد طريقها لقلب أسامة , كان لنبرات صوته رنة عاطفية وحقيقية وكأنه مر بتلك العواطف من قبل , وبهذا صار أسامة أفضل حالاً مما كان عليه .
على الطرف الآخر من الهاتف قالت : نحن هنا بالإسكندرية أنا وخالك كمال يا أسامة , اضطررنا لان ناتي الى هنا حتى نقدم واجب العزاء لإبنة خالنا في وفاة زوجها وبالمناسبة جاءت معنا ريتال . أصيب أسامة بصدمة وراحة في الوقت ذاته وتسارعت دقات قلبه , كان يتوق ليراها , وفي ذلك المطعم طلب أسامة من خاله ان يتحدث مع ريتال منفردين ، جلسا وجهاً لوجه على طاولة مستديرة من الخشب الساكن ثم قامت معه وسارا نحو البحر , غشيتهما الراحة وبدأ يفتش في جعبته عن كلماتٍ حتى يبدا في حديثه , طال صمت أسامة حينها قالت ريتال كاسرة حاجز الصمت : هل ثمة شيء ليس على ما يرام ؟ فقال : إذا كنت تسببت لك بأي وجع فاطلب منك السماح , وددت فقط أن تمنحيني المزيد من الوقت لست مستعداً لان اتزوج في هذا الوقت فلنؤجل خطبتنا قليلاً , قالت ريتال بغضب : لقد ضيعت وقتي في انتظارك ! حينها قال أسامة : إنني خائف من الموت اخاف أن أتركك وحيدة كأمي بلا حب , بلا رفيق عمر يشاركك حياتك , لا ارغب في أن اوجع قلبك , قالت ريتال : أوتظن أنك الآن لا توجع قلبي ؟ أعلم أن الحادث قد كسر شيئاً ما بداخلك ولكن يبدو أن عمتي ألحت عليك لان تتزوج مني ولم تكن رغبتك , فترددك ليس وليد الحادث بل من قبل ذلك يا اسامة حينها قال أسامة : لا بل أنا أحبك وينبغي أن أكون بقربك لا أتخيل حياتي من دونك , اللقاء الذي جمعنا سوية في حفل زفاف شقيقتي ورداؤك الطاهر وابتسامتك الهادئة التي تخفي خلفها الحياء الذي أحبه وروحك الفطرية النقية التي تتحدثين بها معنا وكفك الرقيق وقامتك القصيرة كل تلك التفاصيل الصغيرة تسكنني منذ اعوام ...الآن في هذه الدقيقة وأنا أقف أمامك أود واتمنى أن تكوني بجواري حتى أصل لحاله من الإتزان . حاولت ريتال أن تقرأ أفكاره بدأ كتفيها يرتجفان وانكمشت في ردائها خجلاً وفي تلك الدقيقة كان أبوها خلفها مباشرة فقد تأخروا على موعد القطار ولا بد من ان يرجعوا . وقرأ أبوها البشرى على وجهها وتبينت السيدة دولت الفرحة التي تطل من عيني ولدها .
الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح , كانت تلك المرة رقم عشرين التي تسمع فيها نفس الجملة , فأسامة لم يعد لغاية اللحظة من الإسكندرية ولم يرد على هاتفه من النهار بينما بدأ سليمان بعملية البحث عنه في الأقسام والمستشفيات والبحث عن أي طريقة تمكنه من الوصول إليه . مر أسبوع ولم يعد أسامة , انهارت السيدة دولت حزناً و قهراً على ابنها , شعرت أنه ليس في يدها اي حيلة ،بكت وإنتحبت حتى جف معينها ولمت صدرها ثم فقدت الوعي . جلست ريتال بجوار عمتها ترتجف كورقة مجهدة وقالت لأبيها : سأسافر مع فرحة و والدتها لأبحث عنه ، فقال أبوها : إذاً سأذهب معكم ! .
في شقة سليمان جلس كمال بالقرب من ابنته ، قال سليمان : يوم اختفائه خرج على عجل لمقابلة شخص ما , وعندما قرصنت حسابه على الفيسبوك كان يتحادث مع شخصاً ما يعيش في الخارج , وكان أسامة يتكلم عن أبيه ويطلب منه أن يهاتفه ويسأل عنه لأنه وحيد , ولكنه ذكر في الرسالة المكان الذي راى فيه هذا الرجل , حينها اتجهوا كلهم إلى الشاطيء وارتدت ريتال سترة أسامة الزرقاء وحمل كل منهم صورة لأسامة و شرعوا يسألوا عنه في طرقات الإسكندرية ! .
مرت اعوام وبوجهٍ وسيم لوحته الشمس وبقوامٍ رياضي ممشوق قوّمته السباحة حمل مظلة واتجه بالقرب منهما , حينها قالت فرحة التي أوشكت أن تتم عامها التاسع عشر : ( هنا من فضلك و نريد مقعدين ) , تسمر حينها في مكانه و احس برعشة تجتاح جسده وكأنه يعلم من هي , لاحظ أن السيدة التي معها ترتدي سترة رجالية فعرّفهم على ذاته , كان اسمه ماهر ويدرس في كلية العلوم , حينها قالت السيدة : إسمي ريتال و ارغب في أن أستأجر شقة في تلك البناية التي تقابل هذا المكان , وكاد ماهر ان ينصرف إلى أن استوقفته ريتال و وضعت امامه صورة لأسامة وقالت له : هل تعرفه إننا نبحث عنه منذ عشرة اعوام ! فور أن أمسك الشاب بالصورة وتأمل عينيه قال : لن أنسى هذا الوجه طوال حياتي , لقد كنت يوماً على أسير بجانب إحدى المقاهي وكان ذلك منذ عشر اعوام وكنت جائعاً أحمل بيدي كيس حلوى أبيعه للناس , مر من أمامي وأعطاني قطعة من الشوكولاه و عاونني , وبعدها أهداني سترة وجوارب جديدة وحذاءاً , يبدو أنه كان ينبوعاً من الخير كان إنسانياً إلى الحد الذي يجعل البسطاء لا ينسون ملامحه و وجهه , حينها قالت فرحة : السيدة ريتال خطيبة أسامة وقد اختفى منذ عشر اعوام ولم يعثر عليه حتى الآن !!! .
ألم شديد في رأسه ودقات قلبه موجعة بطيئة , ( أسامة هل تسمعني ) إنه ذلك الصوت الذي يعلمه أسامة , إفتح عينيك أو حرك أصابعك إن كنت تسمعنا !! فتح عينيه فشاهد الدكتور أمين حينها قال أسامة : أين أنا ماذا حدث ؟ قال الدكتور أمين : كان حادثاً قاسيا , لقد تعرضت لصدمة في جمجمتك أدت إلى رضٍّ دماغي قوي , ولقد غبت عن الوعي لمده خمس وعشرين يوماً , حمداً لله على سلامتك يا بطل لقد نجوت بأعجوبة !! . أغمض أسامة عينيه يسترجع كل ما عاشه و رآه , كان كل هذا يدور في رأسه في وعي مواز كان يحيا فيه , لم يمت جده ولم يخطيء حسام يوماً ولا زوجته ريم , وأمه بجواره ولم يكن أحمد خبيثاً ومريم بخير, وريتال ما زالت تحبه و تنتظره , ولم تكن عشر اعوام بل كانت مجرد أيام أبحر فيها في عالم غريب عجيب , لم يكن سهلاً أن يمر بهذا وحيداً , لم يكن سهلاً على الإطلاق ! .
كان الجو رائقاً والسماء عذبة المنظر بينما كان أسامة يجلس في حديقة البيت بالقرب من والدته وقد دب النشاط في عروقه وقال : إني أحب ريتال متى ساتزوج بها ؟ .. سألته من هو سعد ومن هو ماهر ؟ رفع أسامة حاجبيه باستغراب فأكملت السيدة دولت : قدم طفل صغير يدعى ماهر ليزورك بعد أسبوع من الحادث بعد أن رأى صورتك في الجريدة , أما سعد فقد قدم في الأسبوع الذي يلي زيارة ماهر وقال إنه التقى بك على الشاطيء وعلم بهذا الامر أيضاً من الصحف , لا تنس أنك طبيب معروف , كان دائماً يرقّيك ويتحدث إليك ويهمس في أذنيك بآيات القرآن ......, ثم قاما الأثنين لزيارة ريتال , جاء سليمان بسيارته الغريبة فلاحت ابتسامة أسامة على وجهه فقال له سليمان كم شعر باليتم بغيابه فقال أسامة : أنت من فرضت على ذاتك هذا الحصار , يجب ألا تطيل وحدتك عد إلى بيت والدك واخرج من تلك المتاهة , ولتأنس بتلك الروح الدافئة التي تغمر المنازل عندما يشرق عليها الحب , سامح والدك يا سليمان فقد سامحته والدتك ! ارتبك سليمان فكانت تلك هي اول مرة يتحدث فيها أسامة صراحة عن هذا الموضوع , قال سليمان : لا أستطيع , فكل ركن في المنزل يُذكرني بوجه أمي وهي تبكي وتعض على شفتيها لتكتم بكاءها حتى لا توقظنا , وأبي ينهال على جسمها باللكمات ويركلها ،لشد ما اقساه , فمشهد فرارها لتحتمي بأثاث المنزل لا يفارق خيالي , ظل يومها يضربها إلى أن واجَهْتُه فصفعني وتوعدني بالعذاب إن رجعت مرة ثانية , لجأت لخالي حينها وأبلغنا الشرطة , وجرح كبرياؤه عندما جاءت أمي وتنازلت عن البلاغ و رجع الى المنزل وغاب الأمان . أما الآن فإنه قد تغير كثيراً ويبذل قصارى جهده كي يعوضها . قال أسامة : وأيضاً عد إلى خطيبتك وأعتذر لها ولا توسِّط أي صديق بينكما مهما بلغت ثقتك فيه .. إنصرف سليمان بعقل غيرعقله و بقلبٍ غير قلبه , وبعد دقائق وعلى الطرف الآخر من هاتف سليمان كان صوت ابوه مفعماً بالبهجة وهو يثرثر معه , وأخيراً فتح سليمان حقيبة ذكرياته و ترك كل ما طواه بها من فرحة , فأشرقت قسمات وجهه .
مشت جذوة النهار في سواد الليل , فتح أسامة عينيه ملتفتاً لكل من حوله بشكل غريب , رغب في ان يتصل بالدكتور أمين ولكن احس أن إجابته لن تروي ظمأه , فما مر به لا يفسره العلم ولا الطب ومن ضمن الأحداث التي مر بها أسرار تخص الاسرة , قلبَ هاتفه فاتصل بالسيد سعد حلمي فقال له : أثناء فقدانك لوعيك تلاقت روحك بروح والدتك وريتال وبي وبالآخرين و رجعت إليك بحقائق جلية ما كان لك أن تتصورها لو يعود إليك وعيك , فمثلاً تُقبض الأرواح عند نيام النائم فتقبض روحه في منامه , وتلتقي الأرواح ببعضها البعض أرواح الموتى والنيام , فيحبس الله التي قضى عليها الموت ويرسل الثانية إلى بقية آجالها , أنهى أسامة المكالمة وقد سرت الطمأنينة في قلبه .
بسمة في ثغر الصباح , ظهرت الغيوم حيث كانت ريتال تجلس بالقرب من زوجها في ذات المكان , أخيراً تزوجها وكان حفل زفافهما منذ شهر , وها هما يقضيان آخر أسبوع من شهر العسل في الاسكندرية يتمشيان على الشاطيء قال لها : اللقاء الذي جمعنا مع بعضنا البعض في حفل زفاف أختي , تتذكرين تلك النظرة التي سارعت بغضها فخطفتها من عيني , ابتسامتك الرقيقة رداؤك الطاهر روحك النقية كفك الرقيق وقامتك القصيرة التي أعشقها , كل تلك التفاصيل تسكنني منذ اعوام , أنت غيمة برهافة القطن أنغمس فيها بكل ما فيّ , أحبك ! قالت ريتال : لماذا احس وكأنني سمعت تلك الكلمات من قبل , وكأن تلك اللحظات تتكرر مرة ثانية أليس غريباً ! قال لها وعلى فمه ترتعد ابتسامة : لعل أرواحنا تلاقت من قبل هناك في مكان لا يعلمه إلا الله وحده.
النهاية
تعليقات
إرسال تعليق