القائمة الرئيسية

الصفحات

تلخيص رواية الدين الرابع:أحمد إبراهيم - اعداد واشرف :رجاء حمدان





تلخيص 
رواية الدين الرابع:أحمد إبراهيم
اعداد واشرف :رجاء حمدان 



لسماع الرواية والاشتراك بالقناة ...قناة راجو شو... الرابط التالي : 




 


القاهرة 2008 .. تُومض ابتسامته الساحرة من طرف خفي بوجهه, شعره المصفف بعناية ينساب للخلف بنعومة وحرية, وجهه المستدير وعيناه الواسعتان تشعان ذكاءاً نادراً, ذكاء تراه في كل قسمة من قسمات وجهه الوسيم مع غمازتي خديه وذقنه الحليق بعناية وابتسامته الواثقة , حازم السعدني هو أحد أشهر الوجوه الشابة المؤثرة في مصر, قدوة الشباب وحلم الفتيات ذلك الذي تربع على عرش التنمية البشرية في مصر والوطن العربي .

هوت قبضته على سطح المكتب محدثة دوياً هائلاً, هذا ما كان ينقصه, في أقل من يومين تتخطى حملة المدعو حازم السعدني مائتي ألف متطوع , كارثة بكل المقاييس, كيف يبرر لرؤسائه؟, كيف يوضح لهم أسباب تركه تتنامى شعبيته إلى هذا الحد المفزع ؟, فلا أحد يحيا في هذا البلد إلا حين يرضى عنه وليد الأسيوطي العامل في جهاز الدولة الذي استحق ثقة رؤسائه عن جدارة بعدما لم يخطيء يوماً واحداً في عمله, كما استحق كافة الصلاحيات الممنوحة له التي تجعل منه شخصاً فوق القانون بل فوق الدولة بأكملها . يؤمن وليد الأسيوطي بعبقرية النظام الذي تتمثل في قدرته على تبديل الأماكن وتغيير الوجوه دون أن تتأثر الأدوار, فالجميع يعي دوره ودور من يسبقه أو يليه , المهم هو القدرة على التناغم والعزف الجماعي فلا مكان للعزف المنفرد, فقط هو مايسترو واحد يحرك الجميع إلى أن يقرر أن ينهي دوره ويفسح المجال لمن يكمل مسيرته, وقتها يصبح وليد الأسيوطي وزيراً في حكومة المايسترو الجديد ليلعب الدور الأكثر قدرة وتأثيراً. لمعت عيناه عندما تخيل اللحظة التي ينتظرها بفارغ الصبر, اللحظة التي من أجلها يعمل مخلصاً ولا يترك شيئاً للمصادفة فإذا به يُفاجأ بهاذا ال ... حازم وقد تضاعفت شعبيته في شهور قليلة لمئات الآلاف من المتابعين, فالتعليمات صريحة في هذا الشأن وهي أنه غير مسموح على الإطلاق بتنامي شعبية أي كائن في الدولة سوى من هم في الدائرة ولحدود معدة سلفاً .



لم يدرك وليد أبعاد الأمر إلا حين وجد إحدى بناته تقرأ كتاباً تعلو صورته ذلك ال حازم وهو يضحك ببلاهة, تناسى الأمر ولكنه بعد شهور تفاجأ بالتقرير الذي يقول: عشرات اللقاءات الجماهيرية في مختلف الجامعات المصرية, أكثر من 12 كتاب في مختلف تخصصات التنمية البشرية والتفكير والثقة وغيرها من الهراء الذي يملأ به عقول أتباعه . إمتعض وجه سعد أهم معاوني وليد, فسعد المحمدي شخصية هادئة وعقلانية لأبعد الحدود ونادراً ما تراه يتحدث, فالأسيوطي كان الأكثر قوة وصلابة وعنفاً, وسعد هو الأكثر ذكاءاً ودهاءاً وخبثاً وبهذا يكتمل الفريق, فقال سعد : (الموضوع بسيط جداً , الناس عندنا بنقسّمهم أنواع أول ما بيعدّوا الخط المرسوم : نوع بيختفي من الوجود, ونوع بيخرج بره اللعبة خالص, ونوع بنخليه على الحياد, أما النوع الرابع إتخلق عشان أمثال حازم, وهو أننا بدل ما نلعب معاه هنلعب بيه) .


(محاضرتنا النهارده عنوانها الأساسي : إزاي أخلي لحياتي هدف), قالها دكتور حازم بثقة ملقياً نظرة طويلة إلى عيون الحاضرين في تلك القاعة الدولية المهيبة, كم يعشق هذه الهالة التي يحيط بها نفسه , ثقة مطلقة بقدراته, حضور كاريزما, وسامة وأناقة بالغتين, يا لها من حياة ينعم فيها وبها, إنها الشهرة في أعتى مراحلها, أليس هو من منع العشرات من حالات الإنتحار والمئات من حالات الطلاق وعالج آلاف مدمني المخدرات والسجائر بسحر كلامه وقوة شخصيته, جلسة واحدة يقضيها مع الحالة كافية جداً لإنهاء الأمر, تُفتح له الأبواب النفسية المغلقة وتنكشف له جميع الأسرار, يلج أقصى الدهاليز ويصل إلى الحل دوماً, عشرات المرات يلقي فيها تلك المحاضرة وهو يعي تماماً مفعولها السحري على عقول الحاضرين, إنها التهيئة لما يود إيصال الحشود إليه, عملية فتح عشرات الصناديق المغلقة منذ سنين داخل عقول مستمعيه, اللعب على مخزون اللاشعور حيث يقبع كل شيء, يثير الكثير من الأسئلة ويلفت النظر إلى العديد من الأمور المخفية, يضغط أحياناً على نقاط غاية في الحساسية    ويوهم الجميع بحتمية التغيير وبعدها يصير كل شيء ممكناً.  


( أنبياء العصر ), عنوان صادم لمقال لا يقل دهشة عن عنوانه السابق, يتطرق المقال إلى نقاط شديدة الحساسية فيما يتعلق بعلمٍ حديث النشأة يزداد الإقبال عليه يوماً بعد يوم ويطرق جميع الأبواب ليكتسب يومياً المئات من المقبلين على دراسته "علم التنمية البشرية ".
تحترف منال مندور هذه النوعية من التحقيقات عبر العالم الإفتراضي الذي تعيشه داخل بيتها وأمام شاشة حاسوبها المتنقل, وما أن تجد آلاف القراء لها حتى ترسل منال ما كتبته لإحدى منظمات المجتمع المدني, لها جريدة اسبوعية مستقلة, وبهذا تجد كتابات منال طريقاً لها في عيون القراء.
الأمر ليس صعباً, المطلوب فقط عنوان برّاق وصورة سينمائية وعدد من الشهادات المعتمدة والموثقة, بعدها تتوقف كي تحصي الغنائم, داعب الأمر خيال شريف زكي الشاب الطموح والذراع الأيمن لحازم السعدني ..




منير عرفة دوماً هو معارض ويشك في كل شيء, كثيراً ما قال له شريف  أنه لا يصلح أن يكون مدرباً في المجال ولا يُقنِع أبداً, متخصص في أكثر الأمور تعقيداً في مجال التنمية البشرية وهو الإستشارات النفسية والأسرية نظراً لخلفيته الأكاديمية في علم النفس, يقول منير دائماً : (دُوُل نصّابين يا شريف وفي يومٍ من الأيام هتصدقني), ربما إحساسه بضعف تقدير الذات هو ما يحدو به لمثل هذا الهجوم, فلا أحد يطلبه في برنامج خاص ولا صورته تصلح لأن تكون واجهة لملتقى جماهيري, وبالرغم من كونه يحمل عِلماً إلا أنه غير قادر على تبسيط الأمور للعامة, فالعلم من وجهة نظره هو ما يمكن قياسه أو قياس الأثر الناتج عنه .
القاهرة 1992 .. ما يشغل بال فرج الآن هو الكارثة التي حلت على عصابته الصغيرة بعد تهور سيد في قتل تلك الفتاة أول أمس, كان الإتفاق  على خطفها بميكروباص علي من أمام محطة الملك صالح ثم إرهابها فقط والإستيلاء على الذهب والنقود وإلقائها في أي طريق صحراوي قريب,    ولكن الأمور تطورت بسرعة عندما حاول سيد الإعتداء عليها بعد إنهاء المهمة, فصرخت البنت مراراً ولم يستفق عن ضربها إلا والمطواة قد أحدثت بها طعنات قاتلة .


تداعب أناملها خصلة شعرها المنسدل بعناية أعلى جبهتها البيضاء, هايدي الزيات وحدها أسقطت جميع الحصون وتهاوت أمامها دفاعاته المنيعة, كان ذلك حين أنهى محاضرته على عجل في الجامعة الأميركية فإذا بها تعترض طريقه بكل خجل وتقول : (آسفة يا دكتور بجد مش هتحمل أضيّع فرصة زي دي من غير ما أسألك سؤال بقالي سنين نفسي أعرف إجابته, أنا عايزة أكون زيك, أعمل كده إزّاي ؟), سؤالٌ لطالما طرِح عليه إلا أن وقع السؤال مختلفٌ هذه المرة, فلم يعتاد أن يتلقى أسئلته من ملائكة بل    والأدهى أن ينتظر الملاك منك إجابة. لطالما حلمت هايدي أن تلقاه, حاولت التوصل لأي طرف خيط يمنحها شرف هذا اللقاء, أرسلت له عدة رسائل إلكترونية عن حياتها ووالديها وعزلتها القاتلة ورغبتها الجارفة أن تحذو حذوه مع يقينها باستحالة اهتمامه بأيّ من رسائلها وسط حشد حياته المزدحمة على الدوام, فقد كانت تشعر بالوحدة دوماً ولا يأبه بها أحد في المنزل, فوالدها المستشار هشام الزيات رجل النفوذ والعدالة والذي قلما تنظر إليه نظرة الأب الذي تقرأ عنه في القصص والروايات, أما أمها سيدة الأعمال المرموقة صاحبة السهرات الراقية والحفلات الخيرية, كانت عزلتها تزداد فتتوارى خلف شاشة 19 بوصة في أقصى حجرتها التي تحوي مكتبة رصت على أرففها مئات الكتب التي تعشق الغوص في عالمها هرباً من واقعٍ ليس لها فيه مكان .



القاهرة 1992 .. ما زالت أصداء جريمة القتل تُلقي بآثارها  بالرغم من مرور أسبوع عليها , إختفى علي تماماً وتم القبض على سيد إلا أنه لم يعترف على أحد وقد يتحمل العقاب لوحده, ولكن الخوف من علي أن يسقط فهو نذل ولن يتوانى عن إلقاء فرج خلف القضبان عشرات السنين في جريمة لم يشارك بها, فقط كي لا ينعم في الخارج دونهم. إنتفض فرج فزعاً حيث كان يختبيء في إحدى المغارات هرباً من أي هجوم محتمل, بدأت بعض الحصى تهبط فوق رأسه حينها تيقن أن كارثة على وشك الحدوث, فهب مسرعاً للخارج فشاهد امرأة تخرج شبه عارية من حجرتها حين فاجأتها الهزة على حين غرة, وهناك أناس يتدحرجون على الأرض الصخرية بلا وعي, حتى هو لم يصمد لثوان فسقط على وجهه وظل يتدحرج حتى استقر, ولكن قفز على ذهنه خاطر جهنمي , أين والداه من كل هذا ؟, أسرع الخطى نحو شقتهم فما أن رآها منتصبة لم يمسها الضرر حتى أحاطته مشاعر شتى, ليس الخوف والقلق على والديه بل هي دعوة دفينة بأن يرى صخرة ما شاردة قد ضلت طريقها لتستقرعلى سريرهم ساحقة الرأسين معاً, أو أن تنشق الأرض ساحبة إياهم في أحشائها لينعم بحياته دون سطوة أبيه ومجون أمه. تحطمت آماله حين رآهما يغطان في سبات عميق, هي عادتهما حين يذهب الحشيش والبيرة المغشوشة برأسيهما إثر سهرة صبّاحي يسقطان في مستنقع شهوة يأتي على ما تبقى من وعيهما, دار حول الجسدين ممسكاً بحبل غليظ وجده أسفل السرير وأحكم شد وثاقهما بقوة وحذر وفي أعماق رأسه تتعاظم الفكرة, خطا بعيداً عنهما بعد أن أحكم الوثاق تملأ النشوة روحه, سحب غالوناً مملوءاً بالبنزين - يحتفظ به والده ويستعمله في بعض أعمال البلطجة- ونثر السائل بصورة دائرية حول السرير, وعلى عتبة الحجرة وقف منتشياً ويده عود ثقاب وعيناه على والده الذي بدأ يستفيق, وقبل أن يصرخ الأب عالجه فرج بأحد الأحجار التي كانت بجواره فأصابته في منتصف رأسه ثم ألقى بعود الثقاب وانتهى الأمر كله بثوان, وبعدها خرج الفتى يولول برعب أسفل العشاش يحث الناس على إنقاذ والديه من الحريق الذي حدث بفعل الزلزال .
يرى البعض أن التنمية البشرية ليست علماً بالمعنى الحرفي بل مجرد نظريات وأقوال وقصص لمشاهير جمعت سوياً لحث البشر على النجاح  وبث الأمل في النفوس, وفريق آخر يرى أنها من العلوم الحديثة التي تضم في ثناياها خلاصة أسرار الحياة والكون والإنسان, فكل مهارة وكل معلومة جديدة وتجربة عملية هي نوع من أنواع التنمية البشرية, وظهر المصطلح لأول مرة عملياً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مع تدني الروح المعنوية وصدمة العالم من حجم الدمار الهائل بشرياً واقتصادياً, مما حدا بمنظمة الأمم المتحدة لانتهاج سياسة التنمية البشرية مع الدول الفقيرة لمساعدتها في الخروج من حالات الفقر والكآبة وتدني الثقافة العامة.



لنصف ساعة كاملة قرأ رؤوف عزالدين المقدمة التي أعدتها منال لسلسلة مقالات أنبياء العصر, وبانبهارٍ رفع عينيه عن الأوراق مانحاً منال نظرةَ إعجابٍ قلما تحمله ملامحه الجادة وقال : (برافو, طب وحازم السعدني ينضم لأي قسم من مقالاتك ؟, أنا شايفك بتتكلمي عنه كواحد من الرواد بالرغم من أنه لسه سِنّه صغير), فقالت منال : (حازم عليه علامات استفهام كبيرة هحاول أوصل لحلها خلال البحث بتاعي, ده غير إنه مش عارفة هو بتاع أي مدرسة بالضبط , محتارة وحاسة أنه عايز يُوصّل رسالة خفية لمتابعيه وكأنها شيفرة مقدرتش أحلها), فقال المدير محذراً : (ده نجم وليه معجبين بالملايين مش هيتحملوا إتهامات من دون أدلة, ده بقى غير خطيبته بنت المستشار هشام الزيات, اللعب مع الناس دي أصعب من الحكومة, ده غير إني سمعت أنه ممكن يترشح في مجلس الشعب الإنتخابات الجاية) .
إنكبّ على شهادة الدكتوراة يراجعها للمرة الخامسة في أقل من يومين, حَلم كغيره من ملايين الحالمين في وطنه العزيز, شهادته في علم النفس لم تُوجِد له مكاناً في صفوف العاملين بالحكومة, ولأن منير غير معسول الكلام تراه دائماً متنقلاً بين الوظائف, عشر سنوات كاملة قضاها منير متقلباً على أشواك عشرات الوظائف, قطار العمر يمر به سريعاً بلا وظيفة ولا زوجة ولا حياة ولا موت !!. في الوسيط قرأ الإعلان عن مدرب تنمية بشرية, وقابله المدرب شريف زكي وانهال عليه بسيل من الأسئلة متدرجة الصعوبة, وتم قبوله كمدرب تحت قيادة شريف زكي ورئاسة المنقذ حازم السعدني, فلم يتصور يوماً أن يقف في قاعة محاضرات يحشو بها عقول تلاميذه كأنها وحي من السماء يدفعهم لاعتناق أفكار وآراء يرى أغلبها مجرد احتمالات, فاتضحت الصورة أمامه حين وعي جيداً ألمعنى الحقيقي للشهادات المعتمدة التي تُمنح للباحثين عن فرص عمل, فهي مجرد مراكز تدريب خاصة يتم نسبها لجامعات عريقة إستناداً لعدم قدرة الكثير على التفرقة بين الإسم الحقيقي للجامعة والمراكز الثقافية التي تُنسب لتلك الجامعات, فما الذي يدفع جامعة هارفرد أعرق وأقوى الجامعات للتعاقد مع مركز تدريب خاص داخل مصر ؟ .. تقلقه دوماً سياسة حازم السعدني الغريبة, مرات يراه قائداً ملهماً ومرات أخرى يراه (شوو مان ) لا همّ له سوى حب الظهور وحصد الأضواء, ومرات أخرى يراه رجل أعمال من طراز فريد وأحيانا أخرى يراه محباً لجمع المال وأحيانا نادرة يراه صاحب رسالة خفية, إشارات مريبة يستشعرها بخبرته النفسية كأن تحت السطح عالم آخر يختلف تماماً عما يبدو ظاهراً للعيان, فغالباً ما يحاول منير ألا يصطدم به كي لا يفقد وظيفة تغنيه عن معاناة عشر سنوات سابقة.
البحر المتوسط 1995 .. الهجرة ظاهرة كونية تهاجر الطيور بحثاً عن الحب, وأسماك السلمون تهاجر في ملحمة رائعة بينما تغادر فراشات الملكة فتتبدل خلقاً بعد خلق, ويهاجر الرجل والمرأة لحياة جديدة وعائلة جديدة, هذا هو قانون الوجود, أما ما دفع فرج للهجرة تحديداً فقد كان أمراً شديد الخصوصية, ورجحت كفة الهجرة على سواحل إيطاليا حيث يبدأ الحلم أو لعله ينتهي .. إنزوى فرج كعادته داخل نفسه في أحد أركان مركب الصيد المتهالك, ورويداً رويداً صار لديه هدف يسعى حثيثاً لنيله ويخطط له جيداً مستعيناً بذكاء فطري, ساعدته بيئة لا تقيم للضمير وزناً ولا يمر بقاموسها معان على غرار المباديء والأخلاق الحلال أو الحرام, بيئة لا تعرف سوى القوة دستوراً ولا تعي سوى العشوائية لغة للحوار, إلا أنه مختلف ويؤمن بأنه مختلف, سنتان قضاها فرج بتوصية من ضابط المباحث في ملجأ كان أحن عليه عشرات المرات من أسرة لم يع لها معنى وبيئة لم يدرك لها حدوداً, ففي الملجأ تفتّح وعيه على عالم آخر لم يكن يتصور وجوده, حياة آدمية مليئة بالحب والإحترام والنظافة, ربما لسبب أعد لأجله رسالته التي يحاول جمع إشاراتها وخطوطها العريضة من كل ما يحيط به, وبعد السنتين قفز أسواره ليبدأ بعدها تسلق أسوار دوره الجديد خارج الدولة بأكملها لينتقل إلى ليبيا ويبدأ مشواره .




طرقات عالية على باب مكتب الأسيوطي : (حازم السعدني وصل بره منتظراً الإذن لمقابلة معاليك, في الإستراحة بقاله ربع ساعة), يهز الأسيوطي رأسه ثم قال : (ناولني آخر معلومات جمعناها عن حازم واديني خمس دقايق, وبعديها دخِّله لما نشوف آخرتها إيه مع اللي عامللي نفسه ملاك ؟!), إنسحب المحمدي بهدوء بعد أن ترك عدة أوراق بين يدي وليد, ظل وليد يراجعهم مرات في عجالة ساحباً عدة خيوط أسفل بعض الجمل خمّن أنها الأهم في حواره المقبل مع واحد من أشهر وأقوى خطباء الوطن العربي .
السواحل الايطالية – 1995. دمعت أعين بعض المسافرين تأثراً لرواية فرج عن مرارة العيش ولسعات البرد ولدغات العقارب, وعن الصخور التي تسحق الرؤوس دون مقدمات, عن الدولة التي غابت عن شعب العشوائيات وحكومةٍ صمّت آذانها عن أنين الناس فصار سرطاناً يفرز سموماً في قلب الوطن يسد شرايينه ويعيق حركة الحياة فيه, لذا قرر أخيراً أن يهرب من جحيم التشرد قاصداً ليبيا للعمل في صيانة وتصليح المراكب, كل هذه العوامل ساعدت فرج على الإختباء عن الأعين بكفاءة هرباً من الأسئلة لعبور البحر لأرض الأحلام. وبالفعل انطلق بالمركب   ونزل مع العشرات للسباحة للوصول إلى الشاطيء إلى أن أمسكت بهم الشرطة الإيطالية, حينها أشار فرج للضابط وقال : عربي – فلسطيني !,  وما هي إلا ساعتان حتى كان فرج يحتسي كوباً من عصير البرتقال في أحد معسكرات الصليب الأحمر للاجئين وأمامه تجمعت لجنة تحوي طبيباً وإدارياً ومترجماً تولى ترجمة قصة فرج المذهلة عن هروبه من جحيم الحصار في فلسطين والتسلل إلى مصر ومنها إلى ليبيا حتى يصل لأرض الأمان طالباً اللجوء, ونظراً لكونه لم يتعد الثامنة عشر من عمره فإن القوانين الإيطالية تعطيه الحق كلاجيء فلسطيني في كامل الرعاية الصحية والتعليمية كأنه أحد أبناء إيطاليا .


لوهلة لم يعِ المشهد, رجلين اقتحما عالمه الخاص بدار رعاية أطفال الشوارع التي يرأس مجلس ادارتها, وبكلمات مقتضبة ودون أي مقدمات, فقط جملتان : (دكتور حازم أنت مطلوب لمقر أمن الدولة التلات الجاي الساعة وحدة بعد الضهر), أمسك حازم بالخطاب الذي تسلمه من الرجلين وكان محتواه : (إنه لمن دواعي سروري أن أتقدم بدعوة سيادتكم للتعارف وبحث سبل التعاون لما وجدناه من نشاطات وأعمال مميزة في خدمة الوطن وشبابه), عصفت برأس حازم الأسئلة يومين متتاليين تصاحبه أينما حل.
وتمر الدقائق ثقيلة ينتظر الإذن للقاء ذاك الأسيوطي في مكتبه, وعندما جاءت لحظة اللقاء إستقبله الأسيوطي بترحاب واسع ثم قال : (هختصر عليك الموضوع , الكبير مش هيكمل في انتخابات الرئاسة الجاية وجيمي هيكون الريس, قصدي أن الناس شايفين ده توريث وأن الملكية انتهت من زمان, وده مش المفروض يحصل مع أن كل حاجة في البلد ماشية كده, الدكتور والضابط والقاضي والممثل كلهم بيخلوا ولادهم يكملوا المسيرة تيجي بقى على الراس الكبيرة وتقولوا لأ !! ), حينها قال حازم : (حضرتك أنا لا بقول آه ولا بقول لأ, اللي يمسك يمسك, طالما الدنيا ماشية, أنا في حالي ومركّز في شغلي), فقال الأسيوطي : (إحنا بنتعامل مع أي حد مش معانا على أنه ضدنا بالذات لمّا نحتاجه, عشان كده هتشتغل معانا, وهتعمل اللي هقولك عليه, وقبل ما ترد خليني أوضحلك حاجة مهمة, الناس دايماً عايشة في ضل الكبير, ولو خرجت من تحت عبايته تتحرق وتموت, فدورك معنا أنك هتستخدم شعبيتك الكبيرة في أنك تزود شعبية الوريث, وبكده نزود القاعدة الشبابية للريس اللي جاي), رد السعدني : (إزاي يعني يا وليد بيه, عايزني أضحّي بإسمي وسمعتي في تلميع الوريث بتاعكم وأنا أصلاً ماليش في السياسة ؟, مستحيل ده يحصل) رد الأسيوطي : (لا مستحيل ولا حاجة يا دوك, المقابلة انتهت وده الكارت بتاعي, كلمني خلال تلات أيام لأن إسمك اللي بتِبني فيه ده ممكن يتدمر في ثواني في اليوم الرابع, وعلشان أنا بحبك هقولك على حاجة تخليك تفكر بإيجابية زي ما أنتو بتقولوا, هو انتا ليه مِخبّي على الناس جنسيتك الفلسطينية وقصة لجوءك لإيطاليا من 15 سنة فاتت ؟؟, وِلّا انت فاكر الكلب بتاع السفارة اللي زورلك الورق المصري هيِفضل مِخبي الحقيقة ؟, أنا بقى مش عايز أعرف أنت مين ولا يهمني, الناس بقى هم اللي هيحبوا يعرفوا الحاجات دي). سقط السعدني منهاراً ومن فوقه سقط جدار حاول إخفاء معالمه سنوات عدة بذل فيها كل شيء وعمل خلالها الكثير والكثير فقط لتبقى الحقيقة تحت الأنقاض .




من رحم المعاناة تتفجر ينابيع الإبداع وتحت وطأة الألم تغدو الحاجة للتغيير ضرورة ملحة, هكذا آمن السعدني بقلبه حين تحرك الجبل ليطبق على الجميع, بأسفله لُفظ السعدني من أحشائه ليُقذف به صوب قدره ملزِماً إياه بحمل رسالة وجب نشرها مهما كلفه الأمر من تضحيات , والداه كانا محطته الأولى فلم يتوان عن شيهما حيين, فبعض الأمور لا يصح التهاون بشأنها , السحق التام هو ما يلزمه للإنبعاث من جديد, ولأنه أتمها بنجاح كافأه القدر على ما قام به, عامان من الراحة والهدوء إحتوته داخل الملجأ وعلى سواحل إيطاليا تحنو عليه يد القدر ثانية ينتقل من مدرسة إلى أخرى ومن كلية إلى أكاديمية, تماماً كالسحر شعر فرج بدماء الحياة تتدفق لتملأ خلاياه, عشر سنوات قضاها في إيطاليا يتماوج بين جنبات العالم والمعرفة يمتص كل ما تطاله يداه من علم النفس والتنمية البشرية, أما البيزنس والإقتصاد فقد اقتحم عالمهما بثبات وثقة فانتشرت فروع معارضه للأثاث الراقي لتملأ جنبات إيطاليا وروما وميلانو ونابولي ومعها تزداد دولاراته, ثم وضع خطة للعودة إلى مصر مرة أخرى, منها يبدأ الإنطلاق وفيها يتحقق له الإنتقام, فعشرات الدولارات وضعها في حساب موظف في السفارة فتم نسب فرج إلى أحد المهاجرين المصريين الذي ترك البلد من الستينيات بلا أهل ولا ميراث وتوفي حديثاً بلا أولاد, تم نسبه إلى عزالدين أبو بكر السعدني .. خمس سنوات مرت عليه منذ وطأت قدماه أرض مصر طاف خلالها الدولة ليلتقي بآلاف الناس ويبذل جهداً خرافياً في الشرح والتوضيح وإقناع الناس, يعزلهم رويداً رويداً عن أي حياة خبروها مسبقاً ويمحي خبراتهم السابقة, يلقي بداخلهم ما يحقق له ولهم أهدافه القادمة, مجرد بذرة يغرسها بقوة وبعمق, مجرد فكرة يسطرها في عقولٍ تلهث عطشى بحثاً عن هوية ما يوقن أنها ستؤتي ثمارها. لن تتأخر العناية الإلهية هكذا طمأن السعدني نفسه حين خرج من مكتب الأسيوطي, ومع انسلال الوقت رويداً رويداً صوب نهاية المهلة المتفق عليها تتقلص الخيارات المتاحة لدى السعدني فيسعى جاهداً للمرور من الموقف بأدنى درجات الخسارة. إستكان عقله للحل الأخير فلا مناص من الإنصياع لشروط الأسيوطي والنزول عند رغبته في التعاون فبعث برسالة للأسيوطي : ( وليد باشا, أنا على أتم الإستعداد للتعاون وفي انتظار التعليمات), ضغط زر الإرسال وتنهد طويلاً حين تم التسليم .




وسط الجموع الهادرة التي تنذر بالويل فوق الرؤوس وجدت هايدي نفسها تتقافز بسعادة فيخرج صوتها مشرقاً وسط الحشد المهيب : الشعب يريد إسقاط النظام !, هكذا ولدت من جديد حين استجابت لدعوة تسللت إليها عبر صفحتها بمواقع التواصل الإجتماعي تدعوها للنزول في الخامس والعشرين من يناير للتنديد بما يلاقيه الشعب من مهانة وإذلال رغبة في حياة كريمة وعدل مفقود, أبدت رغبتها في المشاركة بلا تردد بالرغم من حساسية موقفها, فكونها إبنة المستشار لم يردعها من المضي قدماً لتصدر المشهد منذ الساعات الأولى لفجر الثورة .. تندلع الثورة وتتبدل كافة الأحوال, يتنحى الرئيس بعد طول عناد ليفلت زمام الأمور أكثر مما كانت عليه, وبعد أن هدأت حدة الأمور تكشفت بعض من نوايا حازم السعدني ورغبته في الحصول على أقصى ما يمكن أن يصل إليه على الخريطة السياسية الجديدة, فقد ركز جل إمكاناته على العمل الثوري والوعي السياسي فبرق نجمه السياسي سريعاً كواحد من أهم قادة الثورة لما أحدثه من تغيير في فكر وعقلية الشباب. هكذا يبحر السعدني دوماً صوب أحد أهم أطراف خطته حين أعد العدة للإيقاع بهايدي الزيات في شباكه واهماً إياها أنها كل حياته, مئات الرسائل الإلكترونية أرسلتها تحكي فيها أدق تفاصيل حياتها, رأى الأمر وشيكاً كأي خطوة يسعى إليها, أن يضم الركن الأهم في أعمدة مذهبه الجديد, أن يملك ثلاثية القوة المطلقة وهم السلطة والمال والشهرة, ففاجأها في محاضرة بالجامعة وأعطاها رقمه الخاص وأعدّ العدة لأن يبدو كل شيء عفوياً, وسارت الأمور كما خطط لها تماماً ثم لاح له كابوس الأسيوطي, إلا أن ثقته في القدر لم تتخطاه هذه المرة, أهدته زلزالاً آخراً ليلفظه هذه المرة قائداً للثورة وواحداً من أهم رموزها!, ولكنه وقع في خطأ واحد وهو تلك الرسالة الملعونة التي أعلن فيها استعداده للتعاون مع الأسيوطي, ما كان عليه أبداً أن يترك أدلة مادية تدل على تورطه, فكثيراً ما يهدده الأسيوطي برسائل تهديد, ولكن أتت خطوة لم يسع لها السعدني وهي اقتحام مقرات أمن الدولة, وبهذا ضرب السعدني عدة عصافير بحجر واحد وبهذا سيطوع الموقف لصالحه حين يقرر الإنتقال إلى مقاعد الساسة والكبار, فقد عثر السعدني على ملف ضخم يحوي آلاف الأوراق والوثائق فقرر السعدني على حرقه بنفسه, وحدها النار هي ما يثق فيه السعدني في حياته حين يقرر إنهاء امر ما, ولكنه احتفظ به .



من خلف زجاج الحجرة السميك طالت وقفة منال تتطلع بشفقة على هايدي التي تلقت الضربة بمؤخرة رأسها في المنطقة التي تقبع فيها أهم عمليات الجسد الحيوية, إعتادت منال أن تباغت شريف دون سابق موعد في المستشفى حين يأتي بصورة شبه دورية للإطمئنان على خطيبة مديره حازم السعدني, أما منال فتحاول إصطياده لإكمال ما بدأته خاصة بعد أن بدأ يضج بمحاولاتها المستميتة في لين لسانه, إلا أن السعدني باغت الجميع حين أعلن عن مجموعة من الشباب والفتيات المتطوعين للعمل بمركز التدريب وأطلق عليهم إعلامياً فريق الخلاص. لا تعلم منال إذا كان الفريق هو ما تسعى خلفه أم أن الفريق يخفي أمراً آخراً أكثر خطورة, وهذا ما حاولت معرفته من شريف التي بدأت تقترب منه أكثر وأكثر, وفي اللحظة التي كانت تنظر فيها منال إلى هايدي جاء الثلاثة منير وشريف وحازم وتبادلوا الحديث ثلاثتهم, وفي النهاية قال حازم لمنال : (أستاذة منال إيه رأيك تنضمي لفريقي ؟, واحدة مثقفة زيك هتكون مفيدة ليا جداً خصوصا وأن الإنتخابات على الأبواب), ودون أن توجه منال نظرها صوبه أجابت : (خليني أحافظ على اللي باقي من المباديء يا دكتور, فريقك مستعد يعمل أي حاجة علشانك وشريف تلميذ نجيب ومش بعيد تلاقيه يتفوق عليك ), قالتها وخرجت تستقبل هواء الصيف الخانق غير عابئة بما حولها فداخلها اشتعلت عشرات البراكين .
إختفت منال ثلاثة شهور بعد ذلك اللقاء وباءت كافة محاولات شريف لإثنائها عن عزمها على الخروج من حياته بالفشل بعد أن اعتاد عليها     وألفها, وتغيب منير عن العمل لفترة وعاد بعدها بخطاب استقالته بعد أن أهدر حازم كرامته واتهمه بالنقص, فالإستقالة هي الثأر المناسب أما السعدني فكأن شيئاً لم يكن .

يصطف أمام مائة من خيرة شبابه على مدار خمس سنوات, وضع شروطه الصارمة, صار ينتقل يلقي الخطبة تلو الاخرى, فلسفته التي جمعها طوال رحلته القصيرة ومنهجه الكامل للإرتقاء والسيادة يضم خيوطها سوياً ليصنع منها رداءاً متيناً ينسجه بكل احتراف حول عقول أتباعه فلا يرون سواه طريقاً للنجاح, يرتكز المنهج على مراحل ثلاث : جاهد لترتقي أولاً , تسود ثانياً, وتمتلك من هم أدنى منك في الأخير !!.    وأمام جيشه الصغير يبتسم السعدني راضياً بما وصل إليه من نجاح مستكيناً لقدرة فريقه على إحداث الأثر المطلوب, ودّع حازم فريقه قائلاً : (هسيبكوا يا شباب مع أستاذ شريف وهو هيكون قائم بأعمالي هنا وفي المركز وكمان في المؤسسة لحين ما أرجع من سفر مؤقت مده شهرين تلاته), إلتهبت أكف الفريق بتصفيق رزين مودعة قائدهم العظيم بينما استقبلهم شريف الذي صار مثالاً للتابع الأمين قدوة في الإنتماء ونكران الذات, لذا وضع السعدني فيه كامل ثقته, أسند إليه ما لم يسنده لغيره من قبل كما فتح له خزائن أسراره باستثناء سره الأكبر ذاك الذي لا يعلمه غيره في هذا الكون يوم أن كانت له حياة سابقة وملامح فتى يدعى فرج أبو دراع .



حين قرر الظهور مرة أخيرة في وسط الميدان قبل أن يختفي عن الأنظار لفترة إختار شارع محمد محمود. وقت اشتعلت الأحداث فجأة بين شباب الثورة وقوات الشرطة نصحه شريف كثيراً أنها أنسب فرصة للظهور وسط المعمعة, كما أن الإنتخابات باتت وشيكة ونجاحه مضمون تماماً يعززه بقوة هذا التواجد, ساعة لا أكثر وبعدها ينسحب لتحل محله الأبواق الإعلامية ترغي في بطولاته الجمة, ولكن لم يدر حازم ما الخلل الذي حدث وقتها حين وجد نفسه في قلب الإشتباكات تتلقفه الأيادي يمنة ويسرة ومن ثم أتت الطلقة من بندقية قناص طويلة المدى من فوق أسطح إحدى البنايات البعيدة زُودت بكاتم صوت مع رصاصة مرت عبر ماسورة لتصيب القلب مباشرة, تخترق ظهره عابرة منه نحو الصدر لتكمل طريقها المرسوم بدقة متناهية, ويسقط بعدها جسد السعدني صريعاً تزحف دماؤه نحو العلم تصبغ قماشه بلون أحمر يميل للسواد القاتم ليختفي بعدها الأبيض تماماً .
عدة شهور مرت على مقتل السعدني أيقونة الثورة الذي داب جسده تضحية وفداء من أجل المباديء, إرتقى شهيداً في الميدان, تلا ذلك خبر القبض على منال عقب حملة موسعة لاعتقال بعض الناشطين والصحفيين بشبهة التخابر لصالح جهات معادية, وسبق ذلك بأيام صدمة منير حين رفضت اللجنة رسالته للدكتوراه بدعوى ركاكة موضوعها وعدم منطقيته, ولم يكن يعلم منير أن أهم أعضاء اللجنة وأعلاهم شأناً كان إبناً لأحد الوزراء في حكومة عبدالناصر, أحد أهم المنتفعين من قرابته للنظام الحاكم فتسلق للعمل في الجامعة ووصل لمناصب عليا, فأصابت رسالة منير الدكتوراه في أعماقِ لاشعور ذلك الرجل فأطلق على منير رصاصة الرحمة فأرداه صريعاً حين أصر على عدم منحه طوق نجاته الأخير. وحدة تامة هي كل ما يشعر به شريف, وبرغم وحدته الكاملة إلا أنه يشعر براحة تامة, سكينة تغزو روحه وتذيب خلايا جسده, تفلت منه ابتسامة رضا حين يقع بصره على الحائط المقابل تعلوه جملة حديثة خطت بحروف كبيرة : (تعلّم أن تضرب ضربتك بشدة حين تصل الثمرة إلى النضوج) .



تلتهم عيناه عناوين الصحف بكل فضول, تسارع يداه تقلب بينهما بحثاً عن خبر ما, يخاطب نفسه بصوت خافت : (بقى أنا أضيّع عمري كله في خدمة البلد دي وفي الآخر ينتهي بي الأمر هربان ومستخبي والنصاب بتاع التنمية البشرية بقالهم سنة في الجرايد مفيش غير سيرته, الشهيد راح والشهيد عمل, آه لو يعرفوا الحقيقة ). بحث عن هاتفه المحمول يطلب رقماً محبباً إلى قلبه وقال : (أيوه يا سعد بقالي شهور مسمعتش صوتك, إسمعني يا محمدي قريب هرجع الشغل إيه رأيك ترجع تشتغل معايا زي الأول ؟) قال المحمدي : (يا وليد بيه خلاص الموضوع انتهى بالنسبة لي, أنا خلاص قررت أفتح مكتب محاماة, غير إنو معروض عليّ كذا شغل في قنوات فضائية كخبير إستراتيجي, هبقى نجم زي صاحبك اللي اتصفّى السنة اللي فاتت), يرد الأسيوطي قائلاً : (بقى أنت متعرفش اتصفى ازاي, نيران صديقة, ومنال كمان نفس الحكاية, كنت بتابع معاه بقالي فترة كبيرة تقريباً من بعد الثورة لحد ما اتفقنا هوه يسلمني الملف اللي أخدوه من مكتبي وأنا أخلص على الإتنين وقاللي منال بلاش تصفيها إرميها في السجن أرحم, واطي واطي تربية السعدني ). ينهي الأسيوطي المكالمة    وفكر هل طيبته في التعامل مع بعض النشطاء قبل تطور الأحداث كانت سبباً فيما وصلوا إليه, هل كان الأمر بحاجة لحزم وصرامة أقوى مما كان عليه قبل 25 يناير ؟, هز رأسه بقوة, أما عن طيبته المزعومة فيرى أنها تهمة لم يتورط بها طوال حياته منذ أن تخرج من كلية الشرطة, بالكاد يذكر موقفاً ضبابياً مر عليه, من عشرين عاماً تقريباً شعر فيه ببعض الشفقة تجاه طفل ما يوم كان في قمة شبابه ومجده على ما يذكر, كان وقتها ضابط مباحث وأتاه طفل قيل أن والديه احترق منزلهما في الزلزال في إحدى العشوائيات, يعي الأسيوطي تماماً ما الذي حرك طيبته الدفينة يومها, فاحتراق والدي الطفل أشعل داخل الأسيوطي بقايا ذكرى تؤرخ نهاية جده الأكبر ذلك الحدث الفارق في مسار طفولته قديماً, لذا توسّط له في إحدى دور الأيتام لقبول الطفل ورعايته بكل اهتمام, تساؤلاً طفا على سطح ذكراه السحيقة ترى ما حال الطفل الآن ؟, هل ما زال يقطن الملجأ؟, هل انضم لكتيبة بلطجية الشوارع ؟ أم أنه يهنأ بحياة أسرية آمنة ومستقرة ؟, هز رأسه بعدم اكتراث ولسان حاله يقول: (ما يطلع بلطجي ولّا حتى دكتور ولّا يُروح في ستين داهية مش هيفرق معايا في حاجة), إبتسم بسخرية , نظر للتقويم المعلق على الحائط بنفاذ صبر  يستجدي الأيام سرعة المرور .




                                        النهاية ...


تفاعل :